فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام0%

فلسفة الحكم عند الإمام مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200

فلسفة الحكم عند الإمام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 7923
تحميل: 2337

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 7923 / تحميل: 2337
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأخنس بن شريق وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله كتاباً مع حنيس بن جابر من بني عامر، واستأجراه ببكرين لبون وحملاه على بعير. وخرج معه مولى يقال له كوثر. وفي كتابهما ذكرا الصلح وأن يرد عليهم أبابصير. فقد ما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله فإذا فيه. قد عرفت ما شار طناك عليه وأشهدنا بيننا وبينك من رد من قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا أبا بصير. فأمر رسول الله أبا بصير أن يرجع معهم، ودفعه إليهما.

فقال أبو بصير يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!! فقال يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر. وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا).

(هـ) غزوة بئر معونة. (ثم كانت غزوة بئر معونة - وهي ماء لبني عامر ابن صعصعة -... في صفر على رأس سنة ثلاثة وثلاثين شهراً. وسببها أن عامر بن مالك... قدم على رسول الله وأهدى له فرسين وراحلتين فقال الرسول لا أقبل هدية مشرك. وردهما وعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً، وقومى خلفي فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك.

فقال النبي إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال عامر لا تخف عليهم أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد من أهل نجد. وكان من بينهم سبعون رجلا شببة - أي شباناً - يسمون القراء... فبعثهم النبي... وكتب معهم كتابا... حتى إذا كانوا ببئر معونة.. عسكروا بها... وقدموا حرام بن ملحان الأنصاري بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر. فلم يقرؤا الكتاب ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله واستصرخ قبائل بني سليم فنفروا معه حتى وجدوا القراء فقاتلوهم - أي قتلوا القراء... ولم يجد رسول الله على قتلى ما وجد قتلى بئر معونة. وأنزل الله فيهم قرآنا(1) ).

____________________

(1) المقريزي، امتاع الاسماع 1 / 170 - 173.

١٤١

ثانياً - أما العامل الثاني الذي حال بين الإمام وبين تطبيق رسالته المستندة إلى القرآن وسيرة النبي فهو أن خصوم الرسول كانوا مشركين، وكان من السهل عليه أن يؤلب المسلمين على حربهم والتنكيل بهم. وكان القرآن إلى جانبه في هذا السبيل. وكان المشركون - بدورهم - يحاربون النبي للقضاء - بصورة مكشوفة وصريحة - على العقيدة الإسلامية ورفع راية الشرك وعبادة الأوثان.

فكان الصراع بين الرسول وخصومه إذن صراعا مكشوفاً بين عقيدتين: الإيمان بالله بجميع مستلزماته، والكفر بالله بمستلزماته جيمعها. وسار الخصمان المتنازعان - على ذلك - في السر والعلانية دون تستر أو وجل أو مجاملة أو خوف.

أما خصوم الإمام فكانوا - في الظاهر - مسلمين كإسلامه، وكانوا يقاتلونه للمطالبة بدم ابن عفان.

وكان أشدهم وطأة عليه معاوية بن أبي سفيان وأمشاجه من الأمويين الذين تظاهروا بالإسلام للإجهاز عليه. فغرروا بكثير من السذج والبسطاء ودفعوهم أمامهم لحرب خليفة رسول الله. فلم يكن والحالة هذه باستطاعة الإمام أن يحمل الكثيرين من أتباعه على مواصلة القتال، وليس بجانبه وحى لأنه ليس بنبي. ولم يكن باستطاعة المخلصين من أتباعه - والعارفين بخفايا الأمور - أن يقنعوا المترددين من أنصار الإمام على السير بالقتال إلى نتيجته الطبيعية كما سار به رسول الله من قبل. فلا عجب أن ذهبت محاولاتهم - التي ذكرنا طرفا منها - أدراج الرياح. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى التحكيم ومصرع الإمام كما هو معروف. فانتقل الحكم الإسلامي إلى الأمويين وارتقى معاوية بن أبي سفيان منبر النبي يتصرف بشئون المسلمين كيفما شاء: معاوية الذي لم يصلح بنظر الإمام لولاية الشام بله خلافة المسلمين.

ثالثاً - وأما العامل الثالث فيتلخص في أمام الإمام ارتقى منبر النبي في ظروف

١٤٢

مضطربة قلقة انتهت بدايتها بمصرع عثمان. وهذا يعني أن الخلافة قدمت لعلى بعد ثورة دموية لم يساهم هو في إحداثها.

أي أن الإمام بعبارة أخرى اقتطف ثمار ثورة قام بها غيره من حيث التمهيد لحدوثها ومن حيث المساهمة الفعلية في حوادثها.

فطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعمرو بن العاص مثلاً - وهم رؤوس الفتنة وشيوخ التأليب على عثمان - قد راعهم انتقال الأمر إلى على (لتعارضه مع مصالحهم) فقاوموه تحت ستار المطالبة بدم الخليفة القتيل. ورجال الثورة من المصريين والكوفيين والبصريين لم ينتفعوا أيضاً بالوضع الجديد فقاوموه. نقم هؤلاء وأولئك: الثائرون والمحرضون معاً على على كما نقموا على عثمان من قبل - مع فرق كبير بين عوامل النقمة في الحالتين. فقد نقموا على عثمان خروجه في سياسته العامة على الدين، ولكنهم نقموا على على تمسكه بالدين في سياسته العامة.

رابعاً - وأما العامل الرابع فيتلخص في أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول وانتهت بمصرع عثمان قد شهدت تساهلا في تطبيق حدود الله على المستحقين. بدأ ذلك التساهل خفيفاً في عهد أبي بكر واشتد في زمن عمر وتجاوز الحد في عهد عثمان. وقد ألف الناس ذلك وأصبح له أنصار ومحبذون من المنتفعين به ومن أصحاب المصالح المركزة. فلا عجب والحالة هذه أن تعرضت سياسة الإمام التي شرحنا جانباً منها في الفصول السابقة من هذه الدراسة إلى مقاومة عنيفة مر بنا ذكر جانب كبير منها.

وإلى القارئ هذه الأمثلة من تصرفات الخلفاء الذين سبقوا علياً سقناها على سبيل التمثيل لاعلى سبيل الحصر.

1 - خالف أبوبكر نصوصاً صريحة في القرآن والسيرة المحمدية في موضوع الخلافة، وفدك، وخالد بن الوليد. وقد بحثنا ذلك في كتابنا: (على ومناوئوه).

١٤٣

2 - أسقط أبوبكر وعمر وعثمان سهم ذي القربى وسهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات خلافا لنص القرآن وسنة النبي. فقد جاء في سورة الأنفال نص صريح على سهم ذي القربى - وعمل به النبي -: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير). وورد في سورة التوبة نص على سهم المؤلفة قلوبهم - وعمل به الرسول -: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).

ومن طريف ما يروي عن النبي في موضوع المؤلفة قلوبهم ما ذكره ابن هشام (سيرة النبي محمد ج 4 ص 129 - 141) حين قال: (أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم - وكانوا أشرافا من أشراف الناس - يتألفهم ويتألف بها قومهم فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مئة، وأعطى الحرث بن الحرث بن كلدة - أخا بني عبد الدار - مئة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مئة بعير، وأعطى الحرث بن هشام مئة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مئة بعير، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي - حليف بني زهرة - مئة بعير، وأعطى عيينة بن حصن مئة بعير وأعطى الأقرع بن حابس مئة بعير، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير، وأعطى دون المئة رجالا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمر بن وهب الجمحي وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤى. وأعطى عباس ابن مرداس أباعر فسخطها فعاتب فيها رسول الله.

كانت نهاباً تلافيتها

بكرى على المهر في الاجرع

وإيقاضى القوم إن رقدوا

إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

١٤٤

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع(1)

3 - عطل عمر بن الخطاب حداً من حدود الله في قضية زنى المغيرة ابن شعبة، وفي موضوع سرقة غلمان حاطب بن أبي بلتعة. وعطل عثمان حداً من حدود الله في قضية قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة. وإلى القارئ خلاصة ذلك كله:

(ا) زنى المغيرة بن شعبة: ذكر بن خلكان(2) قصة المغيرة مفصلة هذه أهم عناصرها: (وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه فإن عمر بن الخطاب كان قد رتب المغيرة أميراً على البصرة. وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار. وكان أبو بكرة يلقاه فيقول أين يذهب الأمير؟ فيقول حاجة. فيقول أبو بكرة إن الأمير يزار ولا يزور...

وكان المغيرة يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو... فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته - لأمه سمية - وهم نافع وزياد وشبل بن معبد كانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة. فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع امرأة على هيئة الجماع.

فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة. فقال له إن كان من أمرك ما قد علمت فاعتز لنا.

____________________

(1) الضمير المستتر في (كانت) يعود إلى الإبل والتهاب جمع نهب. والأجرع المكان السهل. والعبيد اسم فرس العباس بن مرداس. وحصن هو أبو عيينة. وحابس هو: أبو الاقرع. ومرداس هو: أبو عباس. وروى بموضع (مرداس)، (شيخي) أو (شيخي) بالتثنية يعني أباه وجده.

(2) وفيات الأعيان 2/ ص 297 - 298.

١٤٥

وذهب المغيرة ليصلى بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة فقال لا والله لا تصل بنا... وكتبوا إلى عمر فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً: المغيرة والشهود. فلما قدموا عليه جلس عمر فدعا بالشهود والمغيرة فتقدم أبو بكرة فقال له عمر رأيته بين فخذيها؟ قال نعم: والله لكأني أنظر تشريم جدري بفخذيها... فقال عمر لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة. فقال نعم أشهد على ذلك. فقال عمر إذهب مغيرة فقد ذهب ربعك.

ثم دعا عمر نافعاً فقال له علام تشهد؟ قال على شهادة أبي بكرة. قال عمر لا: حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة. قال نعم... فقال عمر للمغيرة إذهب يا مغيرة فقد ذهب نصفك. ثم دعا الثالث فقال له علام تشهد؟ فقال على مثل شهادة صاحبي. فقال عمر: إذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد - وكان غائباً - وقدم. فلما رآه جلس في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار. فلما رآه مقبلا قال إني أرى رجلا لا يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين...

فقال زياد: يا أمير المؤمنين رأيت مجلساً وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ورأيته رافعاً رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزاً شديداً وسمعت نفساً عالياً.

فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكخلة؟ فقال لا. قال عمر الله أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين. وضرب الباقين... فقال أبو بكرة - بعد أن ضرب - أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا. فهم عمر أن يضربه حداً ثانياً فقال على: إن ضربته فارجم صاحبك. فتركه.

واستتاب عمر أبا بكرة فقال أبو بكرة إنما تستتبني بقبول شهادتي. فقال أجل. لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.

تلك هي قصة المغيرة. وقبل أن نعلق عليها نرى لزاماً علينا - لكي يستوفى

١٤٦

البحث شروطه التاريخية في القضية - أن نذكر للقارئ الأمور التالية:

1 - قال أحد الرواة (كان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح... وكان المتوسط من عمره الغش والفجور وإعطاء البطن والفرج سؤلهما، وممالأة القاسطين وصرف الوقت في غير طاعة الله)(1) .

2 - ذكر ابن الأثير(2) أن المغيرة قال لعمر بن الخطاب في معرض الدفاع عن نفسه: (والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها).

3 - ذكر ابن خلكان(3) أن المغيرة - عندما ضرب أبا بكرة وأخويه الحد بأمر من عمر - قال (الله أكبر!! الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمر: بل أخزى الله مكانا رأوك فيه).

4 - وروى ابن خلكان(4) (أن أم جميل وافت عمر بن الخطاب بالموسم - والمغيرة هناك - فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟ فقال نعم: هذه كلثوم بنت علي بن أبي طالب. فقال له عمر أتتجاهل على!! والله ما أظن أبا بكرة كذت عليك. وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء).

5 - ذكر ابن حجر(3) أن المغيرة قال: (أنا أول من رشا في الإسلام، جئت إلى يرفأ حاجب عمر - وكنت أجالسه - فقلت له خذ هذه العمامة فالبسها فإن عندي أختها. فكان يأنس بي ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب. فكنت آتى فأجلس في القائلة فيمر المار فيقول: إن للمغيرة عند عمر منزلة: إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها عليه أحد غيره...

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 4/453.

(2) الكامل في التاريخ 2/379.

(3) وفيات الاعيان 2/298.

(4) المصدر نفسه 2/399.

(5) الاصابة في تمييز الصحابة 3/432.

١٤٧

وأخرج البغوي من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:

استعمل عمر المغيرة على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله فخافوا أن يعيده عليهم فجمعوا مئة ألف درهم فأحضرها الدهقان إلى عمر فقال: إن المغيرة اختان هذه وأودعها عندي فدعاه عمر فسأله فقال كذب إنما كانت مئتي ألف. فقال عمر ما حملك على ذلك؟ قال كثرة العيال. فسقط في يد الدهقان فحلف وأكد الإيمان أنه لم يودع عنده لا قليلا ولا كثيراً. فقال عمر للمغيرة وما حملك على هذا؟ فقال إنه افترى على فأردت أن أخزيه).

6 - كتب أحد المؤرخين(1) عن عمر بن شبة في أخبار البصرة (أن العباس ابن عبد المطلب قال لعمر أقطعني البحرين. فقال ومن يشهد لك بذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة. فأبى عمر أن يجيز شهادته).

7 - لما جاء عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله عام الحديبية نظر إلى المغيرة قائماً على رأس رسول الله مقلداً سيفه فقال من هذا؟ قيل ابن أخيك المغيرة. قال: وأنت ههنا يا غدر!! والله إني إلى الآن ما غسلت سوأتك(2) .

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نجزم بثبوت جريمة الزنى على المغيرة في القضية الآنفة الذكر. أما الأدلة على ذلك فتتلخص في الأمور التالية:

1 - لقد شهد كل من أبي بكرة ونافع وشبل وزياد - بكل صراحة ووضوح -

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 4/453. والإشارة هنا إلى قصة غدر المغيرة بجماعة من العرب - أثناء شركه المكشوف - حينما كانوا في طريق عودتهم من بعض الملوك حاملين الهدايا. فقتلهم بعد أن اسكرهم. ثم انتهب أموالهم وقدم على رسول الله فتظاهر بالاسلام كما هو معروف. ومن طريف ما يروى عن المغيرة (البلاذري: أنساب الأشراف 5/17) أنه قال لعثمان أثناء توليته الخلافة (أما والله لو ولي غيرك ما بايعته فقال عبد الرحمن ابن عوف كذبت يا أعور: لو ولي غيره لبايعته ولقلت له مثل هذا القول).

(2) الغزالي، احياء علوم الدين 3/149.

١٤٨

أنهم رأوا المغيرة وأم جميل (التي لا تربطها بالمغيرة أية رابطة مشروعة) في مكان معين وهما على هيئة الجماع. وقد ذكر كل من أبى بكرة ونافع وشبل أنه رآه - على حد قوله - (يلج فيها ولوج المرود في المكحلة.

أما زياد فقد رأى - على حد زعمه - (مجلساً وسمع نفساً حثيثاً وانتهازاً ورآه رافعاً رجليها، ورأى خصيتيه تردد إلى ما بين فخذيها، ورأى حفزاً شديداً وسمع نفساً عالياً). وكل هذا يدل - دون شك - على أنه ولج فيها (ولوج الميل في المكحلة).

2 - إن مجرد خلوة المغيرة بأم جميل كاف لإدانته بالزنى وذلك لاشتهاره بالفسق والفجور وإعطائه (البدن والفرج سؤلهما) كما قال أحد المؤرخين.

3 - وخلوة أم جميل هي الأخرى من عوامل ثبوت الزنى لاشتهارها به بين الناس آنذاك.

4 - عدم قيام أم جميل أو وليها بما يشبه المطالبة بالشرف ممن اتهمها بأعز شيء لديها، وهو أمر يمجه الذوق العربي الرفيع وتأباه الأخلاق الاجتماعية السليمة.

5 - قول المغيرة لعمر - في معرض الدفاع عن نفسه - بأن أم جميل تشبه زوجته هو الآخر دليل على زناه. ولا ندري كيف عرف المغيرة وجه الشبه بين زوجته وبين أم جميل!! دون أن يرى أم جميل أو يجتمع بها!

(ب) سعى عمر لتبرءة المغيرة من فعله الشنيع. أما الأدلة على ذلك فهي:

1 - طبيعة الأسئلة التي وجهها للشهود.

2 - قوله لأحد الشهود - قبل إدلائه بشهادته -: (إني أرى رجلا لا يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين.) وهذا يوحى للشاهد - دون شك - رغبة الخليفة في تبرئة المتهم.

(ج) شعور نفسي لدى عمر بعدم براءة المغيرة. وللتدليل على ذلك نذكر مايلي:

١٤٩

1 - قول عمر للمغيرة (- على رواية ابن الأثير التي ذكرناها - عندما جاءت أم جميل إلى عمر في أحد المواسم، وعندما طلب عمر من المغيرة أن يشخصها فأخبره المغيرة بأنها أم كلثوم بنت على): (والله ما أظن أن أبا بكرة كذب عليك. وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء).

2 - قول عمر للمغيرة - الذي ذكره ابن خلكان كما رأينا -: (بل أخزى الله مكانا رأوك فيه). وذلك عندما قال المغيره للشهود: (الحمد لله الذي أخزاكم).

3 - عدم قبول لشهادة المغيرة كما رأينا.

4 - عزله إياه من ولاية البصرة بعد الحادثة المذكورة مباشرة.

يتضح مما ذكرنا أن تاريخ المغيرة والقرائن التي ذكرناها وشهادة الشهود الأربعة تدين المغيرة. ومن المحزن حقاً أن يتخلص المغيرةمن العقوبة الشرعية. وأنكى من ذلك أن ينزل المغيرة نفسه الحد بمن شهد عليه.

على أن قصة المغيرة مع ذلك كله ذات مغزى بعيد الأثر عميق الغور في حياة المسلمين. ذلك لأنها حملت بين ثناياها المؤلمة ردعاً ضمنياً للناس عن قول والوقوف بوجه الفجرة من الولاة والأمراء.

(د) قضية غلمان حاطب بن أبي بلتعة: يتجلى الاختلاف بين نص القرآن وسيرة النبي من جهة وبين سيرة عمر بن الخطاب من جهة ثانية بأوضح أشكاله في إعفاء عمر عن غلمان حاطب بن أبي بلتعة من العقوبة الشرعية في قضية سرقتهم ناقة رجل من مزينة واعترافهم بذلك.

وخلاصة القصة: أن عمر - أثناء تحقيقه في موضوع السرقة المشار إليها وثبوتها له بعد أو اعترف الغلمان أنفسهم بالسرقة - رق لهم لبؤسهم. فاستدعى

١٥٠

سيدهم - عبد الرحمن بن حاطب - وأنبه على إهماله لهم وتركه إياهم فريسة للجوع والفاقة، وأصدر أوامره بتغريمه ضعف ثمن الناقة المسروقة ثم خلى سبيل الغلمان. وقد خالف عمر - بموقفه هذا - نصاً صريحاً من نصوص القرآن وعطل حداً من حدود الله.

جاء في سورة المائدة: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله)...

وربما كان لموقف عمر ما يبرره من ناحية ظروف هذه القضية بالذات، فاجتهد بالذي اجتهد به لمصلحة خاصة رآها. ولكن القرآن لا يجيز ذلك وقد نص على العقوبة نصاً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض. ولا اجتهاد في معرض النص كما هو معلوم. هذا مع العلم أن عمر مطالب باتباع نص القرآن في أحكامه العامة لأنه يحكم المسلمين باسم الدين باعتباره خليفة رسول الله - أي نائبه في تصريف شئون المسلمين.

(هـ) قصة أبي جندل (لما بلغ عمر أن أبا جندل قد عاقر الخمر بالشام كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب قابل التوبة، شديد العقاب: الآية(1) ).

في حين أن سيرة النبي كانت - في هذا الباب - على خلاف ذلك فقد أتى للرسول بشارب خمر (فأمر النبي من عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا عليه التراب...)(2) ولم يقرأ عليه النبي الآية الآنفة الذكر، ولا نظن أن عمر كان ملماً بمواقع الاستشهاد بالآيات أكثر من رسول الله.

____________________

(1) المقريزي: امتاع الاسماع 1 / 396 و 415.

(2) ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغة 1 / 242 الطبعة الأولى.

١٥١

(ز) قضية عبيد الله بن عمر بن الخطاب: وهي قضية على جانب كبير من الأهمية لذلك نرى ضرورة عرضها على القارئ بشيء من الإيجاز غير المخل.

بعد أن قتل أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب تناول عبيد الله بن عمر بن الخطاب السيف فقتل أبا لؤلؤة وزوجته وابنته، كما قتل الهرمزان دون أن يثبت اشتراكهم في عملية القتل. وقد عفا عنه عثمان بن عفان بعد أن ارتقى منبر النبي على أثر وفاة ابن الخطاب. وقد تذرع الخليفة - بإعفائه عبيد الله من العقوبة - بأن ذلك من شأنه ألا يثير الشماتة في نفوس أعداء الإسلام. فلا يقولون قتل المسلمون خليفتهم أمس ثم قتلوا ابنه بعد ذلك. وقد كان الواجب على عبيد الله أن يتقدم بالشكوى إلى الخليفة حسب الأصول المعروفة ليجرى التحقيق الدقيق في هذه القضية وينزل العقاب المشروع بالمستحقين.

أما وقد وقع القتل فكان من واجب الخليفة أن لا يعفو عن عبيد الله. وكان على الخليفة كذلك - بقدر ما يتعلق الأمر بالهرمزان على الأقل - أن لا يعتبر نفسه ولي دمه. فالهرمزان كما هو معروف أمير فارسي مسلم ولم يكن له ولي في في المدينة يطالب بدمه حسب منطق الآية (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا).

وإذا سلمنا جدلا بأن الخليفة هو ولي دم الهرمزان (فإن عثمان ليس ولي دمه لأنه قتل أثناء خلافة عمر فصار عمر ولي دمه. وقد أوصى عمر - على ما جاءت به الروايات الظاهرة - بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينة - زوج أبي لؤلؤة - أنهما أمرا أبا لؤلؤة بقتله(1) .

____________________

(1) إحياء علوم الدين 3/242. (وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: يغفر الله لحفصة فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم). تاريخ اليعقوبي 3/138.

١٥٢

أما حديث الشماتة فهو مضحك وسخيف. وأي شماتة للعدو في إقامة حد الله!

إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل حدود الله. وأى حرج في الجمع بين قتل الإمام وابنه!! نقد قتل أحدهما ظلماً والآخر عدلا).

أحدهما بغير أمر الله والآخر بأمره.

ذلك ما يتصل بالخروج الصريح على النصوص القرآنية. أما ما يتعلق بالقيام بأعمال لا تتفق هي وسيرة النبي - وخاصة ما يتعلق منها بالإدارة العامة - فإلى القارئ الأمثلة التالية:

(ا) فيما يتصل بعمر: ذكر الغزالي(1) جملة قضايا في هذا الباب منها:

(تزوج رجل على عهد عمر بن الخطاب، وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته. فرفعه أهل المرأة إلى عمر فرد نكاحه وأوجعه ضرباً، وقال: غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك.

ومر عمر برجل يكلم امرأة على قارعة الطريق فعلاه بالدرة، فقال يا أمير المؤمنين إنها امرأتي. فقال: هلا حيث لا يراك أحد!!..

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرجت مع عمر ليلة في المدينة فبينما نحن نمشى إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نحوه. فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط. فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت لا. فقال هذا بيت ربيعة بن أميةة بن خلف وهم الآن على شرب فما ترى؟ قلت: أرى إنا قد أتينا ما نهانا الله عنه: قال تعالى: ولا تجسسوا - فرجع عمر...

وروى أن عمر كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى. فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر.

____________________

(1) الغزالي: احياء علوم الدين 1/127 و 178 و 2/138 و 139 و 3/96.

١٥٣

فقال يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته!!

قال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيت الله في ثلاثا.

قال الله (ولا تجسسوا) وقد تجسست.

وقال الله (وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها) وقد تسورت على.

وقد قال الله. ولا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم - الآية: وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام...

وروى إن ابي عذرة الدؤلي - وكان في خلافة عمر - كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن. فصارت له من ذلك في الناس أحدوثة يكرهها. فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به منزله ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني؟

قالت لا تنشدني بالله.

قال فإني أنشدك.

قالت نعم. فقال لابن الأرقم أتسمع؟ ثم انطلقا إلى عمر فسأله فأخبره فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها. فقال عمر: أنت التي تتحدثين لزوجك إنك تبغضينه؟

فقالت أول من تاب وراجع أمر الله. أنه ناشدني فتحرجت أن أكذب. أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال نعم فإكذبي فإن كانت أحدا كن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فأن أقل البيوت الذي يبنى على الحب ولكن الناس يتعاشرون...

وروى مؤرخ(1) آخر (إن أهل الكوفة شكوا سعد بن أبي وقاص وقالوا

____________________

(1) اليعقوبي 2/133.

١٥٤

إنه لا يحسن الصلاة فعزله عمر... وولى مكانه عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا مسلم ضعيف فعزله عمر ووجه جبر بن مطعم. فمكر به المغيرة وحمل عنه خبراً إلى عمر.

وقال المغيرة والتي يا أمير المؤمنين. قال أنت رجل فاسق. فقال المغيرة وما عليك؟ فسقى على نفسي. فولاه الكوفة فسأل عمر أهلها عن المغيرة فقالوا أنت أعلم بفسقه.

فقال ما لقيت منكم يا أهل الكوفة!! إن وليت مسلماً تقياً قلتم هو ضعيف، وإن وليت مجرما قلتم هو فاسق) كأن بلاد المسلمين قد عقمت من الولاة الصالحين الأقوياء في الحق.

وذكر أن عمر قاطر جماعة من عماله أموالهم: (قيل أن منهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله في مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال والله لئن كان هذا المال لله فلا يحل لك أن تأخذ بعضاً ونترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه(1) ).

(ب) فيما يتصل بعثمان: (أخذ عثمان الزكاة على الخيل - وكان النبي قد أعفى من زكاة الخيل... وحمى عثمان الحمى - والله ورسوله قد أباحا الماء والهواء والكلأ للناس جميعاً... وأخذ من أموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة في حين أن ذلك لا يجوز بنص القرآن... وأتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي(2) . أما تصرفات عثمان في الإدارة العامة وفي بيت المال

____________________

(1) اليعقوبي 2/133 - 135. ولعل لموقف أبي بكرة هذا من عمر علاقة بموقف عمر منه أثناء شهادته في قضية المغيرة.

(2) الدكتور طه حسين: الفتنة الكبرى: عثمان بن عفان ص 175 - 186.

١٥٥

وانفاقه أموال المسلمين على أصهاره وأصدقائه وذوى قرباه، وتوليته الفاسقين أمور المسلمين، واعتدائه على فريق من خيرة أصحاب النبي - كأبي ذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود - لتنبيههم إياه بضرورة اتباع سيرة النبي فاشهر من أن تذكر. وقد ذكرنا شطراً منها في كتابينا (على ومناوئوه) و (الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام). على أن هذه التصرفات (واضرابها) برأينا هي العامل المباشر الذي أي إلى مصرع عثمان وهي كذلك العامل غير المباشر في إثارة المقاومة الصارمة غير العادلة التي أبداها ذوو عثمان وأتباعه ضد سياسة الأمام العادل الأمر الذي أدى في النهاية إلى مصرعه كما هو معلوم.

١٥٦

فلسفة الإمام في ضوء ملابساتها التاريخية

ب: الامام وقوى الشر

نقصد بقوى الشر في هذه الدراسة رؤوس الفتنة ودعاة الانتقاض على حكم الإمام، وفي مقدمتهم بالطبع بنو أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان. أما أغلب المسلمين الذين حاربوا علياً فكانوا إما ضحايا تضليل الأمويين وخداعهم، أو ضحايا الجاه والمال والنفوذ الذي خلعه عليهم الأمويون على حساب الدين.

لقد حاربت قوى الشر الإمام - حربا متواصلة اصطلي بها من بعده بنوه وأتباعه إلى اليوم - في جبهتين: جبهة السيف وجبهة القلم. ولكنهم مع هذا لم ينالوا منه في الحالتين وبقى كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. وإلى القارئ تفصيل ذلك:

1 - جبهة السيف: لقد شنها خصوم الإمام عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها منذ أن بويع له بالخلافة بعد مصرع عثمان إلى أن لقى حتفه بسيف ابن ملجم. ثم تابعوا السير - في ذلك الانجاه - ضد ذويه وأتباعه على السواء وما زالت تلك الحرب قائمة على قدم وساق مع اختلاف في نوع السلاح وميادين القتال.

وقد ذكرناه طائفة من الأمثلة على ذلك في كتابنا: (على ومناوئوه) (والصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام) وفي كتابنا الماثل للطبع عن الدولة العباسية.

2 - جبهة القلم -: لقد أعلن خصوم الإمام حرب القلم عليه وعلى تعاليمه في أكثر من ميدان واحد، وفي الوقت الذي كانت فيه جبهة السيف مستعرة الأوار. وقد استمرت تلك الحرب منذ عهده ولم تفتر إلى اليوم، وتعرض - نتيجة لها - ذكره وتعاليمه إلى شتى صنوف التشويه والامتهان. فكأن اسم الإمام كان يخيف خصومه ومناوئيه كما كان خيفهم جسمه أثناء الحياة. ولعلهم كانوا

١٥٧

يرهبون الإسم أكثر من رهبتهم للجسم. فللجسم حدوده الزمانية والمكانية الضيقة، وميدان الفرار منه رحيب. وللجسم أيضاً حفرة من الأرض تحتضنه بعد الممات. أما الإسم فيتحدى الزمان والمكان.

ولكن محاولاتهم على سعتها واستمرارها قد باءت بفشل ذريع. فتعلق ذكره من الثريا بأقراطها، (وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله. فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريف ووضع المعايب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضل ويرفع له ذكر حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه. فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً. وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره. وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً واحدة أدركته عيون كثيرة(1) .

ومن مفارقات التاريخ أن تعمل محاولات الأمويين لطمس ذكر الإمام على تخليد اسمه. (فمناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلى... وقال غيره كان سبب ذلك بغض بني أمية له. فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته. وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بما فيه لا يزداد انتشاراً(2) ).

لقد بدأت حرب القلم ضد الإمام - على يبدو - بعد وفاة النبي مباشرة وزادت سعة ووضوحاً أثناء خلافة عثمان وبلغت الذروة أثناء تمرد معاوية ابن أبي سفيان على الخليفة.

____________________

(1) ابن أبي الحديد: (شرح نهج البلاغة) 1 / 5 - 6 الطبعة الأولى.

(2) ابن حجر (الاصابة في تمييز الصحابة) 2 / 501 - 502.

١٥٨

وكانت حرباً ذات جانبين: جانب سلبي وجانب إيجابي. يتصل الأول منهما بتلفيق أحاديث وقصص ينصب أكثرها على مدح الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً في الزمن، ويمجه بعضها نحو مدح معاوية نفسه. وينطوى هذا الجانب من جوانب الموضوع - بنظر موجديه ومحبذيه - على ذم ضمن للإمام. هذا إلى أن (إطراء)، الرسول على أبي بكر إضعاف - بنظر معاوية ومن هم على شاكلته - لحجة على في الخلافة.

أما ما يتصل بعمر فهناك - من وجهة نظر معاوية - عاملان:

أحدهما أن عمر عين معاوية أميراً على الشام. وفي الكذب على النبي من أجله نوع من الاعتراف بالجميل من جهة، وإضعاف لموقف على من معاوية وعزله عن الشام من جهة أخرى.

أما العامل الثاني فهو أن عمر قد رفع سهم المؤلفة قلوبهم - وكان معاوية وأبوه وأخوه - في مقدمتهم، وفي هذا من الخدمة لمعاوية ما يعجز عن رده اختلاق بضعة أحاديث. كيف لا!! وقد أنسى ذلك المسلمين موقف معاوية من الاسلام وكيفية دخوله فيه!! وأما (إطراء) النبي على عثمان فهو إطراء للبيت الأموي وعلى رأسه معاوية آنذاك.

ذلك ما يتصل بالجانب السلبي من الحرب القلية.

أما الجانب الايجابي فيتلخص في وضع أحاديث ملفقة وروايات مزورة في ذم الامام وانتقاص منزلته الرفيعة. وهي - بنظر واضعيها - مدح ضمن لخصومه وخدمة عامة لقضيتهم.

(فقد روى عن عبد الله بن ظالم أنه قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون علياً. فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - ألا ترون إلى الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة!!...

١٥٩

وعن علي بن الحسين قال: قال لي مروان ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - أي ما كان أحد أكثر من على دفاعا عن عثمان أثناء حصاره قبل مصرعه - قلت فما بالكم تسبونه على المنابر!! قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك.

وقال عمر بن عبد العزيز: كان أبي يخطب فلا يزال مستمراً في خطبته، حتى إذا سار إلى ذكر على وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه وتغيرت حاله. فقلت له في ذلك. فقال أو فطنت لذلك!! إن هؤلاء لو يعلمون من على ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل.

وقام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال: إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب.

وعن أشعث بن سوار قال: سب عدى بن أرطأة علياً على المنبر فبكى الحسن البصري وقال: لقد سب اليوم رجل إنه لأخو رسول الله في الدنيا والآخرة.

وقال إسماعيل بن إبراهيم: كنت أنا وإبراهيم بن يزيد في المسجد يوم الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب... ثم وقع في علي. فضرب إبراهيم على فخذى وركبتي ثم قال: أقبل على فإنا لسنا في جمعة ألا تسمع هذا.

وعن عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة فقالت: أيسب رسول الله فيكم وأنتم أحياء؟ قلت وأنى يكون هذا؟ قالت أليس يسب على ومن يحبه.

وعن الزهري قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال ما كنت أفعل حتى يربو عليه الصغير ويهزم فيه الكبير. فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه. فقال الناس ترك السنة.(1) ) وما يجري هذا المجري يكاد لا يقع تحت حصر.

____________________

(1) رسائل الجاحظ ص 14 - 15.

١٦٠