موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 45152
تحميل: 2785


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45152 / تحميل: 2785
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

قال ابن حزم : « وفي أيامه كانت وقعة الجمل وصفين ، وعلم الناس منه فيها كيف قتال اهل البغي »(1) .

وروى البيهقي بسنده قال عليّ ( رضي الله عنه ) يوم الجمل : « نمنّ عليهم بشهادة أن لا إله إلاّ الله ونورّث الآباء من الأبناء »(2) .

قال أبو حنيفة الدينوري : « فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع فلا يعرض له أحد إلاّ ما كان من السلاح الّذي قاتلوا به ، والدواب الّتي حاربوا عليها.

فقال له بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين كيف حلّ لنا قتالهم ولم يحلّ لنا سبيهم وأموالهم؟

فقال عليّ ( رضي الله عنه ) : ليس على الموحدّين سبي ، ولا يغنم من أموالهم إلاّ ما قاتلوا به وعليه ، فدعوا ما لا تعرفون ، والزموا ما تؤمرون »(3) .

وقال المسعودي : « ودخل عليّ بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار ، فنظر إلى ما فيه من العين والوَرِق ، فجعل يقول : يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري ، وأدام النظر إلى المال مفكراً ، ثمّ قال : اقسموه بين أصحأبي ومن معي خمسمائة خمسمائة ، ففعلوا فما نقص درهم واحد ، وعدد الرجال اثنا عشر الف. وقبض ما كان في عسكرهم من سلاح ودابة ومتاع وآلة وغير ذلك فباعه وقسّمه بين أصحابه ، وأخذ لنفسه كما أخذ لكلّ واحد ممّن معه من أصحابه وأهله وولده خمسمائة درهم ، فأتاه رجل من أصحابه فقال : يا أمير

____________________

(1) جوامع السيرة / 355 ط دار المعارف.

(2) سنن البيهقي 8 / 182.

(3) الأخبار الطوال / 151 ط تراثنا بمصر.

١٨١

المؤمنين إنّي لم آخذ شيئاً وخلفني عن الحضور كذا ـ وأدلى بعذره ـ فاعطاه الخمسمائة الّتي كانت له »(1) .

ولقد أخذت مسألة غنائم الحرب بين أهل القبلة بُعداً أوسع بعد حرب صفين لاختلاف الحكم بين الحربين ، وسوف نقرأ لابن عباس حديثاً مع الخوارج الحرورية في ذلك.

ولقد قال ( عليه السلام ) : ( سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أهل مكة )(2) .

تطواف في المعركة :

قال الشيخ المفيد : « لمّا انجلت الحرب بالبصرة وقتل طلحة والزبير ، وحُملت عائشة إلى قصر بني خلف ، ركب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وتبعه أصحابه ـ ومنهم ابن عباس ـ وعمّار بن ياسر يمشي مع ركابه حتى خرج إلى القتلى يطوف عليهم. فمرّ بعبد الله بن خلف الخزاعي وعليه ثياب حسان مشهرّة فقال الناس : هذا والله رأس الناس ، فقال ( عليه السلام ) : ( ليس برأس الناس ولكنه شريف منيع النفس ). ثمّ مرّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال : ( هذا يعسوب القوم ورأسهم كما ترونه ) ، ثمّ جعل يستعرض القتلى رجلاً رجلاً ، فلمّا رأى أشراف قريش صرعى في جملة القتلى قال ( عليه السلام ) : ( جدعت أنفي ، أمّا والله ان كان مصرعكم لبغيضاً إليَّ ، ولقد تقدمت إليكم وحذّرتكم عضّ السيوف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ، ولكن الحَين ومصارع السوء ، نعوذ بالله من سوء المصرع ).

____________________

(1) مروج الذهب 2 / 380 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد ط السعادة.

(2) أنساب الأشراف 2 / 273 تح ـ المحمودي.

١٨٢

ثمّ صار حتى وقف على كعب بن سور وهو مجدّل بين القتلى وفي عنقه المصحف ، فقال : ( نحّوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة ) ، ثمّ قال : ( أجلسوا لي كعباً ) ، فاجلس ، ورأيته ينخفض إلى الأرض فقال : ( يا كعب بن مسور قد وجدت ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ) ثمّ قال : ( أضجعوا كعباً ) ، فتجاوزه فمرّ ( عليه السلام ) فرأى طلحة صريعاً فقال : ( أجلسوا طلحة ) فأجلس ، وقال : ( يا طلحة بن عبيد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ) ثمّ قال : ( أضجعوه ). فوقف رجل من القرّاء أمامه وقال : يا أمير المؤمنين ما كلامك هذه الهام قد صديت لا تسمع لك كلاماً ولا ترد جواباً؟ فقال ( عليه السلام ) : ( والله إنّهما ليسمعان كلامي كما تسمّع أصحابُ القليب كلام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولو أذن لهما في الجواب لرأيت عجباً ). ومرّ بمعبد بن المقداد بن عمرو وهو في الصرعى فقال : ( رحم الله أبا هذا إنّما كان رأيه فينا أحسن من رأي هذا ). فقال عمّار بن ياسر : الحمد لله الّذي أوقعه وجعل خده الأسفل ، إنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي عمّن عَند عن الحقّ من ولد ووالد. فقال ( عليه السلام ) : ( رحمك الله يا عمّار وجزاك عن الحقّ خيراً ).

ومرّ بعبد الله بن ربيعة بن رواح ( دراج )(1) وهو في القتلى فقال : ( هذا البائس ما كان أخرجه نصر عثمان ، والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن ).

ومرّ بمعبد بن زهير بن أمية فقال : ( لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام ، والله ما كان فيها بذي مخبره ، ولقد أخبرن من أدركه انّه يلوذ خوفاً من السيف حتى قتل البائس ضياعاً ).

____________________

(1) في نسخة بخط سيدنا المغفور له السيد الوالد تاريخ نسخها سنة 1357 هـ وقد رجعت إليها كلما راجعت المطبوعة بالحيدرية سنة 1368 هـ لأنّها أصح.

١٨٣

ومرّ بمسلم بن قرظة فقال : ( البرّ أخرج هذا ولقد سألني أن أكلّم عثمان في شيء يدّعيه عليه بمكة فلم أزل به حتى أعطاه وقال لي : لولا أنت ما أعطيته ، ان هذا ما علمت بئس العشيرة ، ثمّ جاء لحينه ينصر عثمان ).

ثمّ مرّ بعبد الله بن عُمير بن زهير قال : ( هذا أيضاً ممّن أوضع في قتالنا يطلب بزعمه دم عثمان ولقد كتب إليَّ كتباً آذى عثمان فيها فأعطاه شيئاً فرضي عنه ).

ومرّ بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال : ( هذا خالف أباه في الخروج عليّ ، وإنّ أباه حيث لم ينصرنا بايع وجلس في بيته ما ألوم أحداً إذ كفّ عنا وعن غيرنا ولكن الملوم الّذي يقاتلنا ).

ومرّ بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس فقال ( عليه السلام ) : ( أمّا هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج غضباً لمقتل أبيه ، وهو غلام لا علم له بعواقب الأمور ).

ومرّ بعبد الله بن الأخنس بن شريق فقال ( عليه السلام ) : ( أمّا هذا فإنّي أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف وإنّه لهارب يعدو من السيف فنهيت عنه فلم يُسمع نهيي حتى قتل ، وكان هذا ممّن حقد عليّ ، فتيان قريش أغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا واستزلّوا فلمّا وقعوا ألحجوا فقتلوا ).

ثمّ أمر ( عليه السلام ) مناديه فنادى : من أحبّ أن يواري قتيله فليواره. وقال ( عليه السلام ) : ( واروا قتلانا في ثيابهم الّتي قتلوا فيها فإنّهم يحشرون على الشهادة وإنّي الشاهد لهم بالوفاء ) »(1) .

شفيع القرشيين ابن عباس :

روي الشيخ المفيد عن الواقدي قال : « لمّا فرغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أهل الجمل جاءه قوم من فتيان قريش يسألونه الأمان وأن يقبل منهم البيعة ،

____________________

(1) كتاب الجمل / 193.

١٨٤

فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفّعه ، وأمر لهم في الدخول عليه ، فلمّا مثلوا بين يديه ، قال لهم : ( ويلكم يا معشر قريش علامَ تقاتلونني؟ على أن حكمتُ فيكم بغير عدل؟ أو قسمت بينكم بغير سويّة؟ أو استأثرت عليكم؟ أو لبعدي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟ أو لقلة بلاء مني في الإسلام )؟

فقالوا : يا أمير المؤمنين نحن أخوة يوسف فاعف عنا واستغفر لنا ، فنظر إلى أحدهم فقال له : ( من أنت )؟ قال : أنا مساحق بن مخرمة ، معترف بالزلّة ، مقر بالخطيئة ، تائب من ذنبي.

فقال ( عليه السلام ) : ( قد صفحت عنكم ، وأيم الله إنّ فيكم من لا أبالي بايعني بكفه أم بأسته ، ولئن بايعني لينكثن ) »(1) .

شفعاء مروان لدى الإمام :

روى البلاذري بسنده عن عليّ بن الحسين أن مروان بن الحكم حدّثه ـ وهو أمير على المدينة ـ قال : « لمّا توافقنا يوم الجمل لم يلبث أهل البصرة أن انهزموا ، فقام صائح لعليّ فقال : لا يقتل مدبر ، ولا يدفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن طرح السلاح فهو آمن.

قال مروان فدخلت داراً ، ثمّ أرسلت إلى حسن وحسين وابن جعفر وابن عباس فكلموه ، فقال : هو آمن فليتوجه حيث ما شاء ، فقلت : لا تطيب نفسي حتى أبايعه ، قال : فبايعته ، ثمّ قال : اذهب حيث شئت »(2) .

وفي شرح النهج : « فقالا ـ الحسن والحسين ـ له : يبايعك يا أمير المؤمنين ، قال ( عليه السلام ) : أو لم يبايعني قبل ـ بعد / ظ ـ مقتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ،

____________________

(1) كتاب الجمل / 205 نسخة مخطوطة.

(2) أنساب الاشراف ( ترجمة الإمام ) 2 / 262.

١٨٥

إنّها كفّ يهودية ، لو بايعني بيده لغدر بسُبّته ، أمّا إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الاكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر ».

قال ابن الحديد في شرح النهج : « قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ، ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة ، وهي قوله ( عليه السلام ) في مروان : يحمل راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه »(1) .

وفي حديث الواقدي : « أنّ مروان تقدم إليه وهو متكئ على رجل ، فقال ( عليه السلام ) : ما بك هل بك جراحة؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين وما أراني إلاّ لما بي ، فتبسم وقال : لا والله ما أنت لما بك وستلقى هذه الأمة منك ومن ولدك يوماً أحمر ، ثمّ بايعه وانصرف.

وتقدم إليه عبد الرحمن بن هشام ، فلمّا نظر إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : والله إن كنتَ أنت وأهلُ بيتك لأهل دعة ، وإن كان فيكم غنى ، ولكن أعفو عنكم ، ولقد ثقل عليّ حيث رأيتكم في القوم ، وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم.

فقال له عبد الرحمن : فقد صار ذلك إلى ما تحب ، ثمّ بايعه وانصرف »(2) .

وفي حديث البلاذري عن ابن عباس قال : « انّ عليّاً أخذ يوم الجمل مروان ابن الحكم وموسى بن طلحة فأرسلهما »(3) .

وفي الخرايج روي عن أبي الصيرفي عن رجل من مراد قال : « كنت واقفاً على رأس أمير المؤمنين يوم البصرة إذ أتاه ابن عباس بعد القتال فقال : انّ لي حاجة فقال ( عليه السلام ) : ما أعرفني بالحاجة الّتي جئت فيها تطلب الأمان لابن الحكم؟ قال : نعم أريد أن تؤمنه قال : آمنته ، ولكن اذهب وجئني به ولا تجئني به إلاّ رديفاً

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 53.

(2) الجمل للشيخ المفيد / 206 نسخة مخطوطة.

(3) أنساب الاشراف ( ترجمة الإمام ) 2 / 262.

١٨٦

فإنّه أذلّ له ، فجاء به ابن عباس ردفاً خلفه كأنه قرد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أتبايع؟ قال : نعم وفي النفس ما فيها ، قال : الله اعلم بما في القلوب ، فلمّا بسط يده ليبايعه أخذ كفه عن كفّ مروان فنترها فقال : لا حاجة لي فيها انها كف يهودية ، لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث بأسته ، ثمّ قال : هيه يا بن الحكم خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة ، كلا والله حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفاً ويسوقونها كأساً مصبّرة »(1) .

حوار الإمام مع القرشيين :

روى أبو مخنف في كتاب الجمل : بسنده عن مساحق القرشي قال : « لمّا انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض : والله لقد ظلمنا هذا الرجل ـ يعنون أمير المؤمنين ـ ونكثنا بيعته من غير حَدَث ، والله لقد ظهر علينا ، فما رأينا أكرم سيرة منه ، ولا أحسن عفواً منه بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه.

قال : فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا ، فلمّا مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم.

فقال ( عليه السلام ) : أنصتوا أكفكم ، إنما أنا بشر مثلكم ، فان قلت حقاً فصدّقوني ، وإن قلت باطلاً فردّوا عليّ.

ثمّ قال ( عليه السلام ) : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قلنا : اللّهمّ نعم قال : فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر فأمسكت ولم أحبّ أن أشق عصا المسلمين وأفرّق بين جماعتهم ، ثمّ ان أبا بكر جعلها لعمر من بعده فكففتُ ولم أهج الناس وقد علمت أني كنت أولى الناس بالله

____________________

(1) أنظر بحار الأنوار 8 / 411 ط الكمباني.

١٨٧

وبرسوله وبمقامه ، فصبرت حتى قتل ، وجعلني سادس ستة ، فكففت ولم أحبّ أن أفرّق بين المسلمين ، ثمّ بايعتم عثمان فطعنتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي ، فأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر ، فما بالكم وفيتم لهما ولم تفوا لي؟ وما الّذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي؟.

فقلنا له : يا أمير المؤمنين كن كالعبد الصالح يوسف إذ قال :( لا تَثْرِِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

فقال ( عليه السلام ) : لا تثريب عليكم اليوم ، وإنّ فيكم رجلاً لو بايعني بيده لنكث بأسته ، يعني مروان بن الحكم »(2) .

نماذج من الخداع والتضليل في حرب الجمل :

لقد دأب علماء التبرير على إشاعة الضبابية المكثفة في آفاق التاريخ ، من خلال الدسّ والافتراء ، وإذاعة الروايات المضللة الخادعة ، وفي هذا الموقف ـ موقف الإمام في حرب الجمل خصوصاً مع صاحبة الهودج ـ فقد تبارى القوم في ذلك ، سيّان الأولّين منهم والآخرين.

من الأولين :

نموذجاً أبو جعفر الطبري المتوفى سنة 310 هـ في تاريخه(3) ، فاقرأوا ما رواه من حديث سيف بسنده قال : « وانتهى إليها عليّ فقال : كيف أنت يا أمّه؟ قالت بخير ، قال : يغفر الله لكِ قالت : ولكَ ».

____________________

(1) يوسف / 92.

(2) الجمل للشيخ المفيد / 206 ط الحيدرية ، وأمالي الطوسي 2 / 120 مط النعمان.

(3) تاريخ الطبري 4 / 534.

١٨٨

واقرأوا ما رواه أيضاً من حديث سيف عن محمّد وطلحة قالا : « وغشي الوجوه عائشة ، وعليّ في عسكره ، ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أوّل من دخل فسلّم عليها فقالت : إني رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي وارتجزا بكذا ، فهل تعرف كوفيّك منهما؟ قال : نعم ذلك الّذي قال : ( أعقّ أم نعلم ) وكذب والله ، إنّك لأبّر أم نعلم ، ولكن لم تطاعي ، فقالت : والله لوددت أنّي مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وخرج فأتى عليّاً فأخبره أن عائشة سألته فقال : ويحك من الرجلان؟ قال ذلك أبو هالة الّذي يقول : كيما أرى صاحبه عليّاً.

فقال : والله لوددتُ أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة فكان قولهما واحداً ».

هذا ما رواه الطبري عن سيف وهو المتهم في أحاديثه وردّده الببغاوات من بعده بدءاً من ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون والذهبي والعصامي على تفاوت بينهم في النقل ، وابن كثير مثلاً قال بعد ذكره حديث حرب الجمل : « هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير ( رحمه الله ) عن أئمّة هذا الشأن ، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلفة على الصحابة والأخبار الموضوعة الّتي ينقلونها بما فيها ، وإذا دعوا إلى الحقّ الواضح أعرضوا عنه وقالوا : لنا أخبارنا ولكم أخباركم ، فنحن حينئذٍ نقول لهم : سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين »(1) .

والآن فاقرأوا تلخيص ما مرّ نقله عن الطبري من حديث سيف : « فقال : وجاء إليها عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلّماً فقال : كيف أنتِ يا أمّه؟ قالت بخير فقال : يغفر الله لك.

وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون على أم المؤمنين ( رضي الله عنها ) ».

____________________

(1) القصص / 55.

١٨٩

فأين صار دعاء عائشة لعليّ جواباً على دعائه لها بالمغفرة ، فقالت : ولك ...؟

وأين صارت رواية الندم وتمني كلّ من عائشة وعليّ الموت قبل عشرين سنة؟

هذا كله إن صحت الأنباء وهي لا تصح ، ولنقل له ولأمثاله :( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) (1) .

وثمة من تحاشى ذكر كلام الإمام الّذي أوردناه آنفاً نقلاً عن البلاذري واكتفى بقوله : « لمّا كان يوم الجمل ما كان وظفر عليّ بن أبي طالب دنا من هودج عائشة فكلمها بكلام. فأجابته : ملكتَ فأسجح »(2) .

« فقال عليّ : صدق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ قال : يا هذه أستفززت الناس وألّبت بينهم في كلام كثير ، فقالت : يا بن أبي طالب إذا ملكت فأسجح ، وجاء ابن عباس فقال : إنّما سُميتِ أم المؤمنين بنا؟ قالت نعم ، قال : أولسنا أولياء زوجكِ؟ قالت : بلى قال : فلم خرجت بغير إذننا؟ قالت قضاء وأمر »(3) .

« وإنّ عليّاً وقف على خباء عائشة يلومها على مسيرها ، فقالت : يا بن أبي طالب ملكت فاسجح »(4) .

وهكذا سرعان ما سرت الضبابية في أفق التاريخ فعتمت على الحقيقة حتى جعلت الإمام نادماً على ما صدر منه بدءاً من مسيره من المدينة ومروراً بمنازله في الطريق وانتهاءً بيوم الحرب حتى قال ابن كثير في تاريخه : « حتى جعل عليّ يقول لابنه الحسن : يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً ، فقال له :

____________________

(1) يوسف / 52.

(2) أنظر العقد الفريد لابن عبد ربّه 4 / 328.

(3) البدء والتاريخ للمقدسي 5 / 215.

(4) سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 125 ط ذخائر العرب.

١٩٠

يا أبتِ قد كنت أنهاك عن هذا. قال : يا بني إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا »(1) . وهذا أيضاً رواه الذهبي(2) .

يا لله ، عليّ لا يدري أنّ الأمر يبلغ هذا؟! أليس هو القائل : ( أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين )(3) .

ألم يرو البزار وأبو يعلى عن عليّ بن ربيعة قال : « سمعت عليّاً ( عليه السلام ) على المنبر وأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما لي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله ، أبعهد من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أو شيئاً رأيته؟ قال : والله ما كَذِبت ولا كُذّبت ، ولا ضللتُ ولا ضلّ بي ، بل عهد من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عهده إلي وقد خاب من افترى ، عهد إليَّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين »(4) .

لماذا يندم وهو القائل : ( لقد ضربتُ هذا الأمر ظهره وبطنه ـ أو رأسه وعينيه ـ فما وجدتُ إلاّ السيف أو الكفر )(5) .

ما باله يندم؟ وهو القائل : ( أنا فقأت عين الفتنة ، لولا أنا ما قوتل أهل النهروان وأهل الجمل ، ولولا اني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالّذي قضى الله على لسان نبيّكم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمن قاتلهم مبصراً ضلالتهم عارفاً بالهدى الّذي نحن عليه )(6) ، وهذا أمر يعرفه حتى الصحابة ، فقد سئل أبو أيوب عن قتاله مع الإمام

____________________

(1) البداية والنهاية 7 / 424.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 641.

(3) تاريخ بغداد 8 / 340.

(4) كنز العمال 11 / 317.

(5) المصنف لابن أبي شيبة 15 / 274 ، ومستدرك الحاكم 3 / 115.

(6) كشف الغمة 1 / 243 ط مكتبة الشريف الرضي بقم ، وراجع كنز العمال 11 / 285 نقلاً عن ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والدورقي.

١٩١

أهل لا إله إلاّ الله ، فقال للسائل : « يا هذا إنّ الرائد لا يكذب أهله ، وإنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمرنا بقتال ثلاثة مع عليّ ، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فأمّا الناكثون فقد قابلناهم أهل الجمل طلحة والزبير ، وأمّا القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم ـ يعني معاوية وعمراً ـ وأمّا المارقون فهم أهل الطرفاوات ، وأهل السعيفات ، وأهل النخيلات ، وأهل النهروانات ، والله ما أدري أين هم ، ولكن لابدّ من قتالهم إن شاء الله »(1) .

ومن النماذج المضللة :

ما رووه من أقوال الإمام يؤبّن فيها قتلى أهل الجمل بما يضفي عليهم من الثناء ويستمطر لهم الرحمة من السماء ، ويرفع عنهم إصر إراقة الدماء؟

فقد روى الطبري ـ وهو شيخ المؤرخين ومرجعهم ـ من حديث سيف ـ وهو المتهم بالزندقة والكذب في حديثه باعترافهم ـ توجع عليّ على قتلى الجمل فكان من حديثه : « وأقام عليّ بن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة ونُدب الناس إلى موتاهم ، فخرجوا اليهم فدفنوهم ، فطاف عليّ معهم في القتلى ، فلمّا أتي بكعب بن سور قال : زعمتم انّما خرج معهم السفهاء ، وهذا الحبر قد ترون. وأتى على عبد الرحمن بن عتّاب فقال : هذا يعسوب القوم ـ يقول الّذي كانوا يُطيفون به ـ يعني أنّهم قد كانوا اجتمعوا عليه ورضُوا به لصلاتهم.

وجعل عليّ كلّما مرّ برجل فيه خير قال : زعم أنّه لم يخرج إلينا إلاّ الغوغاء ، هذا العابد المجتهد. وصلّى على قتلاهم من أهل البصرة وعلى

____________________

(1) تاريخ بغداد 13 / 186 ، ومستدرك الحاكم 3 / 139 ، وكنز العمال 6 / 88 ط الأولى بحيدر آباد.

١٩٢

قتلاهم من أهل الكوفة ، وصلّى على قريش من هؤلاء وهؤلاء فكانوا مدنيين ومكيّين »(1) .

وفي العقد الفريد : « ومرّ عليّ بقتلى الجمل فقال : اللّهمّ اغفر لنا ولهم ، ومعه محمّد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر ، فقال أحدهما لصاحبه : أما تسمع ما يقول؟ قال : اسكت لا يزيدك »(2) .

وفي طبقات ابن سعد : « فسار عليّ ليلته في القتلى معه النيران ، فمرّ بمحمّد بن طلحة قتيلاً فقال : يا حسن ( محمّد السجاد وربّ الكعبة ) ثمّ قال أبوه صرعه هذا المصرع ، ولولا برّه بأبيه ما خرج. فقال الحسن : ما كان أغناك عن هذا ، فقال : ما لي ولك يا حسن وقد كان قال له قبل ذلك يا حسن ودّ أبوك أنّه قد كان مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة »(3) .

وقال ابن كثير : وقد طاف عليّ بين القتلى فجعل كلما مرّ برجل يعرفه ترحمّ عليه ويقول : يعزّ عليّ أن أرى قريشاً صرعى ـ وقد مرّ على ما ذكر ـ على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول فقال : لهفي عليك أبا محمّد ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله لقد كنت كما قال الشاعر :

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر(4)

وهكذا بدأوا النول ثمّ بدأ نسيج البرد المهلهل فكفّنوا به أولئك القتلى من القادة ، وليذهب الأتباع إلى جهنم وبئس المصير على حدّ ما قاله الحسن البصري

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 538 ط دار المعارف.

(2) العقد الفريد 4 / 331 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر.

(3) طبقات ابن سعد 5 / 39 ط افست ليدن.

(4) البداية والنهاية 7 / 244 ط السعادة.

١٩٣

وحوشب وهاشم الأوقص وبكر ابن اخت عبد الواحد فقد كانوا يقولون إذا ذكروا يوم الجمل : هلكت الأتباع ونجت القادة(1) (؟) إنّها إحدى الكبر. ولما مرّ بنا ما قاله الإمام عند مروره بالقتلى فلا حاجة بنا إلى إطالة المقام ونختم ذلك بما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة قال : « ومن كلام له ( عليه السلام ) لمّا مرّ بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل : لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريباً ، أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت وتري من بني عبد مناف ، وأفلتني أعيار بني جُمح ، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه »(2) .

ومن النماذج المضللة في المقام :

خبر عمر بن شبة الّذي رواه في كتابه تاريخ المدينة قال : « حدّثنا محمّد بن عباد قال حدّثنا بعض أصحابنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : انّ ابن عباس ( رضي الله عنه ) خطب بالبصرة فذكر عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) فعظّم أمره وقال : لو أنّ الناس لم يطلبوا بدمه لأمطر الله عليهم حجارة من السماء »(3) .

وهذا الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف(4) والمحب الطبري(5) والسيوطي في تاريخ الخلفاء(6) وغيرهم ، وأحسبهم جميعاً أخذوه عن عمر بن شبة.

____________________

(1) العثمانية للجاحظ / 246 ط دار الكتاب العربي بمصر تح ـ وشرح عبد السلام محمّد هارون.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 41.

(3) تاريخ المدينة 2 / 1254.

(4) ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب في أواخر ترجمة عثمان 3 / 84 بهامش الإصابة.

(5) الرياض النضرة 2 / 137.

(6) ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة عثمان وعنه ابن عساكر في تاريخه أيضاً في ترجمة عثمان.

١٩٤

ومهما يكن فهو خبر ساقط لا لجهالة في السند ( بعض أصحابنا ) الّذي روى عنه ( محمّد بن عباد ) المجهول أيضاً هو الآخر. ولا لاختلاط سعيد بن أبي عروبة الّذي كان قدرياً وقال أحمد فيه قدري لم يكن له كتاب إنّما كان يحفظ ، وقال رحيم اختلط سنة 145. ولا لتدليس قتادة لأنّه أحد الأئمة الأعلام حافظ مدلّس ، ولم يرو عن ابن عباس؟ لا لذلك كله ، بل إن متن الخبر يستبطن كذبه! كيف يقول ابن عباس ذلك وهو ممّن قاتل الذين طالبوا بدم عثمان ، فلماذا قاتلهم اذن؟!

ومن النماذج المضلّلة :

ما رواه غير واحد من أن طلحة لم يخرج من الدنيا إلاّ وبيعة الإمام في عنقه!

وحديث بيعته من مهازل التاريخ. وإليك ذلك :

روى ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن الأصبغ بن نباتة : « انّه لمّا انهزم أهل البصرة ركب عليّ ( عليه السلام ) بغلة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الشهباء ـ وكانت باقية عنده ـ وسار في القتلى ليستعرضهم ، فمر بكعب بن سور القاضي ـ قاضي البصرة ـ وهو قتيل ، فقال : أجلسوه ، فأجلس فقال : ويل أمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلّك فأزلّك فعجّلك إلى النار. أرسلوه ، ثمّ مرّ بطلحة بن عبيد الله قتيلاً فقال : أجلسوه فأجلس ، ثمّ قال :

ـ قال أبو مخنف في كتابه ـ : فقال له : ويل أمك طلحة ، لقد كان لك قدم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلّك فأزلّك فعجّلك إلى النار.

قال ابن أبي الحديد : وأمّا أصحابنا فيروون غير ذلك ، يروون أنّه قال لمّا أجلسوه : أعزز عليّ أبا محمّد أن أراك معفّراً تحت نجوم السماء وفي بطن هذا

١٩٥

الوادي ، أبعد جهادك في الله وذبّك عن رسول الله. فجاء إليه إنسان فقال : أشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم وهو صريع فصاح بي فقال : مِن أصحاب مَن أنت؟ فقلت : من أصحاب أمير المؤمنين ، فقال أمدد يدك لأبايع لأمير المؤمنين فمددت يدي فبايعني لك. فقال عليّ ( عليه السلام ) : أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلاّ وبيعتي في عنقه »(1) .

انتهى كلام ابن أبي الحديد ، وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلاً : فلأنّ هذه الرواية ممّا انفرد أصحابه بنقلها فهي غير مسموعة ، والمعروف بين الفريقين ما رواه أبو مخنف.

وثانياً : إنّه ـ ابن أبي الحديد ـ قال في أوائل شرحه عند الكلام على البغاة والخوارج : أمّا أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلّهم إلاّ عائشة وطلحة والزبير ، فإنّهم تابوا ، ولولا التوبة لحكموا لهم بالنار ، لإصرارهم على البغي.

فإنّ هذا الكلام منهم صريح في استحقاقه للنار لولا التوبة ، ولابدّ لهم من اثبات التوبة ، وأنّى لهم بذلك. ثمّ لو صح ـ وأنى يصح ـ خبر مبايعته لرجل من أصحاب الإمام في تلك الحال صريعاً آيساً من الحياة فلا يجدي شيئاً ، لأنه لا يرفع العقاب. لأن الله تعالى قال :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (2) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 82 ط مصر الأولى.

(2) النساء / 17 ـ 18.

١٩٦

ونعود إلى رواية أصحاب ابن أبي الحديد في بيعة طلحة فنقول له : إنّها رواية ثور بن مجزأة ، وسندها ضعيف جداً كما قاله ابن حجر في الأطراف ونقله عنه المتقي الهندي(1) ، وكذا قاله ونقل عن السيوطي في الأطراف أنّ سندها ضعيف جداً(2) .

ولو أغمضنا عن ضعف سندها فهي كما تدل على اعتراف طلحة بأحقية الإمام بالخلافة ، فإنّها تشير إلى كذبه حين كان يقول انّه بايع أوّلاً مكرهاً والسيف على رقبته ثمّ نكث البيعة وألقحها حرباً عواناً بين المسلمين ثمّ الآن يبايع مرة ثانية (؟).

وزاد علماء التبرير في الطنبور نغمة فقالوا : « دخل موسى بن طلحة على عليّ فقال له عليّ : إنّي لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممّن قال الله فيهم( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) (3) وأمسى عليّ بالبصرة ذلك اليوم الّذي أتاه فيه موسى بن طلحة فقال ابن الكواء : أمسيت بالبصرة يا أمير المؤمنين؟ فقال : كان عندي ابن اخي. قال : ومن هو؟ قال : موسى بن طلحة فقال ابن الكواء : لقد شقينا إن كان ابن أخيك. فقال عليّ : ويحك ان الله قد أطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »(4) . إلى آخر ما هنالك من خداع وتضليل.

____________________

(1) كنز العمال كتاب الفتن من قسم الأفعال 6 / 81 ط حيدر آباد الأولى ، و 11 / 316 ط حيدر آباد الثانية.

(2) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 5 / 441.

(3) الحجر / 47.

(4) الإمامة والسياسة 1 / 70 ط سنة 1328 هـ.

١٩٧

وختاماً فلنذكر للقارئ ما قاله الشريف المرتضى : « فأمّا ما رواه ـ يعني القاضي عبد الجبار ـ من ترحم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ على طلحة ـ وقوله : إنّي لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير اخواناً على سرر متقابلين ، خبر ضعيف لا يوجب العلم ، ويعارضه ما قدمناه من الأخبار الّتي تدل على الإصرار ونفي التوبة ممّا هو أظهر في الرواية وأشهر وأولى من غيره من حيث كانت تلك الأخبار قد تلقتها الفرق المختلفة بالقبول ، وأخباره يرويها قوم وينكرها آخرون »(1) .

خطبة الإمام :

روى الطبرسي عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : « لمّا فرغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قتال أهل البصرة ، وضع قتبا على قتب(2) فحمد الله وأثنى عليه فقال : يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة ، يا أهل الداء العُضال ، يا أتباع البهيمة ، يا جند المرأة رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، ماؤكم زعاق ، ودينكم نفاق ، وأحلامكم رقاق

ثمّ نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه ، فمرّ بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن أسبغ الوضوء ، فقال : يا أمير المؤمنين لقد قتلتَ بالأمس أناساً يشهدون أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، ويصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء.

فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا؟

____________________

(1) الشافي / 290 ط حجرية سنة 1301 هـ.

(2) القتب : الرحل الّذي يوضع على ظهر البعير.

١٩٨

فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين ، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليَّ سلاحي ، وأنا لا أشك في أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشة كفر. فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة نادى مناد يا حسن إلى أين ارجع ، فإنّ القاتل والمقتول في النار ، فرجعت ذاعراً وجلست في بيتي.

فلمّا كان اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين هو الكفر ، فتحنطت وصببت عليَّ سلاحي وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فنادى مناد من خلفي يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى فان القاتل والمقتول في النار.

قال عليّ ( عليه السلام ) : صدقت أفتدري من ذلك المنادي؟ قال : لا. قال ( عليه السلام ) : أخوك إبليس ، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار.

فقال الحسن البصري : الآن عرفت يا أمير المؤمنين انّ القوم هلكى »(1) .

أقول : وإنّ الخطبة الّتي رواها لنا ابن عباس إنّما هي جزء من خطبة طويلة ، روتها مصادر الفريقين كلّ أخذ منها ما يريد(2) .

وما ذكر من مرور الإمام بالحسن البصري ليس له واقع ، والحسن لم يكن بالبصرة يومئذٍ ، وإنّما دخل البصرة أيام صفين ، قال النسائي وابن المديني وصاحب التنقيح : لم يسمع من ابن عباس ولا رآه قط ، كان بالمدينة أيام كان ابن عباس على البصرة.

____________________

(1) الاحتجاج 1 / 250 ط النعمان.

(2) أنظر نهج البلاغة خطبة / 13 و 14 ، وإرشاد المفيد / 137 ط الحيدرية ، والجمل للمفيد / 407 ط دار المفيد ، والأخبار الطوال للدينوري / 153 ، ومروج الذهب 2 / 377 ، وعيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 217 ، والعقد الفريد لابن عبد ربه 4 / 328 ، وتفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى ( والمؤتفكة أهوى ) ، وبحار الأنوار 8 / 447.

١٩٩

وقوله : ( خطبنا ابن عباس ) يعني خطب أهل البصرة ، ولم يكن شاهداً لخطبته ، ولا دخل البصرة بعد ، لأن ابن عباس خطب يوم الجمل ، والحسن دخل أيام صفين(1) .

أمر تسيير عائشة إلى المدينة :

لم يبق للإمام أمر أهمّه إلاّ إرجاع عائشة إلى بيتها ، ولمّا كان ( عليه السلام ) يتّبع أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في قتاله الناكثين فهو يقتفي ما رسم له ، وقد مرّت أحاديث دالة على ذلك. وثمة أحاديث أُخرى في خصوص تسيير عائشة :

فقد روى أبو رافع عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه قال لعليّ : ( سيكون بينك وبين عائشة أمر ، فإذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها ). قال ابن حجر : أخرجه أحمد والبزار بسند حسن(2) . وأخرجه السيوطي في الخصائص عنهما وعن الطبراني(3) .

وفي حديث أم سلمة ( رضي الله عنها ) قالت : « ذكر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أنظري يا حميراء(4) ألاّ تكوني أنت ).

____________________

(1) تحقيق الغاية ، حافظ ثناء الله الزاهدي / 129 و 131 ط باكستان.

(2) فتح الباري 16 / 165.

(3) الخصائص 2 / 127ط حيدر آباد الأولى.

(4) من الطريف أن ينكر ابن قيم الجوزية ورود حديث فيه لفظ ( الحميراء ) وتبعه في ذلك غير واحد. وكأنهم ـ فيما أحسب ـ من باب سد الذرائع عندهم انكروا ذلك ، لئلا يصدمهم حديث الحوأب وفيه : إياك أن تكونيها يا حميراء ، أو يدمغهم حديث ام سلمة المار ذكره في المتن ، مع أن الأحاديث الّتي ورد فيها لفظ ( الحميراء ) نافت على العشرين ـ فيما أحصيت ـ وربّما فاتني غيرها. فلا يعقل أن تكون جميع تلك الأحاديث موضوعة ، وبينها ما هو ثابت بسند صحيح كحديث الحوأب ، وقد أدرجه ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 / 267 ـ 277. وأفاض الكلام في سنده ودلالته ، والرد على من أنكره وهو سعيد الأفغاني ، فراجع ( إشعاع البتيراء على أحاديث الحميراء ) مخطوط للكاتب والبتيراء اسم للشمس كما في القاموس ( بتر ).

٢٠٠