فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام0%

فلسفة الحكم عند الإمام مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200

فلسفة الحكم عند الإمام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 7926
تحميل: 2337

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 7926 / تحميل: 2337
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومقاومة المنكر في اليد أصعب منها في اللسان هي في اللسان أصعب منها في القلب.

ولهذا نجد الإمام يخاطب الناس بقوله:

(إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم).

وقد سمى مقاومة المنكر جهاداً في سبيل الله مجاهد المسلمون به ولاة السوء كما يجاهدون المشركين.

وقد صدق ظن الإمام في هذا الباب كما صدق ظنه حين قال:

(يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا إسمه. مساجدهم يومئذ عامرة من البناء خراب من الهدى. سكانها وعمارها شر أهل الأرض: منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوى الخطيئة.) فقد لوثت السياسة (التي قاومها الإمام) منذ مصرعه إلى الوقت الحاضر فئة خاصة من رجال الدين وأغدقت عليهم الجاه والمال والنفوذ والألقاب لمعاونتها في تثبيت مظاهر الفساد في الحكم وإيجاد مخارج (شرعية) لموبقات الحاكمين من جهة وصرف الناس عن التحدث عن اعتداء الحكام على مبادئ الدين - وإلهائهم بوعظ تافه لا يمس جوهر الدين - من جهة أخرى.

ثم خص الإمام بالذكر الحاكم فقال:

(من نصب نفسه إماماً للناس فعليه أن يبدأ بتأديب نفسه قبل تأديبه غيره).

وليكن تأديبه بسيرته قبل تأيبه بلسانه و إلا (كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل أن يستقيم ذلك العود.) لأن (الداعي بلا عمل كالراي بلا وتر) وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون. والعمل دون شك أكثر أثراً في النفس من القول عند الفاعل نفسه وعند من يشاهد العمل أو يسمع عنه لغرض الاقتداء به أو العزوف عنه.

٤١

والعمل الصالح الذي يقوم به شخص متواضع الحسب يرفع - بنظر الإمام - منزلة ذلك الشخص فيشرف حسبه. وبالعكس.

فمن (أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه.) و (شتان بين عملين. عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره.) فلا (تكن ممن ينهى ولا ينتهى ويأمر بما لا يأتى...

يصف العبرة ولا يعتبر.. في على الناس طاعن ولنفسه مداهن.) وإذا كان ذلك الخلق خطراً على كيان المجتمع (إذا اتصف به أفراد الشعب) فهو على كيان المجتمع أخطر إذا اتصف به الحاكم.

قال الإمام في هذا المعنى:

(إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا: أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأما المشرك فيمنعه الله بشركة. ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان عالم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون) فهو يريد من الحاكم أن يتبع ما أمره الله به في سوره (ص) حين قال:

( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) .

وعلى هذا الأساس يصبح بنظر الإمام (السلطان الفاضل هو من يحرس الفضائل ويجود بها لمن دونه ويرعاها من خاصته وعامته حتى تكثر في أيامه ويتحسن بها من لم تكن فيه.)

هذا من جهة ومن جهة ثانية (فإن من لم تستقم له نفسه فلا يلومن من لم يستقم له.) وإن (من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها لا واعظ ولا زاجر.)

٤٢

ثم عاد إلى الناس يخاطبهم فقال: (إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها. اجعلوا اللسان واحداً. ليخزن الرجل لسانه فإن هذا اللسان جموح بصاحبه... إن لسان المؤمن من وراء قلبه وقلب المنافق من وراء لسانه) وإن من (عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه.) وما (السيف الصارم في كف الشجاع بأعز له من الصدق.

إذن فالكلام في وثاقك (ما لم تتكلم به. فإذا تكلمت بماصرت في وثاقه.)

فاجعل أقوالك منسجمة مع عقيدتك وأفعاله منسجمة مع أقوالك.

ولتكن عقيدتك سليمة لتصبح أقوالك وأفعالك المنسجمة معها سليمة كذلك.

والعقيدة السليمة من وجهة نظر الإمام هي الإيمان بالله على الطريقة الإسلامية مع جميع مستلزماته من الناحيتين النظرية والتطبيقية العلمية.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إن فلسفة الحكم عند الإمام تستند من حيث الأساس على وحدة الوسائل والغايات. وهي بهذا المعنى تمقت الانتهازية أو الوصولية بشتى صورها ومختلف مجالاتها. فلا يمكن على هذا الأساس أن يحق المرء غاية نبيلة باتباعه وسيلة فاسدة. وبالعكس.

لأن الوسائل الفاسدة ترافقها وتنتج عنها غايات فاسدة ووسائل أخرى فاسدة كذلك. وبالعكس. وإلى هذا المعنى يشير الإمام بقوله:

(والله ما معاوية بأدهى منى. ولكنه يغدر ويفجر.).

والدهاء ينظر الإمام هو قراءة صفحة المستقبل في ضوء ملابسات الحاضر وإمكانياته بالاستناد إلى الماضي القريب والبعيد.

أما الانتهازية وفساد الوسائل - مع فساد الغايات لانبلها -

٤٣

والمداهنة والمصانعة ونقض العهد والكذب وأضرابها من الموبقات - التي تقترن عادة باسم معاوية في تاريخنا العربي - فليست دهاء بالمعنى الذي أشار إليه الإمام.) إلى ذلك يشير الإمام - من الناحية المبدئية العامة - بقوله:

(قديري الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.)

ذكرنا أن فلسفة الحكم عند الإمام تستند من الناحية الأخلاقية إلى الفضيلة وتمقت الرذيلة. ترى ما الفضيلة؟ وما الرذيلة بنظر الإمام ظ ومن يعينهما؟ وما المقياس الذي يتخذه الشخص للتمييز بينهما؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة من وجهة نظر الإمام يمكننا أن نقول:

تتضمن الفضيلة كل عمل أو قول ينطوى - بطريقة مقصودد أو غير مقصودة - على الخير.

أما الرذيلة فهي كل عمل أو قول ينطوى - بطريقة مقصودة أو غير مقصودة - على الشر.

والقصد أو عدمه - في القول أو العمل - سيان في عملية التمييز بين الفضيلة والرذيلة بمقدار ما يتعلق الأمر بطبيعة العمل نفسه.

أما الفرق الكبير بين الفضيلة والرذيلة فيما يتصل بالقصد أو عدمه فيقع في تعيين مسئولية الشخص الذي يتعاطى فعلهما.

فالكذب رذيلة بغض النظر عن نية الكاذب أو قصده.

والصدق فضيلة على الأساس نفسه.

أما الخير الذي وصفنا الفضيلة بأنها مشتملة عليه فهو كل عمل أو قول يشيع العدل بين الناس وينشر بينهم الأمن والطمأنينة ويشجعهم على التعاون في خدمة مصالحهم الخاصة ضمن إطار المصلحة العامة لا خارجه أو على حسابه.

٤٤

الفصل الثاني

الجانب السياسي

لقد مر بنا القول بأن فلسفة الحكم عند الإمام أخلاقية في جوهرها. فيصيح على هذا الأساس جانبها السياسي تطبيقاً لجوهرها الأخلاقي في مجال الإدارة العامة من حيث علاقة الحكومة بالشعب ومن حيث علاقة أفراد الشعب ببعضهم وبالحكومة.

كما يصبح جانبها المالي سائراً في الاتجاه السابق نفسه فيما يتصل بالثروة العامة من حيث إنماؤها وتوزيعها واستهلاكها.

ويتلخص جوهر سياسة الإمام من الناحية السياسية في إشاعة العدل بين الناس في شتى ضروب الحياة وفي مختلف المجالات الاجتماعية.

والعدل عند الإمام أفضل من الشجاعة (لأن الناس لو استعملوا العدل عموما في جميعهم لاستغنوا عن الشجاعة).

والمراد بالشجاعة في هذا الباب القوة المادية المتمثلة في الجسم أو المال أو السلاح أو النفوذ عندما يستعين المرء بذلك لاسترداد حق مهضوم أو لاغتصاب حق من حقوق الناس.

ويلجأ الإنسان في العادة إلى هذا التصرف إذا فقد العدل وانعدم ناصروه ومنفذوه. ويتجلى ذلك بأوضح أشكاله في عالم الحيوان وفي المجتمعات البدائية وفي الحالات التي ينعدم فيها تطبيق العدالة الاجتماعية في المجتمعات الراقية الحديثة.

٤٥

والعدل عند الإمام يحتاج إلى تعهد ورعاية في اتباعه وفي قبوله.

وهو يحتاج كذلك إلى ضبط النفس وجلد وبخاصة في تحمل مضضه عند الشخص الذي يطبق عليه. لأن الإنسان في العادة يميل - بطريقة لا شعورية أحياناً - إلى عدم إلزام نفسه في اتباع الحق - في القول وفي العمل - إذا كان في دم الإلزام.

هذا ما يخدم مصالحه أو مصالح من يعطف عليهم من الناس. وربما وقف موقف المحايد أو عدم المكترث بالباطل والحق في الحالات التي لا تتعلق به من قريب أو بعيد.

أما إذا كان الأمر متصلا بمصالحه الخاصة أو بمصالح من يعطف عليهم فإن عدم اتباع الحق - كما يبدو له - يصبح مثار نقمته وامتعاضه وتحديه. على أن كثيراً من الناس يميلون - بطريقة غير مقصودة أحياناً - إلى اظهار الباطل بمظهر الحق لإحراز نفع، أو لتجنب ضرر محتمل الوقوع.

وسبب ذلك على ما يبدو هو أن ظهور الشخص بمظهر الباطل - بشكل مكشوف وصريح - لا يضمن حصوله على المنافع ولا يدفع الأضرار عن طريقه في كثير من الأحيان. يحصل هذا حتى في المجتمعات التي ينعدم فيها تطبيق الحق على تصرفات المواطنين. لأن الاعتراف بالتزام الحق (بغض النظر عن نوعه) من الناحية النظرية أمر مسلم به في جميع المجتمعات البشرية المعروفة قديماً وحديثاً.

والعدل عند الإمام (صورة واحدة والجور صور كثيرة. ولهذا سهل ارتكاب الجوز وصعب تحرى العدل. وهما يشبهان: الإصابة في الرماية والخطأ فيها. وإن الإصابة تحتاج إلى تعهد ورعاية والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك).

والعدل عند الإمام ينتظم الناس جميعاً - مسلمين وغير مسلمين، عرباً وغير عرب حكاماً ومحكومين -. لأن الناس بنظر الإمام صنفان:

٤٦

(إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

أخ لك في الدين يعني مسلماً عربياً أو غير عربي، ونظير لك في الخلق يعني: إنساناً مثلك بغض النظر عن دينه وجنسه.

ويجمل بنا أن نذكر هنا: أن أحب شيء للإمام هو تطبيق العدل بين المواطنين. وكانت الخلافة بنظره إحدى الوسائل الفعالة التي تعينه على تطبيق ذلك العدل بأوسع مدى ممكن.

ويتجلى شعور الإمام بضرورة تطبيق العدل على الناس بأروع أشكاله - قبل أن تنتقل إليه الخلافة، وبخاصة في شطر من خلافة عمر وفي أغلب سنى خلافة عثمان - إذا تذكرنا أن الإمام كثيراً ما كان يتولى بنفسه تطبيق حدود الله على المستحقينكلما قصر الخليفة القائم عن ذلك أو تهاون فيه.

وفي التاريخ الإسلامي - بين وفاة الرسول ومصرع ابن عفان - أمثلة كثيرة في هذا الباب.

ذكرنا أن الخلافة لم تكن بنظر الإمام وسيلة الأبهة أو الإثراء غير المشروع أو مجالا لتوزيع المناصب والجاه والنفوذ على الأصهار والأتباع وذوى القربى.

وإنما هي مجال يتسنى به للإمام أن يطبق العدل على المواطنين.

وقال ابن عباس: دخلت على على بذى قار وهو يخصف نعله.

فقال لي ما قيمة هذه النعل؟ فقلت لا قيمة لها، فقال: والله لهى أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا).

وكتب على إلى سهل بن حنيف:

(أما بعد: فقد بلغني أن رجالا من قبلك يتسللون إلى معاوية. فلا تأسف

٤٧

على ما يفوتك من عددهم... قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه. وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الإثرة... إنهم والله لم يفروا من جور ولم يلحقوا بعدل).

فإذا كانت الغلبة تعنى كثرة الأتباع على الباطل - وهي ليست كذلك بالطبع - (فاختر أن تكون مغلوباً وأنت منصف ولا تختر أن تكون غالباً وأنت ظالم).

فأفضل شيء بنظر الإمام إطفاء باطل وإحياء الحق (فلا يكن أفضل ما نلت من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ ولكن: إطفاء باطل وإحياء حق.

وليكن سرورك بما قدمت من ذلك وأسفك على ما خلقت منه.

وموقف الإمام هذا - كما ذكرنا - ينتظم الرعية جميعاً: عرباً وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين.

أما ما يتصل بالمسلمين (العرب وغير العرب) فيتضح موقف الإمام تجاههم بقوله: (ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم... والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم. وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا). ليأخذ كل ذي حق حقه وفق نصوص القرآن والسنة النبوية.

وهذا لا يتم بالطبع إلا إذا أعيد النظر في علاقات المسلمين ببعضهم وبالخليفة وفق ما ذكرناه.

وهذا يعني - من الناحية السلبية - القضاء على كل ما لا يتفق مع ذلك مما حصل عليه بعض المسلمين - على حساب غيرهم أو على حساب الدين - في الفترة التي تقع بين وفاة النبي ومقتل عثمان بن عفان.

فالحق عند الإمام هو الشيء المشروع الذي يستحقه الشخص وإن لم يتمتع به

٤٨

من الناحية العملية الواقعية نتيجة لسوء تصرف الحكام، أي إن الحق بنظر الإمام (دي جوري) كما يعبر عن ذلك المشرعون الحديثون. والباطل بنظره يشمل (من جملة ما يشمل) حقوقاً اكتسبها بعض الناس بطريقة غير مشروعة. فهو بنظره: (دي فاكتو) كما يقول: المشرعون. أي أن تطبيق الحق بنظر الإمام له أثر رجعي.

قال علي (فيما رده على المسلمين من فظائع عثمان:

والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق).

وأما موقفه من غير المسلمين فقد كان يجري ضمن الإطار الذي وصفناه. وتتجلى روعة ذلك الموقف إذا تذكرنا قوة إيمان الإمام بمبادئ الدين الإسلامي واعتباره إياه أرقى الأديان. ولعل إيمانه العميق بذلك هو الذي جعله يقف من غير المسلمين ذلك الموقف العادل المعروف.

قال علي: (من آذى ذمياً فكأنما آذاني). أي إن من اعتدى على يهودي أو مسيحي - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبشكل مادي أو معنوي - فكأنما اعتدى على جوهر الإسلام المتمثل بالإمام آنذاك.

وفي هذا الموقف من الروعة في اتباع العدل ما يعجز عن وصفه البيان.

ثم علل الإمام موقفه من أولئك الناس بقوله: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا) يجري عليهم ما يجري علينا من الحقوق والواجبات العامة.

ولتحقيق العدالة الاجتماعية من الناحية السياسية وضع الإمام شروطاً خاصة لتكوين الجهاز الحكومي وتعيين وابجاته العامة تجاه الشعب. والأساس الذي يرتكز عليه الجهاز الحكومي هو من الناحية الإدارية كما قال الإمام:

٤٩

(لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاءة والأمانة.) هذا من جهة الحاكم

أما أنت - أيها المواطن - فمن النقص عليك (أن يكون شفيعك شيئاً خارجاً عن ذاتك وصفاتك.) وأنت - أيها الحاكم - أنظر مرة أخرى - في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً. ولا تولهم محاباة وإثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة) فيجب ألا يتم تعيين الموظف محاباة له أو لمن يشفع فيه، ولا إنعاماً عليه، لأنهما - أي المحاباة والإثرة - جماع من شعب الجور والخيانة. ومعنى ذلك كما يقول ابن أبي الحديد إن هذا النوع من التعيين (يجمع ضروباً من الجور والخيانة:

أما الجور فإنه - أي الحاكم - يكون قد غدل عن المستحق. ففي ذلك جور على المستحق.

وأما الخيانة: فلأن الأمانة تقضي تقليد الأعمال الأكفاء. فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه.) على أن الأمر - على ما نرى - أبعد أثراً مما ذكره ابن أبي الحديد.

فالجور في هذا الموضوع - لا يقتصر على عدول الحاكم في التعيين عن المستحق إلى غير المستحق فقط وإنما هو يمس غير المستحق في الصميم. فقد حل غير المستحق - على حد تعبير يحيى بن خالد (محل من نهض بغيره. ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا).

يضاف إلى ذلك إن هذا الموظف - إذا ما قصر عن أداء واجبه أو خانه - عرض نفسه للفصل والعقاب. فكأن تعينه - محاباة أو إثرة - قد مهد السبيل إلى إقصائه عن الخدمة وتطبيق حدود الله عليه في حالة الخيانة.

ولكن الأمر مع هذا كلّه يتعدى ضرره المستحق وغير المستحق فينظم المصلحة العامة ومصالح المواطنين - الذي يعنيهم الأمر - على السواء.

٥٠

هذا ما يتصل بموضوع الجور في تعيين الموظفين على أسس غير أسس الكفاءة والأمانة.

أما الخيانة فينطبق عليها ما ذكرناه. لأن من لم يعتمد تقليد الأعمال الأكفاء فقد خان من ولا وخان من ولى عليهم وخان المستحق وغير المستحق على السواء.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول:

لقد وضع الإمام الذي عاش قبل زهاء أربعة عشر قرناً مقياساً للتوظيف لم يصل إليه أرقى القوانين في المجتمع الغربي الحديث. فلم يكتف الإمام بأن تسند الوظائف الحكومية لذوى الكفاءة والاختصاص - دون غيرهم - بل أضاف إلى ذلك جانباً آخر لا يقل أهمية عن الكفاءة هو الأمانة ونزاهة النفس.

فالموظف الكفؤ (غير الأمين) قد يتجاوز ضرره الاجتماعي ضرر الموظف غير الكفؤ: فيتخذ من كفاءته وسيلة لإتقان فن الخيانة، وإتقان فن التواري عن الأنظار من جهة، وإتقان فن التباكى على المصلحة العامة من جهة أخرى.

أما الموظف الأمين غير الكفؤ فيكون ضرره الاجتماعي - في حالة وقوعه - غير مقصود في العادة من جهة وغير موجه نحو الناس على حساب بعض آخر من جهة أخرى.

والخيانة (بنظر الإمام) تشمل من يتعاطاها بشكل مباشر بقدر ما تشمل من يعطف على من يتعاطاها أو يغض النظر عنه. ولهذا قال الإمام ك

(كفاك خيانة أن تكون أميناً للخونة)

لقد مر بنا القول بأن مقياس التوظيف عند الإمام هو الكفاءة والأمانة. ترى ما الكفاءة؟ وما الأمانة؟ بنظر الإمام؟ وكيف نقيس كلا منهما؟ وللإجابة عن السؤال الأول نقول:

٥١

إن الكفاءة هي قدرة الشخص على إنجاز الواجب الذي يسند إليه بشكل مرضى. وتقاس الكفاءة في العادة بالدراسة والتخصص وبالشهادة المدرسية. غير أن تلك الأمور (بشكلها الحاضر) لم تكن موجودة في عهد الإمام. فكان مقياس الكفاءة بنظره هو توسم قيام الشخص بالواجب المنوط به بشكل مرضى. فإذا عين الشخص بمنصبه ولم يثبت (بعد فترة من الزمن الكفاءة المطلوبة) تحتم فصله عن العمل وتطبيق حدود الله عليه. وبخاصة إذا لم يعمل وجوده في الوظيفة على جعله قادراً على أداء واجبه على شكله الصحيح.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو: أن الخبرة (أو وجود الشخص في الوظيفة) كثيراً ما تكون عاملا من عوامل تخصصه في ذلك العمل وتدريبه على انجازه على الوجه المطلوب. وبالتالي عاملا من العوامل التي تجعله موظفاً كفؤاً.

أما الأمانة: فهي الامتناع عن الاعتداء على أموال الآخرين وحقوقهم.

فالأمانة ذات جانبين: جانب مادى وآخر معنوي يعملان معاً في الأعم الأغلب. فالموظف الأمين هو الذي لا يقبل الرشوة ولا تمتد يده إلى ما تحتها من أموال الدولة.

هذا من الناحية المادية.

أما من الناحية المعنوية: فالموظف الأمين هو الذي يعطى كل ذي حقه في المجال الذي يعمل فيه. فلا يجعل بعض الناس يعتدى على حقوق بعض آخر، ولا يجعل الدولة تعتدي على حقوق الناس أو بالعكس.

وأما مقياس الأمانة بنظر الإمام فهو (في بدايته) سمعة الشخص ومركز عائلته من الناحية الدينية.

٥٢

كل ذلك بالطبع يسبق عملية التوظيف. فإذا ظهر الشخص (بعد التوظيف) بمظهر الخائن وثبت ذلك عليه وجب إقصاؤه عن الخدمة وتطبيق حدود الله عليه.

فالموظف الأمين غير الكفؤ يكتفي (كما ذكرنا) بإقصائه عن الخدمة.

أما غير الأمين فيقصى عن الخدمة ثم تطبق حدود الله عليه. وسبب ذلك هو أن خيانة غير الكفؤ تحصل عفواً دون قصد في الأعم الأغلب.

أما إذا ثبتت خيانته مع عدم كفاءته فيجب أن يعزل ثم يعاقب: يعزل لعدم كفاءته ويعاقب لخيانته بعد ثبوت ذلك عليه بالطبع. ويعكس الأمر عند الخائن الكفؤ. ويمكن أن يشبه عمل الأول منهما (في حالة حدوثه بسبب عدم الكفاءة) بما يحدثه وقوع حجر من مكان مرتفع على أحد المارة. وعمل الثاني بقذف ذلك الشخص بذلك الحجر من قبل بعض الناس بصورة مقصورة: فتنتفي المسئولية في الحالة الأولى مع ما يتبعها من العقاب.

هذا بالإضافة إلى أن في موضوع الخيانة (عند الموظف الكفؤ غير الأمين) أمراً خلقياً عاهراً، هو وإن كان ذا صلة بعدم كفاءته إلا أنه شيء مستقل عنه.

أما الخيانة - عند غير الكفؤ - فهي ناتجة عن عدم الكفاءة، اللهم إلا إذا كان ذلك الموظف يجمع بين الصفتين: الخيانة وعدم الكفاءة.

أما القضاء فيجب أن تتوافر فيهم (بالإضافة إلى ما ذكرنا) شروط أخرى هي كذلك على جانب كبير من الأهمية والروعة. وقد نص عليها الإمام بقوله:

(ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك: ممن لا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه. أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج،

٥٣

وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطرا. ولا يستميله إغراء).

ومن طريف ما يروى عن الإمام في موضوع الإطراء أنه حذر المسلمين عامة عن إطرائه - لغرض المصانعة - على ما يقوم به من الأعمال وذلك لتعويد الحكام على إلتزام الحق الحق نفسه دون إطراء أو إغراء من جهة، وتعويد الرعية على عدم الإطراء على موظف لمجرد قيامه بواجب هو ملزم أن يقوم به لقاء ما يتقاضاه من أجور ويتمتع به من نفوذ. قال علي:

(بما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا على بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لا بد من إمضائها. فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا إعظام لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه).

لقد مر بنا ذكر الشروط التي وضعها الإمام لانتقاء القضاة وهي شروط لا يتوافر وجودها إلا في القليلين من الناس.

وقد فطن الإمام إلى ذلك حين قال - بعد ذكر صفاتهم -: (وأولئك قليل).

فينبغي البحث عنهم والتقاطهم على القدر المستطاع. على أن هؤلاء - مع هذا - كما سلف أن ذكرنا من الممكن أن يكتسبوا (عن طريق الخبرة أثناء ممارستهم العمل) كثيراً من المزايا التي جعلها الإمام أساساً لانتقائهم، وأن يبرعوا في الوقت نفسه في المزايا التي كانت عليهم قبل التوظيف.

ومن الممكن أن يحصل ذلك كله إذا تذكر هؤلاء أنهم عرضة للفصل والإهانة

٥٤

والعقاب إذا ما نصروا في أداء واجبهم. وبالعكس فإنهم مؤهلون المكافأة والترفيع إذا ما قاموا بواجبهم على الوجه المرضى.

فالموظفون - بعد أن يتم تعيينهم على الشكل الذي وصفناه - يجب أن يخضعوا الرقابة حكومية شديدة وأن يتعرضوا بصورة مستمرة لتفتيش دقيق ليعرف الصالح منهم فيكافأ على صلاحه والطالح ليلقى جزاءه.

وقد أشار إلى ذلك الإمام بقوله:

(ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية).

أي أن المفتشين الحكوميين يجب أن يكونوا من أهل الصدق والوفاء لكي يزودوا الوالي والخليفة بأوثق الأخبار وأدق المعلومات عن الموظفين - لأن على تقاريرهم وأخبارهم يتوقف مصير الموظف في حالتي الثواب والعقاب.

فإذا كذب المفتش أو تحيز أو خان ما ائتمن عليه تعرضت إجراءات الوالى، أو الخليفة (المستندة إلى تلك الأمور) إلى الزلل والشطط.

والغاية من مراقبة الموظفين (مراقبة سرية كما ذكرنا) هي أن تقدم عنهم تقارير سرية وهم على حقيقتهم غير متظاهرين أو مغالطين.

يضاف إلى ذلك أن هذا النوع من المراقبة يحفزهم على القيام بواجباتهم على الوجه المطلوب.

(فإن أحد منهم بسط يده إلى الخيانة اجتمعت عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت العقوبة عليه في بدنه وأخذته بما أصاب عمله. ثم نصبته بمقام المذلة ووصمته بالخيانة وقلدته عار التهمة).

٥٥

فللوظيفة (بقسميها الإداري والقضائي) إذن بنظر الإمام جانب تربوي تثقيفي بالإضافة إلى جانبها المتصل بإنجاز أمور الناس وفق شروط الشريعة السمحاء.

فينبغي والحالة هذه أن نتوخي من المرشحين للوظيفة: (أهل التربية والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام. فإنهم أكرم أخلاقاً وأقل في المطامع إسرافاً وأبلغ في عواقب الأمور.) من غيرهم.

ثم (لا يكون اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك... ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك. فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثر أو أعرفهم بالأمانة وجهاً. أي أن الامام أوصى إليه أن ينتقي موظفيه من أبناء الأسر الطالحة التي هدمها الإسلام، بل من أبناء الأسر المتواضعة التي رفعها شأنها الإسلام من حضيض الجاهلية إلى مستوياته الرفيعة.

ثم اشترط عليه أن يكون المرشحون للتوظيف مع ذلك - أي مع كونهم من ذوى الأحساب الاسلامية الرفيعة - أحسن أولئك في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً. لأن (من أبطأ به عمله - كما ذكرنا - لم يسرع به نسبه) وإن كان ذووه ممن ينطبق عليهم ما ذكرناه.

فالتحدر من الأسر الاسلامية الكريمة شرط أساسي من شروط التوظيف ولكنه بحد ذاته غير كاف كما رأينا. فجعل الإمام ذلك الشرط مشروطاً كذلك (إذا جاز هذا التعبير) حين اشترط أن يكون الشخص المرشح للوظيفة (مع ذلك كله) أحسن أولئك (المتحدرين من الأسر الاسلامية الكريمة) أثراً في العامة وأعرفهم بالأمانة وجهاً. وإذا لم يحل ذلك كلّه بين ذلك الشخص - بعد توظيفه بالطبع - وبين امتداد يده إلى ما تحتها من الأموال والمصالح - للدولة والناس وجب فصله وتطبيق حدود الله عليه حسبما تستلزم الظروف ذلك.

ومن طريف ما يروى عن الإمام في هذا الصدد أنه كتب إلى المنذر بن الجارود

٥٦

العبدي - وكان قد استعمله على بعض النواحي فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعمال:

(أما بعد فإن صلاح أبيك قد غرني فيك. وظننت أنك تتبع هديه... ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك... فاقبل إلى حين يصل إليك كتابي).

يتضح من كل ذلك أن الإمام نهى عن التحيز - بشتى صوره ومختلف مجالاته - في هذه القضية (أي موضوع التوظيف) وفي غيرها على السواء. (فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال).

ذلك ما يتصل بانتقاء الموظفين للإدارة والقضاء.

أما ما يتعلق بموقف الوالي منهم فيتجلى - فيما يتصل بالإداريين - بقوله:

(ثم أسبغ عليهم الأرزاق...... فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك).

وهذا الإجراء من أنجح الإجراءات وقاء من الرشوة ومن أعدلها في معاقبة المرتشين.

وأما القاضي فأكثر (تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وثقل معه حاجته إلى الناس. واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن اغتيال الرجال له عندك).

أي أن الإمام قد خص القاضي - بالإضافة إلى ما ينطبق عليه من شروط التوظيف التي ذكرناها - بمنزلة رفيعة من الناحيتين المادية والمعنوية. وسبب ذلك كما لا يخفى هو دقة مركزه وأهميته من الناحية العامة بالنسبة لحقوق الناس.

فأمر الإمام الوالي - من الناحية المادية - أن يفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. وهو: إجراء فطن له مؤخراً بعض فطاحل المشرعين البريطانيين كما هو معروف.

٥٧

على أن الإمام مع هذا الم يكتف بذلك بل سبق هؤلاء المشرعين (الذين جاؤا من بعده بمئات السنين) بأمور لم ينتبهوا إليها على ما نعلم حتى كتابة هذه السطور. فحص القاضي بمنزلة رفيعة من الناحية المعنوية أيضاً وذلك بإيصائه الولاة - والمسئولين الآخرين - أن يصادفوا على قرارات القاضي العادل (لأنها عادلة بالطبع) فلا يسمحوا للتنفذين (الذين لم يتسن لهم التأثير على القاضي نفسه) بالتأثير على من هو فوقه فتنقض قراراته العادلة ويعطل عمله وربما فسد خلقه كذلك.

يضاف إلى ذلك أنه جعل للقاضي (العادل) منزلة رفيعة عند من هم فوقه في سلم الرتب الحكومية ليسد بذلك منافذ الموتورين (والمنافقين والمصطادين في الماء العكر) إلى الوالي لكيلا يوغروا صدره عليه في الباطل وللسعاية. وفي ذلك ما فيه من تشجيع للقاضي (ولغيره من القضاة وأضرابهم) على المضى في توخى العدل في الحكم بين الناس من جهة وتثبيط عزائم مناوئيه وإفساد مؤامراتهم من جهة أخرى.

وأما ما يتعلق بموظفى السلك العسكري (فول من جنودك أنصحهم لله ولرسوله ولإمامك. وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً. ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يعقد به الضعف.

فإذا فرغت من انتقائهم على الشكل المذكور (فتنفقد من أمورهم.

ولا يتفاقمن في نفسك شيء قوتهم به ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل. فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك.

ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به وللجسم موقعاً لا يستغنون عنه.).

٥٨

فرجال الجيش يجب أن يتم انتقاؤهم - بنظر الإمام - حسب شروط خاصة وإن كانت تجري، من حيث الأساس، على المجري العام الذي ذكرناه حين التحدث عن الموظفين المدنيين. وبما أن الناحية العسكرية ترتبط بالذهن عادة مع الشدة والقسوة وأخذ الناس بالصرامة والعنف فقد فطن الإمام إلى ذلك فحدد مجال عمل ذلك من جهة وعمل على إضعافه في المواطن التي تحتاج إلى ذلك الإضعاف من جهة أخرى.

وقد اشترط الإمام أول ما اشترط في الجنود - أي رجال الجيش من مختلف الصنوف المعروفة في عهده - النصيحة العقيدة الإسلامية لأنها (بنظره) الأساس الذي تستند إليه تصرفات الجندى (وغيره من المسلمين) في جميع مجالات الحياة.

ثم نص الإمام (بالإضافة إلى ذلك) على الشرط العام الذي يجب أن يتوافر في جميع أفراد الجهاز الحكمي (المدني والقضائي والعسكري) وهو نقاوة الجيب.

ثم اشترط الإمام في الجندى شرطاً خاصاً - ليزيل جانب الصرامة المرتبط بمنته في المواضع التي تستلزم إزالته:

هذا الشرط هو أن يكون الجندى: (ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف الضعفاء وينبو على الأقوياء).

يبطئ عن الغضب أي لا يوقع العقوبة بمن يعتقد أنه يستحقها أثناء غضبه لينتفى عنصر الانتقام في الموضوع من جهة، وليتسنى له (أي لمن يوقع العقوبة مباشرة أو من له سلطة الأمر بإيقاعها) بعد زوال غضبه أن ينظر في الموضوع برأيه الهادئ لا بعواطفه الثائرة ليكون حكمه سليما من الناحية العقلية.

٥٩

(فإن من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.) ولا يسهل على من استسلم لعاطفة الغضب أن يستقبل وجوه الآراء ليعرف مواقع الخطأ فيها وفيما يتبعها من الإجراءات كما هو معروف.

(أملك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك.

واحترس من كل ذلك بكف الباردة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك وتملك الاختيار.).

وهناك أمر لابد من الإشارة إليه في هذا الصدد هو: أن الإمام يعتبر العقوبة وسيلة للإصلاح لا للإنتقام. وهي - بنظره - آخر إجراء ينبغي أن يستعان به.

فالمذنب بنظره كالمريض يجب أن يعالج باللطف والإرشاد على القدر المستطاع. على أن العقوبة (إذا كان لابد من الاستعانة بها لتقويم الأخلاق كما نصت على ذلك العقيدة الإسلامية المتمثلة في القرآن والسيرة النبوية) فيجب، مع ذلك، أن يتأخر إنزالها (لفترة مناسبة من الزمن) ليرى المذنب جريرته ونتائجها وما يتبعها من عقوبة لعله يرتدع عن الذنب في المستقبل.

(فلا تتبع الذنب العقوبة واجعل بينهما وقتاً للاعتذار.) هذا من الناحية السلبية.

أما من الناحية الإيجابية فازجر (المسيء بثواب المحسن).

أما الضعفاء فقد أوصى الإمام - كما رأينا - جنوده بضرورة الرأفة بهم فيعاقبونهم عن طريق التهذيب بالتجاوز عن عفواتهم ضمن الحدود المعقولة.

وأما الأقوياء (وأصحاب النفوذ) فابطش بهم - إذا أذنبوا - بطشاً يتناسب

٦٠