موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٢

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357

موسوعة عبد الله بن عبّاس

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357
المشاهدات: 56011
تحميل: 3032


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56011 / تحميل: 3032
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: 964-319-502-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (1) ، فأيّ مانع لهم من التفكير في السُبل الّتي تضمن لهم أحتجان الأمر من بعده ، فقدّروا ودبّروا ـ والآن فقل وتآمروا ـ لذلك تحيّنوا الفرص وتربّصوا ، فبدأوا يصارحونه بالخلاف وجهاً لوجه ، وبدت مواقفهم تتكشف شيئاً فشيئاً.

وخذ على ذلك شاهداً قضية بعث اُسامة ، حيث أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج أميراً على جيش إلى مؤتة وسمّى أشخاصاً بأعيانهم للخروج في جيشه كان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص واسيد بن حضير وبشر بن سعد والزبير بن العوام(2) . لكنهم لم يخرجوا ولم يستجيبوا لأمره ، وصعد المنبر يخطب في المسلمين قائلا : (نفذّوا جيش اُسامة ، لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة)(3) . فمهما كانت نوايا الذين كانوا يتملصون من الخروج بأعذار فلم يقبلها منهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسكت على مضض. لذلك أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكبح جماح تلك

__________________

(1) المائدة / 67.

(2) راجع طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 41 ط ليدن ، ومهذب تاريخ ابن عساكر لابن بدران الدمشقي 2 / 391 في ترجمة اُسامة ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 53 و 2 / 20 و 459 و 4 / 173 ، ومقدمة الملل والنحل للشهرستاني ، وشرح المواقف في أول تذييل المواقف نقلاً عن الترمذي ، ونقل بعضهم ذلك عن البلاذري وغيره.

وقد علّق الدكتور صبحي الصالح على اللعن في كتابه النظم الإسلامية نشأتها وتطوّرها / 79 ط دار العلم للملايين ، فقال : وكان الرسولعليه‌السلام كان يستشف حجب الغيب ويدرك ما يكون من أمر المسلمين لو تهاونوا في مثل هذا الأمر الخطير ، فهو أمر ترتب عليه نتائج حاسمة في علاقات المسلمين بالدول الأجنبية ، لذلك لم يستنكف أن يستخدم عبارة (اللعن) ولكن هل أستجاب القوم أستجابة متماثلة؟

لقد تخلف عن الغزوة قوم ورغب فيها آخرون ـ ثم حكى مقالة الفريقين نقلاً عن الشهرستاني ـ وقال : ولقد يخيّل إلى كثير من مؤرخي الفكر الإسلامي أن لا ضير فيما قالته الفئة المتخلفة ولكن مجرد إقدامهم على التخلف قد يعدّ دون شك ثغرة من الثغرات لا ندري من أي مكان أتوها. ونحن أيضاً نقول له :

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

(3) المصدر السابق.

٢١

النزوات بأن يكتب لهم كتاباً لئلا يضلوا من بعده ، فبدت البغضاء من أفواههم ، فكانت الرزية كلّ الرزية ـ كما يقول ابن عباس ـ وتتابعت الأحداث سراعاً بالمواقف النابية من المعارضة ، وكلها توحي بتأكيد التآمر. وإلاّ بماذا يفسّر موقف عمر وعثمان ـ الشديد ـ من إنكارهما موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مُنع أهله من تجهيزه ودفنه ، وتذرّعا بما لا يقوله أي انسان حتى المخبول.

قال الجاحظ في رسالته العثمانية : « وكان عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب يرددا هذه الآيات يعني :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (1) وتوعدّا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قال إنه مات. وثاروا في حجرة عائشة وعلى الباب لم يمت وكان أول من رآه مسجّى فأنكر موته عثمان وقال : انّه والله ما مات ولكنّ الله رفعه إليه كما رفع عيسى بن مريم ، والله لا نسمع أحداً يقول مات إلاّ قطعنا لسانه.

واضطرب الناس وماجوا وقام عمر في الناس خطيباً فقال : لا أسمعنّ أحداً يقول إن محمّداً مات »(2) .

وتدافع عمر هو والعباس بالقول ، هو يقول : ما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل غاب كما غاب موسى عن قومه وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون انّه مات ، فجعل لا يمر بأحد يقول انّه مات إلاّ ويخبطه ويتوعده(3) .

وذكر الزمخشري في الفائق : « انّ عمر مانعهم في دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : انّه لم يمت ولكنه صعق كما صعق موسى ، فقال العباس : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت حتى ترككم على طريق ناجحة وان يك ما تقول يابن الخطاب حقاً فإنّه لن يعجز أن يحثو عنه ، فخلّ بيننا وبين صاحبنا فإنه يأسن كما يأسن الناس »(4) .

__________________

(1) التوبة / 33.

(2) الرسالة العثمانية / 79 ـ 80 تح ـ عبد السلام محمّد هارون.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 60.

(4) الفائق 4 / 34.

٢٢

وفي السيرة النبوية لابن كثير : « أنّ العباس خرج على الناس فقال : يا أيها الناس هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في وفاته فليحدثنا؟ قالوا : لا قال : هل عندك يا عمر من علم؟ قال : لا. فقال العباس : اشهدوا أيّها الناس أن أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته والله الّذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموت »(1) .

وتبقى لهجة عمر المحمومة ويبقى العباس يقول : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات وإنّه لبشر وإنه يأسن كما يأسن البشر ، أي قوم فأدفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته الميتتين أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك ، أي قوم فأدفنوا صاحبكم إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً ، فأحلّ الحلال ، وحرّم الحرام ، ونكح وطلق وحارب وسالم ، ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العصاة بمخبطه ويمور حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فيكم أي قوم فأدفنوا صاحبكم(2) .

ولم يزل العباس يقول : « ترككم على المحجة البيضاء ».

واشتدت الخصومة ، وحدثت البلبلة ولم تهدأ حتى جاء أبو بكر من السنح ـ وكان في منزله لم يحضر موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فلمّا جاء دخل على الجثمان الطاهر ، وكشف عنه ثم قال : « طبت حياً وميتاً » ـ ولسنا في مقام تفسير ذلك وانه جزء من مؤامرة أحكمت حبكاً ـ فخطب الناس ، وخطب عمر معتذراً بأن مقالته

__________________

(1) السيرة النبوية 4 / 481.

(2) أنظر سنن الدارمي / 42 ، طبقات ابن سعد 2 / 266 ، أنساب الأشراف 2 / 243 عن ابن عباس ، كنز العمال 7 / 244.

٢٣

الاُولى كانت منه على غير هدى وصواب ، ثم أسرعا ومعهما أبو عبيدة إلى السقيفة حين أخبرهم مخبر ـ لم يسمه المؤرخون ولماذا؟ ـ باجتماع الأنصار في السقيفة ، فجرى ما جرى من تراشق كاد أن يلفح الفتنة بين المسلمين ، فقائل الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، وقائل المهاجرين : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، ويحسم الموقف أبو بكر بقوله : « إنّي رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة ». ثم قول عمر لأبي عبيدة : « أمدد يدك أبايعك » ، ثم تمنّع أبي عبيدة من ذلك مع وجود أبي بكر ، ثم مبادرة عمر لمبايعة أبي بكر ، ثم بايعه أبو عبيدة. هذا وأشباهه وكثرة شواهده في التاريخ مذكور ، لا يسع أحد أن ينكره.

وبعد هذا أليس من اللافت للنظر حقاً أن تلمع هذه الأسماء الثلاثة أبو بكر ، عمر ، أبو عبيدة من بين المهاجرين إلى جانب أسيد بن حضير وبشير بن سعد من دون بقية الأنصار ، في قائمة المعارضة ، وكأنهم هم رأس الأمر ، وعقله المدبّر والمفكّر ، وان كانت هناك أسماء نفر آخرين كانوا يعضدونهم ، ولعل أبرزهم كانت أم المؤمنين عائشة الّتي ليس ينكر دورها في موضوع الصلاة ، كما لا ينكر دورها بعد ذلك في دعم ذلك الثالوث المقدّس ، وإلى القارئ شاهداً على ذلك.

فقد ذكر ابن تيمية في منهاج السنة نقلاً عن صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال : « سمعت عائشة وسئلت من كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخلفاً لو أستخلف؟ قالت : أبو بكر ، فقيل لها ثم من بعد أبي بكر؟ قالت : عمر ، قيل لها : ثم من بعد عمر؟ قالت أبو عبيدة بن الجراح. ثم أنتهت إلى هذا أهـ »(1) .

فممّا تقدم وغيره ممّا لم أذكره أتخذ الأب أو القس (لامانس) وتبعه بعض المستشرقين مثل (أرنولد) حجة إلى القول بان هناك تآمراً بين الثلاثة على

__________________

(1) منهاج السنّة 3 / 135 ط الاُولى.

٢٤

الخلافة كما حكاه الريس في كتابه(1) ، وليس كلّ التثريب على أولئك الأجانب ، إنمّا كلّ اللوم والتثريب على من فتح لهم باب الخلاف في الخلافة حتى تصيّد الأغيار في الماء العكر حتى تجرأ المستشرق الهولندي (ولهاوزن) في كتابه تاريخ الدولة العربية فقال : « وكان أبو بكر وعمر يعلمان أنهما لم يتوليا الخلافة بفضل حق شرعي ، بل من طريق الاغتصاب ، وهما لم يستطيعا أن يسبغا على رياستهما الّتي كانت غير شرعية في أول الأمر ثوباً شرعياً إلاّ فيما بعد ».

وقال : « فهما لم يريدا سوى أن يكونا خليفتين لرئيس الحكومة التيوقراطية الشرعي الحقيقي الوحيد ، وهو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عبّرا عن ذلك باللقب الّذي اختاراه لأنفسهما وهو لقب الخليفة. وقد سمى أبو بكر نفسه خليفة رسول الله وسمّى عمر نفسه خليفة خليفة رسول الله ، حتى بدا في ذلك شيء من التكلف والتطويل في التسمية ، فصار لقب الخليفة مع إسقاط المضاف إليه لقباً قائماً بذاته أهـ »(2) .

أقول : لسنا في مقام تحقيق اللقب الّذي حصل عليه أبو بكر ، وكيف ثَم له ، وهل كان خليفة أم خالفة؟ كما رواه جمع من أن أعرابياً سأل أبا بكر فقال له : (أنت خليفة رسول الله (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم)؟

قال : لا ، قال : فما أنت؟ قال : أنا الخالفة بعده(3) .

__________________

(1) النظريات السياسية الإسلامية / 27.

(2) تاريخ الدولة العربية (ترجمة عبد الهادي أبو ريدة) / 34 ، وورد نحو ذلك في ترجمة يوسف العش لنفس الكتاب أيضاً / 34 ، ومن الغريب ـ والمؤسف ـ لم يعلّق أيّ من المترجمين على ذلك بشيء ، وكأنهما يشاركان ولها وزن فيما ذهب إليه فيريان نفس الرأي.

(3) كنز العمال 14 / 173 نقلاً عن ابن عساكر ، والنهاية في اللغة لابن الأثير 2 / 69 الطناحي والزاوي ، والفائق للزمخشري 1 / 391 تح ـ إبراهيم والبجاوي ، والجمهرة لابن دريد 2 / 37 مح ط حيدرآباد (أفست) والدر المنير للسيوطي. وغير ذلك.

٢٥

ولسنا في مقام تحقيق المعنى اللغوي للخالفة بعدما ذكر علماء اللغة أربعة معاني لها :

أ ـ العمود من أعمدة البيت في مؤخره.

ب ـ القاعدة في الدار من النساء ج خوالف.

ج ـ الفاسد من الناس.

د ـ الّذي لا غناء عنده ولا خير فيه ، والهاء للمبالغة(1) .

ومن البديهي فانّ أبا بكر لم يكن بالمعنيين الأوليين قطعاً ، فهو مردّد بين المعنيين الآخرين لا محال وهذا ما دفع باللغويين إلى الاعتذار عنه بأنّه قال ذلك تواضعاً. ونحن سواء قبلنا ذلك عن رضىً أو لم نقبله فهو بلا خلاف (أوّل ملك إسلامي بعد رسول الله (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم). كما يقول محمّد فريد وجدي(2) في حديث عن حكومة أبي بكر الّتي قال فيها : (فجاءت حكومتهم فذّة في بابها ، غريبة في تركيبها ، وبيان غرابتها إنّها لا تسمى حكومة مطلقة ، لأن الحكومة المطلقة هي الّتي يرأسها رجل مستبد لا دستور له إلاّ رأيه وهواه ، والحكومة العربية كان لهادستور وهو القرآن ، فلا تسمى مطلقة ، ثمّ لا تسمى دستورية ، لأنّ الحكومة الدستورية هي الّتي يكون لها مجلسان نيابيان أو مجلس نيابي واحد ، ولم تكن الحكومة العربية الإسلامية كذلك ثمّ لم تكن حكومة جمهورية لأنّها وإن كانت منتخب رئيسها كما هو الحال في الاُمم الجمهورية ، إلاّ أن ذلك الرئيس فيما ليس لرئاسته حد محدود تنتهي إليه كأربع أو ست سنين.

__________________

(1) المعجم الوسيط 1 / 250 ط مجمع اللغة العربية.

(2) دائرة معارف القرن العشرين 2 / 322 ط دار الفكر بيروت.

٢٦

الخلاصة أن حكومة الصحابة كانت حكومة فريدة في بابها ، لا إستبدادية ولا دستورية ولا ملكية ولا جمهورية(1) .

وأعود الآن فأقول : لم يكن الكاتب الريّس وحده الّذي تنازعه العاملان ، عامل احترام الصحابة ، وعامل إظهار الحقيقة فربما غلب الثاني فأظهره ، كما صنعه كثير من الكتّاب المحدَثين وانّهم على ما بينهم من تفاوت في مراتب الشجاعة والجرأة على الصراحة لا تخلو كلماتهم من إشارة أو تلميح ، وربما جاء ذلك منهم بالقول الفصيح بأن ثمة تصميماً مسبقاً وعن سبق إصرار وعمد لإبعاد بني هاشم عن الأمر ، فهذا الدكتور طه حسين ـ عميد الأدب العربي وصاحب الفتنة الكبرى ـ يقول : « فكان بنو هاشم قد أبعدوا عن هذا الأمر عمداً ، أبعدتهم عنه قريش مخافة أن تظل لبني هاشم رعية ، وألا تكون الخلافة في حي آخر من أحيائها »(2) ، ولم يكن ذلك بدعاً من قول الدكتور طه حسين فقد كان ذلك من قبل هو رأي المغيرة بن شعبة القائل لأبي بكر وعمر : « ما لكم أتريدون أن تنتظروا وصل الحبلة من أهل هذا البيت ، وسّعوها في قريش تتسع »(3) ، ولسنا بصدد تفصيل جميع ما جرى في السقيفة وكيف جرى؟ ولماذا غلب المهاجرون على الأنصار؟ وما هي حجتهم؟ فكل ذلك يستدعي الخروج بنا إلى أبحاث طويلة تبعدنا عن صلب الموضوع ولكنا سوف لا نبعد عنها كثيراً ما دمنا بصدد معرفة رأي ابن عباسرضي‌الله‌عنه في أحداث تلك الفترة بين العهدين ، والتي عايشها وعاش مرارتها أسوة بأهل بيته وموقفه يتبين بوضوح عندما نقرأ مواقف أبيه

__________________

(1) نفس المصدر 2 / 323 ـ 324.

(2) الفتنة الكبرى 1 / 152 ط دار المعارف بمصر.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 18 ط الأولى بمصر.

٢٧

العباس بن عبد المطلبرضي‌الله‌عنه ، وكان من الطبيعي أن يكون ابن عباس وهو في سنّه الفتي يومئذ تبعاً لأبيه الّذي كان في سنّه شيخاً لبني هاشم ، وكان هو من رواة بعضها فلنقرأ مواقف العباس إذن ، فهي تعكس مواقف أبنه يومئذ ، وأكد عليها بعد ذلك ، ولنطويَ الحديث عن كيفية تولي أبي بكر للخلافة ، وحسبنا ما قاله أحمد شوقي أمير الشعراء :

سبحان ربّي ينعم كيف شاء

ساس الورى من كان يرعى الشاء

يـقـود بعد إبل ابن عامر

مـا دبّ فـي غامرها والعامر(1)

مواقف العباس في تلك الفترة :

مهما كانت فداحة الخطب الموجع الّذي نزل بالمسلمين عامة وبأهل البيت خاصة ، فلم يكن العباس بن عبد المطلبرضي‌الله‌عنه ، ليذهل غماً وحزناً عما كان يتوجسه خيفة من وقوع أمر كان يحسب له حسابه منذ أمد غير قريب ، لأنه كان يقرأ في قسمات الوجوه ما تكنّ القلوب ويسمع من فلتات الألسن ما تضمره النفوس الحاقدة الحاسدة. وقد مرت بنا شواهد على ذلك في ترجمته لذلك نرى كلّ مواقفه في فترة مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد موته ، متشابهة يشد بعضها بعضاً ، وتلتقي عند تهيأة الجو المناسب لتوطيد بيعة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

أولاً : ففي مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان مع الحاضرين حين دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدواة والكتف ومنع منه عمر وقال : « انّه ليهجر » ، فوقع الخصام وتراشق الكلام بأحد من حد الحسام ، وطرد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين شاقّوه ، فلمّا خرجوا قال العباس

__________________

(1) دول العرب وعظماء الإسلام / 35.

٢٨

للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنأتيك بالذي طلبت وان رغمت فيه معاطس ، فأبى وقال : (أبعد الّذي قال قائلكم).

وفي مرض النبيّ أيضاً وقد عرف ما يحاك ضد الخلافة الشرعية من تخلّف المتخلفين عن جيش اُسامة ، ومن اعتراض المعترضين على كتابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكثرة الهمز واللمز حول وصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغير عليّ ، فقد بادر بإحباط ذلك التآمر ، فقال لعليّ : هل تعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى لغيرك بشيء؟ فقال عليّعليه‌السلام : (اللّهم لا) فخرج على بغلة حتى أتى معسكر أسامة ، فلقى أبا بكر وعمر وغيرهما ، فقال : هل أوصاكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء؟ قالوا : لا ، فرجع إلى عليّ فقال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبوض فأمدد يدك أبايعك فيقال عم رسول الله بايع ابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبايعك أهل بيتك وإنّ مثل هذا الأمر لا يؤخّر(1) ، ولكن الإمام يأبى عليه ، ويكرر حواره مع الإمام وقد رأى نُذُر الشر تترى ، حرصاً منه على أغتنام الفرصة قبل أن تقع الواقعة ، ويلتحق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى فيقول للإمام : يا عليّ أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب ، فانطلق بنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسأله عن الأمر هل هو فينا فتطمئن قلوبنا؟ أم هو في غيرنا فيوصى بنا ، ويأبى الإمام ، ويصر العباس ويدخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول له ذلك فيجيبه : (إنكم المقهورون وأنتم المضطهدون) وفي رواية : (أنتم المستضعفون بعدي).

ثانياً : وفي يوم موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للإمام : « أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بايع ابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ابن أخيه ـ فلا يختلف عليك

__________________

(1) أنطر النزاع والتخاصم للمقريزي / 49 ط مصر سنة 1937 م ، وقارن الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 56 سنة 1328 بمصر.

٢٩

أثنان ». وفي رواية ابن سعد في الطبقات : « يا عليّ قم حتى أبايعك ومن حضر ، فإنّ هذا الأمر إذا كان لم يردّ مثله ، والأمر في أيدينا.

فقال عليّعليه‌السلام : (يا عم إنّ لي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم شغل عن ذلك؟) ثم تريّث وقال : (وأحد يطمع فيه غيرنا؟)

فقال العباس : أظن والله سيكون. ثم سكت »(1) .

ثالثاً : وعاد العباس غارقاً في بحر همومه ، وقد أضطرب عليه وجه الحيلة في الخلاص من ذلك الخطر المحدق بالأمة. وبينا تتنازعه الهواجس والوساوس ، وتتقاذفه الأحزان والأحلام ، من فقد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر الخلافة وأمتناع عليّعليه‌السلام عن المبادرة ، وتوجسه فتنة القوم الذين عرفهم بالتمالؤ على أقتناص الخلافة دون أهلها. بينا هو في تلك الدوامة المقلقة المحزنة يصك سمعه صوت يتهدّد ويتوعد.

يقول ابن كثير في سيرته وروى الحافظ البيهقي من طريق ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : وقام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في غشية لو قد قام قتل وقطع. وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم ابن أم مكتوم في مؤخّر المسجد يقرأ :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (2) الآية والناس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون.

__________________

(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 49 ط أفست ليدن.

(2) آل عمران / 144.

٣٠

فخرج عباس بن عبد المطلب على الناس فقال : يا أيها الناس هل عند أحد منكم من عهدٍ من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في وفاته فليحدثنا؟ قالوا : لا. قال : هل عندك يا عمر من علم؟ قال : لا.

فقال العباس : أشهدوا أيها الناس انّ أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته. والله الّذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الموتَ(1) .

وروى ذلك غير ابن كثير من المؤرخين. ومنهم من ذكر أنّ العباس كان يقول يومئذ : « ترككم على المحجة البيضاء » وقد مرّ ذلك.

ولم تهدأ ثائرة عمر إلا بعد أن أقبل أبو بكر من السُنح حيث منزله هناك ودخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكشف عن وجهه وقال : « طبت حياً وميتاً » ، ثم خرج إلى المسجد وعرّف الناس بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلا الآية الّتي كان ابن أم مكتوم يتلوها في مؤخرة المسجد والناس يموجون فقرأ :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (2) .

فقال عمر : « أو أنها في كتاب الله؟ ما شعرت انها في كتاب الله ». ثم قال عمر : « يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين ، فبايعوه. فبايعوه »(3) .

هكذا روى ابن كثير في سيرته نقلاً عن الإمام أحمد ، وعقب على ذلك بقوله : وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبي عمران الجوفي به ببعضه.

__________________

(1) السيرة النبوية 4 / 481.

(2) ال عمران / 144.

(3) السيرة النبوية لأبن كثير 4 / 480.

٣١

ومهما تكن ألفاظ الرواية متفاوتة فانها متفقة على أنّ عمر هو الّذي أنكر موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تهدأ ثائرته إلا بعد ما جاء أبو بكر فقرأ الآية. لماذا لم تهدأ ثائرته حين خرج إليه العباس وساءله خاصة عن عهد عنده بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنكر أن يكون معه عهد؟

ولماذا لم تهدأ ثائرته حين كان ابن ام مكتوم يقرأ تلك الآية بعينها في المسجد؟

وكيف لم يعلم أنها آية من كتاب الله وهو الّذي قال حسبنا كتاب الله؟ فان كان لا يعلم ما فيه كيف يدعو إلى الأكتفاء به وهو يجهل منه أكثر ممّا يعلم؟

ويبقى العباس يتوجس أمراً يحدث بعد ما ذهب الشيخان إلى السقيفة ، وقد حدث الّذي حدث بما كان يتوجّس منه خيفة ، ويشاركه في ذلك الهاجس عامة المهاجرين وجل الأنصار الذين كانوا لا يشكّون أن عليّاً هو صاحب الأمر بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنّ المنذر بن الأرقم قال في السقيفة رداً على كلام أبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف : فقال ما ندفع فضل من ذكرت وان فيهم رجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد يعني عليّ بن أبي طالب(1) .

رابعاً : قال البراء بن عازب : « لم أزل لبني هاشم محباً فلمّا قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خفت أن تتمالأ قريش على أخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجرة وأتفقد وجوه قريش فإني كذلك فقدت أبا بكر وعمر واذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة ، واذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر فلم ألبث واذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 102 ـ 103 ط الحيدرية ، وانظر الموفقيات / 380 ، وتاريخ الطبري 3 / 198 ، وابن أبي الحديد 2 / 8 وسمى القائل زيد بن أرقم.

٣٢

وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدّموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى ، فانكرت عقلي ، وخرجت أشتد حتى أنتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً ، وقلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة.

فقال العباس تربت أيدكم إلى آخر الدهر ، أمّا اني قد أمرتكم فعصيتموني »(1) .

خامساً : قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : « لمّا اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : أما والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم ، يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم ، أين المستضعفان؟ أين الأذلان ـ يعني عليّاً والعباس ـ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟

ثم قال لعليّ : ابسط يدك أبايعك فوالله ان شئت لأملأنها على أبي فضيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلاً ورجلاً »(2) . وقد روى مثل هذا غير واحد من المؤرخين. ورووا أنّ العباس لمّا سمع ذلك من أبي سفيان قال لعليّ : يابن أخي هذا شيخ قريش قد أقبل فأمدد يدك أبايعك ويبايعك معي ، فانا ان بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، واذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك قرشي ، واذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد من العرب.

فقال الإمام لعمه : (لا والله يا عم إني أحب أن أصحر بها ، فأكره ان أبايع من وراء رتاج. وان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاني أن لا أجرّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً. وأمرني بجمع القرآن ، والصمت حتى يجعل الله (عزّ وجلّ) لي مخرجاً).

__________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 73 ـ 74.

(2) نفس المصدر.

٣٣

سادساً : وروى سبط ابن الجوزي كلاماً للعباس في موقف آخر غير مواقفه السابقة رواه عنه ولده عبد الله بن عباس قال : « لمّا دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء العباس وأبو سفيان ابن حرب وجماعة من بني هاشم إلى عليّعليه‌السلام فقالوا : مد يدك نبايعك وحرّضوه فأمتنع ، وقال له العباس : أنت والله بعد اليوم عبد العصا(1) »(2) .

سابعاً : روى أبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة عن المغيرة بن محمّد المهلبي من حفظه ، وعمر بن شبة من كتابه باسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال : « سمعت البراء بن عازب ـ وذكر ماتقدم من حديثه إلى أن قال ـ : فمكثت أكابد ما في نفسي ، فلمّا كان بليل خرجت إلى المسجد ، فلمّا صرت فيه تذكرت إني كنت اسمع همهمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن ، فامتنعت من مكاني ، فخرجت إلى الفضاء ـ فضاء بني بياضة ـ وأجد نفراً يتناجون فلمّا دنوت منهم سكتوا فأنصرفت عنهم ، فعرفوني وما أعرفهم فدعوني اليهم فأتيتهم ، فأجد المقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر ، وحذيفة ، وعمار وأبا الهيثم بن التيهان. واذا حذيفة يقول لهم والله ليكونن ما اخبرتكم به والله ما كَذبتُ ولا كُذّبت ، واذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ، ثم قال : إئتوا أبيّ بن كعب فقد علم كما علمتُ.

قال ـ البراء ـ فانطلقنا إلى أبيّ فضربنا عليه بابه ، حتى صار خلف الباب ، فقال : من أنتم ، فكلّمه المقداد ، فقال : ما حاجتكم؟ فقال له : افتح عليك بابك فإنّ الأمر أعظم من أن يجري من وراء حجاب.

__________________

(1) مثل يضرب لمن يستذّل فيكون تابعا ً (بتصرف عن المضاف والمنسوب للثعالبي / 628 ط دار نهضة مصر سنة 384).

(2) تذكرة خواص الأمة / 137.

٣٤

قال : ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ماجئتم له ، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد؟ فقلنا : نعم.

فقال : افيكم حذيفة؟ فقلنا : نعم ، قال : فالقول ما قال ، وبالله مايفتح عني بابي حتى تجري على ما هي عليه جارية ، ولما يكون بعدها شرّ منها ، والى الله المشتكى »(1) .

وروى ابن أبي الحديد قال : « لمّا توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتغل عليّعليه‌السلام بغسله ودفنه وبويع أبو بكر خلا الزبير وابو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعليعليه‌السلام لإجالة الرأي ، وتكلموا بكلام يقتضي الأستنهاض والتهييج فقال العباسرضي‌الله‌عنه :

قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنّة نترك آراءكم لكن لالتماس الحق فأمهلونا نراجع الفكر ، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق صرير الجُدجُد(2) نبسط إلى المجد أكفاً لا نقبضها او نبلغ المدى ، وان تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ، ولا لوهن في الأيد(3) والله لولا أنّ الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر(4) يسمع اصطكاكها من المحل العلّي.

قال : فحلّ عليّ حبوته وقال : الصبر حلم ، والتقوى دين ، والحجة محمّد ، والطريق الصراط. أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسُفن النجاة ، وعرّجوا عن طريق المنافرة ، وضَعَوا عن تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح أو استلم فأراح ، هذا

__________________

(1) أنظر شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 74 و 132.

(2) بضم الجيمين : دويبة على خلقة الدبا وتسمى : صرار الليل.

(3) الأيد : القوة.

(4) الجنادل جمع جندلة وهي الصخرة العظيمة.

٣٥

ماء آجن(1) ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ، فانّ أقل يقولوا حرص على الملك ، وان أسكت يقولوا جزع من الموت ، هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدي أمه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية(2) في الطوى(3) البعيدة »(4) .

ثامناً : وذكر الجوهري في كتابه السقيفة باسناده المتقدم إلى البراء بن عازب ، وابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة(5) واللفظ للأوّل قال ـ بعد ذكره تشاور رجال من المهاجرين والأنصار في أن يعيدوا الأمر شورى بين المسلمين المهاجرين ـ : وبلغ ذلك أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة والى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي.

فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذا الأمر نصيباً لتقطعوا بذلك ناحية عليّ بن أبي طالب ويكون لكما الحجة عند الناس على عليّ وبني هاشم إذا مال العباس معكم.

فأنطلق أبو بكر وعمر وابو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس ـ وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فحمد الله أبو بكر واثنى عليه وقال : إن الله ابتعث لكم محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبياً وللمؤمنين ولياً ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى أختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم

__________________

(1) الآجن : الفاسد المتغير.

(2) الارشية جمع رشاء وهو الحبل.

(3) الطوى جمع طوية وهي البئر البعيدة القعر.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 73 ، وراجع نزهة الناظر للحلواني / 18.

(5) الإمامة والسياسة 1 / 15 ط سنة 1328 بمصر.

٣٦

متفقين غير مختلفين ، فاختاروني عليهم والياً ، ولأمورهم راعياً ، فتوليت ذلك ، وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرة ولا جُبناً ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.

وما انفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذكم لجأ ، فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع فأما دخلتم فيما دخل فيه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا اليه.

وقد جئناك ونحن نريد ان نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم. وعلى رسلكم بني هاشم فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منا ومنكم.

فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد واتيان الأمر من أصعب جهاته فقال أي والله وأخرى إنا لم نأتكم حاجة اليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فأنظروا لأنفسكم ولعامتهم. ثم سكت.

فتكلم العباس فحمد الله واثنى عليه ثم قال : انّ الله ابتعث محمداً نبياً كما وصفت وولياً للمؤمنين ، فمنّ الله به على أمته حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق لا مائلين عنه بزيغ الهوى ، فان كنت برسول الله طلبت فحقّنا اخذت ، وان كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمركم فرطاً ، ولا حللنا وسطاً ، ولا نزحنا شحطاً ، فإن يكن هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ، وما أبعد قولك : إنّهم طعنوا من قولك إنّهم مالوا إليك.

٣٧

وأمّا ما بذلت فان يكن حقك أعطيتناه فامسكه عليك ، وان يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وان يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض. وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان.

وأمّا قولك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منا ومنكم ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

وأمّا قولك ياعمر انك تخاف الناس علينا ، فهذا الّذي قدّمتموه أول ذلك وبالله المستعان أهـ. فخرجوا يتعثرون بأذيال الخيبة والفشل ، ورأوا أن يرسلوا إليه المغيرة بن شعبه ثانية يعتذر لهم ، فأتاه فثار العباس متميزاً غيظاً وقال له : لا عذر الله من عذرك ، أعزب عنا لعنة الله عليك وله أبيات من الشعر قالها حين بويع أبو بكر ويمدح ابن أخيه الإمام وقد أعرب فيها عن بليغ حجته ومدى تأثره وعميق حزنه ، ولاشك أنّ ابن عباس سمعها من أبيه ووعاها ، ولست استبعد انّه ممن رواها ، وهي :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

ألـيـس أول مـن صـلّى لقبلتكم

وأعلـم النـاس بالآثار والسنن

وأقـرب النـاس عهداً بالنبي ومَن

جبريل عونٌ له في الغسل والكفن

مَن فـيه ما في جميع الناس كلّهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

مـاذا الـذي ردّكـم عـنه فنعرفه

هـا إن بيعتكم من أول الفتن(1)

ولمّا كانت هذه هي مواقف العباس من أحداث تلك الفترة ، فكلها بمرأى وبمسمع من ابنه عبد الله الّذي حدّث هو عن بعضها ، وعلى أساسها يمكننا تقييم

__________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 74. ولقد تقدم ذكر الاختلاف في نسبت هذه الابيات في المصادر فراجع (أدب العباس).

٣٨

مواقفه في تلك الفترة ، وان ظهرت آثارها بوضوح أيام عمر حين كان يواجهه ـ على ما فيه من غلظة وعنجهية خلق ـ بكلّ صراحة وصرامة ، وستأتي صفحات احتجاجاته عليه في أمر الخلافة. وسنقرأ فيها نحو قوله : وأنت وصاحبك ـ يعني أبا بكر ـ اللذان انتزعتما الأمر منا دون الناس.

ونحو قوله : في حوار جرى بينهما قال فيه عمر : ما أرى صاحبك إلا مظلوماً ـ يعني عليّاً ـ فقال له ابن عباس : أردد إليه ظلامته.

ونحو قوله : حين قال عمر انّه استصغره قومه فقال ابن عباس : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك.

ونحو قوله : هلا استحدثتم سنه يوم الخندق اذ خرج عمرو بن عبد ودّ وقد كعم عنه الأبطال وتأخرت عنه الأشياخ ويوم بدرٍ اذ كان يقط الأقران قطا؟

ونحو قوله : هلا سبقتموه بالإسلام؟

ويكفي أن يقرأ الباحث حواره مع عمر حين احتج عمر بالاختيار والإجماع على بيعة أبي بكر. فكان جواب ابن عباس له : وأمّا قولك أنّ قريشاً اختارت فأصابت ووُفقت. فإنّ الله يقول :( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ ) (1) وقد علمت أن الله اختار من خلقه لذلك من اختاره ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها واختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها ، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ولوفقت وأصابت.

إلى غير ذلك ممّا ظهرت آثاره وسرت اخباره بعد تلك الفترة. وسنوافي في صفحات احتجاجاته بمزيد من الشواهد على أن آراءُه في احداث تلك الفترة كانت متطابقة تماماً مع آراء أبيه مع قوة الحجة ووضوح البيان وصدق البرهان ،

__________________

(1) القصص / 68.

٣٩

على أنّ من نافلة القول الخوض في تحديد رأي الحبر في موضوع الخلافة ، أليس هو الّذي كان يروي وصايا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له أو لجماعة خاصة أو للمسلمين عامة ، في حق الخليفة الشرعي وقد مرت بنا شواهد على ذلك في عهد النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراجع.

وممّا فاتنا ذكره في محله حديثه الّذي رواه عنه التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي وأثبته في كتابه السقيفة واليك نصه : قال سليم قلت لعبد الله بن العباس ـ وجابر بن عبد الله الانصاري إلى جنبه ـ شهدتَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته؟ قال : نعم ، لمّا ثقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع كلّ محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل ، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلاّ الزبير ـ فانما دخل لمكان صفية ـ وعمر بن أبي سلمة(1) وأسامة بن زيد ثم قال : إنّما هؤلاء الثلاثة منا أهل البيت ، أسامة مولانا ومنا وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمله على جيش وعقد له. وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر ، فقال كلّ واحد منهما : لا ينتهي أمره ، فإنّه ـ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يستعمل علينا هذا الصبي.

فاستأذن اسامة رسول الله ليودّعه ويسلّم عليه ، فوافق ذلك اجتماع بني هاشم فدخل معهم ، واستأذن أبو بكر وعمر أسامة ليسلّما على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذن لهما.

فلمّا دخل أسامة معنا وكان من أوسط بني هاشم وكان شديد الحبّ له. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنسائه قمن عني فأخلينني وأهل بيتي ، فقمن كلهن إلاّ عائشة وحفصة ، فنظر إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أخلياني وأهل بيتي. فقامت عائشة آخذة بيد حفصة وهي تذمر غضباً وتقول : قد أخليناك وإياهم فدخلتا بيتاً من خشب. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أخي اقعدني ، فأقعده عليّعليه‌السلام وأسنده إلى نحره. فحمد الله

__________________

(1) وهذا لمكان أمه ام سلمة زوج الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدى امهات المؤمنين.

٤٠