نهج البلاغة الجزء ١

نهج البلاغة0%

نهج البلاغة مؤلف:
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 250

نهج البلاغة

مؤلف: محمد عبده
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 78863
تحميل: 2610


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78863 / تحميل: 2610
الحجم الحجم الحجم

عارضة(1) ، ولا اعتورته فى تنفيذ الأمور وتدبير المخلوقين ملالة ولا فترة(2) بل نفذ فيهم علمه وأحصاهم عدّه ، ووسعهم عدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.

اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، والتّعداد الكثير(3) إن تؤمّل فخير مؤمّل ، وإن ترج فأكرم مرجوّ. اللّهمّ وقد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك ، ولا أثنى به على أحد سواك ، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الرّيبة(4) وعدلت بلسانى عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ ولكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة(5) من جزاء ، أو عارفة من عطاء ، وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة. اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذى هو لك ، ولم ير مستحقّا لهذه المحامد والممادح غيرك ، وبى فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ، ولا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك(6) ، فهب لنا فى هذا المقام رضاك ، وأغننا عن مدّ الأيدى إلى سواك ، إنّك على كلّ شىء قدير.

__________________

(1) هى ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله

(2) اعتورته : تداولته وتناولته

(3) المبالغة فى عد كمالاتك إلى ما لا ينتهى

(4)هم المخلوقون

(5)ثواب وجزاء

(6)الخلة ـ بالفتح ـ : الفقر ، والمن : الاحسان

١٨١

90 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضى اللّه عنه

دعونى والتمسوا غيرى فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول(1) وإنّ الآفاق قد أغامت(2) ، والمحجّة قد تنكّرت ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتمونى فأنا كأحدكم ولعلّى أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا.

91 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد أيّها النّاس ، فأنا فقأت عين الفتنة(3) ولم تكن ليجرؤ عليها أحد

__________________

(1) لا تصبر له ولا تطيق احتماله

(2) أغامت : غطيت بالغيم ، والمحجة : الطريق المستقيمة. و «تنكرت» أى : تغيرت علائمها فصارت مجهولة ، وذلك أن الأطماع كانت قد تنبهت فى كثير من الناس ، على عهد عثمان رضى اللّه عنه ، بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم ـ فيما بعد ـ أن يكونوا فى مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه ، وطلبوا طائشة الفتنة ، طمعا فى نيل رغباتهم ، وأولئك هم أغلب الرؤساء فى القوم ، فان أقرهم الامام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما ، وخالف شرعا ، والناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالنصفة : إن لم ينالوها تحرشوا للفتنة ، فأين المحجة للوصول إلى الحق على أمن من الفتن؟؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرس به قبلها

(3) شققتها وقلعتها : تمثيل لتغلبه عليها ، وذلك كان بعد انقضاء أمر النهروان وتغلبه على الخوارج

١٨٢

غيرى بعد أن ماج غيهبها(1) واشتدّ كلبها(2) فاسألونى قبل أن تفقدونى ، فو الّذى نفسى بيده لا تسألونى عن شىء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدى مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها(3) وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ويموت منهم موتا ، ولو قد فقدتمونى ونزلت بكم كرائه الأمور(4) وحوازب الخطوب(5) لأطرق كثير من السّائلين ، وفشل كثير من المسئولين ، وذلك إذا قلصت حربكم(6) وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم ، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت(7) وإذا أدبرت نبّهت(8) : ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرّياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا ، ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بنى أميّة ، فإنّها

__________________

(1) الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها

(2) الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عضته أصيب به فجن ومات ، شبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا أهلكته

(3) ناعقها : الداعى إليها ، مأخوذ من «نعق بغنمه» : إذا صاح بها لتجتمع

(4)الكرائه : جمع كريهة

(5)الحوازب : جمع حازب ، وهو الأمر الشديد ، تقول : «حزبه الأمر» إذا اشتد عليه

(6)قلصت ـ بتشديد اللام ـ تمادت ، واستمرت ، وبتخفيفها : وثبت

(7) اشتبه فيها الحق بالباطل.

(8) لأنها تعرف بعد انقضائها ، وتكشف حقيقتها فتكون عبرة

١٨٣

فتنة عمياء مظلمة : عمّت خطّتها(1) وخصّت بليّتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها(2) وأخطأ البلاء من عمى عنها ، وايم اللّه لتجدنّ بنى أميّة لكم أرباب سوء بعدى كالنّاب الضّروس(3) : تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم أو غير ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه والصّاحب من مستصحبه(4) ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة(5) وقطعا جاهليّة ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى(6) نحن أهل البيت منها بمنجاة(7) ولسنا فيها بدعاة ، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم(8) : بمن يسومهم خسفا(9) ويسوقهم عنفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة(10) لا يعطيهم إلاّ السّيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف(11) ، فعند ذلك تودّ قريش ، بالدّنيا وما فيها ، لو يروننى مقاما

__________________

(1) الخطة ـ بالضم ـ الأمر ، أى : شمل أمرها ، لأنها رآسة عامة ، وخصت بليتها آل البيت ، لأنها اغتصاب لحقهم

(2) من عرف الحق فيها نزل به بلاء الانتقام من بنى أمية

(3) الناب : الناقة المسنة ، والضروس : السيئة الخلق تعض حالبها ، وتعذم : من «عذم الفرس» إذا أكل بخفاء أو عض ، و «تزبن» أى : تضرب ، ودرها : لبنها ، والمراد خيرها

(4)التابع من متبوعه ، أى : انتصار الأذلاء ، وما هو بانتصار

(5)شوهاء : قبيحة المنظر ، ومخشية : مخوفة مرعبة

(6)دليل يهتدى به

(7) بمكان النجاة من إثمها

(8) كما يسلخ الجلد عن اللحم

(9) يلزمهم ذلا ، وقوله «بمن» متعلق بيفرجها

(10) مملوءة إلى أصبارها ، جمع صبر ـ بالضم ، والكسر ـ بمعنى الحرف ، أى : إلى رأسها

(11) من «أحلس البعير» إذا ألبسه الحلس ـ بكسر الحاء المهملة ـ وهو : كساء يوضع فوق ظهره تحت البرذعة ، أى : لا يكسوهم إلا خوفا

١٨٤

واحدا ، ولو قدر جزر جزور(1) لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننى

92 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فتبارك اللّه الّذى لا يبلغه بعد الهمم ، ولا يناله حسن الفطن ، الأوّل الّذى لا غاية له فينتهى ، ولا آخر له فينقضى.

منها فى وصف الأنبياء :

فاستودعهم فى أفضل مستودع ، وأقرّهم فى خير مستقرّ ، تناسختهم كرائم الأصلاب(2) إلى مطهّرات الأرحام ، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف ، حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا(3) وأعزّ الأرومات مغرسا(4) من الشّجرة الّتى صدع منها أنبياءه(5) ، وانتخب منها أمناءه(6) عترته خير العتر(7) وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشّجر ، نبتت فى حرم ، وبسقت فى كرم(8)

__________________

(1) الجزور : الناقة المجزورة ، أو هو البعير مطلقا : والشاة المذبوحة ، أى : ولو مدة ذبح البعير أو الشاة

(2) تناسختهم : تناقلتهم

(3) كمجلس : موضع النبات ينبت فيه.

(4)الأرومات جمع أرومة : وهى الأصل ، والمغرس : موضع الغرس.

(5)صدع فلانا : قصده لكرمه ، أى : اختصهم بالنبوة من بين فروعها ، وهى شجرة إبراهيم عليه السلام

(6)انتخب : اختار

(7) عترته : آل بيته ، وأسرة الرجل : رهطه الأدنون

(8) بسقت : ارتفعت

١٨٥

لها فروع طوال ، وثمرة لا تنال ، فهو إمام من اتّقى ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوءه ، وشهاب سطع نوره ، وزند برق لمعه ، سيرته القصد(1) وسنّته الرّشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، على حين فترة من الرّسل(2) وهفوة عن العمل(3) وغباوة من الأمم ، اعملوا ، رحمكم اللّه ، على أعلام بيّنة ، فالطّريق نهج(4) يدعو إلى دار السّلام وأنتم فى دار مستعتب على مهل وفراغ(5) ، والصّحف منشورة ، والأقلام جارية ، والأبدان صحيحة ، والألسن مطلقة ، والتّوبة مسموعة والأعمال مقبولة

93 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعثه والنّاس ضلاّل فى حيرة ، وخابطون فى فتنة ، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء(6) واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء(7) . حيارى فى زلزال

__________________

(1) الاستقامة

(2) الفترة : الزمان بين الرسولين

(3) هفوة : زلة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر اللّه على ألسنة الأنبياء السابقين

(4)واضح ، قويم ، ويدعو إلى دار السلام : يوصل إليها

(5)مستعتب ـ بفتح التاءين ـ طلب العتبى ، أى : الرضا من اللّه بالأعمال النافعة

(6)استزلتهم : أدت بهم للزلل والسقوط فى المضار ، وتأنيث الفعل على تأويل أن الكبرياء صفة ، وفى رواية «واستزلهم الكبراء» أى : أضلهم كبراؤهم وسادتهم

(7) استخفتهم : طيشتهم ، والجاهلية : حالة العرب قبل نور العلم الاسلامى ، والجهلاء : وصف لها للمبالغة

١٨٦

من الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فى النّصيحة ، ومضى على الطّريقة ، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة

94 ـ و من خطبة أخرى

الحمد للّه الأوّل فلا شىء قبله ، والآخر فلا شىء بعده ، والظّاهر فلا شىء فوقه ، والباطن فلا شىء دونه.

منها فى ذكر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم :

مستقرّه خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت ، فى معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة(1) قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار(2) ، دفن به الضّغائن(3) ، وأطفأ به الثّوائر(4) ، ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا(5) أعزّ به الذّلّة(6) ، وأذلّ به العزّة ، كلامه بيان ، وصمته لسان

__________________

(1) المماهد : جمع ممهد ـ كمقعد ـ ما يمهد ، أى : يبسط ، فيه الفراش ونحوه ، أى : إنه ولد فى أسلم موضع وأنقاه من دنس السفاح

(2) الأزمة ـ كأئمة ـ جمع زمام ، وانثناء الأزمة إليه عبارة عن تحولها نحوه

(3) الأحقاد ، فهو رسول الألفة ، وأهل دينه المتآلفون المتعاونون على الخير ، ومن لم يكن فى عروة الألفة منهم فهو ـ واللّه أعلم ـ خارج عنهم

(4)جمع ثائرة : وهى العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضره إن لم يقتله

(5) وفرق به أقران الألفة على الشرك

(6)ذلة الضعفاء من أهل الفضل المستترين بحجب الخمول ، وأذل به عزة الشرك والظلم والعدوان

١٨٧

95 ـ و من خطبة له عليه السّلام

ولئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه(1) وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشّجى من مساغ ريقه(2) أما والّذى نفسى بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّى. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتى : استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سرّا وجهرا فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغيّاب(3) وعبيد كأرباب؟؟!! أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل البغى فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادى سبا(4) ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ، أقوّمكم غدوة وترجعون إلىّ عشيّة كظهر الحيّة(5) عجز المقوّم ، وأعضل المقوّم(6) .

__________________

(1) لا يذهب عنه أن يأخذه

(2) الشجى : ما يعترض فى الحلق من عظم وغيره ، ومساغ الريق : ممره من الحلق ، والكلام تمثيل لقرب السطوة الالهية من الظالمين.

(3) شهود : جمع شاهد ، بمعنى الحاضر ، وغياب : جمع غائب

(4)قالوا : إن سبا هو أبو عرب اليمن ، كان له عشرة أولاد : جعل منهم ستة يمينا له ، وأربعة شمالا : تشبيها لهم باليدين ، ثم تفرق أولئك الأولاد أشد التفرق

(5)أراد القوس لأنه معوج

(6)أعضل : استعصى ، واستعصب ، وأعيا

١٨٨

أيّها الشّاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلقة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشّام يعصى اللّه وهم يطيعونه؟! لوددت واللّه أنّ معاوية صارفنى بكم صرف الدّينار بالدّرهم ، فأخذ منّى عشرة منكم وأعطانى رجلا منهم ، يا أهل الكوفة ، منيت منكم بثلاث واثنتين : صمّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمى ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللّقاء(1) ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلّما جمعت من جانب تفرّقت من جانب آخر ، واللّه لكأنّى بكم فيما إخال(2) أن لو حمس الوغى ، وحمى الضّراب ، وقد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج المرأة عن قبلها(3) وإنّى لعلى بيّنة من ربّى ، ومنهاج من نبيّى ، وإنّى لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا(4) انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم(5) واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ،

__________________

(1) هاته وما بعدها هما الثنتان ، وما قبلها هى الثلاثة

(2) إخال : أظن ، وحمس ـ كفرح ـ اشتد ، والوغى : الحرب

(3) انفراج المرأة عن قبلها عند الولادة ، أو عند ما يشرع عليها سلاح ، والمشابهة فى العجز والدناءة فى العمل.

(4)اللقط : أخذ الشىء من الأرض ، وإنما سمى اتباعه لمنهاج الحق لقطا لأن الحق واحد ، والباطل الوان مختلفة ، فهو يلتقط الحق من بين ضروب الباطل

(5)السمت ـ بالفتح ـ طريقهم ، وحالهم ، أو قصدهم.

١٨٩

ولن يعيدوكم فى ردى. فإن لبدوا فالبدوا(1) ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا ، لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، فما أرى أحدا منكم يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا(2) وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم(3) ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم ركب المعزى(4) من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف ، خوفا(5) من العقاب ، ورجاء للثّواب.

96 ـ و من كلام له عليه السّلام

واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه(6) ولا عقدا إلاّ حلّوه

__________________

(1) لبد ـ كنصر ـ أقام ، أى : إن أقاموا فأقيموا

(2) شعثا : جمع أشعث ، وهو المغبر الرأس ، والغبر : جمع أغبر ، والمراد أنهم كانوا متقشفين

(3) المراوحة بين العملين : أن يعمل هذا مرة وهذا مرة ، وبين الرجلين : أن يقوم على كل منهما مرة ، وبين جباههم وخدودهم : أن يضعوا الخدود مرة والجباه أخرى على الأرض ، خضوعا للّه وسجودا

(4)ركب : جمع ركبة ، وهى موصل الساق من الرجل بالفخذ ، وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة ، أى : إنهم لطول سجودهم يطول سهودهم ، وكان بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم النوم والاستراحة

(5)مادوا : اضطربوا ، وارتعدوا

(6)الكلام فى بنى أمية ، والمحرم : ما حرمه اللّه ، واستحلاله : استباحته

١٩٠

وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم(1) ونبا به سوء رعيهم(2) وحتّى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكى لدينه ، وباك يبكى لدنياه ، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده : إذا شهد أطاعه ، وإذا غاب اغتابه ، وحتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا ، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا ، وإن ابتليتم فاصبروا ، فإنّ العاقبة للمتّقين

97 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

نحمده على ما كان ، ونستعينه من أمرنا على ما يكون ، ونسأله المعافاة فى الأديان ، كما نسأله المعافاة فى الأبدان. عباد اللّه ، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم ، وإن لم تحبّوا تركها والمبلية لأجسامكم ، وإن كنتم تحبّون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه(3) ، وأمّوا علما(4) فكأنّهم قد بلغوه ، وكم

__________________

(1) بيوت المدر : المبنية من طوب وحجر ونحوها وبيوت الوبر : الخيام

(2) أصله من «نبا به المنزل» إذا لم يوافقه فارتحل عنه ، وإن البيوت يستولى عليها سوء الحكمة فتكون عنها بمنجاة فيخسر العمران ، ولا تتبوأ الحكومة الظالمة إلا خرابا تنعق فيه فلا يجيبها إلا صدى نعيقها

(3) السفر ـ بفتح فسكون ـ جماعة المسافرين ، أى : إنكم فى مسافة العمر كالمسافرين فى مسافة الطريق ، فلا يلبثون أن يأتوا على نهايتها ، لأنها محدودة

(4)أموا : قصدوا

١٩١

عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها(1) حتّى يبلغها ، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه؟ وطالب حثيث يحدوه فى الدّنيا حتّى يفارقها(2) ؟ فلا تنافسوا فى عزّ الدّنيا وفخرها ، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها ، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع ، وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوال وضرّاءها وبؤسها إلى نفاد(3) ، وكلّ مدّة فيها إلى انتهاء ، وكلّ حىّ فيها إلى فناء ، أوليس لكم فى آثار الأوّلين مزدجر(4) وفى آبائكم الأوّلين تبصرة ومعتبر ، إن كنتم تعقلون؟! أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون؟ وإلى الخلف الباقين لا يبقون؟ أولستم ترون أهل الدّنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى : فميّت يبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود(5) وطالب للدّنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه؟؟!! وعلى أثر الماضى ما يمضى الباقى ألا فاذكروا هاذم اللّذّات ، ومنغّص الشّهوات ، وقاطع الأمنيّات ، عند المساورة للأعمال القبيحة(6) واستعينوا اللّه على أداء واجب حقّه ،

__________________

(1) الذى يجرى فرسه إلى غاية معلومة ، أى مقدار من الجرى يلزمه حتى يصل لغايته

(2) يحدوه : يتبعه ، ويسوقه فى بعض النسخ «وطالب حثيث من الموت يحدوه ، ومزعج فى الدنيا عن الدنيا حتى يفارقها ، فلا تنافسوا الخ»

(3) فناء

(4)مكان للانزجار والارتداع

(5)من «جاد بنفسه» إذا قارب أن يقضى نحبه ، كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها

(6) «عند» متعلق باذكروا ، والمساورة المواثبة ، كأن العمل القبيح ـ لبعده عن ملاءمة الطبع الانسانى بالفطرة الالهية ـ ينفر من مقترفه كما ينفر الوحش فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه ، وهو ـ فى غائلته على مجترمه ـ كالضاريات من الوحوش : فهو يثب على مواثبه ليهلكه ، فما ألطف التعبير بالمساورة فى هذا الموضع

١٩٢

وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه.

98 ـ من خطبة له أخرى

الحمد للّه النّاشر فى الخلق فضله ، والباسط فيهم بالجود يده. نحمده فى جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا إله غيره. وأنّ محمّدا عبده ورسوله : أرسله بأمره صادعا(1) ، وبذكره ناطقا ، فأدّى أمينا ، ومضى رشيدا. وخلّف فينا راية الحقّ : من تقدّمها مرق(2) ، ومن تخلّف عنها زهق(3) ، ومن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام(4) بطئ القيام ، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم له رقابكم ، وأشرتم إليه بأصابعكم ، جاءه الموت فذهب به ، فلبثتم بعده ما شاء اللّه ، حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم ويضمّ نشركم(5) فلا تطمعوا فى غير مقبل(6) ولا تيأسوا من مدبر ، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ

__________________

(1) فالقا به جدران الباطل ، فهادمها

(2) خرج عن الدين ، والذى يتقدم الحق هو من يزيد على ما شرع اللّه أعمالا وعقائد يظنها مزينة للدين ومتممة له ، ويسميها بدعة حسنة

(3) اضمحل وهلك

(4)رزين فى قوله : لا يبادر به عن غير روية ، بطىء القيام. لا ينبعث للعمل بالطيش ، وإنما يأخذ له عدة إتمامه ، فاذا أبصر منه وجه الفوز تام فمضى إليه مسرعا وكأنه يصف بذلك حال نفسه كرم اللّه وجهه

(5)يصل متفرقكم

(6)الاقبال والادبار فى الجملتين لا يتواردان على جهة واحدة : فالمقبل بمعنى المتوجه إلى الأمر الطالب له الساعى إليه ، والمدبر بمعنى من أدبرت حاله واعترضته الخيبة فى عمله وإن كان لم يزل طالبا

١٩٣

إحدى قائمتيه(1) وتثبت الأخرى ، وترجعا حتّى تثبتا جميعا. ألا إنّ مثل آل محمّد ، صلى اللّه عليه وآله ، كمثل نجوم السّماء : إذا خوى نجم طلع نجم(2) فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون.

99 ـ ومن خطبة له أخرى

الأوّل قبل كلّ أوّل ، والآخر بعد كلّ آخر ، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له وبآخريّته أن لا آخر له ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان ، والقلب اللسان. أيّها النّاس ، لا يجرمنّكم شقاقى(3) ولا يستهوينّكم عصيانى ، ولا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّى(4) فو الّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، إنّ الّذى أنبّئكم به عن النّبىّ ، صلّى اللّه عليه وآله ، ما كذب المبلّغ ، ولا جهل السّامع. ولكنّى أنظر إلى ضلّيل(5) قد نعق بالشّام ، وفحص براياته(6)

__________________

(1) رجليه

(2) خوى : غاب

(3) لا يكسبنكم ، والمفعول محذوف ، أى : خسرانا ، أى : لا تشاقونى فيكسبكم الشقاق خسرانا ، ولا تعصونى فيتيه بكم عصيانى فى ضلال وحيرة

(4)لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامزا بالانكار لما أقول

(5)ضليل ـ كشرير ـ شديد الضلال مبالغ فى الضلال

(6)من «فحص القطا التراب» إذا اتخذ فيه أفحوصا ـ بالضم ـ وهو مجثمه ، أى : المكان الذى يقيم فيه عند ما يكون على الأرض ، يريد أنه نصب له رايات بحثت لها فى الأرض مراكز

١٩٤

فى ضواحى كوفان(1) . فإذا فغرت فاغرته(2) واشتدّت شكيمته(3) وثقلت فى الأرض وطأته ، عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها ، وماجت الحرب بأمواجها ، وبدا من الأيّام كلوحها(4) ومن الليالى كدوحها(5) فإذا أينع زرعه(6) وقام على ينعه(7) وهدرت شقاشقه ، وبرقت بوارقه ، عقدت رايات الفتن المعضلة وأقبلن كالليل المظلم ، والبحر الملتطم ، هذا ، وكم يخرق الكوفة من قاصف(8) ويمرّ عليها من عاصف ، وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون(9) ويحصد القائم ، ويحطم المحصود

100 ـ ومن كلام له

يجرى مجرى الخطبة

وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب(10) وجزاء

__________________

(1) هى الكوفة ، أى : إنه كاد يصل الكوفة حيث إن راياته انتشرت على بعض بلدان من حدودها ، وهو ما أشار إليه بالضواحى

(2) فغر الفم ـ كمنع ـ انفتح ، وفغرته. فهو لازم ومتعد أى : إذا انفتحت فاغرته ، وهى فمه

(3) الشكيمة : الحديدة المعترضة فى اللجام فى فم الدابة ، ويعبر بقوتها عن شدة البأس وصعوبة الانقياد

(4)عبوسها

(5)جمع كدح ـ بالفتح ـ وهو الخدش ، وأثر الجراحات

(6)نضج ، وحان قطافه

(7) حالة نضجه

(8) هو ما اشتد صوته من الرعد والريح وغيرهما ، والعاصف : ما اشتد من الريح ، والمراد مزعجات الفتن

(9) يكون الاشتباك بين قواد الفتنة وبين أهل الحق كما تشتبك الكباش بقرونها عند النطاح ، وما بقى من الصلاح قائما يحصد ، وما كان قد حصد يحطم ويهشم ، فلا يبقى إلا شر عام وبلاء تام ، إن لم يقم للحق أنصار

(10) نقاش الحساب : الاستقصاء فيه

١٩٥

الأعمال ، خضوعا ، قياما ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متّسعا ومنه : فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة(1) ولا تردّ لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة ، يحفزها قائدها ، ويجدّها راكبها ، أهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم(2) ، يجاهدهم فى سبيل اللّه قوم أذلة عند المتكبّرين ، فى الأرض مجهولون ، وفى السّماء معروفون ، فويل لك يا بصرة عند ذلك ، من جيش من نقم اللّه لا رهج له ، ولا حسّ(3) ، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر ، والجوع الأغبر.

__________________

(1) لا تثب لمعارضتها قائمة خيل ، وقوائم الفرس : رجلاه ، أو أنه لا يتمكن أحد من القيام لها وصدها ، وقوله «مزمومة مرحولة» قادها وزمها وركبها برحلها أقوام زحفوا بها عليكم ، يحفزونها ـ أى : يحثونها ـ ليقروا بها فى دياركم ، وفيكم يحطون الرحال.

(2) السلب ـ محركة ـ : ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه فى الحرب ، أى : ليسوا من أهل الثروة

(3) الرهج ـ بسكون الهاء ، ويحرك ـ : الغبار ، والحس ـ بفتح الحاء ـ الجلبة والأصواب المختلطة ، قالوا : يشير إلى فتنة صاحب الزنج ، وهو على بن محمد بن عبد الرحيم ، من بنى عبد القيس ، ادعى أنه علوى من ابناء محمد ابن أحمد بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين ، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ فى نواحى البصرة ، وخرج بهم على المهتدى العباسى ، فى سنة خمس وخمسين ومائتين ، واستفحل أمره ، وانتشرت أصحابه فى أطراف البلاد للسلب والنهب ، وملك أبلة عنوة ، وفتك بأهلها ، واستولى على عبادان والأهواز ، ثم كانت بينه وبين الموفق فى زمن المعتمد حروب انجلى فيها عن الأهواز وسلم عاصمة ملكه ، وكان سماها المختارة

١٩٦

101 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها ، الصّادفين عنها(1) ، فإنّها واللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى السّاكن(2) وتفجع المترف الآمن(3) لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرّجال فيها إلى الضّعف والوهن ، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها ، لقلّة ما يصحبكم منها. رحم اللّه امرأ تفكّر فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن(4) وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، وكلّ معدود منقض ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان.

ومنها: العالم من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، وإنّ من أبغض الرّجال لعبدا وكله اللّه إلى نفسه! جائرا عن قصد السّبيل ، سائرا بغير دليل ، إن دعى إلى حرث الدّنيا عمل ، وإن دعى إلى حرث الآخرة

__________________

بعد محاصرة شديدة ، وقتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين ، وفرح الناس بقتله لانكشاف رزئه عنهم

(1) الصادفين : المعرضين

(2) الثاوى : المقيم

(3) المترف ـ بفتح الراء ـ : المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع

(4)فان الذى هو موجود فى الدنيا بعد قليل كأنه لم يكن ، وإن الذى هو كائن فى الآخرة بعد قليل كأنه كائن لم يزل ، فكأنه ـ وهو فى الدنيا ـ من سكان الآخرة

١٩٧

كسل! كأن ما عمل له واجب عليه(1) وكأنّ ما ونى فيه ساقط عنه(2)

ومنها : وذلك زمن لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة(3) : إن شهد لم يعرف ، وإن غاب لم يفتقد ، أولئك مصابيح الهدى ، وأعلام السّرى(4) ليسوا بالمساييح ، ولا المذاييع البذر ، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته ، ويكشف عنهم ضرّاء نقمته. أيّها النّاس ، سيأتى عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه! أيّها ، النّاس ، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يعذكم من أن يبتليكم(5) وقد قال جلّ من قائل : «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَإِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ » قال الشريف : قوله عليه السلام : «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر القليل الشر ، والمساييح : جمع مسياح ، وهو الذى يسيح بين الناس بالفساد والنمائم ، والمذاييع : جمع مذياع ، وهو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها ، والبذر : جمع بذور وهو الذى يكثر سفهه ويلغو منطقه(6)

__________________

(1) ما عمل له هو حرث الدنيا

(2) ونى فيه : تراخى فيه ، وهو حرث الآخرة

(3) نومة ـ بضم ففتح ـ : كثير النوم ، يريد به البعيد عن مشاركة الأشرار فى شرورهم ، فاذا رأوه لا يعرفونه منهم ، وإذا غاب لا يفتقدونه

(4)السرى ـ كالهدى ـ : السير فى ليالى المشاكل ، وبقية الألفاظ يأتى شرحها بعد أسطر لصاحب الكتاب

(5)ليتبين الصادق من الكاذب ، والمخلص من المريب ، فتكون للّه الحجة على خلقه

(6)الذى فى القاموس أن البذور ـ بالفتح ـ كالبذير : هو النمام

١٩٨

102 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ولا وحيا ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم ، يحسر الحسير(1) ويقف الكسير ، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته ، إلاّ هالكا لا خير فيه ، حتّى أراهم منجاتهم ، وبوّأهم محلّتهم ، فاستدارت رحاهم(2) واستقامت قناتهم ، وايم اللّه لقد كنت فى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ، واستوثقت قيادها : ما ضعفت ولا جبنت ، ولا خنت ، ولا وهنت ، وايم اللّه لأبقرنّ الباطل(3) حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.

__________________

(1) من «حسر البعير» كضرب ـ إذا أعيا وكل ، والكسير : المكسور ، أى : إن من ضعف اعتقاده ، أو كلت عزيمته ، فتراخى فى السير على سبيل المؤمنين ، أو طرقته الوساوس فهشمت قوائم همته بزلزال فى عقيدته ، فان النبى صلى اللّه عليه وسلم كان يقيم على ملاحظته وعلاجه حتى بنصل من مرضه هذا ويلحق بالمخلصين ، إلا من كان ناقص الاستعداد ، خبيث العنصر ، فلا ينجع فيه الدواء ، فيهلك

(2) كناية عن وفرة أرزاقهم ، فان الرحا إنما تدور على ما تطحنه من الحب ، أو كناية عن قوة سلطانهم على غيرهم ، والرحا : رحا الحرب يطحنون بها ، والقناة الرمح ، واستقامتها : كناية عن صحة الأحوال وصلاحها

(3) البقر ـ بالفتح ـ : الشق ، أى : لأشقن جوف الباطل : بقهر أهله ، فأنتزع الحق من أيدى المبطلين ، والتمثيل فى غاية من اللطف

١٩٩

103 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

حتّى بعث اللّه محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، شهيدا ، وبشيرا ، ونذيرا ، خير البريّة طفلا ، وأنجبها كهلا ، أطهر المطهّرين شيمة ، وأمطر المستمطرين ديمة(1) فما أحلولت لكم الدّنيا فى لذّتها ، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها(2) إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها(3) قلقا وضينها ، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود(4) ، وحلالها بعيدا غير موجود ، وصادفتموها ، واللّه ، ظلاّ ممدودا إلى أجل معدود ، فالأرض لكم شاغرة(5) وأيديكم فيها مبسوطة. وأيدى القادة عنكم مكفوفة ، وسيوفكم عليهم مسلّطة وسيوفهم عنكم مقبوضة ، الاّ إنّ لكلّ دم ثائرا(6) ولكلّ حقّ طالبا ، وإنّ

__________________

(1) الديمة ـ بالكسر ـ المطر يدوم فى سكون ، والمستمطر ـ بفتح الطاء ـ : من يطلب منه المطر ، والمراد هنا النجدة والمعونة. فالنبى أغزر الناس فيضا للخير على طلابه

(2) جمع خلف ـ بالكسر ـ : وهو حلمة ضرع الناقة

(3) الخطام ـ ككتاب ـ : ما يوضع فى أنف البعير ليقاد به ، والوضين : بطان عريض منسوج من سيور أو شعر يكون للرحل ، كالحزام للسرج ، وجولان لخطام وقلق الوضين : إما كناية عن الهزال ، وإما كناية عن صعوبة القياد ، فان لخطام الجائل لا يشتد على البعير فيجذبه ، وعن قلق الراكب وعدم اطمئنانه ، لاضطراب رحل بقلق الوضين

(4)السدر ـ بالكسر ـ : شجر النبق ، والمخضود : المقطوع شوك ، أو متثنى الأغصان من ثقل الحمل ، والتشبيه غاية فى اللذة

(5)أى : بعد بعثة النبى شغرت لكم الأرض ، أى : لم يبق فيها من يحميها دونكم. يمنعكم عن خيرها

(6)ثأره فهو ثائر ، أى : طلب بدمه ، وقتل قاتله

٢٠٠