حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307416 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

«ما لنا والدخول بين السلاطين».

إنّ حياتهم العملية لمْ تكن صدى لعقيدتهم التي آمنوا بها ، فقد كانوا يمنّون قادتهم بالوقوف معهم ثمّ يتخلّون عنهم في اللحظات الحاسمة.

ومِنْ مظاهر ذلك التناقض : أنّهم بعدما أرغموا الإمام الحسن (عليه السّلام) على الصلح مع معاوية وغادر مصرهم جعلوا ينوحون ويبكون على ما فرّطوه تجاهه ، ولمّا قتلوا الإمام الحُسين (عليه السّلام) ودخلت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) مدينتهم أخذوا يعجّون بالنياحة والبكاء ، فاستغرب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ذلك منهم ، وراح يقول : «إنّ هؤلاء يبكون وينوحون مِنْ أجلنا! فمَنْ قتلنا؟!».

إنّ فقدان التوازن في حياة ذلك المجتمع جرّ لهم الويلات والخطوب وألقاهم في شرّ عظيم.

الغدر والتذبذب :

والظاهرة الاُخرى في المجتمع الكوفي الغدر ، فقد كان مِنْ خصائصهم التي اشتهروا بها ، وقد ضُرِبَ بهم المثل فقيل : أغدر مِنْ كوفيّ(١) ، كما ضُرِبَ المثل بعدم وفائهم فقيل : الكوفي لا يوفي(٢) .

وقد وصفهم أمير المؤمنين (عليهم السّلام) بقوله : «اُسود روّاغة ، وثعالب روّاغة». وقال فيهم : «إنّهم اُناس مجتمعة أبدانهم ، مختلفة أهواؤهم ، وإنّ مَنْ فاز بهم فاز بالسهم الأخيب». وإنّه أصبح لا يطمع في نصرتهم

__________________

(١) الفرق بين الفِرق ـ لعبد القاهر البغدادي / ٢٦.

(٢) آثار البلاد ـ لزكريا القزويني / ١٦٧.

٤٢١

ولا يصدق قولهم(١) .

لقد كان الجانب العملي في حياتهم هو التقلّب والتردّد والتخاذل ، وقد غرّوا زيد بن علي الثائر العظيم فقالوا له : إنّ معك مئة ألف رجل مِنْ أهل الكوفة يضربون دونّك بأسيافهم(٢) ، وقد أحصى ديوانه منهم خمسة عشر ألفاً كانوا قد بايعوه على النصرة(٣) ، ثمّ لمّا أعلن الثورة هبط عددهم إلى مئتي وثمانية عشر رجلاً(٤) .

وقد نصح داود بن علي زيداً بأنْ لا ينخدع بأهل الكوفة ، فقال له : يابن عمّ ، إنّ هؤلاء يغرّونك مِنْ نفسك ؛ أليس قد خذلوا مَنْ كان أعزّ عليهم منك جدّك علي بن أبي طالب حتّى قُتِلَ؟ والحسن مِنْ بعده بايعوه ثمّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه مِنْ عنقه ، وانتهبوا فسطاطه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدّك الحُسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ثمّ خذلوه وأسلموه ، ثمّ لمْ يرضوا بذلك حتّى قتلوه(٥) ؟

وكانوا ينكثون البيعة بعد البيعة ، وقد ألمع إلى هذه الظاهرة أعشى همدان الذي كان شاعر ثورة محمّد بن الأشعث الذي ثار على الحجّاج ، يقول داعياً على أهل الكوفة :

أبى اللهُ إلاّ أنْ يتمّمَ نورَهُ

ويُطفئَ نورَ الفاسقين فيخمدا

ويُنزل ذلاً بالعراقِ وأهلهِ

لما نقضوا العهد الوثيق المؤكّدا

وما أحدثوا مِنْ بدعةٍ وعظيمةٍ

مِن القول لمْ تصعد إلى الله مصعدا

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ٣ / ١٦٧٧.

(٣) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٨٥.

(٤) (٥) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٧٩.

٤٢٢

وما نكثوا مِن بيعةٍ بعد بيعةٍ

إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا(١)

وقد عرفوا بهذا السمت عند جميع الباحثين ، ويرى (فلهوزن) إنّهم متردّدون متقلّبون ، وإنّهم لمْ يألفوا النظام والطاعة ، وإنّ الإخلاص السياسي والعسكري لمْ يكنْ معروفاً لهم على الإطلاق ، وأكّد ذلك الباحث (وزتر شنين) يقول : إنّ مِنْ صفاتهم المميّزة البارزة الهوائية والتقلّب ، ونقص الثقة بأنفسهم(٢) .

ولمْ يكنْ هذا التذبذب في حياتهم مقتصراً على العامّة ، وإنّما كان شائعاً حتّى عند رجال الفكر والأدب ؛ فسراقة الشاعر المعروف وقف في وجه المختار ، واشترك في قتاله يوم جبّانة السبيع ، فلمّا انتصر المختار وقع سراقة أسيراً بين يدي أصحابه فزُجّ به في السجن ، فأخذ سراقة يستعطفه وينظم القصيد في مدحه ، ويذكر مبادئ ثورته ويبالغ في تمجيده ، فكان ممّا قاله فيه :

نُصرتَ على عدوِّك كلّ يومٍ

بكلّ كتيبةٍ تنعى حُسينا

كنصرِ محمّد في يوم بدرٍ

ويوم الشِّعبِ إذ لاقى حُنينا

فأسجح(٣) إذ ملكت فلو ملكنا

لجرنا في الحكومةِ واعتدينا

تقبّل توبةً منّي فإنّي

سأشكرُ إنْ جعلتَ النقد دينا

ولمّا عفا عنه المختار خرج مِن الكوفة ، فلمْ يبعد عنها قليلاً حتّى أخذ يهجو المختار ويحرّض عليه. وقد قال في هجائه :

ألا أبلغ أبا إسحاقَ أنّي

رأيتُ البلقَ دهماً مصمتاتِ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ١١١٣.

(٢) السيادة العربية / ٧٤.

(٣) السجح : حسن العفو.

٤٢٣

كفرتُ بوحيكُمْ وجعلتُ نذراً

عليّ قتالكمْ حتّى المماتِ

أرى عينيّ ما لمْ تُبصراهُ

كلانا عالمٌ بالترّهاتِ

إذا قالوا أقولُ لهم كذبتمْ

وإنْ خرجوا لبستُ لهم أداتي(١)

لقد مضى يصبّ ثورته وسخريته على المختار وأصحابه في نفس الوزن الذي نظم فيه قصيدته السابقة. ومِن الطبيعي إنّ هذا التناقض في حياتهم كان ناجماً مِن الاضطراب النفسي ، وعدم التوازن في السلوك.

ومِن غرائب ذلك التناقض أنّ بعضهم كان يحتاط في أبسط الاُمور ولا يتحرّج مِن اقتراف أعظم الموبقات! فقد جاء رجل مِنْ أهل الكوفة إلى عبد الله بن عمر يستفتيه في دم البعوض يكون على الثوب أطاهر أم نجس ، فقال له ابن عمر : مِنْ أين أنت؟

ـ مِنْ أهل العراق.

فبُهر ابن عمر وراح يقول : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! وقد سمعته يقول فيه وفي أخيه : «هما ريحانتاي مِن الدنيا»(٢) !

ويعزو بعضهم السبب في هذا الاضطراب إلى الظروف السياسية القاسية التي مرّت عليهم ؛ فإنّ الحكم الاُموي كان قد عاملهم بمنتهى القسوة والشدّة ، فرماهم بأقسى الولاة وأشدّهم عنفاً ، أمثال المغيرة بن شعبة وزياد بن سُميّة ؛ ممّا جعل الحياة السياسية ضيّقة ومتحرّجة ، ممّا نجم عنه هذا التناقض في السلوك.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٣٤ ، الأخبار الطوال / ٢٦٤.

(٢) الصراط السوي في مناقب آل النّبي / ٩٤ مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

٤٢٤

التمرّد على الولاة :

والطابع الخاص الذي عُرِفَ به المجتمع الكوفي التمرّد على الولاة والتبرّي منهم ، فلا يكاد يتولّى عليهم والٍ وحاكمٍ حتّى أعلنوا الطعن عليه ، فقد طعنوا في سعد بن أبي وقاص مؤسس مدينتهم واتّهموه بأنّه لا يحسن الصلاة(١) فعزله عمر ولّى مكانه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ، ولمْ يلبثوا أنْ شكوه إلى عمر فعزله وولّى مكانه أبا موسى الأشعري ، ولمْ تمضِ أيّام مِنْ ولايته حتّى طعنوا فيه ، وقالوا : لا حاجة لنا في أبي موسى(٢) .

وضاق عمر بهم ذرعاً وبدا عليه الضجر ، فسأله المغيرة عن شأنه ، فقاله له : ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلاّ مِنْ عظيم فهل نابك مِنْ نائب؟ فانبرى عمر يشكو إليه الألم الذي داخله مِنْ أهل الكوفة قائلاً : وأيّ نائب أعظم مِنْ مئة ألف لا يرضون عن أمير ، ولا يرضى عنهم أمير(٣) .

وتحدّث عمر عنهم فقال : مَنْ عذيري مِنْ أهل الكوفة ؛ إنْ استعملت عليهم القوي فجروه ، وإنْ ولّيت عليهم الضعيف حقرّوه(٤) . لقد جُبلوا على التمرّد فهم لا يُطيقون الهدوء والاستقرار.

ويرى (ديمومبين) إنّ هذه الظاهرة اعتادها الكوفيون مِنْ أيّام الفرس الذين دأبوا

__________________

(١) فتوح البلدان / ٢٨٧.

(٢) الطبري ، وجاء فيه أنّهم اتّهموه بأنّه يتاجر في أقواتهم.

(٣) فتوح البلدان / ٢٧٩.

(٤) مختصر كتاب البلدان / ١٨٤ لابن الفقيه.

٤٢٥

على تغيير حكّامهم دوماً(١) ، ويذهب (فان فلوتن) إلى أنّ العرب المستقرّين بالكوفة كانوا قد تعوّدوا على حياة الصحراء بما فيها مِنْ ضغن وشحناء ، وحبّ الانتقام والتخريب والأخذ بالثأر ؛ فلذا تعوّدوا على التمرّد وعدم الطاعة للنظام(٢) .

الانهزاميّة :

والظاهرة الغريبة التي عُرِفَ بها المجتمع الكوفي هي الانهزامية وعدم الصمود أمام الأحداث ، فإذا جدّ الجد ولّوا منهزمين على أعقابهم ، فقد أجمعوا في حماس على مبايعة مسلم ونصرته ، ولمّا أعلن الثورة على ابن مرجانة انفضّوا مِنْ حوله حتّى لمْ يبقَ معه إنسان يدلّه على الطريق ، وقد وقفوا مثل هذا الموقف مِنْ زيد بن علي ، فقد تركوه وحده يصارع جيوش الاُمويِّين ، وراح يقول : فعلوها حُسينية.

وبايعوا عبد الله بن معاوية ، فقالوا له : ادعُ إلى نفسك فبنو هاشم أوّلى بالأمر مِنْ بني مروان(٣) ، وأخرجوه حيث كان مقيماً وأدخلوه القصر فبايعوه ، ولمّا زحف لقتاله والي الاُمويِّين عبد الله بن عمر فرّوا منهزمين ، ونظر عبد الله بن معاوية فإذا الأرض بيضاء مِنْ أصحابه فقد غدر به قائد قواته ؛ لأنّه كان على اتفاق مع والي الاُمويِّين فانهزم وانهزم معه الجيش(٤) ، وكان عيسى بن زيد يقول فيهم : لا أعرف موضع ثقة يفي ببيعته ويثبت عند اللقاء(٥) .

__________________

(١) النظم الإسلاميّة / ٢٦.

(٢) السيادة العربية / ١١.

(٣) (٤) تاريخ الطبري ٢ / ٣ / ١١٨٨٠.

(٥) مقاتل الطالبيِّين / ٤١٨.

٤٢٦

مساوئ الأخلاق :

واتّصفت الأكثرية الساحقة مِنْ أهل الكوفة بمساوئ الأخلاق. يقول فيهم عبد الله بن الحسن إنّهم : نفج العلانية ، خور السريرة ، هوج الردّة ، جزع في اللقاء ، تقدمهم ألسنتهم ولا تشايعهم ، وإن حوريتم خرتم ، وإنْ اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإنْ جئتم إلى مشاقّة نكصتم(١) .

ووصفهم المختار لعبد الله بن الزّبير حينما سأله عنهم ، فقال : لسلطانهم في العلانية أولياء وفي السرّ أعداء. وعلّق ابن الزّبير على قول المختار فقال : هذه صفة عبيد السوء ، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم ، فإذا غابوا عنهم شتموهم(٢) .

وهجاهم أعشى همدان بقوله :

وجبناً حشاه ربُّهمْ في قلوبهمْ

فما يقربونَ الناسَ إلاّ تهدّدا

فلا صدقَ في قولٍ ولا صبرَ عندهمْ

ولكنّ فخراً فيهم وتزيّدا(٣)

ويقول فيهم أبو السرايا :

وما رستُ أقطارَ البلاد فلمْ أجدْ

لكمْ شبهاً فيما وطأتُ مِن الأرضِ

خلافاً وجهلاً وانتشار عزيمةٍ

ووهناً وعجزاً في الشدائدِ والخفضِ

لقد سبقتْ فيكم إلى الحشر دعوةٌ

فلا عنكمُ راضٍ ولا فيكمُ مَرضي(٤)

__________________

(١) (٢) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٨١.

(٣) الطبري ٢ / ٢ / ١١١٤.

(٤) يشير إلى دعوة الإمام الشهيد الحُسين (عليه السّلام) على أهل الكوفة يوم عاشوراء بقوله : «... ولا يرضي الولاة عنكم أبداً».

٤٢٧

سأبعد داري مِنْ قلى عن ديارِكُمْ

فذوقوا إذا ولّيتُ عاقبةَ البُغضِ(١)

وحلّل الدكتور يوسف خليف هذه الأبيات بقوله : وأبو السرايا في هذه الأبيات يردّد تلك الفكرة القديمة التي عُرِفَتْ عن أهل الكوفة مِنْ أنّهم أهل شقاق ونفاق ومساوئ أخلاق ، فيصفهم بالشقاق والجهل وتفرّق العزيمة والضعف والعجز ، ويرى أنّ هذه صفاتهم التي تلازمهم دائماً في الحرب والسلم ، وهي صفات لمْ تجعل أحداً مِنْ زعمائهم أو أئمتهم يرضى عنهم ، وهم منفردون بها مِنْ بين سائر البشر في جميع أقطار الأرض التي وطأتها قدماه ، ثمّ يعلن في النهاية ببغضه لهم واعتزامه البعد عنهم ؛ ليذوقوا مِنْ بعده سوء العاقبة وسوء المصير(٢) .

ووصفهم أبو بكر الهذلي بقوله : إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة ، كتبوا إلى الحُسين بن علي إنّا معك مئة ألف وغرّوه ، حتّى إذا جاء خرجوا إليه وقتلوه وأهل بيته صغيرهم وكبيرهم ثمّ ذهبوا يطلبون دمه ، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟!(٣) .

الجشع والطمع :

وهناك نزعة عامّة سادت في أوساط المجتمع الكوفي ، وهي التهالك على المادة والسعي على حصولها بكلّ طريق. فلا يُبالون في سبيلها بالعار والخزي ، ولقد لعبت هذه الجهة دورها الخطير في إخفاق ثورة مسلم ؛ فقد بذل ابن زياد الأموال بسخاء للوجوه والأشراف فخفّوا إليه سِراعاً ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٥٤٤ ـ ٥٤٦.

(٢) حياة الشعر في الكوفة / ٤٤٥.

(٣) مختصر البلدان / ١٧٣.

٤٢٨

فغدروا بمسلم ونكثوا عهودهم ، وقد ملكهم ابن زياد بعطائه ؛ فأخرجهم لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد أنْ أقسموا الأيمان المغلّظة على نصرته والذبّ عنه.

التأثّر بالدعايات :

وظاهرة أخرى مِنْ ظواهر المجتمع الكوفي ، وهي سرعة التأثر بالدعايات مِنْ دون فحص ووقوف على واقعها ، وقد استغلّ هذه الظاهرة الاُمويِّون أيّام (مسكن) ؛ فأشاعوا في أوساط الجيش العراقي أنّ الحسن صالح معاوية ، وحينما سمعوا بذلك ماجوا في الفتنة وارتطموا في الاختلاف ، فعمدوا إلى أمتعة الإمام فنهبوها كما اعتدوا عليه فطعنوه في فخذه. ولمّا أذاعت عصابة ابن زياد بين جيوش مسلم أنّه جيش أهل الشام قد أقبل إليكم فلا تجعلوا أنفسكم عرضة للنقمة والعذاب ، فلمّا سمعوا ذلك انهارت أعصابهم وولّوا منهزمين ، وأمسى ابن عقيل وحده ليس معه إنسان يدلّه على الطريق.

هذه بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة ، وهي تكشف عن ضحالة ذلك المجتمع وانهياره أمام الأحداث ، فلمْ تكنْ له إرادة صلبة ولا وعي اجتماعي أصيل ؛ وقد جرّوا لهم بذلك الويل ، فدمّروا قضاياهم المصيرية وتنكّروا لجميع حقوقهم ، وفتحوا المجال للطاغية ابن مرجانة أنْ يتحكّم فيهم ، ويصبّ عليهم وابلاً مِن العذاب الأليم.

٤٢٩

الحياة الاقتصاديّة :

أمّا الحياة الاقتصادية في الكوفة فكانت تتّسم بعدم التوازن ، فقد كانت فيها الطبقة الأرستقراطية التي غرقت في الثراء العريض ، فقد منحتها الدولة الاُمويّة أيّام عثمان ومعاوية الهبات والامتيازات الخاصة ؛ فآثرت على حساب الضعفاء والمحرومين ، ومِنْ بين هؤلاء :

١ ـ الأشعث بن قيس : وقد اشترى في أيّام عثمان أراضي واسعة في العراق ، وكان في طليعة الإقطاعيين في ذلك العصر ، وهو الذي أرغم الإمام على قبول التحكيم ؛ لأنّ حكومته كانت تهدّد مصالحه وامتيازاته الخاصة.

٢ ـ عمرو بن حُريث : وكان أثرى رجل في الكوفة(١) ، وقد لعب دوراً خطيراً في إفساد ثورة مسلم وشلّ حركتها.

٣ ـ شبث بن ربعي : وهو مِن الطبقة الأرستقراطية البارزة في الكوفة(٢) ، وهو أحد المخذّلين عن مسلم ، كما تولّى قيادة بعض الفرق التي حاربت الحُسين (عليه السّلام).

هؤلاء بعض المثرين في ذلك العصر ، وكانوا يداً لابن مرجانة وساعده القوي الذي أطاح بثورة مسلم ؛ فقد كانوا يملكون نفوذاً واسعاً في الكوفة ، وقد استطاعوا أنْ يُعلنوا معارضتهم للمختار رغم ما كان يتمتّع به مِن الكُتل الشعبية الضخمة المؤلفة مِن الموالي والعبيد ، وهم الذين أطاحوا بحكومته.

أمّا الأكثرية الساحقة في المجتمع الكوفي فكانت مرتبطة بالدولة ، تتلقّى موادّها المعاشية منها ؛ باعتبارها المعسكر الرئيس للدولة ، فهي التي تقوم

__________________

(١) في الطبري : أنّ عمرو بن حُريث كان أكثر أهل الكوفة مالاً.

(٢) حياة الشعر في الكوفة / ١٦٨.

٤٣٠

بالاتفاق عليها ، وقد عانى بعضهم الحرمان والبؤس. وقد صوّر الشاعر الأسدي سوء حياته الاقتصادية بقصيدة يمدح بها بعض نبلاء الكوفة لينال مِنْ معروفه وكرمه ، يقول فيها :

يا أبا طلحةَ الجواد أغثني

بسجالٍ مَنْ سيبكَ المقسومْ

أحيي نفسي فدتك نفسي فإنّي

مفلسٌ قد علمتَ ذاك عديمْ

أو تطوع لنا بسلتِ دقيقٍ

أجرهُ إنْ فعلت ذاك عظيمْ

قد علمتمْ فلا تعامس عنّي

ما قضى الله في طعام اليتيمْ

ليس لي غيرُ جرّةٍ وأصيصٍ

وكتابٍ منمنمٍ كالوشومْ

وكساءٍ أبيعهُ برغيفٍ

قد رقعنا خروقَهُ بأديمْ

وأكافٍ أعارنيه نشيطٍ

هو لحافٌ لكلِّ ضيفٍ كريمْ(١)

أرأيت هذا الفقر المدقع الذي دعا الشاعر إلى هذا الاستعطاف والتذلل ، إنها مشكلة الفقر الذي أخذ بخناقه.

وعلّق شوقي ضيف على هذه الأبيات بقوله : ومِنْ هنا ارتفع صوت المال في القصيدة الاُمويّة ، واحتلّ جوانب غير قليلة منها ؛ فقد كان أساسياً في حياة الناس ، فطبيعي أنْ يكون أساسياً في فنّهم وشعرهم. أليس دعامة هامّة مَن دعائم الحياة؟! فلمْ لا يكون دعامة هامّة مِنْ دعائم البناء الفنّي؟ إنّه يستنر في قاع الحياة وقاع الشعر ؛ لأنّ الشعر إنّما هو تعبير عن الحياة(٢) .

إنّ الحياة الاقتصادية تؤثّر أثراً عميقاً وفعّالاً في كيان المجتمع ، وتلعب دوراً خطيراً في توجيه المجتمع نحو الخير أو الشرّ ؛ وقد ثبت أنّ كثيراً مِن الجرائم التي يقترفها بعض المصابين في سلوكهم إنّما جاءت نتيجة لفقرهم وبؤسهم ، أو لجشعهم على تحصيل المادة ، وقد اندفع أكثر الجيش

__________________

(١) حياة الحيوان ـ الجاحظ ٥ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩.

(٢) التطور والتجدد في الشعر الاُموي / ١٣٤.

٤٣١

الذي خرج لحرب الإمام الحُسين (عليه السّلام) حينما منّاهم ابن مرجانة بزيادة مرتّباتهم التي يتقاضونها مِن الدولة.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ سوء الحالة الاقتصادية في الكوفة كانت مِن الأسباب الفعّالة في إخفاق ثورة مسلم ، وتحوّل الجماهير عنه حينما أغدق ابن زياد الأموال على الوجوه والعرفاء وغيرهم ، فاندفعوا إلى القيام بمناهضة مسلم وصرف الناس عنه.

عناصر السكّان :

كانت الكوفة أممية قد امتزجت فيها عناصر مختلفة في لغاتها ، ومتباينة في طباعها وعاداتهم وتقاليدها.

فكان فيها العربي والفارسي والنبطي إلى جانب العبيد وغيرهم ، ولمْ تعدْ مدينة عربية خالصة كمكة والمدينة ، وإنّما كانت مدينة أهلها أخلاط مِن الناس كما يقول اليعقوبي.

وقد هاجرت إليها هذه العناصر باعتبارها المركز الرئيسي للمعسكر الإسلامي. فمنها تتدفّق الجيوش الإسلاميّة للجهاد ، كما تتدفّق بها المغانم الكثيرة التي وعد الله بها المجاهدين ، وقد بلغ نصيب الجندي المقاتل مِنْ فيء المدائن اثني عشر ألفاً(١) ؛ ممّا دعا ذلك إلى الهجرة إليها باعتبارها السبيل إلى الثروة. ونلمع إلى بعض تلك العناصر :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٦ / ٤ ، مختصر كتاب البلدان / ١٦٦.

٤٣٢

العرب :

وحينما تمّ تأسيس الكوفة على يد فاتح العراق سعد بن أبي وقاص اتّجهت إليها أنظار العرب ، وتسابقوا إلى الهجرة إليها ، فقد سكنها في وقت مبكر سبعون بدرياً ، وثلاثمئة مِنْ أصحاب الشجرة(١) .

وقد ترجم ابن سعد في طبقاته مئة وخمسين صحابياً ممّن نزلوا الكوفة(٢) . ويقول فيها السفّاح : وهي ـ أيّ الكوفة ـ منزل خيار الصحابة وأهل الشرف(٣) .

أمّا القبائل العربية التي سكنتها فهي :

القبائل اليمنيّة :

وتسابقت القبائل اليمنية إلى سكنى الكوفة ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً(٤) ، وهي :

١ ـ قضاعة.

٢ ـ غسان.

٣ ـ بجيلة.

٤ ـ خثعم.

٥ ـ كندة.

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٦ / ٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ٤٣.

(٣) مختصر كتاب البلدان / ٧٣.

(٤) معجم قبائل العرب ١ / ١٥ ، فتوح البلدان / ٢٧٦ ، معجم البلدان ٧ / ٢٦٧.

٤٣٣

٦ ـ حضرموت.

٧ ـ الأزد.

٨ ـ مذحج.

٩ ـ حِمْيَر.

١٠ ـ همدان.

١١ ـ النخع.

فهذه هي الاُسر التي تنتمي إلى اليمن وقد استوطنت الكوفة ، ونزلت في الجانب الشرقي مِن المسجد.

ويرى (فلهوزن) أنّ القبائل المشهورة مِن اليمن ، وهي : مذحج وهمدان وكندة ، قد كانت لها السيطرة والسيادة على الكوفة. ويقول عبد الملك بن مروان بعد دخوله إلى الكوفة ، حينما جاءته قبائل مذحج وهمدان : ما أرى لأحد مع هؤلاء شيئاً.

القبائل العدنانيّة :

أمّا القبائل العدنانية التي سكنت الكوفة ، فكان عددها ثمانية آلاف شخصاً ، وهي تتشكّل مِنْ أسرتين :

١ ـ تميم.

٢ ـ بنو العصر.

قبائل بني بكر :

وسكنت الكوفة قبائل بني بكر ، وهي عدّة اُسر منها :

١ ـ بنو أسد.

٤٣٤

٢ ـ غطفان.

٣ ـ محارب.

٤ ـ نمير.

وهناك مجموعة اُخرى مِن القبائل العربية استوطنت الكوفة ، وهي كنانة وجديلة وضبيعة وعبد القيس وتغلب وأياد وطي وثقيف وعامر ومزينة(١) .

ويرى (ماسنيون) أنّه إلى جانب القرشيين الذين سكنوا الكوفة عناصر شديدة البداوة مِنْ سكان الخيام ، وبيوت الشعر وأصحاب الإبل مِنْ بني دارم التميمي وجيرانهم اليمنيين القدماء مِنْ طيء ، وعناصر نصف رحالة مِنْ ربيعة وأسد مِن الغرب والشمال الغربي ، وبكر مِن الشرق والجنوب الشرقي ، وعبد القيس الذين جاءوا مِنْ هجر مِن الجنوب الشرقي.

ثمّ عناصر متحضّرة مِن القبائل الجنوبية الأصيلة مِن العربية الذين نزحوا مِن اليمن وحضرموت ، وهؤلاء كانوا قسمين : عناصر نصف متحضّرة مِنْ كندة وبجبلة ، وعناصر متحضّرة تماماً مِنْ سكّان المدن والقرى اليمنية مِنْ مذحج وحِمْيَر وهمدان(٢) .

إنّ العنصر العربي الذي استوطن الكوفة منذ تأسيسها كان مزيجاً مِن اليمانية والنزاريّة وغيرها ، ولكنّ اليمانية كانت أكثر عدداً ، كما كان تأثيرها في حياة المجتمع الكوفي أشدّ مِنْ غيرها.

الروح القبليّة :

وسادت في قبائل المجتمع العربي في الكوفة الروح القبلية فكانت كلّ قبيلة

__________________

(١) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة / ٤٢.

(٢) خطط الكوفة / ١٢ ـ ١٣.

٤٣٥

تنزل في حي معين لها لا يشاركها فيه إلاّ حلفاؤها ، كما كان لكلّ قبيلة مسجدها الخاص ومقبرتها الخاصة. ويرى (ماسنيون) أنّ جبّانات الكوفة هي إحدى الصفات المميّزة لطبوغرافيتها(١) ، كما سمّيت شوارعها وسككها بالقبائل التي كانت تقطن فيها(٢) ، وغدت المدينة صورة تامّة للحياة القبلية ، وبلغ الإحساس بالروح القبلية والتعصّب لها إلى درجة عالية ، فكانت القبائل تتنافس فيما بينها على إحراز النصر كما حدث في واقعة الجمل ؛ ومِنْ هنا غلب على الحياة فيها طابع الحياة الجاهلية(٣) .

ويحدّثنا ابن أبي الحديد عن الروح القبلية السائدة في الكوفة بقوله : إنّ أهل الكوفة في آخر عهد عليٍّ كانوا قبائل ، فكان الرجل يخرج مِنْ منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اُخرى ، فينادي باسم قبيلته : يا للنخع أو يا لكندة ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي مرّ بها فينادون : يا لتميم أو يا لربيعة ، ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه ، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها ، فتُسلّ السيوف وتثور الفتنة(٤) .

لقد كانت الروح القبلية هي العنصر البارز في حياة المجتمع الكوفي ، وقد استغل ابن سُميّة هذه الظاهرة في إلقاء القبض على حِجْر وإخماد ثورته ؛ فضرب بعض الاُسر ببعض ، وكذلك استغل هذه الظاهرة ابنه للقضاء على حركة مسلم وهانئ وعبد الله بن عفيف الأزدي.

__________________

(١) (٢) خطط الكوفة / ١٨.

(٣) التطور والتجديد في الشعر الاُموي / ٨٠ ـ ٨١.

(٤) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٣٩.

٤٣٦

الفرس :

وإلى جانب العنصر العربي الذي استوطن الكوفة كان العنصر الفارسي ، وكانوا يسمّون الحمراء(١) ، وقد سألوا عن أمنع القبائل العربية فقيل لهم تميم فتحالفوا معهم(٢) .

وأكبر موجة فارسية استوطنت الكوفة عقيب تأسيسها هي المجموعة الضخمة مِنْ بقايا فلول الجيوش الساسانية التي انضمت إلى الجيش العربي وأخذت تُقاتل معه ، وقد عُرفت في التاريخ باسم (حمراء ديلم) ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون أربعة آلاف جندي ، يرأسهم رجل يسمّى (ديلم) ، قاتلوا معه تحت قيادة رستم في القادسية ، فلمّا انهزمت الفرس وقُتل رستم عقدوا أماناً مع سعد بن أبي وقاص ، وشرطوا عليه أن ينزلوا حيث شاؤوا ، ويحالفوا مَنْ أحبّوا ، وأنْ يفرض لهم العطاء ، وقد حالفوا زهرة بن حويّة التميمي أحد قادة الفتح ، وفرض لهم سعد في ألف ألف ، وأسلموا وشهدوا فتح المدائن معه كما شهدوا فتح جلولاء ، ثمّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة(٣) .

وقد كوّنت هذه الجالية مجموعة كبيرة في المجتمع الكوفي ، ويذكر (فلهوزن) أنّهم كانوا أكثر مِنْ نصف سكّان الكوفة ، وقد أخذ عددهم بازدياد حتّى تضاءلت نسبة العرب في الكوفة ، وتغلّبوا في عصر المأمون حتّى كانت اللغة الفارسية تحتلّ الصدارة في ذلك العصر(٤) . ويقول الجاحظ :

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٩٦.

(٢) تاريخ الطبري.

(٣) فتوح البلدان / ٢٨٠ ، خطط الكوفة / ١١.

(٤) فك العربية / ٨٣ ـ ٨٤.

٤٣٧

إنّ اللغة الفارسية أثّرت تأثيراً كبيراً في لغة الكوفة(١) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الفرس كانوا يشكّلون عنصراً مهمّاً في الكوفة وكوّنوا بها جالية متميزة ، فكان أهل الكوفة يقولون : جئت مِنْ حمراء ديلم(٢) .

ويقول البلاذري : إنّ زياداً سيّر بعضهم إلى الشام وسيّر قوماً منهم إلى البصرة(٣) ، وقد شاركت هذه الجالية في كثير مِن الفتوحات الإسلاميّة ، كما شكّلت المدّ العالي للإطاحة بالحكم الاُموي.

الأنباط :

وكانت الأنباط مِن العناصر التي سكنت الكوفة ، وقد أثّروا في الحياة العامّة تأثيراً عقلياً واجتماعياً.

ويقول المؤرّخون : إنّ الأنباط ليسوا عنصراً خاصاً مِن البشر وإنّما هم مِن العرب ، وكانوا يستخدمون اللغة الدارمية في كتابتهم ، وكانوا يستوطنون بلاد العرب الصخرية وقد انتقلوا منها إلى العراق ، واشتغلوا بالزراعة ، وكانوا ينطقون بلغتهم الدارمية(٤) ، وقد أثّروا تأثيراً بالغاً في حياة الكوفة.

يقول أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة : لكم حذلقة النبط وصلفهم ، ولنا زهاء الفرس وأحلامهم(٥) .

ويروي الطبري أنّ رجلاً مِنْ بني عبس أسر رجلاً مِنْ أهل نهاوند اسمه دينار ، وكان يواصل العبسي ويهدي إليه ، وقد قدم

__________________

(١) البيان والتبيين ١ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري / ٥٥.

(٣) فتوح البلدان / ٢٧٩.

(٤) الحضارة الإسلاميّة / ٩٧.

(٥) البيان والتبيين ٢ / ١٠٦.

٤٣٨

الكوفة في أيّام معاوية فقام في الناس وقال لهم : يا معشر أهل الكوفة ، أنتم أوّل مَنْ مررتم بنا كنتم خيار الناس ، فعمّرتم بذلك زمان عمر وعثمان ثمّ تغيّرتم ، وفشت فيكم خصال أربع : بخل وخبّ وغدر وضيق ، ولمْ يكن فيكم واحدة منهنّ فرافقتكم فإذا ذلك في مواليدكم ، فعلمت مِنْ أين أتيتم(١) .

ويرى (دي بود) أنّ التغيّر الاجتماعي ، وتبدّل الأخلاق في الكوفة قد نشأ في وقت مبكّر أيّام معاوية بن أبي سفيان(٢) ، ومِن الطبيعي أنّ للأنباط ضلعاً كبيراً في هذا التغيير.

السريانيّة :

والعنصر الرابع الذي شارك في تكوين الكوفة هي السريانية ، فقد كانت منتشرة في العراق قبل الفتح الإسلامي ، وكان الكثيرون منهم مقيمين على حوض دجلة ، وبعضهم كان مقيماً في الحيرة والكوفة وقد ارتبطوا بأهل الكوفة وتأثّروا بعاداتهم وأخلاقهم ؛ فإنّ الحياة الاجتماعية ـ كما يقول علماء الاجتماع ـ حياة تأثير وتأثر ، فكلّ إنسان يتأثر ويؤثر فيمَنْ حوله.

هذه هي العناصر التي شاركت في استيطان الكوفة وبناء مجتمعها ، فهي لمْ تكن عربيةً خالصةً وإنّما امتزجت بها هذه العناصر ، وقد نشأت بينها المصاهرة ، فنشأ جيل مختلط مِنْ هذه العناصر ولكنْ التغلّب الجنسي كان للعرب ؛ باعتبارهم الأكثرية الساحقة في القطر ، فقد أصبحت التقاليد

__________________

(١) تاريخ الطبري.

(٢) تاريخ الفلسفة في الإسلام / ١٥ ـ ١٨.

٤٣٩

الدينية والعادات الاجتماعية خاضعة للعرب ، كما كانت لهم الكلمة العليا في البلاد. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عناصر السكّان في الكوفة.

الأديان :

ولمْ يكن المجتمع الكوفي يدين بدين واحد وإنّما كانت فيه أديان متعدّدة ، ولكلّ دينٍ الحرية في إقامة طقوسه الدينية ، وهذه بعضها :

١ ـ الإسلام :

وكان الإسلام دين الأكثرية الساحقة للعرب الذين استوطنوا الكوفة ، فإنّها إنّما اُنشأت لتكون حامية للجنود الإسلاميّة التي كانت تبعث بهم الدولة لحركات الفتوح وعمليات الجهاد ، ولكنّ الإسلام لمْ ينفذ إلى أعماق قلوب الكثيرين منهم ، وإنّما جرى على ألسنتهم طمعاً بثمرات الفتوح التي أفاء الله بها على المجاهدين.

وقد أكّد علم الاجتماع أنّ التحوّل الاجتماعي لا يكون إلاّ بعد أجيال وأجيال ، وأنّ المجتمع يظلّ محافظاً على عاداته وتقاليده التي اكتسبها مِنْ آبائه ، ويؤيد ذلك ما مُنِيَ به مِن الحركات الفكرية التي تتنافى مع الإسلام ، والانقسامات الخطيرة بين صفوفه ، ونلمع إلى بعض تلك الانقسامات :

الخوارج :

واعتنق هذه الفكرة القرّاء وأصحاب الجباه السود حينما رفعت المصاحف في صفّين ، وقد أرغموا الإمام على قبول التحكيم بعد ما مُنِيَ

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470