فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام0%

فلسفة الحكم عند الإمام مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200

فلسفة الحكم عند الإمام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 7882
تحميل: 2269

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 7882 / تحميل: 2269
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

مات علي شهيد عظمته...

شأن جميع الانبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم والى قوم ليسوا بقومهم في زمن ليس بزمنهم.

جبران خليل جبران

عظيم من عظماء البشرية...

انبتته ارض عربية ولكنها ما استأثرت به وفجر ينابيع مواهبه الاسلام ولكنه ما كان للاسلام وحده.

ميخائيل نعيمة

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسّلام على أشرف البرية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الهادية المرضية.

وعند رحلتي إلى القاهرة في عام 1398 هـ ذهبت لزيارة الأخ الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود وكنت قد صحبت معي كتاب الاستاذ الدكتور نوري جعفر: (فلسفة الحكم عند الإمام) وطلبت منه أن يكتب تقديما للكتاب فتفضل سيادته مشكوراً على ما كتبه.

أسأل الله أن يتقبل أعمالنا ويجعلها خالصة له ولأمة سيد أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجعل مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه وما بذلناه من جهد في نشر آثار أهل البيت عليهم السلام مرفوعاً إليه ومقبولا عنده أنه سميع الدعاء قريب مجيب؟

القاهرة: السّيد مرتضى الرضوي

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إحتواني أبو السبطين: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - ولى الرسول، وموضع سره ولجأ علمه، وأصل الأئمة الأطهار - في رحابه نيفاً وثلاثين عاماً عشتها تحت ظله الوارف الممدود. فما رأيت نفسي نعمت مع غيره - بعد محمد عليه الصلاة والسلام - بمثل ما نعمت معه من ذخائر المعارف، وكرائم الأخلاق، وروائع الأفكار التي تفتح طرائق وآفاقاً بلا حدود لمن أراد التماس الحق كاملاً غير منقوص، والحكمة صافية غير مشوبة..

ولقد استعصى على، كما استعصى على بلا ريب سواى، الإحاطة بكل ما أوتيه، والأخذ بكل ما أعطاه، لأن بلوغ الكمال محال، ولأن النفس البشرية، مهما ارتقت في مدارج النقاء، خليقة بأن تخطئ وإن هي حاولت مباعدة الأخطاء فالعصمة لله. وابن آدم خطاء، والحرص على التزام المحجة البيضاء لا يمنع إنسانا من الإنحراف عن سوء السبيل، آونة أو آونات، فيرى في القبيح المليح، ويرى في المليح القبيح، وقد يجيء هذا نتيجة محاولة بريئة لتفهم جديد، أو تبرير وضع طارئ، أو اجتهاد رأى في مشكلة بيئية تربت على تغير في الظروف والاحوال.. هذا بالإضافة إلى أن الطبيعة الآدمية كما فيها من النور فإن فيها من الظلام.

2

من السلوك البشرى.. وإن اختلف باختلاف المواقع والأفراد.. وإن كان وليد تفاعلات نفسية معقدة.

٥

فإنه أيضاً على وجه من الوجوه ظاهرة اجتماعية عامة تقوم أساساً على ركيزتين هما. التلقين والتقليد.. ومن هنا فإن قادة الشعوب، ودعاة الإصلاح أو التغيير، يعمدون من خلال هاتين الركيزتين إلى تطور مجتمعاتهم وإعادة صياعتها من جديد. فإذا هم يبثون فيها - بالدعوة المستمرة الدائبة - ما اختاروا لها من آراء، يلقنونها الكبار والصغار. ثم يقرنون مرحلة البث بمرحلة التقليد أو تثبيت تلك الآراء في أذهان الناس عن طريق التطبيق العملي، بضرب الأسوة، حملا لهم على الاقتداء والأداء..

وذلك هو ما يحدث بالنسبة لجميع الأديان.. تتنزل رسالات السماء على من يجتبيهم الله من عباده المرسلين، فيخص كل رسول إلى تبليغ من بعث فيهم ويكون هو نفسه القدوة والمثال.

3

ولم يعرف التاريخ، فيما إخال هاديا تصدى لإصلاح حال قومه، وأخذهم بمبادئ الإسلام كالإمام..

نعم: يكن مجرد داعية إلى الله، وبينهم كتاب الله ما أيسر رجوعهم إليه لو شاءوا الاهتداء.. ولكنه ترجم الدين إلى أسلوب حياة وإعادة نقله - بعد خلو حياتهم العامة من محمد - إلى حيز التطبيق.. وعندما ترنو إلى سعيه في هذا المضمار نكاد نجد جهده امتداداً لجهد الرسول، وعهده امتداداً لعهده عليه الصلاة والسلام.

وليس معنى هذا أن الألى سبقوه إلى حكم الأمة فرطوا في الكتاب، ولكنه يعني أن الدنيا - حين آل اليه الأمر - كانت قد أقبلت على الناس كل

٦

الاقبال،( فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) ، وانشغل الأكثرون منهم بالعروض من متاع ومال وجاه حتى لكأنهم آثروا العيش على مظاهر الدين دون اللباب، وعلى المقولات دون المعقولات.. واستفاض بهم هذا الانشغال الاستفاضة التي تنذر بجاهلية جديدة توشك أن تستأثر الجميع.. وظن ومن يظنون أن دور الإمام، في تلك الفترة القصيرة التي تولى فيها السلطان - كان مجرد العناية - بتذكير الأمة بأوامر الله ونواهيه، أو الاقتصار على الكشف لها عن أسرار القرآن وخفاياه، إنما هو محض خيال..

ذلك لأن الثابت قطعاً أنه أخرج للناس سياسة عامة للاصلاح وإعادة بناء الإنسان، لا تأخذه بالقسور، بل تقوم - قبل أي شيء وكل شيء على جوهر الدين..

رسم فيها خطة شاملة لشئون الداخل والخارج ولاءاً بها بين الصالح العام ونفع الأفراد. تحسن السير بالأمور كما تحسن قيادة الناس، مطوعا إياها لمقابلة كافة الاحتمالات في تطورات الأحداث، وتغيرات الظروف، وانطلاقة الزمن بالحكمة، وسعة الافق، ودقة التفكير، وأحكام التقدير مع مرونة المداولة بين مختلف أساليب المجابهة الكفيلة بكبح شرة الأزمات، وتفاقم الأخطار، وانحرافات الأنفس ثم يلقاها بأنسب الحلول..

4

ونكاد نجمل هذه السياسة الشاملة في عبارة قصيرة للامام يقول:

(الناس إما أخ في الدين أو نظير في الخلق).

فشعاره إذاً هو (مساواة)

٧

مساواة بين جميع الناس وإن تباينوا في الأديان واختلفوا في العناصر والألوان.

مساواة ميسرة لا تشق على إنسان، معلومة لا تغمض على إنسان. قاصدة بغير تقصير. سمحة بغير مغالاة. نسبية بغير إطلاق. تعيش في الممكن المتاح وأكد هذا مرة ومرات، فكان مما قاله في هذا المجال:

(إنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر..).

ودين الله هو الإسلام. فالاسلام هو الرسالة الإلهية الوحيدة التي بعث الله بها رسله إلى أقوامهم على فقرات، ثم كانت للناس كافة ببعثة محمد خاتم الرسل والانبياء.

5

وليست المساواة شعاراً يرفع، ولا كلمة تقال، بل هي جهد يبذل، وعمل يعمل، ومفهوم يطبق في المجتمع تطبيقا جاداً بلا مفاوتة بين إنسان وإنسان، وبلا ترخص لإنسان دون إنسان..

وإذا كان ثمة من الناس من يمقتك فأحرى بمن يقول بها أن يلتزمها ليتبعه على نهجها كل من عداه، ولتكون هي السلوك العام..

وقد صارح الإمام أمته، منذ ولي الأمر، بأنه هو قائد سيرتهم على هذا الطريق..

ففي يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة عام ولايته، على قول..

أو في الخامس والعشرين من نفس الشهر من السنة الخامسة والثلاثين

٨

للهجرة، الموافق الثالث والعشرين من شهر يونيو سنة ستة وخمسين وستمائة للميلاد.. وقف بعد أن تمت له البيعة، يعين المسلمين:

(إنما أنا رجل منكم.. لي ما لكم.. وعلى ما عليكم..)

فلا تفرقة.. لا امتياز له على غيره من الناس..

ولا شك في أنه حين قال قولته هذه لم يأت بجديد. فكلمته هي كلمة الإسلام، ورأيه هو رأى الإسلام.. ودين الله الذي ختم الاديان كان، كما يقضي بوحدة الربوبية الآلهية، يقضى أيضا بوحدة العبودية البشرية، لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس أجمعين، قبل أن تفسدهم الانحرافات المتسربة إلى النفوس والعقول من خلال طوارئ المعتقدات، والأفكار، وتحكم العادات والتقاليد، وفوارق العنصريات والاجناس، وتباعد حدود الزمان والمكان.. إنه يعيدهم سيرتهم الأولى، على سجيتهم النقية كبدء نشأتهم، مطهرين من الأدران، خالصين من الشوائب، كانهم يلدهم من جديد..

هو بهذا يسوى بينهم كافة لأن الفطرة هي العامل الوحيد الذي يشتركون فيه فأساس المقارنة بينهم - على هذا الوضع - ثابت غير قابل للتغير، أو مساواة كاملة، لا سبيل معها إلى المفاضلة والترجيح.

فإذا هم تفاوتوا من بعد، فبمعايير غير هذا المعيار..

هذه حقيقة عصية على الانكار، بعيدة بعداً مطلقا عن المماراة.. ليس أدل عليها من نأى الاسلام - في دعوته - عن التمحيص، بالاتجاه إلى التعميم..

فالقرآن الكريم كما تؤكد آياته، حين يدعو دعوته الايمانية لا يخاطب إلا (الناس) أو (بني آدم) آو (الانسان) أو (عباد الله).

٩

لا يختص بها جنساً، ولا عنصراً، ولا قوماً، ولا لوناً، ولا طائفة، ولا مجتمعاً من المجتمعات بالخطاب..

6

واستقامة السلوك العام في الأمة رهن باستقامة السلوك الخاص لأولئك الذين بيدهم مقادر الأمور ومن ثم فقد حرص أميرالمؤمنين على أن تظل عينه على تصرفات عماله ورجاله الأدنين الذين يتقدمون الصفوف، خشية أن يميلوا عن (المساواة) استجابة لضغوط بيئية، أو نتيجة هوى أو ضعف أو عصبية.

ذلك لأنهم بأوضاعهم تلك هم المؤدبون والمهذبون. ولأنهم أيضا القدوة التي يحتذيها الجمهور..

لذلك يأمر الإمام كل عامل من عماله أن يرعى المساواة لأنها إنصاف لله كما هي إنصاف للناس، فيقول:

(ألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حينما وقع..).

ويقول:

(أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك وخاصة أهلك ومن لك هوى فيه من رعيتك. فإنك إلا تفعل تظلم!..).

ثم يؤكد وجوب المساواة بين الحاكم والمحكوم فيقول:

١٠

(إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة..).

وهو يعلم علم يقين وكما تشير الأمثال في مختلف العصور، أن الثناء إغراء وأن بطانة الحاكم ومشيريه أقوى عليه تأثيراً، وأدنى إليه حظوة، وأعلم بما يكرهه وبما يرضيه فلا عجب إن استطاعوا - بالملق أو طيب الثناء - أن يقودوه كيف يشاءون..

لذلك حذر عماله مغبة هذا الانقياد، وأمرهم أن يدقق كل في اختيار المشيرين والأعوان:

يقول:

(استعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة. ورضهم على ألا يطروك، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدنى من الغرة.. وليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق..).

7

ويطول بي الحديث لو استطردت إلى ما تفصح عنه سيرة أمير المؤمنين من سياسة جهد بها لترويض الناس، وتطويع الأحداث.. يطول بي إلى مدى ما له حدود أو هو جد بعيد.

فلعل الاخ الاستاذ الدكتور نورى جعفر يغفر لي هذا التقصير.

إن بيدي الآن كتابه الجليل: (فلسفة الحكم عند الإمام) الذي أودعه خلاصة قيمة لهذه الفلسفة التي بزت غيرها من فلسفات، وسبقت بمبادئها القويمة كل ما ارتآه الأقدمون والمعاصرون..

١١

وإذا كان الصديق الفاضل السيد مرتضى الرضوي قد شاء لي أن أديج كلمة تتصدر الكتاب، فالكتاب، في رأيي غنى عن التصدير والتقديم بمادته وبجهد مؤلفه، وقدرته الفائقة على الغوص في السيرة العلوية لالتقاط الدرر، باستخلاصها من الأصداف.

على أن يروق لي أن أختم هذه السطور بعبارة موجزة جرت على لسان أمير المؤمنين فإذا هي تتحدى بمضمونها كل ما استنبط الفلاسفة وذوو الآراء من مبادي لإصلاح حال الشعوب، ومداواة ما تعوزه الطبقية من عدالات.

قال الإمام:

(لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه)

فهل بغير صلاح الرعية يصلح الولاة؟

لقد تصارع الناس. وتصارعت الطبقات. وجاءنا صانعوا الفلسفات من أقدم العصور بألوان من المبادئ تحاول الاصلاح وإفادة السلام الاجتماعي على المواطنين، فلم تبلغ أحدث مبادئهم، ولا أكثرها (تقدمية) كما تقول لغة عصرنا الحديث - شأو كلمة الامام. ولا احتوت مثل ما احتوت عبارته من مضمون.

الاسكندرية 14 سبتمبر سنة 1978عبد الفتاح عبد المقصود

١٢

تقديم

بدأت الدراسة التاريخية المنظمة للتراث الإسلامي والعربي في أوائل نشوء الدولة العباسية قبل أكثر من ألف عام. وساهم في في ذلك فريق كبير من الكتاب اللامعين، وفي مقدمتهم:

ابن قتيبة (الذي توفى عام 270 هـ) والبلاذري (279 هـ) واليعقوبي (284 هـ) والدينوري (290 هـ) والطبري (310 هـ) والمسعودي (346 هـ) وابن مسكويه (441 هـ) والخطيب البغدادي (463 هـ) وابن عساكر (571 هـ).

وابن الأثير (630 هـ) وابن خلكان (681 هـ) وابن الفداء (732 هـ) وابن خلدون (808 هـ)

والمقريزي (845 هـ)...

وألفت كتب كثيرة في هذا الباب وعلى رأسها:

(أنساب الأشراف) و (مروج الذهب...) و (تاريخ الأمم والملوك) و (تجارب الأمم) و (تاريخ بغداد) و (الكامل في التاريخ) و (أسد الغابة...) و (وفيات الأعيان) و (فوات الوفيات) و (كتاب العبر...) و (إمتاع الأسماع...).

١٣

هذا بالإضافة إلى الكتب التي ألفها مؤرخو السيرة النبوية كابن هشام والواقدي..

وكتب التراجم لابن سعد وابن حجر... وكتب الحديث:

للبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل...

وكتب الأدب (التي تحتوى على دراسة التاريخ أيضاً) الجاحظ والمبرد وأبى حيان والأصبهاني...

ولم ينقطع البحث في هذا التراث - منذ نشوئه - حتى يومنا هذا (مع ما رافق ذلك من اختلاف كبير في مقوماته ونتائجه نظراً لاختلاف ثقافة الباحثين وتغير طبيعة الأوضاع الاجتماعية العامة التي يواجهونها مع ما يرافقها من اختلاف في مزاج العصر الذي يعيشون فيه).

وقد تصدى للبحث في التراث الآنف الذكر - في الوقت الحاضر - رعيل من أبرز الكتاب العرب وفي مقدمتهم:

الشيخ محمد رضا الشبيبي، والدكتور طه حسين، والأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور محمد حسين هيكل، والأستاذ توفيق الحكيم، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والشيخ عبد الله العلائلي، والأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، والأستاذ جورج جرداق...

بحث هؤلاء الذوات - وكثيرون غيرهم - في أكثر من وجه من وجوه هذا التراث وألف أكثرهم أكثر من كتاب فيه. فصدرت كتب قيمة في هذا الباب وفي مقدمتها:

(مؤرخ العراق ابن الفوطي) و (عثمان بن عفان) و (على وبنوه) و (عبقرية الإمام) و (معاوية بن أبي سفيان في الميزان) و (حياة محمد) و (الإمام علي بن أبي طالب) و (الإمام علي: صوت العدالة الإنسانية)...

١٤

يضاف إلى ذلك أن غالبية (الأساتذة) الذين تخرجوا بجامعات الغرب وبالجامعات الموجودة في بعض أرجا العالم العربي قد قدمت رسائلهم - لإحراز الشهادة العالية في التاريخ الإسلامي أو الأدب العربي - وهي منظوية على البحث في التراث الآنف الذكر: تارة في أحد جوانبه وطوراً في البحث الذي يجمع بين القديم والجديد!! فالمحفزات على البحث فيه كثيرة تأتي من التاريخ الإسلامي نفسه ومن طبيعة الأوضاع العامة التي يتعرض لتأثيرها العرب والمسلمون في هذا العصر الذي نعيش فيه.

على أن القراء - مع ذلك - سيقفون من هذا الكتاب مواقف متناقضة فيما يتصل بتقدير قيمته من حيث موضوعه بالنسبة للظروف العالمية الراهنة من جهة، وفيما يتعلق بمحتوياته نفسها وطبيعة الأحكام التي ينطوي عليها من جهة أخرى.

ويعود ذلك على ما أرى إلى اختلاف مستوياتهم الفكرية وظروفهم العامة وعنعناتهم واتجاهاتهم الفلسفية والاجتماعية. وسيتخذ بعضهم - دون شك - (وخاصة الذين اتخذوا الدين الإسلامي والتاريخ وسيلة للكسب المادي والمتاجرة) من هذا الكتاب قميصا جديداً لعثمان - لمهاجمة المؤلف وتأليب الناس عليه. وسيغفل - في زحمة ذلك - أمر التحدث عن الكتاب وينشغل أولئك بالتحدث عن مؤلف الكتاب.

قال علي - في هؤلاء ومن هم على شاكلتهم من القدامي والمحدثين من وعاظ السلاطين -: (يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا إسمه: مساجدهم - يومئذ - عامرة من البناء خراب من الهدى. سانها وعمارها شر أهل الأرض - منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوى الخطيئة).

وهناك فريق آخر من القراء سيقول (بحكم ثقافته الحديثة): نحن في عصر الذرة وفي عالم الأقمار الطائرة - التي لا تنسجم بطبيعتها مع هذا النوع من الأبحاث.

١٥

وجوابنا على ذلك: نعم: إننا نعيش - دون شك - في عصر الذرة وفي عالم الأقمار الطائرة. ولكننا نعيش أيضاً (وإلى المدى الأكبر) - في العراق وخارجه - في عالم العلاقات الاجتماعية والصلات التاريخية البعيدة والقريبة على السواء.

ولو كان الأمر على خلاف ذلك لتعطل معظم أوجه النشاط العلمي والاجتماعي (في أغلب حقول المعرفة الإنسانية) في المجتمع الإنساني الحديث، ولتوقفت الدراسة في معظم الجامعات ودور العلم في أرجاء المعمورة.

على أننا (في العراق، مع هذا لا نعيش - في الواقع - إلا على هامش الذرة والأقمار الطائرة. ولا يخرج (عيشنا) هذا عن نطاق التحدث عن الذرة والأقمار الطائرة أحاديث على جانب كبير من الضحالة من الناحية العلمية.

على أن موضوع هذا الكتاب - مع ذلك - لا يحول بأية حال من الأحوال بين (فطاحل) علماء الذرة والصواريخ والأقمار الطائرة من العراقيين وبين البحث فيها وإنتاجها.

ولا يعرقل ما هو متوافر لديهم من مقومات البحث كالأجهزة العلمية والمختبرات. ولكن هذا الأمر (مع كل ما ذكرناه) أعمق من ذلك بكثير:

فالبحث في الذرة وفي القمر الطائر، ما هو في واقعة (بعد التحليل الدقيق) إلا وجه واحد فقط من أوجه الصراع المرير بين فلسفتين في الحكم مختلفتين كل الاختلاف: تسعى كل واحدة من الفلسفتين - ضمن إطارها النظرى في السياسة والاقتصاد - (بنظر حملتها) إلى تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية بأوسع مدى ممكن في شتى ميادين الحياة بين أفراد المجتمع الإنساني في اختلاف مواقعهم الجغرافية ولغاتهم وألوان بشراتهم.

ولا يتسنى لكل منهما أن تحقق ذلك، من الناحية الواقعية التطبيقية (بنظر حملتها) إلا إذا أزيلت معالم الأخرى من عالم الوجود.

١٦

وفلسفة الإمام - التي نحن بصدد البحث في أهم مقوماتها - كانت قد سمعت (من الناحيتين النظرية والتطبيقية) إلى نشر مبدأ العدالة الاجتماعية بين الناس - في حدود إطارها النظري في السياسة والاقتصاد.

فإذا نظرنا إلى موضوع الكتاب من هذه الزاوية أصبح بمقدورنا أن إحدى شخصياته.

فألفت في هذا الباب كتب كثيرة منها - على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

(الأصمعي) و (المعتزلة) و (نقائض جرير والفرزدق) و (الطبيعة في الشعر العربي) و (ابن خلدون) و (الغزل في الشعر العربي) و (أبو حيان التوحيدي) و (القصص في القرآن) و (الشعر السياسي في العراق في القرن التاسع عشر) و (أدب الشريف المرتضى) و (الصراع بين العرب والموالي)...

هذا عدا الأبحاث الأخرى التي قام بها فريق آخر من الكتاب: صدر منها مثلا: (هارون الرشيد

) و (وعاظ السلاطين) و (عصر المأمون) و (وعمرو بن العاص) و (خالد بن الوليد) و (أبو العلاء المعري) و (ابن الرومي) و (أبو الطيب المتنبي)...

أما المقالات والمحاضرات المتعلقة بهذا النوع من الأبحاث فلا تكاد تقع تحت حصر.

أما مناهج الدراسة الحكومية - في أرجاه العالمين العربي والإسلامي - فمملوءة هي الأخرى بهذا النوع من الأبحاث في مختلف وجوهها وبمقدار يحتل (حصة الأسد من الغنيمة) كما يقولون.. فلست إذن أول من تصدى للبحث في هذا الموضوع، أو الذي اقتصر بحثه عليه، على أن لولعي في البحث فيه قصة طريفة أود أن أروى خطوطها العامة للقاري بشيء من الإيجاز غير المخل:

١٧

عدت إلى العراق في أواخر عام 1949 بعد أن أنهيت دراستي خارجه. ولم يدر بخلدى آنذاك أن أنصرف إلى دراسة موضوع التاريخ الإسلامي بله الكتابة فيه. غير أنى رغبت - بعد رجوعي بأشهر قليلة - في الاطلاع المباشر على أمهات كتب اللغة والأدب الغربي. فتناولت (قدفة) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بمجلداته الأربعة. وكان غرضي - بالدرجة الأولى - لغوياً. فلم أعر، والحالة هذه، وقائع التاريخ التي كانت تمر على (بصورة مستمرة) في ثنايا الكتاب إلا جانباً ضئيلا من الاهتمام والتبع.

غير أنى (بحكم استرسالي بمطالعة الكتاب) أصبحت غير قادر - على الرغم مما أبديته من مقاومة في بادئ الأمر - على تجنب الاهتمام بتلك الحوادث:

فقد فرض بعضها نفسه على فرضاً الأمر الذي اضطرني (أثناء مطالعة ما يتصل بخلافة عثمان بن عفان بصورة خاصة) أن أعود من جديد إلى قراءة الكتاب المذكور (قبل إنجازى مطالعته) - هذه المرة لغرض الاطلاع على حوادثه التاريخية بالدرجة الأولى، مع الاهتمام العرضى بجوانبه اللغوية في المتن والشرح على السواء..

فظهر لي 0 بعد أن أنجزت مطالعة الكتاب بمجلداته الأربعة) أن هناك بوناً شاسعاً بين ما دونه ابن أبي الحديد، وبين ما درسته في دروس التاريخ الإسلامي أثناء مراحل الدراسة الثلاث (الابتدائية، والثانوية، ودار المعلمين العالية):

سواء أكان الذي درسته مسطوراً في كتب التاريخ المدرسي أم متصلا بما ذكره المدرسون.

فطفقت أبحث عن (الحقيقة) في أمهات كتب التاريخ الإسلامي.

وقد أتاح لي إقصائي عن خدمة الحكومة (كما استلزمت ذلك المصلحة العامة التي

١٨

قدرها السيد أرشد العمري رئيس الوزراء والدكتور عبد الحميد كاظم وزير المعارف آنذاك) فرصة نادرة البحث في هذا الموضوع بالذات.

وقد بقي هذا الموضوع يلاحقني منذ ذلك الحين: فبرز على بن أبي طالب أمامي كالعملاق: كلما (انتهيت) من البحث في أحد جوانبه تجسمت ضآلة ذلك البحث (على الرغم مما أبذله من جهد في تهيئنه).

واندفعت إلى البحث في جانب تلك الحياة الزاخرة بضروب الفضيلة والمجد. فكأنني لا أنتهى من البحث في جانب معين من جوانبها إلا لأتفرغ إلى البحث في جانب آخر.

ولست أدري - وأيم الحق - متى أنتهى من هذا. نقول:

إنه يستمد مقوماته العامة في البحث من طبيعة مشلات المجتمع الإنساني المعاصر في الأخلاق والسياسة والاقتصاد، وإن كانت حوادثه قد وقعت - من الناحية التاريخية - قبل زهاء ثلاثة عشر قونا.

لقد بحثت كما سيرى القارئ عند مطالعته هذا الكتاب حياة (على) مجردة من كال شيء إلا من مقوماته الشخصية وتصرفاته العامة في القول وفي العمل - كما يبحث الكتاب المعاصرون في حياة السياسة ورجال الفكر من القدامي والمحدثين أمثال: أفلاطون ونابليون وموسوليني وروزفلت وستمالين وجرجل...

وقد ساقنى البحث بحكم تشعبه - واستكمالا لمستلزماته من الناحية التاريخية إلى التحدث عن الموازنة بين على ومعاصريه من الحكام - وخاصة في الفصل الرابع من الكتاب. فأطلقت طائفة من الأحكام الاجتماعية - التي قد تبدو صارمة بنظر بعض القراء -

١٩

على أن تلك الأحكام - مع هذا - تحتمل الخطأ والصواب. وهي قابلة للنقد والتجريح من قبل المعنيين بدراسة أمثال هذه الأبحاث.

ولهذا فإني أرحب غاية الترحيب بكل تعليق نزيه ومناقشة علمية يصدرها المختصون في هذا الباب.

بغداد في: 16/11/1957

(نوري جعفر)

٢٠