موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 45245
تحميل: 2786


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45245 / تحميل: 2786
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

وكتابي إليك ، وأنا كحرباء السَبسَبّ في الهجرِ ترقب عين الغزالة ، وكالسبع المفلتِ من الشَركَ يفرَق من صوت نفسه ، منتظراً لما تصح به عزيمتك ، ويَرِدُ به أمرك ، فيكون العمل به والمحتذَى عليه.

وكتب في أسفل الكتاب :

أيقتل عثمانٌ وترقأ دموعُنا

ونرقد هذا الليل لا نتفزّع

ونشرب برد الماء ريّاً وقد مضى

على ظمأ يتلو القُرانَ ويركع

فإني ومَن حجّ الملّبونّ بيته

وطافوا به سعياً وذو العرش يسمع

سأمنع نفسي كلّ ما فيه لذّة

من العيش حتى لا يُرى فيه مطمع

وأقتل بالمظلوم من كان ظالماً

وذلك حكمُ الله ما عنه مدفع

وكتب إليه عبد الله بن عامر : أمّا بعد ، فان أمير المؤمنين كان لنا الجناح الحاضنة تأوي اليها فراخُها تحتها ، فلمّا أقصده(1) السهم صرنا كالنعام الشارد ، ولقد كنت مشترك الفكر ، ضالّ الفهم ، التمس دريئة استجنّ بها من خطأ الحوادث ، حتى وقع اليّ كتابك ، فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي ، فأنا كواجد المحجّة ، كان إلى جانبها حائراً ، وكأني أعاينُ ما وصفتَ من تصرّف الأحوال.

والّذي أخبرك به أن الناس في هذا الأمر تسعة لك وواحد عليك ، ووالله للموتُ في طلب العزّ أحسن من الحياة في الذلّة ، وأنت ابن حرب فتى الحروب ، ونُضار(2) بني عبد شمس ، والهمم بك منوطة ، وأنت منهضها ، ( فإذا نهضت فليس حين قعود ) وأنا اليوم على خلاف ما كانت عليه عزيمتي من طلب العافية ، وحبّ

____________________

(1) أقصده السهم : أصابه.

(2) النُضار : الخالص من كلّ شيء.

٦١

السلامة قبل قرعك سويداء القلب بسوط الملام ، ولنعم مؤدّب العشيرة أنت وإنا لنرجوك بعد عثمان ، ولها أنا متوقع ما يكون منك لأمتثله ، وأعمل عليه ان شاء الله.

وكتب في أسفل الكتاب :

لا خير في العيش في ذلٍّ ومنقصة

والموتُ أحسنُ من ضيمٍ ومن عار

انا بنو عبد شمس معشرٌ أُنُفٌ

غرٌّ جحاجحةٌ طُلاّب أو تار

والله لو كانَ ذميّا مجاوُرَنا

ليطلب العز لم نقعد عن الجار

فكيف عثمان لم يدفن بمزبلة

على القمامة مطروحاً بها عار

فازحف إلي فإني زاحفٌ لهم

بكل أبيض ماضي الحدّ بتّار

وكتب إليه الوليد بن عُقبة : أمّا بعد ، فإنك أسدّ قريش عقلا ، وأحسنهم فهماً ، وأصوبهم رأياً معك حسن السياسة ، وأنت موضع الرياسة ، توردُ بمعرفة ، وتُصدِر عن منهل روّي ، مناوئك كالمنقلب عن العيّوق(1) يهوي به عاصف الشمال إلى لجّة البحر.

كتبتَ إليّ تذكر طيب الخيش ولين العيش ، فملأ بطني عليّ حرام إلاّ مسكة الرمق حتى أفري أوداج قتلة عثمان فري الأهب(2) بشفاة الشفار ، وأمّا اللين فهيهات إلاّ خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب إنا على مداجاة ، ولما تبدُ صفحاتنا بعدُ ، وليس دون الدم بالدم مزحل(3) إنّ العار منقصة ، والضعف ذلّ ، إن يخبط قتلة عثمان زهرة الحياة الدنيا ، ويسقَون بَرد المعين ، ولمّا يمتطوا الخوف ،

____________________

(1) نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الأيمن ، يتلو الثريا لا يتقدّمها.

(2) الأهب جمع إهاب وهو الجلد ما لم يدبغ ، وشفاة الشفار : حد السيف.

(3) يقال : ( إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل ) أي مُنقدح.

٦٢

ويستحلسوا الحذر بعد مسافة الطردَ وامتطاء العقبة الكؤود في الرحلة ، لا دعيت لعُقبة إن كان ذلك حتى أنصب لهم حربا تضع الحوامل لها أطفالها ، وقد ألوت بنا المسافة ، ووردنا حياض المنايا ، وقد عقلتُ نفسي على الموت عَقَل البعير ، وأحتسبت أنّي ثاني عثمان ، أو اقتل قاتله ، فعجّل عليّ ما يكون من رأيك ، فإنا منوطون بك ، متبعون عَقِبك ، ولم أحسب الحال تتراخى بك إلى هذه الغاية ، لما أخافه من إحكام القوم أمرهم.

وكتب في أسفل الكتاب :

نومي عليّ محرّم إن لم أقم

بدم ابن أمي من بني العلاّت

قامت عليّ إذا قعدتُ ولم أقم

بطلاب ذاك مناحة الأموات

عذْبت حياض الموت عندي

بعد ما كانت كريهة مورد النّهلات

وكتب إليه يعلى بن أمية : إنا وأنتم يا بني أمية كالحجر لا يبنى بغير مدَر ، وكالسيف لا يقطع إلاّ بضاربه ، وصل كتابك بخبر القوم وحالهم ، فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة بُودر بها الموت لينحرنّ ذابحُه نحر البَدنَة وافى بها الهدي الأجل ، ثكلتني مَن انا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان ، أو يقال : لم يبق فيه رمق ، إني أرى العيش بعد قتل عثمان مرّا ، إن أدلج القوم فإني مدلج ، وأمّا قصدهم ما حوته يدي من المال ، فالمال أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان ، وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم ، وان لنا ولهم لمعركة نتناحر فيها نحر القُدار النقائع(1) عن قليل تصل لحومها.

وكتب في أسفل الكتاب :

____________________

(1) القدار : الجزّار ، والنقائع جمع نقيعة وهي ما نحر من إبل النهب.

٦٣

لمثل هذا اليوم أوصى الناس

لا نُعط ضيماً أو يخرّ الرأسُ

قال : فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية يُحرّضونه ويُغرونه ويحرّكونه ويهيّجونه ، إلاّ سعيد بن العاص فانه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء ، كان كتابه :

أمّا بعد ، فإنّ الحزم في التثبّت ، والخطأ في العجلة ، والشؤم في البدار ، والسهمُ سهمك ما لم ينبض به الوتر ، ولن يردّ الحالبُ في الضرع اللبنَ ، ذكرتَ حق أمير المؤمنين علينا وقرابتنا منه ، وانه قتل فينا ، فخصلتان ذكرهما نقص والثالثة تكذّب ، وأمرتنا بطلب دم عثمان ، فأي جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ، رُدِمت الفجاج ، وأحكم الأمرُ عليك وولي زمامَه غيرُك ، فدع مناواة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يُعدل به غيرُه. وقلت : كأنا عن قليل لا نتعارَف ، فهل نحن إلاّ حيّ من قريش ، إن لم تنلنا الولاية لم يضق عنا الحقّ ، إنها خلافة مُنافية ، وبالله أقسم قسماً مبروراً ، لئن صحّت عزيمتك على ما ورد به كتابك ، لألفينّك بين الحالين ، طليحاً(1) وهبني أخالُك بعد خوض الدماء تنال الظفر ، هل في ذلك عوض عن ركوب المأثم ونقص الدين.

أمّا أنا فلا على بني أمية ولا لهم ، اجعل الحزم داري ، والبيت سجني ، وأتوسّد الإسلام واستشعر العافية ، فاعدل ابا عبد الرحمن زمامَ راحلتك إلى محجة الحقّ ، واستوهب العافية لأهلك ، واستعطف الناس على قومك ، وهيهات من قبولك ما أقول ، حتى يفجّر مروان ينابيع الفتن ، تاجّج في البلاد ، وكأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقَدر ، ولبئس العاقبة الندامة ، وعمّا قليل يضح لك الأمر والسلام.

____________________

(1) الطليح : حيوان القُراد ، وزيدٌ بعيره أتعبه كأطلحه وطلّحه فيهما وهو طَلحٌ وطِلحٌ وطليح.

٦٤

قال ابن أبي الحديد : هذا آخر ما تكاتب القوم به ، ومَن وقف عليه علم أن الحال لم يكن حالاً يقبل العلاج والتدبير ، وأنه لم يكن بدٌّ من السيف ، وأنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان أعرف بما عمل »(1) .

أقول : لقد تبيّن من تلك الرسائل المتبادلة الضمائر الحاقدة الّتي استفزّها مجيء الإمام للحكم فتعاوت لقص جناحِها ، وتعاورت بسموم رياحها ، من الشمال إلى الجنوب ، ومن الشرق إلى الغرب.( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .

قال طه حسين في كتابه : « وكذلك استقبل عليّ خلافة المسلمين بما لم يستقبلها أحد من الذين سبقوه ثمّ هو لم يطلب إلى الناس أن يبايعوه على ما كان يرى لنفسه من حق في الخلافة ، وإنما استكرهه الناس على البيعة استكراهاً ، استكرهه الثائرون بعثمان ليأمنوا بعض عواقب ثورتهم ، واستكرهه المهاجرون والأنصار ليقيموا للناس إماماً ينفّذ فيهم أمر الله ولم يكن يستطيع أن يبقى في المدينة منتظراً حتى يغزوه فيها معاوية وأهل الشام ، ولا أن يبقى في المدينة منتظراً حتى يبلغ طلحة والزبير العراق فيجتازا ما وراءه من الثغور وفيها من الفيء والخراج ، ثمّ يكرّان عليه بعد ذلك ليغزواه في المدينة ، لم يكن له بُدّ إذا من أن يستعد للخروج إلى الشام حين أبى معاوية عليه البيعة ، وحجته على معاوية ظاهرة ، فقد بايعته الكثرة الكثيرة من المسلمين في الحجاز والأقاليم وأصبحت طاعته لازمة.

وكان الحقّ على معاوية لو أنصف وأخلص نفسه للحق أن يبايع كما بايع الناس ثمّ يأتي إلى عليّ مع غيره من أولياء عثمان فيطالبون بالإقادة ممّن قتله.

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 579 ط الاُولى بمصر.

(2) سورة الصف / 8.

٦٥

ولكن معاوية لم يكن يريد أن يثأر لعثمان بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن عليّ ، وآية ذلك أن الأمر استقام له بعد وفاة عليّ ( رحمه الله ) ومصالحة الحسن إياه ، فتناسى ثأر عثمان ولم يتتبع قتلته إيثاراً للعافية وحقناً للدماء وجمعاً للكلمة.

ولم تكن حجة عليّ على طلحة والزبير وعائشة أقلّ ظهوراً من حجته على معاوية ، فقد بايع طلحةُ والزبيرُ وكان الحقّ عليهما أن يَفيا بالعهد ويُخلصا للبيعة الّتي أعطياها ، فإن كرها الإذعان لعليّ أو معونته على بعض ما كان يريد ، فقد كانا يستطيعان أن يعتزلا كما اعتزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ومحمّد بن مسلمة وغيرهم فلا ينصبا حرباً ، ولا يدفعا الناس إليها ، ولا يفرّقا المسلمين على هذا النحو المنكر الّذي ستراه.

وأمّا عائشة فقد أمرها الله فيمن أمر من نساء النبيّ أن تقرّ في بيتها. وكان عليها أن تفعل أيام عليّ كما كانت تفعل أيام الخلفاء من قبله ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر دون أن تخالف عما أُمرت به من القرار في بيتها لتذكر ما كان يتلى عليها من آيات الله والحكمة ولتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة كما فعل غيرها من أمهات المؤمنين.

ولو قد أبت أن تبايع عليّاً أو تؤمن له بالخلافة لما وجدت منه شيئاً تكرهه فهي أم المؤمنين وكان من الطبيعي أن تلقى من عليّ مثل ما لقي المعتزلون على أقل تقدير. وآية ذلك أنها لم تلق منه بعد يوم الجمل إلاّ الكرامة والإكبار.

وقد يقال : إنّ القوم لم يكونوا يغضبون لعثمان فحسب ، وإنّما كانوا يريدون أن يختار الخليفة عن مشورة بين المسلمين ، وكانوا يكرهون أن يفرض الثائرون بعثمان عليهم إماماً بعينه ، ولكن أبا بكر لم يبايع بالخلافة عن مشورة المسلمين وإنّما كانت بيعته فلتة ، وقى الله المسلمين شرّها كما قال عمر ، كما أنّ عمر نفسه

٦٦

لم يبايع عن مشورة من المسلمين وإنّما عهد إليه أبو بكر فأمضى المسلمون عهده ثقة منهم بالشيخين وحباً منهم لهما ، ولم تكن الشورى الّتي تمت بها خلافة عثمان مقنعة ولا مجزئة ، فقد أختص عمر بها ستة من قريش على أن يختاروا واحداً منهم ، فاختاروا عثمان ، وأكبر الظن أنهم نصحوا للمسلمين وتجنّبوا الفتنة والخلاف جهدهم. فكان الحقّ على طلحة والزبير والمعتزلين أيضاً أن يمسكوا الأمر ما استمسك وأن يبايعوا لعليّ عن رضىً لا عن كره ، وأن يجتهدوا معه بعد ذلك في اصلاح ما أفسد الثائرون من جهة ، وفي وضع نظام مستقر دائم لاختيار الخليفة وتدبير الدولة بحيث لا يتعرض المسلمون لمثل ما تعرضوا له من الفتنة والمحنة أيام عثمان من جهة أخرى »(1) .

وقال العلائلي في كتابه تاريخ الحسين : « حملت عائشة راية الثورة من جديد ، كما حملت راية الأستفزاز على عثمان ، والتاريخ لا يحدثنا لماذا خرجت على عليّ ( عليه السلام ) ولم تر بعدُ من سياسته شيئاً ما ، ودعوى أنّها خرجت طلباً بدم عثمان توهيم ، لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة الّتي تقضي.

( أ ) بترك الأمر إلى الحاكم المركزي ، فإن لم يكن فلوليّ القتيل ، وليست من أوليائه.

( ب ) بأخذ المباشر دون المسبّب. إذن فلم تخرج عائشة طلباً بدم عثمان ، بل لشيء آخر ، وهو ما لم يذكره التاريخ بصراحة »(2) .

وأكد في الحلقة الأولى من كتابه ( سمو المعنى في سمو الذات ) على أنّ إقامة الحدود من شأن السلطات لا الأفراد ولا الجماعات ، وإلا جرّ ذلك إلى

____________________

(1) عليّ وبنوه / 33 ـ 35.

(2) تاريخ الحسين / 267 ط العرفان.

٦٧

فوضى التقاضي ، كما أن الشريعة جاءت ـ على ما ذكر ابن نجيم في الأشباه ـ بأن الحكم يضاف إلى المباشر لا المسبّب ـ على فرض أن عليّاً كان مسبّباً ـ.

فكان الّذي يؤخذ من الناس ، قتلة عثمان الذين باشروا القتل بالنفس وهم ثلاثة فقط ، لا أن يؤخذ بدمه أهل المدينة والكوفة والبصرة ومصر ، وبعبارة أخرى الأمة بأسرها ، ومن ثَم تظهر مغالطة الذين نادوا بدم عثمان وطالبوا به. وليست الشريعة جاهلية تقوم على الأنتقام والثأر اهـ »(1) .

أقول : ومن السذاجة أن نوافق على جميع ما مرّ في كلام طه حسين وجميع ما مرّ في كلام العلائلي ففي كلام كلّ منهما بعض فجوات لا تخفى على الناقد البصير. ومع ذلك فقد أتينا بهما كشاهدين غير متهمين على رموز الناكثين والقاسطين المطالبين بدم عثمان من الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).

ونضيف إليهما أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابه ( دول العرب وعظماء الإسلام ) فقد خاطب الإمام بقوله :

يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل

ماذا رمت عليك ربّة الجمل

أثأر عثمان الذي شجاها

أم غصةٌ لمْ ينتزع شجاها

قضية من دمه تبنيها

هبّت لها واستنفرت بنيها

ذلك فتق لم يكن بالبال

كيد النساء موهن الجبال

وإنّ أم المؤمنين لامرأة

وإن تك الطاهرة المبرأة

أخرجها من كنّها وسنّها

مالم يُزل طول المدى من ضغنها

وشرّ من عداك مَن تقيه

وملتقي السلاح تلتقيه(2)

____________________

(1) سمو المعنى في سمو الذات / 55 ط العرفان.

(2) دول العرب وعظماء الإسلام / 54 ط مصر 1933.

٦٨

ومن الجدير بالذكر أنّ شوقي له وصف رائع لأولئك الذين أعلنوا الخلاف على الإمام سخطاً وحنقاً سواء الناكثين والقاسطين وحتى المارقين وهذا ما سنقرؤه في ( نُذُر الشر ) ولكنا في المقام ذكرنا قول شوقي في ربّة الجمل كما سمّاها.

ذكر الثعالبي في كتابه ثمار القلوب في المضاف والمنسوب : « وكان يقال : لو كان أبناء أبي بكر كبناته لعزّ على عمر نيل الخلافة ، لأن عائشة صاحبة يوم الجمل ، وأسماء هي الّتي حضت ابنها عبد الله بن الزبير على صدق القتال والجد في المكافحة والتحصن بالكعبة »(1) .

نـُذُر الشر في بوادر الخلاف :

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابه ( دول العرب وعظماء الإسلام ) مخاطباً الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :

ما لك والناسَ أبا تراب

ليس الذئابُ لك بالأتراب

هم طّردوا الكليم كلّ مطردِ

وأتعبوا عصاه بالتمرّد

وزُيّن العجل لهم لما ذهب

وافتتنوا بالسامريّ والذهب

وبابن مريم وشوا ونمّوا

واحتشدوا لصَلبه وهمّوا

وأخرجوا محمداً من أرضه

وسرّحت ألسنهم في عِرضه(2)

ليتني أدري هل كان شوقي حسّان زمانه ، فنطق روح القدس على لسانه ، فشبّه الذين ناصبوا الإمام بالعدا ، ونازعوه الحكم بـ ( الذئاب )؟ فكانت التسمية

____________________

(1) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب / 294 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم ط دار نهضة مصر للطبع والنشر سنة 1384 هـ.

(2) دول العرب وعظماء الإسلام / 58.

٦٩

عفوية ، أم أنّه كان قد فرغ لتوّه من قراءة فاحصة في تاريخهم المتقدم وقد مرت به كما مرّت بنا في مكاتباتهم تشبيه أنفسهم وتشبيه بعضهم بعضاً بالحيوانات المفترسة وغير المفترسة. ألم يشبّه مروان نفسه بالفهد؟ وبذلك شبهه معاوية أيضاً كما شبهه بالثعلب وبالقنفذ. كما شبّه آخرين بالحيوانات وأراد منهم أن يكونوا مثلها في طباعها. فشبّه الزبير بالثعبان وبالجمل الرديع ، وشبّه سعيد بن العاص بالحية الذكر ، وبالذرة ـ وهي صغار النمل ـ وشبه الآخرين بالدجاجه والرخمة والعُقاب والنعام والحرباء.

فهل رأى شوقي في الذين تواثبوا باعلان الخلاف على الإمام طباعَهم كطباع تلك الحيوانات ، وقارن بينهم وبينها فوجدهم أقرب إلى طباع الذئب ، وكأنه فرغ لتوّه من قراءة كتب الحيوان للجاحظ ومقارنته بحياة الحيوان للدميري ، فرأى طبائعهم تتفق وطبائع الذئاب ، في كثرة العواء ما دامت مُرسلة ، فإذا أُخذت وضُربت بالعصّي والسيوف حتى تتقطع أو تهشّم لم يُسمَع لها صوت إلى أن تموت؟

أو رأى أنّ ما قالوه العرب من أمثال في الذئب ينطبق الكثير منها على أولئك الناكثين والقاسطين والمارقين ، فإن العرب قالوا : « أغدر من ذئب ، وأختل ، وأخبث ، وأخون ، و وأعتى ، وأعوى وأظلم وأوقح ، وأعق ، وألأم من ذئب »(1) .

فرأى شوقي ان كثيراً من هذه الأمثال ينطبق عليهم لكثرة مواقف الخيانة فاستدعت منه الإدانة والإهانة. فكان التشبيه عن سابق تفكير وحسن تقدير ، فمنحهم الهوية عن روّية؟

____________________

(1) حياة الحيوان للدميري ـ الذئب.

٧٠

ربّما هذا وربّما ذلك ، وربّما الجميع ، وما علينا إلاّ أن نقرأ ماذاحفظ لهم المؤرخون من مواقف ضارّة بالمسلمين تسبّبت في إراقة الدماء ، فباؤا بآثامها وجُرمها ، بحجة الطلب بدم عثمان ، ورفعوا شعار : يا لثارات عثمان ، وهم يعلمون أنهم هم كانوا قتلة عثمان تسبيباً وتحريضاً وتقاعساً عن نصرته ، فلكل واحد منهم دورٌ في تهيئة الجو لقتل عثمان. فما بالهم يعصبون قتله بمن هو أبرأ الناس من دمه ، ألم يقل مروان بن الحكم ـ وهو ألد أعداء الإمام ـ لعليّ بن الحسين : ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم ـ يعني عليّاً عن عثمان ـ فقال له ما بالكم تسبّونه على المنابر؟ قال : لا يستقيم الأمر إلاّ بذلك(1) .

ألم يقل عبيد الله بن عمر ـ وهو من أعداء الإمام ـ لمعاوية وقد أراده أن يلزم الإمام بدم عثمان في خطبته ، فلمّا قام خطيباً تكلم بحاجته فلمّا أنتهى إلى أمر عليّ أمسك ولم يقل شيئاً ، فلمّا نزل بعث إليه معاوية يا بن أخي انك بين عيّ وخيانة. فبعث إليه إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها(2) ؟

ألم يقل أخوه عبد الله بن عمر ـ وهو مثل أخيه عداوة ـ لمن سأله هل شرك عليّ في دم عثمان؟ فقال : لا والله ما علمت ذلك في سرّ ولا علانية ، ولكنه كان رأساً يُفزع إليه ، فألحق به ما لم يكن(3) ؟

____________________

(1) خلاصة نقض كتاب العثمانية / 14 ط الرحمانية جمع السندوبي ، سير أعلام النبلاء 2 / 613 ط دار الفكر ، وأنساب الأشراف 1ق 1 / 335 ، وشرح النهج في شرح المختار / 231 و 13 / 100 ط محققة و 3 / 255 ، وتاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام 3 / 99 ، وتاريخ الإسلام للذهبي 2 / 139 ط القدسي.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 256 وله شعر في ذلك أدان فيه الزبير وطلحة وبرأ الإمام من دم عثمان.

(3) أنساب الأشراف 1ق 4 / 593 تح ـ احسان عباس.

٧١

ألم يقل أبو سعيد الخدري وقد سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟ فقال : نعم شهده ثمانمائة(1) ؟ فما بالهم لا يطالَبون بدم عثمان.

ألم يقل سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وقد قال له شعبة بن الحجاج كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن عثمان؟ فقال : إنما قتله أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )(2) ؟ فما بالهم لا يطالبون جميعاً بدم عثمان؟

إنّ الذين عَصبوا قتل عثمان بالإمام هم الذئاب كما سماهم شوقي ، بل أغدر وأخبث وأعتى وأظلم وأوقح من ذئب.

المحرّضون على عثمان هم قتلته :

لقد مرت بنا بعض أساليب معاوية في اعلان المطالبة بدم عثمان ووقع شعار يا لثارات عثمان ، وهو الشعار الّذي استمال به أهل الشام ، ورفعته زمرة الناكثين في مكة ، وقاتلوا باسمه في حرب البصرة ، واستمر ذلك حتى أصبح قميص عثمان مضرب المثل لكلّ قضية توهم مغالطة الناس بغير الحقّ.

كما مرّت بنا في الجزء الثاني من شواهد إدانة الناكثين بدم عثمان في مواقف سنّمارية معه ، والآن إلى معرفة أدوار أهم أولئك في تلك القضية الشائكة الشائنة وبشهادة بعضهم على بعض ، وشهد شاهد من أهله ان المطالبين بدمه هم قتلة عثمان تسبيباً ، ولولا المسبّب لم ينجح السبب.

أوّلاً : طلحة والزبير وحسبنا شاهداً على إدانتهما ما رواه المدائني قال : « ولي عبد الملك علقمة بن صفوان ابن المحرّث مكة فشتم طلحة والزبير على

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 231.

(2) نفس المصدر.

٧٢

المنبر قال لأبان ـ وهو ابن عثمان ـ : أرضيتك في المدهنَين في أمير المؤمنين عثمان؟

قال : لا والله ولكن سؤتني ، بحسبي بليّة أن يكونا شركاء في دمه(1) »(2) .

وروى البلاذري في أنسابه في حديث الزهري قال : « وكان الزبير وطلحة قد أستوليا على الأمر ومنع طلحة عثمان من أن يدخل عليه الماء العذب ، فأرسل عليّ إلى طلحة ـ وهو في أرض له على ميل من المدينة ـ أن دع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره ـ يعني بئر رومة ـ ولا تقتلوه من العطش ، فأبى فقال عليّ : لولا أني قد آليت يوم ذي خُشب أنّه إن لم يُطعني لا أرد عنه أحداً لأدخلت عليه الماء »(3) .

قال ابن سيرين : « لم يكن أحدٌ من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم أشد على عثمان من طلحة »(4) .

ومرّ مجمع بن جارية الأنصاري بطلحة فقال : « يا مجمع ما فعل صاحبك؟ قال : أظنكم والله قاتليه فقال طلحة : فإن قتل فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل »(5) ، قال جبير بن مطعم : « حُصر عثمان حتى كان لا يشرب من فقير في داره ، فدخلت على عليّ فقلت : أرضيت بهذا أن يُحصر ابن عمتك حتى والله ما يشرب إلاّ من فقير في داره؟ فقال : سبحان الله أوقد بلغوا به هذه الحال؟ قلت : نعم ، فعمد إلى روايا ماء فأدخلها إليه فسقاه »(6) .

____________________

(1) لقد غيّر ابن عبد ربه هذه الكلمة فجعلها ( حسبي أن يكونا بريئين من أمره ) العقد الفريد 4 / 304 تح ـ أحمد أمين ورفاقه ، والتغيير والتحوير حرفة علماء التبرير.

(2) أنساب الأشراف 1ق 4 / 618 تح ـ احسان عباس.

(3) نفس المصدر 4 / 582.

(4) نفس المصدر / 572.

(5) نفس المصدر / 65.

(6) نفس المصدر / 568.

٧٣

وقال أبو مخنف وغيره : « واشتد عليه طلحة بن عبيد الله في الحصار ومنع من أن يدخل إليه الماء حتى غضب عليّ بن أبي طالب من ذلك ، فأدخلت عليه رَوايا الماء »(1) .

ألم يرو عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة : « أن عثمان اخذ بيده فأسمعه كلام من على بابه ، فمنهم من يقول ما تنتظرون به ، ومنهم من يقول انظروا عسى أن يراجع قال فبينما نحن واقفون إذ مرّ طلحة فقال : أين ابن عديس؟ فقام إليه فناجاه طويلاً ثمّ رجع ابن عديس فقال لأصحابه : لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده.

فقال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللّهمّ اكفني طلحة فإنّه حمل عليّ هؤلاء وألّبهم عليّ والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً وأن يسفك دمه »(2) .

ألم يقل سعيد بن العاص لمروان بن الحكم وهو ممّن نهضوا مع طلحة والزبير وعائشة ، وقد لقيه بذات عرق فقال : « أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل ، اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم »(3) .

ألم يرو الطبري عن أبي حبيبة قال : « نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان دخل عليه ثمّ خرج من عنده وهو يسترجع ممّا يرى على الباب فقال له مروان : الآن تندم أنت أشعرته »(4) .

ألم يقل عبد الله بن خلف لطلحة والزبير : « إنّه ليس أحد من أهل الحجاز كان منه في عثمان شيء إلاّ وقد بلغ أهل العراق ، وقد كان منكما في عثمان من

____________________

(1) نفس المصدر / 561.

(2) تاريخ الطبري 4 / 379 ط دار المعارف ، وتاريخ ابن الأثير 3 / 73 ط بولاق.

(3) تاريخ الطبري 3 / 472 ، وابن خلدون 2 / 155.

(4) تاريخ الطبري 4 / 377.

٧٤

التخليب والتأليب ما لا يدفعه جحود ، ولا ينفعكما فيه عذر ، وأحسن الناس فيكما قولاً من أزال عنكما القتل ، وألزمكما الخذل ، وقد بايع الناس عليّاً بيعة عامة ، والناس لاقوكما غداً فما تقولان؟ فقال طلحة ننكر القتل ونقرّ بالخذل ، ولا ينفع الإقرار بالذنب إلاّ مع الندم عليه ، ولقد ندمنا على ما كان منّا.

وقال الزبير : بايعنا عليّاً والسيف على أعناقنا حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا ، لم نصب لعثمان خطأ فتجب علينا الدية ، ولا عمداً فيجب علينا القصاص.

فقال عبد الله بن خلف : عذركما أشدّ من ذنبكما »(1) . « وأعيذ عثمان أن يكون قتله عليّ »(2) .

وأخيراً يكفينا ما كانت تقوله بعضُ بنات أبي سفيان فيما رواه المدائني عن ابن جُعدبة قال : « مرّ عليّ بدار بعض آل أبي سفيان فسمع بعض بناته تضرب بدفّ وتقول :

ظلامة عثمان عند الزبير

وأوتر منه لنا طلحَة

هما سعّراهما بأجذالها

وكانا حقيقين بالفَضَحة

يهرّان سُرّاً هرير الكلاب

ولو أعلنا كانت النَبحة

فقال عليّ : قاتلها الله ما أعلمها بموضع ثارها »(3) .

وسيأتي في وقائع حرب البصرة شواهد كثيرة فانتظر ما قاله مروان حين رمى طلحة بسهم فأصابه : « والله لا أطلب ثاري بعثمان بعد اليوم أبدا » ، وانتظر ما قاله محمّد بن طلحة للغلام الجهني ، إلى غير ذلك.

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 56 ط سنة 1328 بمصر.

(2) العقد الفريد 4 / 304.

(3) أنساب الأشراف 1ق 1 / 600 ، وتاريخ الفتوح لابن أعثم 2 / 272 وفيه أبيات اُخر.

٧٥

ونقول باختصار ما قاله ابن الطقطقي في الفخري : « وأمّا طلحة فإنّه كان من أكبر المساعدين على عثمان وهذا ما تشهد به جميع التواريخ »(1) .

ثانياً : عائشة ، لقد مرت بنا جملة من أقوالها الّتي كانت تشهّر بها على عثمان ، في مواقفها مع الساخطين.

مثل قولها : « إنّ عثمان أبطل الحدود وتوعّد الشهود »(2) .

وقولها وقد أطلعت شعراً من شعر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وثياباً من ثيابه ثمّ قالت : « ما أسرع ما تركتم سنّة نبيكم »(3) .

قال اليعقوبي في تاريخه : « وكان بين عثمان وعائشة منافرة وذلك إنه نقصها ممّا كان يعطيها عمر ، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فإنّ عثمان يوماً ليخطب إذ دلّت عائشة قميص رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ونادات يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يبل وقد أبلى عثمان سنته ، فقال عثمان : ربِ أصرف عني كيدّهن إن كيدّهن عظيم »(4) .

ولم ننس قولها لمروان بن الحكم وزيد بن ثابت حين أتياها مستعطفين لها على عثمان : « يا مروان وددت والله انه في غرارة من غرائري وأني طُوقت حمله حتى ألقيه في البحر »(5) .

ولا قولها لابن عباس وقد صادفها في الصلصل في طريق مكة : « فإياك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية »(6) .

____________________

(1) الفخري في الأدب السلطانية والدول الإسلامية لإبن الطثطقى / 85 ط دار صادر.

(2) أنساب الأشراف 1ق1 / 522.

(3) نفس المصدر / 580.

(4) تاريخ اليعقوبي 2 / 152 ط الغري 1358.

(5) أنساب الأشراف 1ق1 / 56.

(6) نفس المصدر / 565.

٧٦

وكانت تؤلب عليه بمكة ، وهذا كله تقدم ذكره آنفاً.

لذلك ليس بغريب من طه حسين لو قال : « وكانت من أشد نساء النبيّ إنكاراً على عثمان »(1) ، ولا غرابة أيضاً في قول أحمد أمين : « وكانت من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته وتأليبها الناس عليه عائشة بنت أبي بكر »(2) .

ولكنها تبدّل موقفها حين بلغها بيعة الناس للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ). وقد جاء في حديث الزهري : « وكانت عائشة تؤلب على عثمان فلمّا بلغها أمره وهي بمكة أمرت بقبتها فضربت في المسجد الحرام وقالت : إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر »(3) .

قال : « وخرجت عائشة من مكة حتى نزلت بسرف فمر راكب فقالت : ما وراءك؟ قال : قتل عثمان ، فقالت : كأني أنظر إلى الناس يبايعون طلحة وأصبعه تحسّ أيديهم. ثمّ جاء راكب آخر فقال : قتل عثمان وبايع الناس عليّاً فقالت : واعثماناه ، ورجعت إلى مكة فضربت لها قبتها في المسجد الحرام وقالت : يامعشر قريش إنّ عثمان قد قتل ، قتله عليّ بن أبي طالب ، والله لأنملة ـ أو قالت لليلة ـ من عثمان خير من عليّ الدهر كله »(4) .

وفي رواية ابن قتيبه والطبري : أنّها لمّا وصلت سرف ـ موضع قرب التنعيم ـ لقيها عبيد بن أم كلاب فقالت له : مهيم ـ أي ما وراءك؟ ـ قال : قتلوا عثمان. قالت بُعداً وسحقاً ، ثمّ قالت : ثمّ ماذا صنعوا؟ قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم إلى خير مجاز ، اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب.

____________________

(1) عليّ وبنوه / 29 ط دار المعارف.

(2) يوم الإسلام / 75 ط دار المعارف.

(3) أنساب الأشراف 1ق1 / 583.

(4) نفس المصدر / 583 ـ 584.

٧٧

فقالت : والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك. ردونّي ردونّي ، فانصرفت راجعة إلى مكة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه ، فقال لها عبيد : ولم؟ فوالله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، وجرى بينهما كلام فاعتذرت إليه فقال لها عذر ضعيف يا أم المؤمنين ثمّ أنشأ يقول :

منكِ البداء ومنكِ الغَير

ومنكِ الرياح ومنكِ المطر

وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام

وقلتِ لنا إنه قد كفر

فهبنا أطعناكِ في قتله

وقاتله عندنا من أمر(1)

وزاد الطبري في تاريخه قوله :

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسُنا والقمر

وقد بايع الناس ذا ندرُءٍ

يزيل الشبا ويقيم الصَعر

ويلبس للحرب أثوابها

ومامن وفى مثل من قد غدر(2)

ولهذا التبدّل المفاجيء في موقفها من عثمان نقدها الأولون كما نقدها الباحثون المحدّثون وقد مر بنا كلام طه حسين وعبد الله العلائلي ولم يقصر عنهما أحمد شوقي في شعره ، وقال عبد الوهاب النجارفي كتابه تاريخ الخلفاء بعد ما ذكر بيتين من أبيات ابن أم كلاب قال : « فهؤلاء الرهط لم يقوموا للطلب بدم عثمان في الواقع ، ولكن ـ كلّ إلى حيّزه يجذب ـ وإذا صح ان طلحة كان نادماً على ما كان منه في حق عثمان فليس السبيل إلى تكفير خطيئته ان يقاتل عليّاً ، بل كان يصبر حتى تجتمع كلمة الأمة ثمّ يعمد إلى أصحاب رسول الله

____________________

(1) الإمامة والسياسية 1 / 48 ط مصر 1328 ، تاريخ الطبري 4 / 459 دار المعارف.

(2) تاريخ الطبري 4 / 459 دار المعارف.

٧٨

ويدعوهم إلى مؤتمر يديرون الرأي فيه كما يجب أن يصار إليه في امر القتلة ورؤوس المؤلبين »(1) .

وقال أيضاً : « فإنّ طلحة والزبير وعائشة خرجوا ـ كما يقولون ـ للمطالبة بدم عثمان ولا نرى كيف فهموا أن ذلك ممكن من غير أن يكون للمسلمين إمام يرجع إليه الأمر في تحقيق هذه القضية وإقامة الحد على من يستحقه؟

وإذا كانوا لا يرون لإمامة عليّ صحة فقد كان المفهوم دعوة أهل الحل والعقد من كبّار المسلمين أوّلاً للنظر في الخلافة واعطائها لمن يرضاه الناس ثمّ ينظرون بعد ذلك في إقامة الحدّ ولا ندري كيف غاب كلّ ذلك عنهم مع سابقتهم وفضلهم ، ولكنهم يقولون : إنّ الفتن إذا أقبلت تشابهت ، وإذا أدبرت تبيّنت »(2) .

ولقد كانت تعترف هي بأنّها ممّن ألّبت على عثمان ، ألم تقل : « ليتني كنت نسياً منسياً قبل أمر عثمان فوالله ما أحببت شيئاً إلاّ ومُنيت بمثله ، حتى لو أحببتُ أن يُقتل لقتلت »(3) .

ألم يقل لها عمرو بن العاص : « لوددت أنّكِ كنتِ قُتلتِ يوم الجمل ، فقالت : ولِمَ لا أباً لك؟ فقال : كنتِ تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ، ونجعلكِ أكبر التشنيع على عليّ »(4) . ولئن كان ابن العاص لم يقل لها : ونصيب بذلك ثأر عثمان منك ، أو قال ذلك ولكن الرواة ابتلعوه.

ونجد المغيرة بن شعبة صارحها بذلك فيما رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد قال : « انّ المغيرة بن شعبة دخل على عائشة فقالت له : يا أبا عبد الله لو

____________________

(1) تاريخ الخلفاء / 400 ط السلفية.

(2) نفس المصدر / 412.

(3) أنساب الأشراف 5 / 101.

(4) الكامل للمبرّد 1 / 267 ط دار نهضة مصر.

٧٩

رأيتني يوم الجمل قد أنفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي ، قال لها المغيرة : وددت والله أن بعضها كان قتلك ، قالت : يرحمك الله ولِمَ تقول هذا؟ قال : لعلها تكون كفارة في سعيك على عثمان.

قالت : أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله ، ولكن علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت ، وأردتُ أن يُرمى فرُميت ، وأردتُ أن يُوصى فعُصيت ، ولو علم مني أنّي أردت قتلَه لقُتلت »(1) .

هذه اعترافات خطيرة يجب على أنصار عثمان من الكتاب المحدثين أن يقرءوها بإمعان!!

وأخيراً كانت عائشة كما قال عمر فرّوخ : ولم تبرز عائشة في أيام أبي بكر وعمر على مسرح السياسة ، ولكن لمّا تولى عثمان ـ وكان لينا مستنيما إلى قومه بني أمية ـ رجت أن تولي مكانه اخاها محمد بن ابي بكر ، ولذلك يُروى أنّها كانت تقول : اقتلوا نعثلاً(2) فقد كفر ، ثمّ قتل عثمان

ولمّا انتخب عليّ خليفة وقضت عائشة في صف الذين كانوا يطالبون عليّاً بدم عثمان مرّة ، وبالاقتصاص من الّذين قتلوا عثمان مرّة ثانية ، ولا ريب أنّ عائشة هي الّتي أثارت على الإمام عليّ حرب الجمل ، وأفسدت بذلك خلافته السياسية إفساداً كاملاً(3) .

وستأتي إدانة معاوية وبني أمية بدم عثمان فيما نستقبل من تاريخ التآمر والمتآمرين بدءاً من حرب الجمل وإلى صفين وما بعد صفين. فقد أجاب أبو أيوب الأنصاري معاوية على كتاب منه إليه جاء فيه : « انّ الّذي تربّص بعثمان

____________________

(1) العقد الفريد 4 / 296 ط محققة.

(2) صيغة تحقير لعثمان.

(3) تاريخ الفكر العربي الى ايام ابن خلدون / 190ط دار العلم للملايين بيروت.

٨٠