موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 45260
تحميل: 2788


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45260 / تحميل: 2788
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

حديث واحد خير شاهد :

أمّا الآن فأكتفي بشاهد واحد ردّت فيه عائشة فتيا فقهية لابن عباس بإصرار وعناد لغرض سياسي أكثر منه بيان حكم شرعي ، وتلك الفتيا فيمن أقام وأرسل الهدي تطوّعاً إلى الحرم ، هل عليه أن يجتنب عمّا يجتنبه المحرم كما هو رأي ابن عباس؟ أو لا يجب كما هو رأي عائشة. ورُوي عنها في ذلك عدة أحاديث نافت على العشرة متفاوتة سنداً ومتناً حتى ليخيّل لناظرها أنها في وقائع متعددة ، مع أنّ الأصل فيها واقعة واحدة ـ كما سيأتي بيانه ـ والأحاديث الّتي رويت عنها ونافت على العشرة ، روى بعضها مالك وعنه البخاري أيضاً ، كما روى بعضها الآخر هو ومسلم وبقية أصحاب السنن والمسانيد. ومدار الجميع على الرواة عن عائشة ، وجميعهم من حامّتها وخاصّتها كعروة ابن أختها ، والقاسم ابن أخيها ، وعمرة بنت عبد الرحمن ربيبتها ، وهؤلاء الثلاثـة جعلهم ابن عيـيـنة أعلم الناس بحديث عائشة(1) ثمّ رواية أبي قلابة وهو عبد الله بن يزيد الجرمي(2) ورواية الأسود بن يزيد النخعي ومسروق بن الأجدع من المختصّين بها(3) ولهؤلاء جميعاً مقام مرموق عند حكام الأمويين أضف إليهم ابن شهاب الزهري فهو من صنائعهم.

____________________

(1) اسعاف المبطأ / 21.

(2) كان ديوانه بالشام ومات بداريا سنة 104 ـ 105 ، وحسبك بذلك تعريفاً. راجع المعارف / 446 ـ 447.

(3) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 / 269 وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال : ثلاثة لا يؤمنون على عليّ بن أبي طالب : مسروق ومرة وشريح وروي ان الشعبي رابعهم ـ وقال : روى سلمة بن كهيل انهما ـ الأسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ـ كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيقعان في عليّ ( عليه السلام ) فأما الاسود فمات على ذلك ، وأمّا مسروقاً فلم يمت حتى كان لا يصلي لله تعالى صلاة إلاّ صلّى بعدها على عليّ ابن أبي طالب ( عليه السلام ) لحديث سمعه من عائشة في فضله.

٢٦١

والآن إلى صور الحديث الّذي أشرنا إليه نقلاً عن المصادر الثلاث الأولى :

1 ـ الموطأ لمالك بشرح تنوير الحوالك للسيوطي : « حدثني يحيى عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن عبد الله بن عباس قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر الهديَ ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ ، أو مري صاحب الهدي.

قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيدَيّ ثمّ قلدَها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيده ، ثمّ بعث بها مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مع أبي فلم يحرم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شيء أحلّه الله له حتى نُحِرَ الهدي »(1) .

2 ـ صحيح البخاري : « حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنّها أخبرته أنّ زياد ابن أبي سفيان كتب إلى عائشة ( رضي الله عنها ) : أن عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر هديُه. قالت عَمرة : فقالت عائشة ( رضي الله عنها ) : ليس كما قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) ، فتلت قلائد هدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شيء أحله الله حتى نُحر الهديَ »(2) .

3 ـ صحيح البخاري : « حدثنا اسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته قالت عائشة ( رضي الله عنها ) : أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )

____________________

(1) الموطأ 1 / 248 ـ 249 ط مصطفى محمّد بمصر.

(2) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلد القلائد بيده 2 / 169ط بولاق.

٢٦٢

بيديه ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شيء أحلّه الله له حتى نُحر الهدي »(1) .

4 ـ صحيح مسلم : « حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها اخبرته ان ابن زياد كتب إلى عائشة ان عبد الله بن عباس قال : من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ ، قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيدي ثمّ قلّدها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي »(2) .

هذه هي صور الحديث الواحد وأصله عند مالك في الموطأ ورواه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ عنه ، فليقارن القارئ بين هذه الصور ليعلم مدى الأمانة في النقل ، فمن تزيّد ومن تغيير ومن نقصان. لماذا ذلك؟ ومن أجل أن تبقى تلك الرموز ـ صحاحاً ورجالاً ـ في البروج العاجية ، استبسل علماء التبرير في سدّ بعض الفجوات ، إلاّ أنّهم لم يوفّقوا تماماً. وقد أخترت طائفة من أقوالهم من خلال شروحهم لتلك الصحاح فمن شروح الموطأ : المنتقى لأبي الوليد الباجي ، وشرح الزرقاني ، وتنوير الحوالك للسيوطي.

ومن شروح البخاري : فتح الباري لابن حجر ، وإرشاد الساري للقسطلاني ، والكواكب الدراري للكرماني ، وكوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري للشنقيطي الجكني.

____________________

(1) نفس المصدر ، كتاب الوكالة ، باب الوكالة في البدن وتعاهدها 3 / 102.

(2) صحيح مسلم ( كتاب الحج ) باب استحباب بعث الهدي الى الحرم 1 / 372 ح 11 ط بولاق.

٢٦٣

ومن شروح مسلم : شرح النووي ، وإكمال إكمال المعلم للآبي ، ومكمل إكمال إكمال المعلم للسنوسي.

إلى غير ذلك كسنن البيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وتكملة المنهل المورود بشرح سنن أبي داود.

ماذا قال علماء التبرير؟

1 ـ قال ابن حجر في فتح الباري : « ( تنبيه ) وقع عند مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك في هذا الحديث : انّ ابن زياد بدل قوله : انّ زياد بن أبي سفيان ، وهو وهم نبّه عليه الغساني ومن تبعه »(1) .

2 ـ وقال النووي في شرح صحيح مسلم : « إنّ ابن زياد كتب إلى عائشة هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم ان ابن زياد ، قال أبو عليّ الغساني والمازري والقاضي وجميع المتكلمين على صحيح مسلم : هذا غلط وصوابه : أن زياد بن أبي سفيان وهو المعروف بزياد بن أبيه ، وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ، ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم »(2) .

ونحن نقول له : فأين قوله : اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ اصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم ، وتلقتهما الأمة بالقبول ، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة(3) ، ولا ضيرَ حتى ولو لم يروه أولئكم ، فإنّ البخاري وحده يكفيهم لأن كتابه عندهم أصح وأكثر

____________________

(1) فتح الباري 4 / 293 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.

(2) صحيح مسلم 9 / 72 ط مصر.

(3) مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي 1 / 14.

٢٦٤

فوائد؟ وإن تزيّد في النقل فمنح الترضّي حسب الهواية والمشتهاية ، وإن تنّقص فحذف في روايته في الوكالة بعض ما ذكره في روايته في كتاب الحج فقارن ـ وفي المقامين حذف من رواية المصدر جملة ( أو مري صاحب الهدي ) فهكذا هي الأمانة في النقل (؟!). ولعل هذا من الفوائد والمعارف الغامضة ومهما يكن فنحن لا يهمنا غلط مسلم في ذكره ابن زياد بدل أبيه ، فكلاهما دعيّ وفي النصب سواء ، والاعتذار بأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة ، إعتذارٌ واه فقد أدركها ، لأنّها ماتت سنة ( 56 هـ أو 57 هـ أو 58 هـ ) كما في تاريخ اليعقوبي(1) ، وابن زياد ولاه معاوية ـ خراسان بعد وفاة أبيه زياد سنة 54 ، وليس بالضرورة أن يكون سؤاله لها أيام ولايته البصرة فيمكن أنّه سألها أيام أبيه ، وإنّما الّذي يهمنا هو تنبيه القارئ إلى أنّ المرجعية الرسمية للأحكام الشرعية يومئذ هي عائشة دون باقي أمهات المؤمنين وبقية فقهاء الصحابة والتابعين ، ولذلك قلنا أستبسل شرّاح الصحيح في سدّ الثغرات ، وزاد بعضهم فضاعف جهده لإثبات صحة رأي عائشة وتفنيد رأي ابن عباس حتى ولو كان رأيه موافقاً لرأي عمر ورأي عليّ وآراء آخرين من صحابة وتابعين ، بل تصاعدت حمّى الزهري ـ وهو من فقهاء البلاط الأموي ـ فجعل لها المنّة على المسلمين حيث كشفت لهم ما استغلق عليهم فهمه (؟؟؟) كما سيأتي.

3 ـ قال ابن التين : « خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء ، واحتجت عائشة بفعل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه ، ولعل ابن عباس رجع عنه ، انتهى »(2) .

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 212.

(2) فتح الباري 4 / 294 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378.

٢٦٥

ولفجاجة هذا الرأي وسماجة هذا القول تعقبه ابن حجر بقوله : « وفيه قصور شديد ، فإنّ ابن عباس لم ينفرد بذلك ، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة :

منهم ابن عمر : رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريح كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلاّ أنّه لا يلبي(1) .

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة : أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك(2) .

وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن عليّ بن الحسين عن عمر وعليّ أنّهما قالا في الرجل يرسل ببدنته أنّه يمسك عما يمسك عنه المحرم(3) . وهذا منقطع »(4) .

4 ـ وقال ابن المنذر : « قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حَرُمَ عليه ما يحرم على المحرم.

وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرماً ، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار »(5) (؟).

5 ـ وقال ابن حجر : « ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال : كنت جالساً عند النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقدّ قميصه من جيبه

____________________

(1) أنظر المصنف لابن أبي شيبة 4 ق1 / 88 ط باكستان ادارة القرآن والعلوم الإسلامية.

(2) فتح الباري 4 / 294.

(3) نفس المصدر.

(4) نفس المصدر.

(5) أنظر فتح الباري 4 / 294 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.

٢٦٦

حتى أخرجه من رجليه ، وقال : إنّي أمرت ببُدني الّتي بعثت أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث ، وهذا لا حجة فيه لضعف اسناده ، إلاّ انّ نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ »(1) .

6 ـ وقال أيضاً : « وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم إلاّ الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح »(2) .

7 ـ وقال أيضاً : « نعم جاء عن الزهري ما يدل على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس ، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي من طريقه قال : أوّل من كشف العمى عن الناس وبيّن لهم السنّة في ذلك عائشة فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال : فلمّا بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس(3) »(4) .

8 ـ وقال أيضاً : « وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرماً ، حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق »(5) .

9 ـ وقال أيضاً : « وقال أصحاب الرأي : من ساق الهدي وأمّ البيت ثمّ قلّد وجب عليه الاحرام »(6) .

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

(3) سنن البيهقي 5 / 233 ـ 234 فراجع ستجد الدفاع باندفاع عن رأي عائشة.

(4) فتح الباري 4 / 294.

أخرجه الهميثي في مجمع الزوائد 3 / 227 ط القدسي وقال رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات.

(5) نفس المصدر.

(6) نفس المصدر.

٢٦٧

10 ـ وقال أيضاً : « وقال الجمهور : لا يصير بتقليد الهدي محرماً ولا يجب عليه شيء »(1) .

11 ـ وقال أيضاً : « ونقل الخطأبي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس ، وهو خطأ عليهم ، فالطحاوي أعلم بهم منه ، ولعل الخطأبي ظن التسوية بين المسألتين »(2) .

12 ـ وقال أمين محمود خطاب(3) : « وسبب هذا الحديث ما روت عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة ـ وذكر الحديث ـ ثمّ قال أخرجه البخاري والطحاوي »(4) .

وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمانية عشر طريقاً ، لبيان حجة من قال : لا يجب على من بعث هدياً أن يتجرد عن ثيابه ، ولا يترك شيئاً من محظورات الإحرام إلاّ بدخوله فيه بحج أو عمرة. وإلى هذا ذهب أكثر الصحابة والحنفيون ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد.

وعن ابن عباس وعمر وعليّ والنخعي وعطاء وابن سيرين : ان من أرسل هدياً إلى الحرم يلزمه إذا قلده الاحرام. ويحرم عليه كلّ ما يحرم على المحرم ، لحديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة عن عبد الملك بن جابر عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنهما ) قال : كنت عند النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جالساً فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : إني أمرت ببُدني الّتي بعثت بها أن

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

(3) في فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود 1 / 14 ط الأولى بالاعتصام بالخيمية سنة 1375.

(4) انظر فتح الباري 3 / 354 ( من قلد القلائد بيده ) و / 439 ، وشرح معاني الآثار.

٢٦٨

تقلد اليوم وتشعر على ماء كذا وكذا ، فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. وكان قد بعث ببُدنه من المدينة فأقام بالمدينة. أخرجه أحمد والطحاوي والبزار(1) لكن ابن أبي لبيبة ليس ممّن يحتج به فيما ينفرد به ، فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه.

قال الطحاوي في شرح معاني الآثار : اسناد حديث عائشة صحيح لا تنازع بين أهل العلم فيه ، وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك ، لأن من رواه دون من روى حديث عائشة ، لكن قال في مجمع الزوائد بعد أن ذكر الحديث : ورجال أحمد ثقات. ( وعن عطاء ) بن يسار عن نفر من بني سلمة قالوا : كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جالساً فشق ثوبه. فقال إني واعدت هدياً يشعر اليوم. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، وبهذا يرد على من قال : الظاهر أنه لا أصل لهذا الحديث.

ماذا وراء الأكمة من غمّة؟

إنّ اندفاع علماء التبرير في دفاعهم المستميت يوحي بدءاً بأنّهم في مقام إثبات حكم شرعي ، وإن دلّ على دعم موقف عائشة في فتياها الّتي ردت بها على فتيا ابن عباس ، كما هو الوجه الظاهر للعملة الّتي يتعاملون بها مع الناس ، وهنا وجه باهت اللون خافت النور إذا قيس بالوجه الآخر الّذي كانوا يتعاملون به مع الحكام فإنّه ليس كذلك ، بل هو ذو لون صارخ أشدّ وهجاً وأكثر رهجاً ، وهو جوهر القضية في الحديث المذكور.

وذلك فيما أرى ـ والله العالم ـ كان لإستصدار قرار عائشي بتصديق نسب زياد بعد الإستلحاق وانه ابن أبي سفيان ، وهذا يتم من خلال جواب الكتاب

____________________

(1) انظر 13 / 33 من الفتح الرباني. و 3 / 227 من مجمع الزوائد ( من بعث هدياً وهو مقيم ) و 1 / 439 من شرح معاني الآثار ( هامش المصدر السابق ).

٢٦٩

تحريراً لو تم. وإذا لم يتم ـ كما هو الحال ـ فيكفي أن راوية الحديث عَمرة بنت عبد الرحمن(1) ذكرت ذلك عن عائشة ولم تذكر عنها انكاراً لذلك ، وفي سكوتها على أقل تقدير إمضاء لما جاء في الحديث ، وفي هذا حسب زياد وآل زياد ، وفي مقابل ذلك لا بد من تقديم ثمن لعائشة يساوي ما أخذوه من مثمن وهل من ثمن أكثر قيمة من إذاعة وإشاعة أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يبعث هديه من المدينة ، وعائشة هي الّتي تفتل القلائد للهدي ، وأبوها يسوق الهدي إلى مكة أو إلى منى ، ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا يجتنب عما يجتنبه المحرم. وهكذا صار الحديث وكأنه مناورة سياسية أكثر من بيان واقعة شرعية واستمرت المناورة ـ فيما يبدو ـ فقد ذكر السيد ابن عقيل ان زياداً كتب إلى عائشة كتاباً فيه : « من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له : إلى زياد بن أبي سفيان ليحتج بذلك ، فكتبت إليه من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد »(2) .

وفي رواية ابن أبي الحديد قال : « كتبت عائشة إلى زياد فلم تدر ما تكتب عنوانه ، إن كتبت زياد بن عبيد الله وابن أبيه أغضبته ، وإن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد ، فلمّا قرأه ضحك وقال : لقد لقيت أم المؤمنين من هذا نصبا »(3) .

____________________

(1) أتدري مَن عمرة بنت عبد الرحمن؟ كانت هي وأخواتها في حجر عائشة وعندها ( طبقات ابن سعد 8 / 353 ) افست ليدن.

وهي الّتي كتب عمر بن عبد العزيز في حقها إلى أبي بكر بن محمّد بن حزم : ان انظر ما كان من حديث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله؟ يا لله يكون حديث عمرة بمنزلة حديث رسول الله ومثل السنّة الماضية في ميزان الاعتبار عند الخليفة الأموي؟ ولزيادة الاطلاع فان ابا بكر بن محمّد بن حزم هو زوج اختها؟ وراوي حديث الفتيا هو ابن اختها فظن خيراً.

(2) النصائح الكافية / 56 ط بمبي سنة 1326 هـ.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 76 ط مصر الأولى و 16 / 204 تح ـ أبو الفضل إبراهيم والقضايا الكبرى في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي / 188.

٢٧٠

وأخيراً نجحت بالتالي مؤامرة زياد فكتبت إليه كتاب شفاعة لمرة بن أبي عثمان مولى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقال ابن الكلبي هو مولى عائشة ، سأل عائشة أن تكتب له إلى زياد وتبدأ به في عنوان كتابه ، فكتبت إليه بالوصاة به وعنونته : إلى زياد بن أبي سفيان من عائشة أم المؤمنين ، فلمّا رأى زياد أنها قدّمته ونسبته إلى أبي سفيان سرّ بذلك وأكرم مرّة وألطفه وقال للناس : هذا كتاب أم المؤمنين إليّ وفيه كذا ، وعرضه ليقرأ عنوانه ثمّ أقطعه مائة جريب على نهر الأبّلة ، وأمر أن يحفر لها نهرٌ فنسب إليه(1) .

وهذا ما أدركه علماء التبرير ـ ولا أقل بعضهم ـ إلاّ أنّهم تسللوا من وراء الأكمة لوإذا لئلا تصطدمهم الحقيقة المرّة ، فتزل قدم بعد اهتزازها على أرضية هشة من المبررات الّتي ما أنزل الله بها من سلطان.

حتى قال بعضهم ممعناً في التبرير والتزوير فقال : « وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية ، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد ، وكانت أمه سمية مولاة الحرث بن كلدة الثقفي وهي تحت عبيد المذكور فولدت زياداً على فراشه ، فكان ينسب إليه ، فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زياداً ولده ، فاستلحقه معاوية بذلك ، وخالف الحديث الصحيح ( إن الولد للفراش وللعاهر الحجر ) وذلك لغرض دنيوي ، وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية من أنكرها ، حتى قيلت فيها الأشعار ، ومنها قول القائل :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلغلة من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ

وترضى أن يقال أبوك زاني

____________________

(1) راجع معجم البلدان 5 / 323 ( نهر مرّة ).

٢٧١

وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فانما هو تقية.

وذكر أهل الأمهات نسبته إلى أبي سفيان في كتبهم مع كونهم لم يؤلفوها إلاّ بعد انقراض عصر بني أمية محافظة منهم على الألفاظ الّتي وقعت من الرواة في ذلك الزمان كما هو دأبهم »(1) .

وجاء في كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري للشيخ محمّد الخضر الجكني الشنقيطي المتوفى سنة 1354 هـ ترجمة زياد وكيفية إستلحاقه وأسماء الشهود له بذلك ، وفي آخر الترجمة : غضب بني أمية من إستلحاقه ، وذكر شعر عبد الرحمن بن الحكم نقلاً عن الاستيعاب ، فمن أراد ذلك فليرجع إلى المصدر المذكور(2) .

وذكر الأبي في شرحه صحيح مسلم عند قوله ان ابن زياد كتب ( قلت ) ابن زياد هو عبيد الله بن زياد هذا هو الّذي قتل الحسين بن عليّ ، وزياد هذا هو والده وكان معاوية استلحقه لأبيه أبي سفيان ، وتقدم اشباع الكلام على ذلك وعلى كيفية استلحاقه في حديث : من انتسب لغير أبيه من كتاب الإيمان فراجعه هناك(3) .

نور على الدرب :

لو تفحصنا حديث عائشة في المصادر الّتي مرّ ذكرها لوجدناه ـ كما قلنا ـ يتفاوت بين مصدر وآخر ، بل بين رواية راو واحد في المصدر الواحد ، وللتدليل والاختصار نذكر للقارئ ما في صحيح البخاري فقط ، وعندهم كلّ الصيد في جوف الفرا.

____________________

(1) نيل الأوطار للشوكاني 5 / 107 ط العثمانية بمصر سنة 1357 هـ.

(2) كوثر المعاني 13 / 388 ط مؤسسة الرسالة سنة 1415 هـ.

(3) شرح صحيح مسلم 3 / 413.

٢٧٢

لقد ذكر الحديث في ستة أبواب متتابعة بشتى الصور ، وهي كما يلي في كتاب الحج بألفاظها :

1 ـ باب من أشعر وقلّد بذي الحليفة ثمّ أحرم.

قال البخاري : « حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : فتلت قلائد بُدن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيديّ ثمّ قلّدها وأشعرها وأهداها ، وما حُرم عليه شيء كان أحلّ له »(1) .

أقول : وهذا الحديث لم يشرحه ابن حجر في فتح الباري(2) فظن خيراً.

2 ـ باب فتل القلائد للبدن والبقر.

قال البخاري : « حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثنا ابن شهاب عن عروة عن عمرة بنت عبد الرحمن ان عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثمّ لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم »(3) .

أقول : وهذا الحديث أيضاً غض ابن حجر النظر عنه فتعداه بسلام(4) .

3 ـ باب إشعار البدن.

قال البخاري : « حدثنا عبد الله بن سلمة حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : فتلت قلائد هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أشعرها وقلّدها أو قلّدتها ، ثمّ بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلّ »(5) .

____________________

(1) صحيح البخاري 2 / 169ح 3 ط بولاق.

(2) فتح الباري 4 / 291.

(3) صحيح البخاري 2 / 169 ح 2ط بولاق.

(4) فتح الباري 4 / 291.

(5) صحيح البخاري 2 / 169 ح 1 ط بولاق.

٢٧٣

أقول : وعلى ما عودنا ابن حجر في سابقيه لقد تغاضى عن شرحه إلى شرح معنى الإشعار ومشروعيته واختلاف العلماء فيه(1) .

4 ـ باب من قلد القلائد بيده :

قال البخاري : « عبد الله بن يوسف ، وذكر الحديث الّذي ذكرناه أوّلاً كخير شاهد فلا حاجة إلى إعادة ذكره »(2) .

5 ـ باب تقليد الغنم.

قال البخاري : « حدثنا أبو النعمان حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : كنت أفتل القلائد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيقلّد الغنم ويقيم في أهله حلالاً »(3) .

أقول : وقد استبسل ابن حجر في شرح عنوان الباب وذكر من رأى تقليد الغنم ومن لم ير والرد عليه بحديث الباب إلى آخر ما عنده(4) .

6 ـ نفس الباب.

قال البخاري : « حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد حدثنا منصور بن المعتمر ( ح= حيلولة ) وحدثنا محمّد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيبعث بها ثمّ يمكث حلالاً »(5) .

____________________

(1) أنظر فتح الباري 4 / 292.

(2) صحيح البخاري 2 / 169 ح 2 ط بولاق.

(3) صحيح البخاري 2 / 169 ح 2ط بولاق.

(4) من شاء الاستزادة فليرجع إلى فتح الباري 4 / 295.

(5) صحيح البخاري 2 / 170 ح 3 ط بولاق.

٢٧٤

أقول : ذكر ابن حجر إعلال بعض المخالفين حديث الباب بأنّ الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم. قال المنذري وغيره : ليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضرّه التفرد.

7 ـ الباب نفسه.

قال البخاري : « حدثنا أبو نعيم حدثنا زكرياء عن عامر عن مسروق عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : فتلت لهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، تعني القلائد قبل أن يحرم »(1) .

8 ـ باب القلائد من العهن.

قال البخاري : « حدثنا عمرو بن عليّ حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن القاسم عن أم المؤمنين ( رضي الله عنها ) قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي »(2) .

أقول : وقد أشار ابن حجر في فتح الباري إلى تفاوت رواية يحيى في الباب ، كما أشار إلى رواية مسلم للحديث عن ابن عون مثله وزاد : « فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الحلال من أهله ، وهذه الزيادة كشفت لنا غمغمة الأحاديث السابقة في أقوال عائشة : وما حرم عليه شيء كان أحل له ، أو لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم ، أو فما حرم عليه شيء كان له حلّ ، أو قولها : فيقيم في أهله حلالاً ، أو ثمّ يمكث حلالاً »(3) .

وبعد هذا العرض نترك المقارنة لمن أحب ، ليعرف كيف التلاعب بألفاظ الحديث عند الرواة ، من دون حياء.

____________________

(1) صحيح البخاري 2 / 170ح 4 ط بولاق.

(2) صحيح البخاري 2 / 170 ط بولاق.

(3) فتح الباري 4 / 296.

٢٧٥

والآن إلى :

نقاط على الحروف :

إذا ما رجعنا ثانية إلى الحديث وقرأناه قراءة ثانية ومتأنّية تساقطت من أجواء المسائل التالية :

1 ـ ما بال زياد يكتب إلى عائشة في ذلك؟ وكان الأحرى به وقد أصبح ابن أبي سفيان أن يكتب إلى أخته أم حبيبة؟ أليس كذلك؟ فهي أخته فيما يزعمون ، وهي من أمهات المؤمنين ، ولا يخفى عليها ذلك من فعل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فإن لم تكن فتلت القلائد مرة ، فلا أقل أنها رأت أو سمعت من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في ذلك شيئاً. وهذه عاشت كثيراً من سنيّ ولاية زياد وأدرك هو حياتها فقد ماتت سنة 59 هـ كما في اسعاف المبطأ(1) .

2 ـ هل أنّ أحاديث عائشة كلها لواقعة واحدة ، فإن كانت فلماذا تفاوتت صورها وقد بلغت عند مسلم عشرة أحاديث ومرّت ثمانية منها عند البخاري؟ أو هي وقائع متعددة؟

فإن كانت كلّها لواقعة واحدة فلماذا اختلفت اختلافاً فاحشاً حتى في رواية الراوي الواحد عن عائشة وفي المصدر الواحد؟

فانظر روايات عمرة وعروة والقاسم والأسود ، وقارن بين رواياتهم على انفراد فضلاً عن مقارنتها بروايات بعضهم مع بعض؟ وإن كانت لوقائع متعددة فما بال عائشة وحدها تتولى فتل القلائد دون بقية الزوجات في جميع تلك السنين؟

____________________

(1) إسعاف المبطأ / 35.

٢٧٦

على أنّه من المستبعد جداً أن لا يكون قد شاركتها مرة غيرَها في ذلك الفتل العظيم الّذي خصّت نفسها به.

وأبعد من ذلك كله عدم ورود حديث واحد عنهن يؤيد ذلك الإختصاص.

3 ـ ثمّ ما بالها لم تذكر ـ ولو لمرة واحدة ـ اسم الشخص الّذي كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يرسل معه الهدي ، وما ذكرت غير أبيها؟ فهل يعني ذلك أنه وحده كان يتولى سياق الهدي كما كانت ابنته تتولى فتل القلائد في جميع سني الهجرة؟ وهذا ما يكذبه الوجدان ، لأنه لم يذهب إلى مكة أو إلى منى بعد الهجرة إلاّ وهو مع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سواء في عمرة القضاء أو في حجة الوداع ، وفي كلتيهما كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) موجوداً يتولى هديه بنفسه.

ولو سلّمنا جدلاً زعم بعض علماء التبرير أنه كان ذلك في السنة التاسعة وهي سنة تبليغ براءة ـ بحجة ذهابه أميراً على الموسم ، فما بال الرواة وعلماء التبرير أبلسوا عن مصير الهدي عندما لحقه الإمام وأبلغه أمر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى المدينة ، كيف صار الهدي هل أرجعه معه؟ أو أخذه عليّ كما أخذ آيات براءة؟ أو أرسله أبو بكر مع آخرين غير عليّ؟ وهكذا استفهام بعد استفهام هذا كله إذا صدقت تلكم الأحلام.

ولكي يستبين زيف ذلك الزعم ، فلنقرأ في ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند : « قال عبد الله بن أحمد : حدثنا محمّد بن سليمان لوين ، حدثنا محمّد بن جابر عن سماك عن حنش عن عليّ قال : لما نزلت عشر آيات من براءة على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دعا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أبا بكر ، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثمّ دعاني النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال لي : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه

٢٧٧

فاذهب به إلى مكة فاقرأه عليهم ، فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال : يا رسول الله نزل فيَّ شيء؟ قال : لا. ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك »(1) .

ونعود إلى أوّل السؤال لو سلّمنا جدلاً ان أباها تولى كبر ذلك في السنة التاسعة ، فمن هم أولئك الذين تولوا المهمة في باقي السنوات؟ ولماذا لم تذكرهم؟ وهي لا تخلو أمّا أن تكون تعلمهم وكتمت أسماءهم لحاجة في نفسها ـ كما فعلت ذلك في حديث آخر وذلك في مرض النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فذكرت خروجه يتوكأ على رجلين الفضل بن العباس ورجل ، فسأل السامع ابن عباس فأخبره انه عليّ ، ولكن عائشة لا تطيب لها نفس أن تذكره ـ وهذا لا يليق بها.

وأمّا أن تكون لا تعلمهم وهو بعيد غايته ، كيف وابن عباس كان يعلم بعضاً منهم ، فيذكر ذويب الخزاعي منهم ، وناجية الأسلمي منهم(2) . وأعود إلى الأفغاني الّذي استدرجني إلى هذه الجولة لأقول له في الختام : أرأيت كيف كان ابن عباس أوعى وأذكى وأزكى في حديثه حين سمّى من عَرفهم ، وهو لم يفتل فتلاً ولا حبلاً (!!؟).

____________________

(1) زيادات المسند 1 / 322 برقم 1296.

(2) راجع المحلى لابن حزم 7 / 269 عن ابن عباس قال بعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مع فلان الأسلمي ثماني عشرة بدنة وفي سنن ابن ماجة 2 / 1036 برقم 3105 عن ابن عباس ان ذويباً الخزاعي حدث ان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يبعث معه بالبدن وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة سمي الأسلمي وهو ناجية ، وقال الترمذي : حديث ناجية حديث حسن صحيح. وفي المبسوط للسرخسي الحنفي 4 / 145 : ان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي

٢٧٨

وأمّا فتياه فقد كانت هي الفتيا الصحيحة ، ورأيه هو الصواب ، وهو على رأي الإمام ورأي عمر وأبنه وقيس بن سعد وهؤلاء من الصحابة بينهم خليفتان ، مضافاً إلى نفر من فقهاء التابعين كالنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرين.

وحسب ابن عباس انّه كان على رأي عليّ أمير المؤمنين الّذي هو مع الحقّ والحقّ معه كما قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )(1) ولو بحثنا عن جذور المسألة تاريخياً لوجدناها من أيام كان ابن عباس بالمدينة قبل أن يخرج منها مع الإمام ( عليه السلام ) فكان يبعث هديه ويتجرّد كما كان يفعل ذلك الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أيضاً ، فقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( انّ ابن عباس ( رضي الله عنه ) وعليّاً ( عليه السلام ) كانا يبعثان بهديهما من المدينة ثمّ يتجرّدان ، وإن بعثا بهما من أفق من الآفاق واعدا أصحابهما بتقليدهما وإشعارهما يوماً معلوماً ، ثمّ يمسكان يومئذ إلى يوم النحر عن كلّ ما يمسك عنه المحرم ، ويجتنبان كلّ ما يجتنب المحرم ، إلاّ أنّه لا يلبي إلاّ من كان حاجاً أو معتمراً )(2) . والحديث صحيح الإسناد(3) .

وقد استمر كذلك حتى في أيام ولايته على البصرة كما سيأتي مزيد بيان عن ذلك في تاريخ ولايته.

____________________

(1) تاريخ بغداد 14 / 321 بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر عليّاً فقالت : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة ، وهذا ما رواه سعد بن أبي وقاص أيضاً وقد قال سمعت في بيت ام سلمة ، فأرسل معاوية إلى أم سلمة فسألها فقالت قد قاله رسول الله في بيتي ، فقال معاوية لسعد : ما كنت عندي قط ألوم منك الآن فقال : ولم؟ قال : لو سمعت من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم أزل خادماً لعليّ حتى أموت. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 236 ، ولم يسم معاوية بل كنى عنه بأحد وبالرجل.

(2) تهذيب الأحكام 5 / 424.

(3) كما في الجواهر 20 / 160 ط الآداب النجف.

٢٧٩

وختاماً لحديثنا عن حوار ابن عباس مع عائشة وما جرنا إليه كلام الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة نودّع القارئ بما قاله الكاتب الإسلامي المعروف أبو الأعلى المودودي :

فلنقرأ ما يقول أبو الأعلى المودودي في محاضرته تدوين الدستور الإسلامي : « وإذا كان عند من يسوّغون تدخّل المرأة في شؤون السياسة والحكم دليل يؤيد نظريتهم ، فما هو إلاّ أنّ عائشة ( رضي الله عنها ) قد خرجت تطالب بدم عثمان ( رضي الله عنه ) وقاتلت عليّاً كرّم الله وجهه في وقعة الجمل.

إلاّ أنّ هذا الدليل قائم على أساس من الخطأ. وذلك أنّه ما دام هدى الله ورسوله واضحاً في المسألة ، لا يجوز أبداً أن يحتج فيها بعمل شخصي لأحد من الصحابة. ممّا يخالف هدى الله ورسوله باديء الرأي. إنّ سيَر الصحابة رضوان الله عليهم لا ريب هي مشاعل الهدى ومصابيح الدجى ، نستضيء بها في اتباع ما هدانا الله ورسوله إليه ، لا نتبع ما فرط منهم من الهفوات الشخصية معرضين عن الآيات الواضحة وهدى الرسول الثابت. ثمّ كيف يجوز لنا أن نتخذ الفعل الّذي قد خطّأه كبّار الصحابة في تلك الآونة والّذي ندمت عليه أم المؤمنين بنفسها فيما بعد دليلاً على إحداث بدعة في الإسلام.

فهذه أم المؤمنين أم سلمة ( رضي الله عنها ) لمّا بلغها إقدام عائشة ( رضي الله عنها ) على ذلك الأمر ، كتبت اليها كتاباً قد نقله بتمامه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة وابن عبد ربه في العقد الفريد فانظر فيه ما أشد الكلمات الّتي تعظ بها أم سلمة ( رضي الله عنها ) : « قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه أقد نسيتِ أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد نهاكِ عن الافراط في الدين وما كنتِ قائلة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لو عارضكِ بأطراف الجبال والفلوات على قَعود من الإبل من منهل إلى منهل ».

٢٨٠