الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 76418
تحميل: 4597

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76418 / تحميل: 4597
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

١

٢

الوهمي والحقيقي

في

سيرة عمر بن الخطاب

تأليف عبد الباقي قرنة الجزائري

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين؛

تتعالى بين الحين والحين أصوات تنادي بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وكأنّ المسألة تحتاج إلى إذن من أمين الجامعة العربيّة أو الأمين العامّ للأمم المتّحدة؛ والحقّ أنّه لا ينبغي التّشكيك في تلك الأصوات، لأنّه لا حجر على الفكر ولا احتكار، لكن يبقى لها أن تمرّ بالامتحان، والامتحان وحده هو الذي يميّز الخبيث من الطيّب والصادق من الكاذب. وعليه، فلابدّ من عرض أفكار وأعمال أصحاب تلك الأصوات على المفاهيم والقيم المعنويّة التي لا تختلف فيها المجتمعات البشريّة على اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها. حينها يمكن لنا أن نقول: "إنّ في العالم الإسلامي دعاة يطالبون جادّين بإعادة كتابة التّاريخ الإسلامي من منطلق إيمان شخصيّ يهدف إلى إرضاء ضمير صاحبه، وإرضاء الضّمير يختلف بين شخص وآخر، وقد يصل عند بعض إلى حدّ التّضحية بالنّفس.

إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، والتاريخ الإسلامي يبدأ بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛

لماذا تأخّرت كتابة سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القرن الثاني؟

من كتب التّاريخ الإسلامي؟ وكيف كانت بداية كتابته؟ وهل كان المؤرّخ موضوعيّا نزيها حين يكتب عن مخالفيه؟

لماذا تجاهل المؤرّخون موسى بن جعفرعليه‌السلام والسّنوات الّتي قضاها في غياهب السّجن بينما كان هارون بن المهدي غارقا في عالم النّساء والكأس والعود، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يقولون عن هارون "يحجّ عاما ويغزو عاما"؟

ألم يمجّدوا أبا جعفر المنصور العبّاسي الذي أخاف ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونكّل بهم وشرّدهم في كلّ صوب؟ ومع ذلك تسرّب إلينا وصفه المناسب والتّعريف بحقيقته، فقد قال المقدسي في البدء والتّاريخ في وصف المنصور: «كان أكبر من أبي العبّاس بثماني عشرة سنة وذكروا أنّه كان رجلا أسمر، نحيفا، طويل القامة، قبيح

٥

الوجه، دميم الصّورة، ذميم الخلق، أشحّ خلق الله واشدّه حبّا للدّينار والدّراهم، سفّاكا للدّماء، ختّارا بالعهود، غدّارا بالمواثيق، كفورا بالنّعم، قليل الرّحمة. وكان جال في الأرض وتعرّض للناس، وكتب الحديث وحدّث في المساجد، وتصرّف في الأعمال الدّنيذة والحرف الشّائنة، وقاد القود لأهلها ن وضربه سليمان بن حبيب بالسّياط. وفي الجملة والتّفصيل كان رجلا دنيئا، خسيسا، كريها شرّيرا..» الخ(1) . هذه صفات الخليفة الذي يدعي أنه ينوب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمة!

لماذا وقف المؤرّخون إلى جنب الحاكم ودافعوا عنه حتى حين يخالف الشّريعة الإسلاميّة؟

ما هو موقف الفقهاء من خلفاء زمانهم الذين كانوا يبيتون يستمعون إلى أنغام النّاي والعود وأصوات الغلمان والجواري حتى مطلع الفجر؟

هل كانت حرّيّة الفكر والتّعبير محفوظة للمسلم في دولتي بني أميّة وبني العبّاس المنتسبتين إلى الإسلام؟

لماذا قال المؤرّخون عن أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب (مجوسي) وهو الذي كان في الصّفّ الأوّل بعد تكبيرة الإحرام(2) وقالوا عن قاتل عليعليه‌السلام مجتهد(3) ، وهو الذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشقاها؟!

لماذا لم يتوقّف المؤرّخون عند قضيّة دفن عثمان، فإنّه دفن في مقبرة اليهود ولم يعترض على ذلك أحد من الصّحابة، بل اعترضوا على دفنه مع المسلمين؟ أليس من عادة الأصوليّين أن يعتبروا سكوت الصّحابة وإمضاءهم من الأدلّة التي يعتبرونها شرعيّة وبنون عليها الأحكام؟

مثل هذه الأسئلة هي التي يحقّ لنا طرحها إذا كنّا نرغب فعلا في إعادة كتابة

____________________

(1) البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي، ج 6 ص 90، مكتبة الثّقافة الدينية، بور سعيد، مصر.

(2) لم يكن يسمح لغير المسلم بدخول المسجد على عهد عمر بن الخطاب، ويتضح ذلك من خلال قصة النصراني كاتب أبي موسى الأشعري التي تأتي لاحقا. وإسلام بنت أبي لؤلؤة ثابت.

(3) علما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّى قاتل علي عليه السلام أشقى الآخرين!

٦

التّاريخ بصورة نزيهة لا تمجّد الحاكم، فلقد لعب الحاكم دورا مهمّا في كتمان الحقائق ونشر الأباطيل، وقد بقي ذلك سنّة متوارثة تنتقل من جيل إلى جيل حتّى رأينا العجب في أيّامنا؛ فهذا صدّام حسين زعيم حزب البعث في العراق، الذي حكم شعبه بالحديد والنّار ثلث قرن من الزّمان، مارس فيه أبشع أنواع القتل والتّعذيب، واعتدى على دولتين من دول الجوار فأيتم مئات الآلاف من الأولاد، ورمّل مئات الآلاف من النّساء، وهدم آلاف البيوت ومدنا بمؤسّساتها وبناها التّحتية.. ثمّ فرّ فرار العبيد، وألقي عليه القبض في حفرة ضيّقة لا تصلح إلاّ للجرذان، واستخرج من هناك وقد تغيّرت سحنته ورائحته حتى كان الطّبيب الأمريكيّ الذي فحصه ساعتها يضع قماشا واقيا على أنفه من شدّة ما كان ينبعث من الزّعيم العربي - أقول -: هذا الهارب المختبئ في حفرة تحوّل بعد إعدامه إلى بطل مظلوم يثير ذكره المشاعر، وصار إضافة إلى ذلك (رمزا دينيّا)، وهو الذي كان أيّام حكمه يكفر بالمذاهب كلّها والأديان كلّها طالما سلم له دين البعث ونبيّه ميشيل عفلق! تحوّل هذا الشّخص بجرائمه إلى بطل يبكي عليه الخطباء في المساجد!

إذا كان هذا شأن ما جرى أمام أعيننا، فكيف نثق بما وصل إلينا عن طريق مؤرّخين تهتزّ قلوبهم للدّينار ولا تبالي بالمأثم والعار؟

ألم يكن جعفر المتوكّل العبّاسي مدمنا على الخمر ليله ونهاره وهو على سدّة الخلافة، حتى قتل وهو على مائدة الخمر سكران لا يعقل؟! ومع ذلك قالوا عنه (مظهر السّنّة)(1) !

ألم يقل أحمد بن حنبل (إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على إسماعيل ابن علية فإنّه أدخل عليه فقال له: يا ابن الفاعلة أنت الذي تقول كلام الله مخلوق)(2) ؟

____________________

(1) قال السيوطي في وصف المتوكّل العباسي:

وذو التوكل ما أزكاه من خلف

ومظهر السنّة الغرّاء إذ نصرا

في عام سبع يليها أربعون قضى

قتلا حباه ابنه المدعوّ منتصرا

فلم يقم بعده إلا اليسير كما

قد سنّه الله فيمن بعضه غدرا

(2) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج 1 ص 303.

٧

علما أنّ الأمين هذا كان لا يصحو من السّكر حتّى قال شاعرهم عند قتله:

لم نبكيك لماذا للطرب

يا أبا موسى وترويج اللّعب

ولترك الخمس في أوقاتها

حرصا منك على ماء العنب(1)

لم تبدأ كتابة سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ في دولة العبّاسيين، لماذا؟ هل كان هناك رقابة شديدة، أم أنّ المسلمين لم يكونوا يهتمّون بسيرة نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور؟ لعلّ جواب ذلك يكمن في قول ابن هشام الحميريّ مهذّب سيرة ابن إسحاق حيث قال: (وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأوّل فالأوّل، من إسماعيل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، ممّا ليس لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشّعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره، وبعض لم يقرّ لنا البكّائيّ بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به(2) .

إذاً، هناك في تاريخ المسلمين أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره ولأجل أن يبدو التّاريخ رائقا رائعا لابدّ من كتمانها وإخفائها عن النّاس! لابدّ من حذفها من الكتب والرّوايات أو تحريفها بطريقة تجعل أصحاب اليمين على الشّمال وأصحاب الشّمال في اليمين! لابدّ من وأدها حيّة تتنفّس حتى لا تعرّض صور الخلفاء والزّعماء للتّشويه فتصبح قاتمة بعد أن كانت برّاقة لماعة.

____________________

(1) تاريخ الطبري، ج 5 ص 105 و تاريخ الإسلام، ج 13 ص 64 وتاريخ الخلفاء، ج 1 ص 301 وسمط النجوم العوالي ج 3 ص 435.

(2) السيرة النبوية، ابن هشام، ج 1، ص 5.

٨

هذا الكلام كرّره الذهبيّ بعد قرون من رحل ابن هشام، في عبارة يبدو فيها الذّهبي بشكل الحريص على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم. قال الذّهبي في معرض الحديث عن طعن الأقران: قال: (وما زال يمرّ بي الرّجل الثّبت وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة [!]، فبعض الصّحابة كفّر بعضهم بتأويل ما، والله يرضى عن الكلّ ويغفر لهم، فما هم بمعصومين، و ما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلا، وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحا في الطاعنين، فانظر إلى حكمة ربك نسأل الله السلامة، وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعنا ويعامل الرجل بالعدل والقسط(1) .

قال: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنّه غلط نادر لا يضرّ أبدا إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى)(2) .

ولا أدري من هو الذي طوى بساط الصّحابة، ومتى وأين كان ذلك؟ وليت الذهبيّ بيّن ذلك، فإنّ القرآن الكريم يهتف:( وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) .

وقال: (كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهمرضي‌الله‌عنه أجمعين. وما زال يمرّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا؛ فينبغي طيّه وإخفاؤه، بل إعدامه [!] لتصفو القلوب وتتوفّر على حبّ الصّحابة والتّرضّي عنهم،

____________________

(1) الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج 1 ص 24.

(2) الرواة الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج 1 ص 24.

٩

وكتمان ذلك متعيّن عن العامّة وآحاد العلماء، وقد يرخّص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العريّ من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى(1) .

يقول الذهبيّ: يجب أن يكتم ما جرى بين الصّحابة عن النّاس! بل عن العلماء أيضاً! بل ويجب أن يعدم من الوجود!! فالله وحده يعلم كيف تصرّف الذهبي مع الروايات، وكم دفن من الحقائق باسم الإسلام والحفاظ على سلامة منزلة الصّحابة في قلوب الأجيال؟!! والله أعلم إن كان الإسلام يجيز هذا الذي يدعو إليه الذهبي.

وهو يقول: (كما علّمنا الله تعالى)، ولا شكّ أنّ الله تعالى قد علّمنا الاستغفار، ولكن حاشا لله أن يكون علّمنا كتمان الحقّ لأجل تبييض وجوه سوّدتها المعاصي وتسويد وجوه نوّرتها الطاعات، وهو القائل في كتابه الكريم:( وَلاَ تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) .

في تاريخنا أحداث ووقائع ثابتة تلاعبت بها أيدي المتأوّلين والمصوّبين وأهل الأهواء ن الذين يدّعون أنّهم أشدّ حرصا على الإسلام من الإسلام نفسه، ومن حرصهم على الإسلام منحوا الصّحابة حصانة دبلوماسيّة تجعلهم فوق كل اعتبار دنيا وآخرة ن وأدخلوهم الجنّة قبل أن تفتّح أبوابها ح فهم لا يسألون عمّا يفعلون، وليس في أعمالهم إلاّ الحسنات، و (اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم)(2) . وعلى هذا تكون كلّ أعمالهم خيرا، حتّى لو كان الشرّ يقطر منها وكنّا ندفع ضريبة ذلك الشّرّ في كلّ دقيقة من حياتنا.

فالخليفة عمر بن الخطّاب العدويّ كان همّه الفرار في المعارك التي شهدها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفرار من الزّحف معدود من الكبائر في الإسلام، ومن الفقهاء من لا يجيز شهادة من فرّ من الزّحف(3) ؛ ولكن كي يبقى عمر بن الخطّاب فوق كلّ

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 10 ص 92.

(2) صحيح البخاري، ج 5 ص 2264 والمستدرك على الصحيحين، ج 4 ص 87 وفيض القدير، ج 2 ص 212 ومجموع الفتاوى، ج 4 ص 460 وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ج 1، ص 97 وشعب الإيمان، ج 7 ص 39.

(3) قال القرافي في الذخيرة ج 3، ص 411 (قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة الفارّ من الزّحف وإن فرّ إمامه، وإن بلغ

١٠

اعتبار ينبغي تجاوز فراراته المتكرّرة، ومنع الحديث عنها، والصّرامة في معاقبة كلّ من تسوّل له نفسه فتح ذلك الملفّ! فعمر بن الخطّاب القرشيّ رغم أنّه فرّ أكثر من مرّة من ساحة الحرب يبقى شجاعا! ورغم خذلانه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخلّيه عنه وتركه إيّاه بين الأعداء يبقى وفيّا! ورغم تهديده بتحريق بيت فاطمة عليها السلام يبقى معظّما لحرمة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولهذا توقّف ابن هشام عند وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يفصّل بصورة نزيهة فيما حدث بين الصّحابة في ذلك اليوم والأيّام التي أعقبته. وما يصدق في حقّ عمر بن الخطّاب يصدق في حقّ أبي بكر بن أبي قحافة أيضا، فإنّهما كانا على موجة واحدة.

وللصّحابة حرمتهم ما داموا في ركاب الدّولة القرشيّة الحاكمة. أمّا من لم يكن متناغما معها فلا حرمة له. فهذا مالك بن نويرة الصّحابي الذي شهد له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من أهل الجنّة وعيّنه على صدقات قومه لم يرض بلعبة السّقيفة ولم يدخل فيها، فحكم عليه المؤرخون بالرّدة عن الإسلام، وعتّموا على شهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له، ونام خالد بن الوليد في فراش مالك بن نويرة في نفس اللّيلة التي قتله فيها، وتقلب بين أحضان الأرملة التي كانت في عدّتها إن كانت مسلمة، وقالوا عن ذلك إنه اجتهاد وتأويل! (ارفع لسانك عن خالد فإنه تأوّل فأخطأ)!

وكذلك شأن الصّحابي الجليل أبي ذرّ الغفاريرضي‌الله‌عنه ، فإنه لم يكن منسجما مع الدّولة الحاكمة في أيّامه، خصوصا بعدما رأى يهوديا اسمه كعب الأحبار يعتلي منصب المفتي والمستشار الأوّل في الدّولة بعد إزاحة عبد الرحمن بن عوف قبيل وفاته(1) . لم يتحمّل أبو ذرّرضي‌الله‌عنه ذلك الوضع فأعلن ثورته على الانحراف بشتّى

____________________

عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولّي وإن كان العدوّ زائدا على الضّعف لقوله لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة؛ فهذا الحديث مخصّص للآية عند أكثر العلماء). وفي منح الجليل (والفرار المحرّم من الكبائر فتسقط العدالة به فلا تقبل شهادة الفار إلا أن يتوب) منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل. تأليف: محمد عليش ج 3 ص 153: دار الفكر، بيروت 1409 هـ - 1989 م.

(1) قال أبو ذرّ لمن حضر وفاته: (... أتسمعون؟ لو كان لي ثوب يسعني كفنا لم أكفن به إلا في ثوب هو لي او ثوب يسعني كفنا غلا في ثوبها؛ فأشدكم الله والإسلام أن يكفّنني رجل منكم أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريد!) فكلّ

١١

أقسامه ن ولم تنفعه سابقته في الإسلام ولا طول صحبته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان مصيره النّفي إلى صحراء الرّبذة حيث مات منفيّا، وجاء المؤرّخون الحريصون على سمعة الصّحابيّ الحاكم فقالوا: اختار أبو ذرّ الانتقال إلى الرّبذة من تلقاء نفسه غير مكره!! ويبقى الباثح متحيّرا في شأن رجل يختار على كبر سنّه مكانا قاحلا مثل الرّبذة، فيكون بذلك أشبه بالمتعرّب بعد الهجرة إن لم يكنه فعلا؛ لكن أخبارا تسرّبت رغم الرّقابة الشّديدةتكشف بوضوح أنّ أبا ذررضي‌الله‌عنه كان قد أكره على الانتقال إلى الرّبذة، وأن الإبعاد من المدينة كان سيرة الدّولة وسياستها مع كل من تسوّل له نفسه المعارضة وقول (لا).

في أيّامنا تمارس عمليّة تزييف التّاريخ بطريقة مشابهة من حيث المضمون مختلفة من حيث الشّكل، وتتبنّى ذلك قنوات فضائيّة وشبكات الكترونيّة وإذاعات وجرائد ومجلاّت و..! إنّها تختلف عمّا كان يجري أيّام الخلفاء إذ لا خليفة ولا خلافةاليوم؛ لكنّها تقتفي أثر أولئك في تمجيد الحاكم واستهجان المعارض. وما يثير اشمئزاز النّفوس الحرّة هو إشراك المشاهد والمستمع في عمليّة التّحريف. يتّصل أشخاص متّفقون سابقا مع مقدّمي البرامج ليستعرضوا عضلاتهم ويوهموا المتابعين أنّ الأمر كما يقولون، وأنّ كل رواية تخالف روايتهم فهي إمّا وهم أو تحريف. تماما كما زعم الكرخيّ الحنفيّ في قوله المشهور كلّ ما ليس عليه أصحابنا من آية أو حديث فهو إمّا منسوخ او مؤوّل(1) .

تلكم القنوات والإذاعات والمواقع الإلكترونيّة تطرح القضايا والوقائع كأنّها مسلّمات، ثمّ تبدأ في نقاش الحيثيّات والنتائج والآثار، وقد أعفت نفسها من مسؤولية

____________________

القوم قد كان قارف بعض ذلك إلاّ فتى قال أنا أكفّنك فغنّي لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفّنك في ردائي هذا الذي علي وفي عيبتي من غزل أمّي حاكتهما لي قال: (انت فكفّني). قال فكفّنه الأنصاري والنّفر الّذين شهدوه فيهم جحش بن الأدبر ومالك بن الأشتر في نفر كلّهم يمان. (المنتظم، ابن الجوزي، ج 4 ص 347). وهذا يعني أنّ أبا ذرّ لم يكن يستحلّ الكفن من دولة عثمان، أي أنّه لم يكن يعتبرها دولة إسلاميّة.

(1) أزمة الفكر السياسي في الإسلام، د. عبد الحميد متولي: ص 36، وفقه السنة، سيد سابق: ج 1، ص 10. وعبارة سيد سابق في فقه السنة كما يلي: وقد بلغ الغلوّ في الثقة بهؤلاء الأئمّة حتى قال الكرخي وهو حنفي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.

١٢

البحث؛ وهذا خطأ علميّ كبير، لأنّ ما يختلف فيه النّاس لا يصحّ اعتباره مسلّما، والتّسليم في هذه الحال يكون في صالح طرف لكنّه يضرّ بجهود كلّ باحث ومحقّق مخالف لذلك الطّرف؛ وهذا النّوع من اعتبار ما يطرحه المتحدّث صحيحا وفرضه على الطّرف المقابل هو ما يعبّرون عنه بالتّحكّم، وهو باطل في نظر العقلاء. وعليه ينبغي لكلّ من ينشد الحقيقة أن يبتعد عن مثل تلك الطّريقة في الطّرح، بل عليه ألا يقدّم شيئا إلاّ بعد التأكّد من قبول الطرف الآخر له واعتباره إيّاه صحيحا، حتى يكون البحث موضوعيّا نزيها مثمرا مفيدا. ومع بالغ الأسف فإنّ المغالطة صارت هي القاعدة في خطاب الفضائيّات، ولم يعد يسلم من ذلك إلا ما يورده المعارضون من ضيوف البرامج أو المتّصلين من بعيد. ويمكن القول إنّ بعض الفضائيات (النفطيّة) صارت تمارس التملّق علنا من خلال ما تعرضه على المشاهد من أمور وقضايا تهدف قبل كل شيء إلى النّفخ في الحاكم ليظهر بصورة البطل وتشويه المعارض ليظهر بصورة الخائن! ولله في خلقه شؤون.

السيرة مأخوذة من السير(1) ، وعليه فسيرة الرّجل تعني كلّ ما أثر عنه وما جرى له في حياته، خيرا كان أو غيره؛ وقد اهتمّت الأمم بسير ملوكها وعلمائها وكلّ من له تأثير في تاريخها ن وكان العرب قبل الإسلام يحفظون سير الملوك والصّعاليك والشعراء وغيرهم، لكن الرّواية لم تكن تسلم من الإضافة والحذف لعوامل تعود إلى طبيعة التّقليد الموروث في بيئة العرب، وهو ما يمتزج بالعداوات والإحن والتّنافس بين القبائل، وقد يصل أحيانا إلى الافتراء على الطّرف الآخر مع القطع ببراءته، لأنّ الكذب وإن كان قبيحا إلاّ أنه لم يكن بمنزلة الحرام والإثم في الدّين، وبين الاعتبارين فرق كبير؛ وقد يرسخ أقوام في الدّناءة بحيث لا يضرّهم تعاطي الكذب باستمرار..

____________________

(1) قال الرازي: (قال صاحب الكشاف: السيرة من السير كالركبة من الركوب، يقال سار فلان سيرة حسنة، ثمّ اتّسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة). (التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج 22 ص 26).

١٣

جاء الإسلام وجاءت معه مادّة للسّيرة والتّاريخ، تتجاوز التّرف الفكري وسمر الليل وتفاخر القبائل إلى طلب التأسّي والاقتداء بالنّبي الجديد الذي نشأ في بلاد العرب، وأسّس دولةلم يعرف العرب مثلها في بلادهم فيما سبق، ودعا إلى قيم ومثل تتنافس الحضارات الإنسانيّة في ادّعاء ما هو دونها. لكن مع بالغ الأسف لم تكتب سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بعد رحيله بأكثر من قرن، كما وقع للمسيحيّين تماما، وتداولت الأيدي تلك السّيرة فتعرّضت للمبضع والمقصّ، وجرى عليها من التّشريح ما جرى، فحذف منها ما حذف وأضيف إليها ما أضيف، ووصلت إلينا مخيطة حسب الطّلب، حسب ذوق العامة ومواج الحاكمين.

وقد ارتأى علماء المسلمين أن يقرنوا سيرة الصّحابة بسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها في نظرهم مفسّرةلها، وكاشفة لكثير مما قد يخفى بدونها، ولأنّ الصّحابة هم الذين بلّغوا الدّين بعد وفاة خاتم النّبيين (!)، فزعموا أنّهم جيمعا عدول، وأنّ الله تعالى لن يحاسبهم على ما يحاسب عليه غيرهم من أهل القبلة، وأنّ أهل بدر مغفور لهم الكبير والصّغير، وأن الله تعالى قال لهم: اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم!

غير أنّ تلك المزاعم يفنّدها القرآن الكريم بآيات محكمات تضع الصّحابة في المواضع اللاّئقة بهم على قدر معتقداتهم وأعمالهم، فمنهم مؤمن، ومنهم منافق، ومنهم من خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، ومنهم الذين في قلوبهم مرض، ومنهم من شهد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يموت على غير ملّة الإسلام..

لأجل هذا التّضارب بين ما يقوله القرآن الكريم، وبين ما ارتآه قسم كبير من علماء المسلمين، تعيّن البحث في أحوال الصّحابة فردا فردا، والنّظر في معتقداتهم وأعمالهم، ليلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آمن وبقي على الإيمان إلى أن خرج من الدّنيا، ويفصل من انحرف وبدّل ومات مصرّا على الانحراف والتّبديل. هذا هو الموقف الذي ينسجم مع القرآن الكريم، فإنّ المؤمن بالقرآن الكريم لا يفرّق بين أحد من رسل الله تعالى، ولم يذكر القرآن الكريم أنّ صحابة أحد الأنبياء فيما سبق

١٤

كانوا جميعا عدولا مغفورا لهم كل ما يأتون، بل إنّ النبوّة والزّوجيّة وهما أولى وأقرب من الصّحبة لم تنفعنا أبناء وأزواج الأنبياء(1) ، لأنّ العبرة بالإيمان والعمل الصّالح لا بالأنساب والأسباب. وقد ثبتت في التّراث الإسلاميّ روايات وأخبار تفيد أنّ عددا كبيرا ممّن عاصروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تؤول خاتمتهم إلى خير، بل يكونون من أهل النّار ويتبرّأ منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم بدّلوا وارتدّوا على أدبارهم القهقرى. روى البخاريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي؛ فيقول: غنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن ابن شهاب عن ابن المسيب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي؛ فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، غنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن الزهري، كان أبو هريرة يحدّث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجلون، وقال: عقيل فيحلؤون. وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: بينا أنا نائم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! فقلت: أين؟ قال إلى النّار والله؛ قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! قلت: أين؟ قال: إلى النّار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى! فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم(1) ؛ وفي رواية مسلم (فإيّاي لا يأتينّ أحدكم فيذبّ عنّي كما يذبّ البعير الضّال فأقول فيم هذا؟فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ فأقول سحقا)(2) .

فهذا يفيد أنّ من الصّحابة من يدخل النّار، وقوله (ارتدّوا على أدبارهم) صريح في إثبات ردّتهم، وقوله لا يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم جدير بالتّأمل والتدبّر

____________________

(1) إشارة إلى امرأة نوح وامرأة لوط، وابن آدم الذي قتل آخاه، وابن نوح الذي كان من المغرقين.

(2) صحيح البخاريّ، ج 5، ص 2407. الأحاديث: 6213 و 6214 و 621.

١٥

لكلّ باحث عن الحقّ. والذي يحسم المسألة هو البحث في أحوال الأشخاص وسيرتهم أيّام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده، فإنّ من كان مستقيما في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرّ على استقامته حقيق بحسن الخاتمة ولا يخلف الله وعده؛ أمّا من حاد عن الطّريق، وجانب الصّواب، ومات مصرّا على مخالفة أقوال وأفعال وتقريرات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا ينفعه أن يزكّيه من يزكّيه، لأنّ العبرة بالمعايير القرآنية لا بالأمزجة والأذواق، والقرآن الكريم يقول:( فَمَن نَكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَى‏ نَفْسِهِ ) .

وقد اختلف المسلمون في قضيّة الصّحابة إلى تيّارين متقابلين يختلفان في مسألة الصّحبة وما يترتّب عليها؛ وأصل الاختلاف ناشئ عن تدخّل السّلطات الحاكمة عبر تاريخ الأمّة في كلّ صغير وكبير من شؤون الحياة، وإن كانت تلك السّلطات من ناحية الالتزام بعيدة كلّ البعد عن احترام الشّريعة والتقيّد بأحكامها. كان أولئك الحكّام يشجّعون ويوقّرون ويظّمون كلّ من يحارب المعارضة نيابة عنهم، فيضفون عليه من الألقاب ما لا يناله بكدّ، ويبسطون إليه أيديهم بالعطاء والشّفاعة، فلا يردّ له طلب، ولا يعلو صوته صوت. أمّا من يشكّك في صلاحيّتهم للحكم، ولو بالأدلّة التي لا تقبل الجدل، فإنّما هو زنديق مارق من الدّين، يريد شقّ عصا المسلمين وتفريق الجموع وتشتيت الصّفوف، قد اتّبع غير سبيل المؤمنين، وحكم من يتّبع غير سبيل المؤمنين معلوم!

اختلف المسلمون في مسألة الصّحابة لأنّ قسما كبيرا من الصّحابة نكثوا عهدهم مع الله ورسوله بخصوص أهل البيت عليهم السلام، فقد ورد الأمر بالصّلاة عليهم في كلّ صلاة، فريضة أو نافلة؛ ونزل قرآن يؤكّد طهارتهم ويخبر أنّ الأمّة مسئولة عنهم يوم القيامة( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (1) . وبما أنّ شهوة الحكم غلبت على النّفوس، وبما أنّ الملك عقيم، فقد ضيّعت منزلة وحرمة أهل البيت عليهم السلام وأوذوا بدل أن يحترموا، وسبّوا

____________________

(1) الشورى: 23.

١٦

بدل أن يصلّى عليهم، وافتري عليهم بدل أن يقتدى بهم، وكانت أحداث ووقائع ضمن الله تعالى وصولها إلينا رغم الرّقابة الشّديدة والكتمان المتعمّد؛ ومن أنصف نفسه ولزم الحياء من ربّه لم يخف عليه عودة النّفوس إلى الجاهليّة واكتفاؤها بالطّقوس والرّسوم التي لا تضرّ المصالح ولا تزعج الحاكمين.

نعم، لقد ضمن الله تعالى وصول كثير من الأحداث والوقائع إلينا ليكون ذلك حجّة علينا يوم القيامة، فإنّ أهل القبلة كلّهم مأمورون بمودّة قربى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غنيّ وفقير، ولا بين عربيّ وأعجميّ؛ وليس أحد في ذلك بمعذور. كلّ من شهد الشّهادتين صار في ذمّته أن يحبّ أهل البيت عليه السلام أكثر ممّا يحبّ نفسه وأهله وماله، ولازم ذلك أن يحبّ من يحبّهم ويبغض من يبغضهم، ولا يفرّق بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصريح العبارة (حسين مني وأنا من حسين) وقال (فاطمة بضعة منّي) وقال لعليّ عليه السلام (أت منّي بمنزلة هارون من موسى). فإذا كان المسلم صادقا في حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا يتردّد في حبّ أهل بيته عليهم السلام؛ ولو كان هذا الأمر مما يشقّ على النّفوس لما كلّف الله تعالى به أحدا، فإنّ التّكليف بغير المقدور قبيح من المخلوق فكيف بالخالق جلّ وعلا! فمحبّة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذاً من صميم الدّين، نزل بها قرآن يتلى، وقضى النّبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدّة من عمره الشّريف يدعو إليها ويرسّخها في فنسو المؤمنين؛ وإذا كانت محبّتهم من الدّين فإنّ بغضهم ليس من الدّين في شيء، بل إن مبغضهم يكون مارقا من الدّين لأنّه يكون مبغضا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبغضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخرج من الدّين باتّفاق، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أهل بيته عليهم السلام كلاما كثيرا مؤكدا لقول الله تعالى:( ذلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (1) ، لكن النفوس المريضة أبت إلاّ أن تختلق أحاديث تحاول من خلالها الحطّ من

____________________

(1) الشورى: 23.

١٧

شأنهم عليهم السلام وإلباس غيرهم ما أنعم الله به عليهم(1) ، ونسوا أو تناسوا أنّه( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) (2) . وقد قطع النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطّريق على المتأوّلين والمتفيهقين إذ قال في حقّ عليّ عليه السلام قولته الثّابتة في الصّحاح (يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله). فعليّ إذا حبيب الله ورسوله، أفترى الله تعالى يرضى عمّن يبغض حبيبه؟ ولينظر امرؤ إلى نفسه إن غاب عنه فهم ذلك، أتراه هو نفسه يحبّ من يبغض حبيبه؟!

لقد كان ولا يزال لعليّ عليه السلام محبّون يتقرّبون إلى الله تعالى بحبّه، كما كان ولا يزال له أعداء يبغضونه ويلهجون بسبّه؛ وحسب محبّيه أنّهم يحبّون من يحبّه الله تعالى ويحبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم في عبادة دائمة، لا يشكّون أنّهم محقّون، إذ يستحيل أن يكون الله تعالى على غير الحقّ، وهو الحقّ جلّ شأنه. أمّا مبغض عليّ فحجّته منقطعة داحضة، ويكفيه شناعة سوء أدبه مع الله تعالى إذ يجاهر ببغض حبيبه، وفي ذلك من سوء المعتقد ما فيه، إذ لو كان يعتقد أنّ الله تعالى حكيم لراجع وتاب وأناب، سوء المعتقد ما فيه، إذ لو كان يعتقد أنّ الله تعالى حكيم لراجع نفسه وتاب وأناب، وبحث في باطنه عن سبب بغض حبيب الله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

ضيّعت منزلة عليّ عليه السلام وحصل تهميشه عن عمد، من طرف أناس يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ن ويشهدون له بالفضل والسّبق والقرابة، وجاء بعدهم أناس يحدوهم الدّينار والمنصب، وقضوا أعمارهم في محاولة سلب عليّ عليه السلام محاسنه وإضفاءها على غيره، وتبرير أعمارهم في محاولة سلب عليّ عليه السلام محاسنه وإضفاءها على غيره، وتبرير أعمال مناوئيه، ثمّ خرجوا من الدّنيا، وبقي عليّ عليه السلام شامخا شموخ الزّمن، يعطّر ذكر اسمه مجالس محبّيه، ويعلو منهجه على كلّ منهج، لأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور معه حيث دار، ومن كان ذلك شأنه مع الحقّ، فلا ريب أن يفوز في النّهاية، ولا عجب أن يقول فيه بعض محبّيه:

____________________

(1) وضعت قبال آية المودة أحاديث منها: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي) و (الأنصار محنة فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) و (من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) , وهي كلها كما ترى. ولا يفوتك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب أصحابه فيقول لهم (الله الله في أصحابي)!

(2) يونس: 64.

١٨

تلك العظام أعزّ ربك شأنها

وتكاد لو لا خوف ربك تعبد(1)

أراد أعداء عليّ عليه السلام أن يغيّبوه فلم يفلحوا، لأنّ الشّمس لا تستر بالغربال، فعمدوا إلى أساليب من شأنها أن تنطلي على السّذّج والمغفّلين، واختلقوا بطولات وفضائل وأمجادا وهميّة، ووزّعوها بين خصوم عليّ عليه السلام، وجنّدوا لذلك الوضّاعين ووعّاظ السلاطين، واعتقدوا أنّهم دفنوا الحقيقة إلى الأبد، ومكروا ومكر الله.

قال ابن أبي الحديد: روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) - وهو غير متّهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة عليّ عليه السلام، والانحراف عنه -: قال: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه، فيتحدّث معه، ثمّ ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّا! فانتظرته ساعة وظننت أنّه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتمّا منذ اللّيلة؟ فقال: يا بنيّ جئت من عند أكفر النّاس وأخبثهم [!] قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه. وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر. ثمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر. وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات أشهد أنّ محمّدا رسول الله، فأيّ عمل يبقى وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلاّ دفنا، دفنا(2) .

نعم، (ثمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك

____________________

(1) البيت من قصيدة للشاعر العراقي المرحوم محمد المجذوب.

(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 5، ص 129 - 130.

١٩

ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر)!

هذه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وقد توفي معاوية آخر سنة 60، وهذا يعني أنّها قبل مرور أربعين سنة على وفاة عمر، فيها اعتراف أنّ عمر هلك ذكره مع موته إلاّ أن يقول قائل (عمر)! فمن الذي بعثه بعد ذلك ورسم حوله هالة القدسيّة التي توسّعها الفضائيّات في أيّامنا؟! على الباحثين أن يتأمّلوا ويدقّقوا.

تاريخ المسلمين حافل بالمآسي، وأشدّ ما فيها المآسي المعنويّة، التي تخنق الأرواح وتسجن الأفكار. أليس هو التّاريخ الذي يسمّي جعفر المتوكّل (مظهر السنّة ومميت البدعة) مع أنّه قتل على مائدة الشّراب سكران لا يعقل؟! أوليس هو التّاريخ الذي يسمّي المنصور الدّوانيقي (باني بغداد ومؤسس الدّولة العباسيّة) ويتغافل عن تفنّنه في تعذيب وقتل وتشريد تلك الأعداد الهائلة من ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

حينما نتحدّث عن عظيم ترك بصماته في تاريخ أمّة، وينبغي أن نتحدّث عن عظيم لا عن مستبدّ، والفرق بين الصّفتين كبير. العظيم شخص ذو لياقات وفضائل وملكات ميّزته عن غيره، وأحسن الاستفادة منها وإعمال فكره في ما ينفع الناس، إذ ديننا يقول: (خير النّاس أنفعهم للنّاس). وأمّا المستبدّ فهو عاجز يخفي ضعفه وراء القسوة والعنف، لأنّه في منصب يسمح له باستخدام العنف. وعلامة ذلك أنّه إذا جدّ الجدّ كان همّه الفرار كما يفرّ العبيد؛ وقد تابع سكّان العالم مشهد إلقاء القبض على الرّئيس المخلوع صدّام حسين وهو يستخرج من حفرة كما تستخرج الضّباع، بعد أن كان الإعلام العربيّ الواسع يسميّه بطل القادسيّة وحارس البوّابة الشرقيّة! وما أكثر الذين تطفّلوا على السّاحات واستغلّوا الظروف والمناسبات وقفزوا على حواجز رسّختها الفطرة في النّفوس، ثمّ وجدوا لهم أقلاما وحناجر تمجّد من خلالهم الباطل، وتهمّش أهل الحقّ والشرعيّة؛ لكنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، لأنّ الحقائق لاتتبدّل بالاعتبارات، والحقائق سنن إلهيّة، ولن تجد لسنّة الله تبديلا؛

ومع أنّ أمّتنا تمتلك رصيدا لم يسبق لأمّة أن امتلكته، إذ منها أشرف الأنبياء،

٢٠