فضل الجمعة والجماعة

فضل الجمعة والجماعة0%

فضل الجمعة والجماعة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 69

فضل الجمعة والجماعة

مؤلف: الشيخ عبد الزهراء الكعبي الاهوازي
تصنيف:

الصفحات: 69
المشاهدات: 23441
تحميل: 3928

توضيحات:

فضل الجمعة والجماعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 69 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23441 / تحميل: 3928
الحجم الحجم الحجم
فضل الجمعة والجماعة

فضل الجمعة والجماعة

مؤلف:
العربية

ما قاله العلامة المجلسي حول وجوب الجمعة

وتتميماً للفائدة ندرج ما ذكره العلامة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي في كتاب «بحار الأنوار»(١) حول وجوب صلاة الجمعة وفضلها.

قال - رحمة اللّه - بعد ذكر الآيات التالية:

١ -(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين) (٢)

٢ -(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر اللّه وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه واذكروا اللّه لعلكم تفلحون* وأذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا أليها وتركوك قائماً قل ما عند اللّه خير من اللهو ومن التجارة واللّه خير الرازقين) (٣) .

٣ -(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون) (٤) .

______________________________

(١) بحار الانوار: ج ٨٩ ص ١٢٢ - ١٥٣.

(٢) البقرة: ٢٣٨.

(٣) الجمعة: ٩ - ١١

(٤) المنافقون: ٩.

٤١

تفسير: قد مضت الأخبار في تفسير الصلاة الوسطى بصلاة الجمعة(١) وأن المراد بقوله(قوموا للّه قانتين) أي في الصلاة الوسطى. وقال الراوندي - رحمه اللّه - في فقه القرآن: قالوا: نزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفر فقنت فيها وتركها على حالها في السفر والحضر.

(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) لا ريب في نزول هذه السورة وتلك الآيات في صلاة الجمعة، وأجمع مفسرو الخاصة والعامة عليه، بمعنى تواتر ذلك عندهم، والشك فيه كالشك في نزول آية الظهار في الظهار، وغيرها من الآيات، والسور التي مورد نزولها متواتر معلوم ومدار علماء الخاصة والعامة في الاستدلال على أحكام الجمعة على هذه الآية.

وخصّ الخطاب بالمؤمنين تشريفاً لهم وتعظيماً، ولأنهم المنتفعون به، وإيذاناً بأن مقتضى الايمان العمل بفرائض اللّه تعالى وعدم الاستهانة بها، وأن تاركها كأنه غير مؤمن، وفسّر الأكثر النداء بالأذان.

قال في مجمع البيان: أي أذّن لصلاة الجمعة، وذلك أذا جلس الامام على المنبر يوم الجمعة، وذلك لأنه لم يكن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نداء سواء(٢)

ونحوه ذلك قال في الكشاف(٣) .

والظاهر أن المراد حضور وقت النداء، كما أن قوله(اذا قمتم الى الصلاة) (٣) . المراد إرادة القيام، ولما كان النداء شائعاً في ذلك الوقت عبّر عنه به، وفيه الحثّ علىالأذان، لتأكّد استحبابه لهذه الصلاة، حتى ذهب بعضهم الى الوجوب.

واللام في قوله «للصلاة» للأجل والتوقيت، وحينئذ يدلّ على عدم اعتبار

______________________________

(١) راجع البحار: ج ٨٢ ص ٢٧٧ - ٢٩١.

(٢) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٨.

(٣) الكشاف: ج ٤ ص ٥٣٢.

(٤) المائدة: ٦.

٤٢

الأذان قبل وقت الصلاة في ذلك.

و «من» بيانية ومفسرة لـ «اذا». أو بمعنى «في» أو للتبعيض.

والجمعة - بضم الميم والسكون - لغتان اليوم المعهود، وإنما سمى به لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: لأنه تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل: أول من سماه به كعب بن لؤي وكان يقال له: العروبة.

(فاسعوا إلى ذكر اللّه) الظاهر أن التعبير بهذه العبارة لتأكيد الأمر والمبالغة في الاتيان به، وعدم المساهلة فيه، كما أنه اذا قال المولى لعبده: امض الى فلان، يفهم منه الوجوب، واذا قال: اسع وعجّل واهتم، كان آكد من الأول وأدل على الوجوب.

قال في مجمع البيان: أي فامضوا الى الصلاة مسرعين غير متشاغلين، عن قتادة وابن زيد والضحاك. وقال الزجاج: فامضوا الى السعي الذي هو الاسراع. وقرأ عبد اللّه بن مسعود «فامضوا الى ذكر اللّه» وروي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام وعمر وابي وابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام. وقال ابن مسعود: لو علمت الاسراع لأسرعت حتى يقع ردائي من كتفي. وقال الحسن: ما هو السعي على الأقدام، وقد نهوا ان يأتوا الصلاة إلا وعليهم االسكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع(١) .

وكل ذلك مما يؤكد الوجوب، فإن المراد به شدة العزم والاهتمام وإخلاص النية فيه، فإنه أقرب المجازات الى السعي بالأقدام، بل هو مجاز شايع يعادل الحقيقة.

قال في الكشاف: قيل المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي التصرف في كل عمل، ومنه قوله تعالى:(ولما بلغ معه السعي) -(وأن ليس للانسان إلا ما سعى) (٢) انتهى.

______________________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٨.

(٢) الكشاف: ج ٤ ص ٥٣٤.

٤٣

وعليه ينبغي حمل ما رواه الراوندي وغيره عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: السعي قص الشارب ونتف الابط وتقليم الأظفار والغسل والتطيب ليوم الجمعة ولبس أفضل الثياب والذكر، فالمعنى أهتموا وعجلوا الفراغ من الآداب والمستحبات لادراك الجمعة، كل ذلك لا ينافي فهم الوجوب من الامر، بل هي مؤكدة له كما لايخفي على العارف بقوانين البلاغة.

وقال الراوندي: المراد بذكر اللّه الخطبة التي تتضمن ذكر اللّه والمواعظ وقيل: المراد الصلاة انتهى. وانما جعل الذكر مكان الضمير إيذانا بأن الصلاة متضمنة لذكره تعالى، ولذا يجب السعي إليها وأن الصلاة الكاملة هي التي تتضمن ذكر اللّه وحضور القلب، وقيل: المراد هما جميعاً، ولعله أظهر.

(وذروا البيع) أي اتركوه ودعوه «ذلكم» أي ما امرتم به من السعي وترك البيع(خير لكم) وأنفع عاقبة(إن كنتم تعلمون) الخير والشر أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.

(فاذا قضيت الصلاة فانتـشروا في الارض) أي إذا صليتم الجمعة وفرغتم منها فتفرقوا في الأرض.

«وابتغوا من فضل اللّه» أي واطلبوا الرزق في الشراء والبيع فأطلق لهم ما حرم عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح والنفع من فضل الله ورحمته، مشيراً الى أن الطالب ينبغي أن لا يعتمد على سعيه وكدّه، بل على فضل الله ورحمته وتوفيقه وتيسيره طالباً ذلك من ربه.

قال في مجمع البيان: هذا إباحة وليس بأمر إيجاب، وروي عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال في قوله «فانتشروا»: الآية ليس لطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في اللّه وقيل: المراد به طلب العلم(١)

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت

______________________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٨.

٤٤

وروى عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها اللة، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني اللّه اضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول اللّه عز وجل(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل اللّه) أرأيت لو أن رجلاً دخل بيتاً وطيّن عليه بهبه ثم قال: رزقي ينزل عليّ أكان يكون هذا ؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم، قال: قلت: من هؤلاء الثلاثة ؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعوا عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها [ لخلّى سبيلها ] والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه، فيدعو عليه فلا يستجاب له، لأنه ترك ما أمر به. والرجل يكون عنده الشيء، فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله، ثم يدعو فلا يستجاب له(١) .

(واذكروا اللّه كثير) قال الطبرسي - رحمه اللّه -: أي اذكره على إحسانه إليكم واشكروه على نعمه وعلى ما وفقكم من طاعته وأداء فرضه.

وقيل: المراد بالذكر هنا الفكر، كما قال: تفكر ساعة خير من عبادة سنة.

وقيل: معناه اذكروا الله في تجاراتكم وأسواقكم، كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: من ذكر اللّه في السوق مخلصاً عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب له الف حسنة ويغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم يخطر على قلب بشر(٢) انتهى.

ويحتمل أن يكون المراد به أذكروا اللّه في الطلب، فراعوا أوامره ونواهيه فلا تطلبوا إلا ما يحل من حيث يحل والأعم أظهر. والحاصل أنه تعالى وصّاهم بأن لا تشغلهم التجارة عن ذكره سبحانه كما قال اللّه تعالى(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه) (٣) ويكونوا في أثناء التجارة مشغولين بذكره، مراعين أوامره ونواهيه.

______________________________

(١) و (٢) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٩.

(٣) النور: ٣٧.

٤٥

(لعلكم تفلحون) قال الطبرسي - رحمه اللّه -: أي لتفلحوا وتفوزوا بثواب النعيم علّق سبحانه الفلاح بما تقدم ذكره من أعمال الجمعة وغيرها. وصح الحديث عن أبي ذر - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله ولبس صالح ثيابه ومس من طيب بيته أو دهنه ثم لم يفرق بين اثنين غفر اللّه له بينه وبين الجمعة الاخرى. وزيادة ثلاثة أيام بعدها. وروى سليمان التميمي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن للّه عز وجل في كل جمعة ست مائة ألف عتيق من النار كلهم قد استوجب النار.

قال: ثم أخبر سبحانه عن جماعة قابلوا أكرم الكرم بألأم اللؤم، فقال:(واذا رأوا تجارة أو لهو) أي عاينوا ذلك، وقيل معناه، اذا اعلموا بيعاً أو شراء أو لهواً وهو الطبل عن مجاهد. وقيل: المزامير عن جابر.

(انفضوا إليه) أي تفرّقوا عنك خارجين إليها، وقيل: مالوا إليها والضمير للتجارة وإنما خصت برد الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم وهم بها أسر من الطبل، لأن الطبل إنما دلّ على التجارة عن الفراء وقيل: عاد الضمير الى أحدهما اكتفاء به وكأنه على حذف، والمعنى: وأذا رأوا تجارة أنفضوا اليها واذا رأوا لهواً انفضوا إليه، فحذف «إليه» لأن «إليها» تدل عليه.

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: انصرفوا اليها وتركوك قائماً تخطب على المنبر.

قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب إلا وهو قائم. فمن حدّثك أنه خطب وهو جالس فكذبه وسئل ابن مسعود: أكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب قائماً ؟ فقال: أما تقرأ(وتركوك قائم) وقيل: أراد «قائما» في الصلاة.

ثم قال تعالى «قل» يا محمد لهم «ما عند اللّه من الثواب على الخطبة وحضور الموعظة والصلاة والثبات مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم «خير» وأحمد عاقبة وأنفع(من اللهو

٤٦

ومن التجارة واللّه خير الرازقين) ويرزقكم إن لم تتركوا الخطبة والجمعة(١) .

وقال - رحمه اللّه - في سبب نزول الآية: قال جابر بن عبد اللّه: أقبلت عير ونحن نصلي مع رسول اللّه صلىاللّه عليه وآله وسلم الجمعة فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت.

وقال الحسن وابو مالك: اصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية ابن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا اليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا رهط فنزلت الأية فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده لو تنابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا.

وقال المقاتلان: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره، وينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة - وكان ذلك قبل أن يسلم - ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامراة، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لولا هؤلاء لسومّت لهم الحجارة من السماء وأنزل اللّه هذه الآية.

وقيل: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط عن الكلبي عن ابن عباس. وقيل: إلا أحد عشر رجلاً عن ابن كيسان، وقيل: إنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل يوم مرة لعير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة عن قتادة ومقاتل(٢) انتهى.

______________________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٩.

(٢) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٧

٤٧

وقال - رحمه اللّه - في تذييلة لما تقدم:

اعلم أن اللّه سبحانه أكد في هذه السورة الشريفة للأمر الذي نزلت فيه - وهو وجوب صلاة الجمعة تقدمة وتذييلاً - أنواعاً من التأكيد. لم يأت بها في شيء من العبادات فيدل على انه آكدها وافضلها عنده، وأحبها اليه وذلك من وجوه:

أولها: أنزل سورة مخصوصة لذلك ولم ينزل في غيره سورة.

الثاني: أنه قدّم قبل الآية المسوقة لذلك آيات كلها معدّات لقبولها والاتيان بها، حيث افتتح السورة بأن جميع ما في السماوات والأرض تسبح له، فينبغي للانسان الذي هو أشرف المخلوقات أن لا يقصر عنها بل يكون تنزيهه له سبحانه وطاعته له أكثر منها.

ثم وصف سبحانه نفسه بأنه ملك العالم ويجب على جميع الخلق طاعته ثم بأنه القدوس المنزّه عن الظلم العبث. بل إنما كلّفهم بالطاعات لأعظم المصالح ولوصولهم الى درجات السعادات.

ثم هدّدهم بأنه عزيز غالب قادر مع مخالفتهم على عقوبتهم في الدنيا والآخرة وأنه حكيم لا يفعل شيئاً ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة، فلا ينبغي أن يتجاوز عن مقتضى أمره ونهيه.

ثم ذكر امتناعه على عباده بأنه بعث في قوم اميين عارين عن العلوم والمعارف رسولاً منهم، ليكون أدعى لهم الى قبول قوله: يتلو عليهم آياته المشتملة على مصالحهم ويطهرهم من الصفات الذميمة والنقائص والجهالات، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ولقد كانوا من قبله لفي ضلال مبين عن الملة والشريعة، فلابد لهم من قبول قوله في كل ما يأمرهم به ومنها هذه الصلاة.

ثم بيّن أن شريعة هذا النبي وأحكامه لا تختص بقوم ولا بالموجودين في زمانه، بل شريعته باقية وحلاله حلال وحرامه حرام الى يوم القيامة. رداً على

٤٨

من يزعم أن الخطاب مخصوص بالموجودين، فقال «وآخر منهم» أي ويعلم آخرين من المؤمنين «لما يلحقوا بهم» وهم كل من بعد الصحابة الى يوم القيامة.

ثم هدّد وحثّ بوصف نفسه سبحانه مرة اخرى بالعزيز الحكيم، ثم عظم شأن النبوة لئلاّ يجوّزوا مخالفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما أتى به من الشرائع، ثم ذم الحاملين للتوراة، العالمين غير العاملين به، تعريضاً لعلماء السوء مطلقاً بأنهم لعدم عملهم بعلمهم كالحمار يحمل أسفاراً.

ثم أوعد بالموت الذي لابد من لقائه وبما يتبعه من العذاب والعقاب ونبههم على أن ولاية اللّه لا تنال إلا بالعمل باوامره سبحانه وأجتناب مساخطه، وليس ذلك بالعلم فقط ولا بمحض الدعوى.

ثم لما مهد جميع ذلك خاطبهم بما هو المقصود من السوره أحسن خطاب وألطفه.

الثالث: أنه سبحانه أكد في نفس الآية المنزلة لذلك ضروباً من التأكيد:

الاول: إقباله تبارك وتعالى إليهم بالخطاب، تنشيطاً للمكلفين وجبراً لكلفة التكليف بلذة المخاطبة.

الثاني: أنه ناداهم بياء الموضوعة لنداء البعيد، تعظيماً لشأن المنادى له، وتنبيهاً على أنه من العظم والجلالة بحيث المخاطب في غفلة منه وبعد عنه وإن كان في نهاية التيقظ والتذكر له.

الثالث: أنه أطنب الكلام تعظيماً لشأن ما فيه الكلام وايماء إلى أنه من الشرافة والكرامة بحيث يتلذذ المتكلم بما تكلم فيه كما يتلذذ بذكر المحبوبين ووصفهم بصفاتهم والاطناب في أحوالهم.

الرابع: أنه أجمل أولاً المنادى حيث عبّر بـ «أي» العامة لكل شيء تخييلاً، لأن هذا الأمر لعظم شأنه مما لا يمكن المتكلم أن يعلم أول الأمر وبادئ الرأي أنه بمن يليق ومن يكون له ؟ حتى اذا تفكر وتدبر علم من يصلح له ويليق به.

٤٩

الخامس: أنه أتى بكلمة «هاء» التي للتنبيه لمثل ما قلناه في «ياء».

السادس: أنه عبر عنهم بصيغة الغائب تنبيهاً على بعدهم لمثل ما قلناه في «ياء».

السابع: أنه طوّل في اسمهم ليحصل لهم التنبيه الكامل، فإنهم في أول النداء يتأخذون في التنبّه، فكلما طال النداء واسم المنادي ازداد تنبيههم.

الثامن: أنه خصّ المؤمنين بالنداء مع أن غيرهم مكلّفون بالشرائع، تنبيهاً على أن الأمر من عظمه بحيث لا يليق به إلا المؤمنون.

التاسع: أنه عظم المخاطبين به بذكر اسمهم ثلاث مرات من الاجمال والتفصيل فإن «أيها» مجمل و «الذين» مفصل بالنسبة اليه، ثم الصلة تفصيل للموصول

العاشر: أنه عظمهم بصيغة الغيبة.

الحادي عشر: أنه خص المعرفة بالنداء تنبيهاً على انه لا يليق بالخطاب إلا رجال معهودون معروفون بالايمان.

الثاني عشر: أنه علّق الحكم على وصف الايمان تنبيها على عليته له واقتضائه إياه.

الثالث عشر: أنه أمرهم بالسعي الذي هو الاسراع بالمشي إما حقيقية أو مجازاً - كما مرّ - والثاني أبلغ.

الرابع عشر: أنه رتبه على الشرط بالفاء الدالة على عدم التراخي.

الخامس عشر: أنه عبّر عنها بـ «ذكر اللّه» فوضع الظاهر موضع الضمير إن فسّر بالصلاة للدلالة على أنها ذكر اللّه فمن تركها كان ناسياً لذكر اللّه غافلاً عنه، وإن فسّر بالخطبة أيضاً يجري فيه مثله.

السادس عشر: تعقيبه بالأمر بترك ما يشغل عنه من البيع.

السابع عشر: تعقيبه بقوله(ذلكم خير لكم) وهو يتضمن وجوهاً من التأكيد:

الأول: نفس تعقيب هذا الكلام لسابقه.

٥٠

والثاني: الاشارة بصيغة البعيد المتضّن لتعظيم المشار اليه.

والثالث: تنكير «خير» إن لم نجعله اسم تفضيل لأنه أيضاً للتعظيم.

الثامن عشر: تعقيبه بقوله(إن كنتم تعلمون) وهو يتضمن التأكيد من وجوه:

الأول نفس هذا الكلام فإن العرف يشهد بأنه يذكر في الامور العظام المرغّب فيها: إن كنت تعلم ما فيه من الخير لفعلته.

الثاني: الدلالة على أن من توانى فيه فإنما هو لجهله بما فيه من الفضل ففيه تنزيل لبعض العالمين منزلة الجاهلين ودلالة على أنه لا يمكن أن يصدر الترك أو التواني فيه عن أحد إلا عن جهل بما فيه.

والثالث: أنه ترك الجزاء ليذهب الوهم كل مذهب ممكن، وهو نهاية في المبالغة.

والرابع: أنه ترك مفعول العلم فإما أن يكون لتنزيله منزلة اللازم فيدل على انه يكفي في الرغبة والمسارعة اليه وترك ما يشغل عنه الاتصاف بمجرد العلم والكون من أهله، أو ترك إبهاماً له لتعظيمه، وليذهب الوهم كل مذهب ممكن، فيكون المفهوم أن كل من علم شيئاً من الأشياء أسرع إليها، لأن فضلها من البديهيات التي ليس شيء أجلى منها.

الرابع: ما أكد الحكم به بعد هذه الآية وهو أيضاً من وجوه:

الأول: قوله «فاذا قضيت الصلاة» فإنه - بناء على كون الأمر للاباحة كما هو الأشهر والأظهر هنا - دل بمفهوم الشرط على عدم إباحة الانتشار قبل الصلاة.

الثاني: أن أصل هذا الكلام نوع تأكيد للحكم بإزاحة علتهم في ذلك أي: إن كان غرضكم التجارة فهو ميسور ومقدور بعد الصلاة فلم تتركون الصلاة لذلك.

الثالث: تعليق الفلاح بما مر كما مر.

الرابع: الاتيان به بلفظ الترجي ليعلموا أن تحصيل الفلاح أمر عظيم، لا يمكن الجزم بحصوله بقليل من الأعمال، ولا مع عدم حصول شرائط القبول،

٥١

فيكون أحث لهم على العمل ورعاية شرائطه.

الخامس: لومهم على ترك الصلاة والتوجه إلى التجارة واللهو أشد لوم.

السادس: بيان المثوبات المترتبة على حضور الصلاة.

السابع: إجمال هذه المثوبات إيذاناً بأنه لا يمكن وصفه ولا يكتنه كنهه ولا يصل عقول المخاطبين اليه.

الثامن: بيان أن اللذات الاخروية ليست من جنس المستلذات الدنيوية وأنها خير منها بمراتب.

التاسع: بيان أنه الرازق والقادر عليه فلا ينبغي ترك طاعته وخدمته لتحصيل الرزق فإنه قادر على أن يحرمكم مع ترك الطاعة ويرزقكم مع فعلها.

العاشر: بيان أنه خير الرازقين على سبيل التنزل، أي لو كان غيره رازق فهو خير منه، فكيف ولا رازق سواه ويحتاج إليه كل ما عداه.

الحادي عشر: تعقيب هذه السورة بسورة المنافقين إيذاناً بأن تارك هذه الفضيلة من غير علة منافق، كما ورد في الأخبار الكثيرة من طرق الخاصة والعامة وبه يظهر سرّ تلك الأخبار، ويشهد له الأمر بقراءتهما في الجمعة وصلوات ليلة الجمعة ويومها، وتكرر ذكر اللّه فيهما على وجه واحد.

وروى الكليني في الحسن كالصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اللّه أكرم بالجمعة المؤمنين فسنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشارة لهم، والمنافقين توبيخاً للمنافقين، ولا ينبغي تركها، فمن تركها متعمداً فلا صلاة له(١) .

وبالجملة: قوله سبحانه في الجمعة(فاسعوا الى ذكر اللّه) وقوله(إذا رأوا تجارة أو لهواُ انفضوا إليه) وقوله في المنافقين(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه) أي لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره

______________________________

(١) الكافي: ج ٣ ص ٤٢٥ ح ٤.

٥٢

سبحانه(ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون) حيث طلبوا تجارة الدنيا الفانية وربحها فخسروا الآخرة الباقية ذلك هو الخسران المبين، فكل ذلك مما يورث الظن القوي بأن هذه الآية أيضاً مسوقة للتهديد على ترك الجمعة أو ما يشملها ولذا أوردناها هنا تأييداً لا استدلالاً، فلا تغفل.

وفي ذكره للأحكام المستنبطة في تلك الآيات بصورة مجملة قال - رحمه اللّه -:

إن تلك الآيات تدل على وجوب صلاة الجمعة عيناً في جميع الأزمان، ولنذكر أولاً الاختلافات الواقعة فيها، ثم لنتعرض لوجه الاستدلال بالآيات على ما هو الحق عندي منها.

أعلم أنه لا خلاف بين الامة في وجوب صلاة الجمعة وجوباً عينياً في الجملة وإنما الخلاف في بعض شرائطها، والكلام على وجوه تفصيلها أنه هل يشترط الامام أو نائبه أم لا ؟ وعلى تقدير الاشتراط هل هو شرط الانعقاد أو شرط الوجوب فبدونها يستحب ؟ وإن كان شرط الانعقاد فهل هو مخصوص بزمن حضور الامام أو عام ؟ أو أنه مخصوص بإمكان الوصول بأحدهما حتى لو تعذّر كفى إمام الجماعة ؟ أو عام حتى لو تعذر لم تنعقد ؟

فكلام الفاضلين(١) في التحرير والمعتبر، والشهيد في الدروس والبيان، صريح في أنه شرط الوجوب دون الانعقاد، وهو ظاهر الشيخ في النهاية، وصريح العلامة في غير التحرير. وظاهر ابن إدريس والمرتضى، بل كل من نسب اليه التحريم في الغيبة. والشهيد في الذكرى والألفية، والشهيد الثاني في شرح الألفية وكذا الرسالة، أنه شرط الانعقاد وكلام الشيخ في المبسوط والخلاف مضطرب، والشهيد في شرح الألفية تردد بين أن يكون شرطاً للانعقاد أو للوجوب العيني.

ثم الذين شرطوا الانعقاد به أختلفوا في أنه عام أو مخصوص بزمان الحضور؟

______________________________

(١) أي: العلامة والمحقق - رحمهما اللّه -.

٥٣

أو مخصوص بإمكان أحد الأمرين ؟ فصريح الشهيد الثاني في كتبه، والشهيد الأول في الذكرى، والعلامة في النهاية، أنه مخصوص بزمان الحضور، وصريح ابي الصلاح أنه مخصوص بالامكان والمحرمون لها في الغيبة مع بعض الموجبين والمجوزين يعمّمون الاشتراط إلا أن الموجبين والمجوزين يعدّون الفقيه من نواب الامام، وبعضم وافق ظاهر الشيخ في عد كل من يصلح للامامة من نوابه.

فقد تحقق أن هاهنا مقامات:

الأول: هل الامام أو نائبه شرط أم لا ؟

والثاني: شرط لأي شيء ؟ فيه خمسة أقوال: (الأول) شرط الوجوب، (الثاني) شرط الوجوب العيني، (والثالث) شرط الانعقاد مطلقاً، (والرابع) شرط له حين حضور الامام، (الخامس) شرط له ما أمكن.

والثالث: النائب من هو ؟ فيه وجوب ثلاثة: (الأول) من استنابه الامام بعينه، (والثاني) هو والفقيه، (والثالث)

هما وكل من يصلح لامامة الجماعة.

فأما القائلون بوجوبها عيناً في الغيبة فهو أبو الصلاح، والمفيد في المقنعة والاشراف، الكراجي، وكثير من الأصحاب، حيث أطلقوا ولم يقيدوا الوجوب بشيء كالكليني والصدوق وسائر المحدثين التابعين للنصوص الواردة عن أئمة الدين عليهم السلام

أما الكليني(١) فلأنه قال «باب وجوب الجمعة، وعلى كم تجب ؟» ثم أورد الأخبار الدالة على الوجوب العيني، ولم يورد خبراً يدل على اشتراط الامام أو نائبه، حتى أنه لم يورد رواية محمد بن مسلم الآتية التي توهم جماعة دلالتها على اعتبار الامام أو نائبه.

ولا يخفى على المتتبع أن قدماء المحدثين لا يذكرن وفي كتبهم مذاهبهم وأنما يوردون أخباراً يصححونها ومنه يعلم مذاهبهم وآراؤهم.

______________________________

(١) الكافي: ج ٣ ص ٤١٨.

٥٤

وكذا الصدوق في الفقيه(١) قال «باب وجوب الجمعة وفضلها» وأورد الأخبار ولم يورد معارضاً، و رواية ابن مسلم نتكلم على دلالتها، وعبارته في المقنع كالصريح في ذلك كما سيأتي.

وقال - رحمه اللّه - في كتاب المجالس(٢) في مجلس أورده لوصف دين الامامية: «والجماعة يوم الجمعة فريضة وفي سائر الأيام سنة فمن تركها رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علة فلا صلاة له، ووضعت الجمعة عن تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين».

وتخصيصها بزمان الحضور مع كونه بصدد بيان مذهب الامامية ليعمل به تلامذته والآخذون عنه من غير قرينة في غاية البعد(٣) وكذا سائر المحدثين ظواهر كلماتهم ذلك.

وممن ظاهر كلامه ذلك الشيخ عماد الدين الطبرسي في كتابه المسمى بنهج العرفان، حيث قال - بعد نقل الخلاف بين المسلمين في شروط وجوب الجمعة -: إن الامامية أكثر إيجابا للجمعة من الجمهور، ومع ذلك يشنّعون عليهم بتركها، حيث إنهم لا يجوّزون الائتمام بالفاسق ومرتكب الكبائر والمخالف في العقيدة الصحيحة.

وأما القائلون بالتحريم فيهم ابن ادريس وسلاّر والعلامة في المنتهى وجهاد التحرير، ونسب إلى الشيخ، وعبارته مضطربه، والى علم الهدى في مسائل الميافارقيات، وهي أيضاً ليست بصريحة فيه، لأنه قال: صلاة الجمعة ركعتان من غير زيادة عليهما، ولا جمعة إلا مع إمام عادل أو مع من نصبه الامام العادل فاذا عدم صليت الظهر أربع ركعات، فيحتمل أن يكون الفقيه، أو كل من جمع

______________________________

(١) الفقيه: ج ١ ص ٢٦٦.

(٢) أمالي الصدوق: ص ٥١٥ ضمن المجلس ٩٣.

(٣) راجع حاشية البحار: ج ٨٩ ص ١٤٤.

٥٥

صفات إمام الجماعة من المنصوبين من قبل الامام عنده كما أن الشيخ قال مثل هذا الكلام ثم صرح بالجواز في زمان الغيبة.

وقال ابن البراج في النسخة التي عندنا من المهذب: واعلم أن فرض الجمعة لا يصح كونه فريضة إلا بشروط متى اجتمعت صح كونه فريضة جمعة ووجبت لذلك، ومتى لم تجتمع لم يصح ولم يجب كونه كذلك، بل يجب كون هذه الصلاة ظهراً ويصليها المصلي بنية كونها ظهراً. والشروط التي ذكرناها هي أن يكون المكلف لذلك حراً بالغاً كامل العقل، سليماً عن المرض والعرج والعمى والشيخوخة التي لا يمكنه الحركة معها، وأن لا يكون مسافراً ولا في حكم المسافر، وأن يكون بينه وبين موضع الجمعة فرسخان فما دونهما، ويحضر الامام العادل أو من نصبه أو من جرى مجراه، ويجتمع من الناس سبعة نفر أحدهم الامام، ويتمكن من الخطبتين، ويكون بين الجمعتين ثلاثة أميال.

فهذه الشروط اذا اجتمعت وجب كون هذه الصلاة فريضة جمعة، ومتى لم تجتمع سقط كونها فريضة جمعة، وصليت ظهراً كما قدمناه فإن اجتمع من الناس خمسة نفر أحدهم الامام وحصل باقي هذه الشروط كانت صلاتها ندباً واستحباباً.

ويسقط فرضها مع حصول الشروط المذكورة عن تسعة نفر وهم: الشيخ الكبير والطفل الصغير والعبد والمرأة والأعمى والمسافر والأعرج والمريض وكل من كان منزله من موضعها على أكثر من فرسخين(١) .

ثم قال: واذا كان الزمان زمان تقية جاز للمؤمنين أن يجمعوا في مكان لا يلحقهم فيه ضرر وليصلوا جماعة بخطبتين، فإن لم يتمكنوا من الخطبة صلّوا جماعة أربع ركعات، وصلى فرض الجماعة مع إمام يقتدى به فليصل العصر بعد الفراغ من فرض الجمعة، ولا يفصل بينهما إلا بالاقامة(٢) انتهى.

______________________________

(١) المهذب: ج ١ ص ١٠٠.

(٢) المهذب: ج ١ ص ١٠٤.

٥٦

ولا يخفى أن المستفاد من كلامه أولاً وآخراً أنه تجب الجمعة عيناً مع الامام أو نائبه الخاص أو العام - أعني الفقيه الجامع لشرائط الفتوى - وهو المراد بقوله «أو من جرى مجراه» وحمله على أن المراد من نصبه لخصوص الصلاة أو من جرى مجراه بأن نصبه للأعم منها بعيد مع أنه يشمل الفقيه أيضاً، ومع عدم النائب والفقيه ووجود العادل يجب تخييراً من التمكن من الخطبة فتدبر.

ثم أقول: اذا عرفت هذه الاختلافات فالذي يترجح عندي منها الوجوب المضيّق العيني في جميع الأزمان، وعدم اشتراط الامام أو نائبه الخاص أو العام بل يكفي العدالة المعتبرة في الجماعة، والعلم بمسائل الصلاة أما اجتهاداً أو تقليداً، أعم من الاجتهاد والتقليد المصطلح بين الفقهاء، أو العالم والمتعلم على اصطلاح المحدثين.

نعم يظهر من الأخبار زائداً على إمام الجماعة القدرة على إيراد الخطبة البليغة المناسبة للمقام بحسب أحوال الناس والأمكنة والازمنة والأعوام والشهور والأيام، والعلم بآدابها وشرائطها.

فاذا عرفت ذلك، فاعلم أنه استفيد من تلك الآيات أحكام:

الأول: وجوب الجمعة على الأعيان في جميع الأزمان، وجه الاستدلال اتفاق المفسرين على ان المراد بالذكر في الآية الاولى صلاة الجمعة أو خطبتها، أو هما معاً، حكى ذلك غير واحد من العلماء، والأمر للوجوب على ما تحقق في موضعه، لا سيما أوامر القرآن المجيد.

والمراد بالنداء الأذان أو دخول وقته كما مر فالمستفاد من الآية الأمر بالسعي الى صلاة الجمعة أي الاهتمام في إيقاعها لكل واحد من المؤمنين، متى تحقق الأذان لأجل الصلاة أو وقت الصلاة، وحيث كان الأصل عدم التقييد بشرط يلزم عموم الوجوب بالنسبة الى زمان الغيبة والحضور.

٥٧

واعترض عليه بوجوه: (الأول) أن كلمة «اذا» غير موضوعة للعموم لغة، فلا يلزم وجوب السعي كلما تحقق النداء.

والجواب: أن «اذا وإن لم تكن موضوعة للعموم لغة لكن يستفاد منها العموم في أمثال هذه المواضع، إما بحسب الوضع العرفي، أو بحسب القرائن الدالة عليه، كما قالوا في آية الوضوء وأمثالها، مع أن حمله على الاهمال يجعل الكلام خالياً عن الفائدة المعتدّ بها، ويجب تنزيه كلام الحكيم عنه.

وأيضاً لا يخلوا إما يكون المراد إيجاب السعي ولو في العمرة مرة، أو إيجابه على سبيل العموم، أو إيجابه عند حضور الامام أو نائبه لا سبيل الى الأول إذ ظاهر أن المسلمين متفقون على أن ليس المراد من الآية إيجاب السعي مطلقاً، بحيث يتحقق بالمرة، بل أطبقوا على أن المراد بها التكرار. ولا سبيل الى الثالث لكونه خلاف الظاهر من اللفظ إذ لا دلالة للفظ عليه، ولا قرينة تدل عليه، فالعدول عن الظاهر إليه يحتاج الى دليل واضح فثبت الثاني وهو المطلوب.

وأيضاً الخطاب عام بالنسبة الى جميع المؤمنين، سواء تحقق الشرط المدعى بالنسبة إليه أم لا، فعلى تقدير تجويز أن لم يكن المراد بالآية التكرار يلزم إيجاب السعي على من لم يتحقق الشرط بالنسبة إليه ولو مرة ويلزم منه الدوام والتكرار لعدم القائل بالفصل.

(الثاني) أن الخطاب إنما يتوجه الى الموجودين عند المحققين ولا يشمل من سيوجد إلا بدليل خارج، وليس إلا الاجماع وهو لا يجري في موضع الخلاف

والجواب: أن التحقيق أن الخطاب يتوجه الى المعدومين بتبعية الموجودين اذا كان في اللفظ ما يدل على العموم كهذه الآية وقد حقق في محله والاجماع على عدم اختصاص الأحكام بزمانه لم يتحقق على كل مسألة حتى يقال لا يجري في موضع الخلاف، بل على هذا المفهوم الكلي مجملاً، وإلا فلا يمكن الاستدلال

٥٨

بالآيات ولا بالأخبار على شيء من المسائل الخلافية إذا ورد بلفظ الخطاب، وهذا سفسطة.

مع أن الأخبار المتواترة تدل على عدم اختصاص أحكام القرآن والسنة بزمان دون زمان، وأن حلال محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم حلال الى يوم القيامة، وحرامه حرام الى يوم القيامة.

(الثالث) أن الأمر معلق على الأذان فمن أين ثبت الوجوب مطلقاً ؟

والجواب: أنه يلزم بصريح الآية الايجاب مع تحقق الأذان، ويلزم منه الايجاب مطلقاً، مع أنا قد قدمنا أن الظاهر أن المراد دخول وقت النداء.

واعترض عليه بوجوه سخيفة اخرى، وبعضها يتضمن الاعتراض على اللّه تعالى، إذ لم يرتب متتبع في أن الآية إنما نزلت لوجوب صلاة الجمعة والحث عليها، فقصورها عن إفادة المرام يؤول الى الاعتراض على الملك العلّام، ويظهر الجواب عن بعضها مما قررنا سابقا في تفسير الآيات.

ثم إن أمثال تلك الاعتراضات إنما يحسن ممن لم يستدل في عمره بآية ولا خبر على حكم من الأحكام، وأما من كان دأبه الاستدلال بالظواهر والابهامات على الأحكام الغريبة لا يليق به تلك المناقشات، وهل يوجد آية أو خبر لا يمكن المناقشة في الاستدلال بها بأمثال ذلك !

ومن العجب أنهم يقولون: ورد في الخبر أن الذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فيمكن أن يكون المراد به هنا السعي اليه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا يعرفون أن الأخبار الواردة في تأويل الآيات وبطونها لا ينافي الاستدلال بظاهرها فقد ورد في كثير من الأخبار أن الصلاة رجل، والزكاة رجل وأن العدل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والاحسان أمير المؤمنين عليه السلام.. وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى، وشيء منها لا ينافي العمل بظواهرها والاستدلال بها، وقد حققنا معانيها وأشبعنا الكلام فيها في تضاعيف هذا الكتاب، واللّه الموفق للصواب.

٥٩

الثاني: تدل الآية على شرعية الأذان لتلك الصلاة، وقد مر الكلام فيه، والمشهور أن الأذان إنما يؤتى به بعد صعود الامام المنبر. قال في مجمع البيان في قوله تعالى(واذا نودي) أي أذا اذّن لصلاة الجمعة وذلك اذا جلس الامام على المنبر يوم الجمعة، وذلك لأنه لم يكن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نداء سواه

قال السائب بن يزيد: كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مؤذنان أحدهما بلال فكان اذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فاذا أذن أقام للصلاة ثم كان أبوبكر وعمر كذلك حتى اذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق يقال له الزوراء وكان يؤذن عليها، فأذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه، فاذا نزل أقام للصلاة(١) انتهى، ولذا حكم أكثر الأصحاب بحرمة الأذان الثاني وبعظهم بالكراهة.

واختلفوا في أن الحرام أو المكروه هل الثاني زماناً أو وضعاً ؟

ويدل على استحباب كون الأذان بعد صعود الامام المنبر، ما رواه الشيخ عن عبد اللّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اذا خرج الى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ المؤذنون(٢) .

لكن تعارضه حسنة إبراهيم بن هاشم عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الجمعة فقال: بأذان وإقامة، يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر(٣) الخبر.

وهذا يدل على استحبابه قبل صعود الامام، كما ذهب اليه أبو الصلاح حيث قال، أذا زالت الشمس أمر مؤذنيه بالاذان فاذا فرغوا منه صعد المنبر فخطب(٤) . والأول مؤيد بالشهرة، ويمكن حمل الثاني على التقية. والتخيير لا يخلو من قوة

______________________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٢٨٨.

(٢) التهذيب: ج ٣ ص ٢٤٤ ح ٤٥.

(٣) الكافي: ج ٣ ص ٤٢٤ ح ٧ وفيه «عن حريز عن محمد بن مسلم».

(٤) الكافي في الفقه: ص ١٥١.

٦٠