نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 147285
تحميل: 4926

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147285 / تحميل: 4926
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

الفصل الأوّل

في إثبات العلّيّة والمعلوليّة وأنّهما في الوجود

قد تقدّم(1) أنّ الماهية في حدّ ذاتها لا موجودة ولا معدومة ، فهي متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، فهي في رجحان أحد الجانبَيْن لها محتاجةٌ إلى غيرِها الخارجِ من ذاتها ، وأمّا ترجُّح أحد الجانبَيْن لا لمرجِّح من ذاتها ولا من غيرها فالعقل الصريح يُحيله. وعرفت سابقاً(2) أنّ القول بحاجتها في عدمها إلى غيرها نوعٌ من التجوّز ، حقيقته أنّ ارتفاع الغير ـ الذي يحتاج إليه في وجودها ـ لا ينفكّ عن ارتفاع وجودها ، لمكان توقّف وجودها على وجوده ، ومن المعلوم أنّ هذا التوقّف على وجود الغير ، لأنّ المعدوم لا شيئيّةَ له. فهذا الوجود المتوقَّف عليه نسمّيه «علّةً» ، والشيء الذي يتوقّف على العلّة «معلولا» له(3) .

__________________

(1) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الخامسة.

(2) راجع الفصل الرابع من المرحلة الاُولى.

(3) اعلم انّ عبارات الحكماء والمتكلّمين في تعريف العلّة والمعلول مختلفة.

٢٠١

ثمّ إنّ مجعولَ العلّة والأثر الذي تضعه في المعلول هو إمّا وجود المعلول أو ماهيّته أو صيرورة ماهيّتِهِ موجودةً(1) ، لكن يستحيل أن يكون المجعول هو الماهيّة لما تقدّم أنّها اعتباريّة(2) ، والذي يستفيده المعلول من علّته أمرٌ أصيلٌ ،

__________________

قال الشيخ الرئيس في رسالة الحدود : «إنّ العلّة هي كلّ ذات يلزم منه أن يكون وجود ذات اُخرى انّما هو بالفعل من وجود هذا بالفعل ، ووجود هذا بالفعل من وجود ذلك بالفعل» ، راجع رسائل ابن سينا ص 117.

وقال في عيون الحكمة : «السبب هو كلّ ما يتعلّق به وجود الشيء من غير أن يكون ذلك الشيء داخلا في وجوده أو محقّقاً به وجوده». وناقش فيهما فخر الدين الرازيّ في شرح عيون الحكمة ج 3 ص 45.

وقال المحقّق الطوسيّ : «كلّ شيء يصدر عنه أمرٌ إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فانّه علّة لذلك الأمر والأمر معلول له». راجع كشف المراد ص 114. وأورد عليه القوشجيّ في شرحه للتجريد ص 112 ، ثمّ قال : «فالصواب أن يقال : العلّة ما يحتاج إليه أمرٌ في وجوده». ولهم في كتبهم عبارات شتّى غير ما ذكر في تعريف العلّة والمعلول ، فراجع شرح المنظومة ص 117 ، والأسفار ج 2 ص 127 ، وحكمة الإشراق ص 62 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 152 ، وشرح المواقف ص 168.

(1) فالأقوال في مجعول العلّة ثلاثة :

الأوّل : أنّ مجعولها ماهيّة المعلول.

الثاني : أنّ مجعولها وجود المعلول.

الثالث : أنّ مجعولها صيرورة ماهيّة المعلول موجودةً.

أمّا الأوّل ، فذهب إليه الإشراقيّون. قال الشيخ الإشراقيّ : «ولمّا كان الوجود اعتباراً فللشيء من علّته الفيّاضة هويّته» راجع شرح حكمة الإشراق ص 416. ونُسب هذا القول إلى المحقّق الدوانيّ أيضاً ، فراجع الأسفار ج 1 ص 407 ـ 408.

وأمّا الثاني والثالث ، فذهب إليهما الحكماء المشاء. قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 58 : «لكن محقّقوهم مشوا إلى جانب مجعولية الوجود ، وغيرهم إلى مجعولية الاتّصاف وصيرورة الماهية موجودةً». وقال صدر المتألّهين في الأسفار ج 1 ص 398 : «فجمهور المشائين ذهبوا ـ كما هو المشهور ـ إلى أنّ الأثر الأوّل للجاعل هو الوجود المعلول. وفسّره المتأخرون بالموجوديّة ، أي اتّصاف ماهية المعلول بالوجود بالمعنى الذي ذكرناه ، لا أنّ الأثر الأوّل هو ماهيّة الاتّصاف أو ذات المعلول أو نفس الوجود ، لاستغناء الماهيات بحقائقها التصوّرية عندهم من الجاعل».

(2) في الفصل الثاني من المرحلة الاُولى.

٢٠٢

على أنّ العلّية والمعلوليّة رابطةٌ عينيّة خاصّة بين المعلول وعلّته ، وإلاّ لكان كلٌّ شيء علّةً لكلِّ شيء وكلُّ شيء معلولا لكلِّ شيء ، والماهيّة لا رابطةَ بينها في ذاتها وبين غيرها.

ويستحيل أن يكون المجعول هو الصيرورة ، لأنّ الأثر العينيّ الأصيل حينئذ هو الصيرورة التي هو أمرٌ نسبيٌّ قائمٌ بطرفين ، والماهيّة ووجودها إعتباريان على الفرض ، ومن المحال أن يقوم أمرٌ عينيٌّ أصيلٌ بطرفيَن إعتباريَّيْن.

وإذا استحال كون المجعول هو الماهيّة أو الصيرورة تعيَّنَ أنّ المجعول هو الوجود ، وهو المطلوب.

فقد تبيّن ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ هناك علّةً ومعلولا.

وثانياً : أنّ كلّ ممكن فهو معلول.

وثالثاً : أنّ العليّة والمعلوليّة رابطةٌ وجوديّهٌ بين المعلول وعلّته ، وأنّ هذه الرابطة دائرةٌ بين وجود المعلول ووجود العلّة ، وإن كان التوقّف والحاجة والفقر ربّما تُنسب إلى الماهيّة ، فمستقَرُّ الحاجة والفقر بالأصالة هو وجود المعلول ، وماهيّته محتاجةٌ بتَبَعِه.

ورابعاً : أنّه إذ كانت الحاجة والفقر بالأصالة للوجود المعلول ، ـ وهو محتاج في ذاته ، وإلاّ لكانت الحاجة عارضة وكان مستغنياً في ذاته ولا معلوليّةَ مع الاستغناء ـ ، فذات الوجود المعلول عين الحاجة ، أي إنّه غيرُ مستقلٍّ في ذاته قائمٌ بعلّته التي هي المفيضة له.

ويتحصّل من ذلك أنّ وجودَ المعلول بقياسه إلى علّته وجودٌ رابطٌ موجودٌ في غيره ، وبالنظر إلى ماهيّته التي يطرد عنها العدمُ وجودٌ في نفسه جوهريٌّ أو عرضيٌّ على ما تقتضيه حال ماهيّته.

٢٠٣

الفصل الثاني

في انقسامات العلّة(1)

تنقسم العلّة إلى تامّة وناقصة.

فالعلّة التامّة هي التي تشتمل على جميع ما يتوقّف عليه المعلول بحيث لا يبقى للمعلول معها إلاّ أن يتحقّق.

والعلّة الناقصة هي التي تشتمل على بعض ما يتوقّف عليه المعلول في تحقّقه لا على جميعه.

وتفترقان بأنّ العلّة التامّة يلزم من وجودها وجودُ المعلول ـ كما سيأتي(2) ـ ومن عدمها عدمُه ، والعلّة الناقصة لا يلزم من وجودها وجودُ المعلول ، لكن يلزم من عدمها عدمُه ، لمكان توقّف المعلول عليها وعلى غيرها.

وليعلم أنّ عدمَ العلّة ـ سواءٌ كانت علّةً تامّةً أو ناقصةً ـ علّةٌ تامّةٌ لعدم المعلول.

وتنقسم أيضاً إلى الواحدة والكثيرة ، لأنّ المعلول من لوازم وجود العلّة واللازم قد يكون أعمّ.

وتنقسم أيضاً إلى بسيطة ومركّبة ، والبسيطة ما لا جزء لها ، والمركّبة خلافها.

والبسيطة قد تكون بسيطةً بحسب الخارج ، كالعقل والأعراض ، وقد تكون بسيطةً بحسب العقل ، وهي ما لا تركبَ فيه خارجاً من مادّة وصورة ولا عقلا من جنس وفصل ، وأبسط البسائط ما لا تركّبَ فيه من وجود وماهيّة ، وهو الواجب (تعالى).

وتنقسم أيضاً إلى قريبة وبعيدة ، فالقريبة ما لا واسطةَ بينها وبين معلولها ،

__________________

(1) مطلقاً ، سواء كانت فاعليّة أو ماديّة أو صوريّة أو غائيّة.

قال المحقّق الطوسيّ : «والعلّة مطلقا قد تكون بسيطةً وقد تكون مركّبة ، وأيضاً بالقوّة أو بالفعل ، وكلّيّةً أو جزئيّةً ، وذاتيّةً أو عرضيّة ، وعامّةً أو خاصّةً ، وقريبةً أو بعيدةً ، ومشتركةً أو خاصّةً» ـ انتهى. وقد تصدّى شارحو كلامه لذكر أمثلتها ، فراجع كشف المراد ص 130 ـ 132 ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص 134 ـ 135 ، وشوارق الإلهام ص 251 ـ 254.

(2) في الفصل الآتي.

٢٠٤

والبعيدة ما كانت بينها وبين معلولها واسطةٌ كعلّة العلّة.

وتنقسم أيضاً إلى داخليّة وخارجيّة ، فالداخليّة هي المادّة بالنسبة إلى المركّب منها ومن الصورة ـ وهي التي بها الشيء بالقوّة ـ والصورة بالنسبة إلى المركّب ـ وهي التي بها الشيء بالفعل ـ ، وتسمَّيان «علّتَي القوام» ؛ والخارجيّة هي الفاعل ـ وهو الذي يصدر عنه المعلول ـ والغاية ـ وهي التي يصدر لأجلها المعلول ـ ، وتسمّيان : «علَّتي الوجود» ، وسيأتي بيانها(1) .

وتنقسم أيضاً إلى علل حقيقيّة وعلَل مُعِدّة.

وشأن المعِدّات تقريب المادّة إلى إفاضة الفاعل باعدادها لقبولها ، كانصرام القطعات الزمانيّة المقرِّبة للمادّة إلى حدوث ما يحدث فيها من الحوادث.

الفصل الثالث

في وجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامّة(2)

ووجوب وجود العلّة عند وجود معلولها

وهذا وجوبٌ بالقياس ، غير الوجوب الغيريّ الذي تقدّم في مسألة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد»(3) .

أمّا وجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامّة ، فلأنّه لو لم يجب وجوده عند وجود علّته التامّة لجاز عدمه ، ولو فرض عدمه مع وجود العلّة التامّة ، فإمّا أن تكون علّةُ عدمه ـ وهي عدم العلّة ـ متحقّقةً وعلّةُ وجوده موجودةً ، كان فيه إجتماع النقيضَيْن وهما علّة الوجود وعدمها ، وإن لم تكن علّةُ عدمه متحقّقةً كان في ذلك تحقّقُ عدمه من غير علّة ، وهو محال.

__________________

(1) في الفصل الحادي عشر من هذه المرحلة.

(2) وقد يعبّر عنه بـ «امتناع تخلّف وجود المعلول عن وجود العلّة التامّة».

(3) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

٢٠٥

وكذا لو لم يجب عدمه عند عدم علّته لجاز وجوده ، ولو فرض وجوده مع تحقُّقِ علّةِ عدمه ـ وهي عدم علّة الوجود ـ فإن كانت علّةُ الوجود موجودةً إجتمع النقيضان وهما علّة الوجود وعدمها الذي هو علّة العدم ، وإن لم تكن علّةُ الوجود موجودةً لَزِمَ وجود المعلول مع عدم وجود علّته.

برهانٌ آخر : لازمُ توقُّفِ وجود المعلول على وجود العلّة إمتناعُ وجود المعلول مع عدم العلّة : وبتعبير آخر : كونُ عدم العلّة علّةً موجبةً لعدم المعلول وتوقّفُ هذا المعلول الذي هو عدم المعلول على علّته التي هي عدم العلّة ، لازمُهُ امتناعه بانعدامها ، أي وجوب وجود المعلول عند وجود علّته ، فافهم ذلك.

فإن قلت : الذي تستدعيه حاجةُ الممكن إلى المرجّح وتوقُّفُ وجوده على وجود علّة تامّة ، إستلزامُ وجود العلّة التامّة في أيِّ وعاء كانت وجودَ المعلول في أيّ وعاء كان.

وأمّا كون المعلول والعلّة مَعَيْن في الوجود من غير إنفكاك في الوعاء فلا.

فلِمَ لا يجوز أن توجد العلّة مستلزمةً لوجود المعلول ولا معلولَ بعدُ ثمّ تنعدم العلّة ثمّ يوجد المعلول بعدَ بُرهة ولا علّةَ في الوجود ، أو تكون العلّة التامّة موجودةً ولا وجودَ للمعلول بعدُ ثمّ يسنح لها أن توجد المعلول فتوجده؟ ، وهذا فيما كانت العلّة التامّة فاعلةً بالإختيار بمكان من الوضوح.

قلت : لا معنى لتخلُّل العدم بين وجود العلّة التامّة ووجود معلولها بأي نحو فُرِضَ ، فقد تقدّم(1) أنّ توقُّفَ وجود المعلول على وجود العلّة إنّما يتمّ برابطة وجوديّة عينيّة يكون وجود المعلول معها وجوداً رابطاً قائمَ الذات بوجود العلّة التامّة المستقلَّ ففرْض وجود المعلول في وعاء وعلّته التامّة معدومةً فيه فَرْضَ تحقُّق الوجود الرابط ولا مستقلّ معه يقوّمه ، وذلك خلفٌ ظاهر.

وفَرضُ وجود العلّة التامّة ولا وجودَ لمعلولها بعدُ فرضَ وجود مستقلٍّ مقوّم بالفعل ولا رابط له يقوّمه بعدُ ، وذلك خلفٌ ظاهر.

__________________

(1) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٢٠٦

وأمّا حديث الإختيار ، فقد زعم قومٌ(1) أنّ الفاعل المختار كالإنسان ـ مثلا ـ بالنسبة إلى أفعاله الإختياريّة علّةٌ تستوي نسبتها إلى الفعل والترك ، فله أن يرجّح ما شاء منهما من غير إيجاب ، لتساوي النسبة.

وهو خطأٌ ، فليس الإنسان الفاعل باختياره علّةً تامّةً للفعل ، بل هو علّةٌ ناقصةٌ ، وله عللٌ ناقصةٌ اُخرى ، كالمادّة وحضورها واتّحاد زمان حضورها مع زمان الفعل وإستقامة الجوارح الفعّالة ومطاوعتها والداعي إلى الفعل والارادة واُمور اُخرى كثيرةٌ إذا اجتمعَتْ صارَتْ علّةً تامّةً يجب معها الفعل. وأمّا الإنسان نفسه فجزء من أجزاء العلّة التامّة ، نسبة الفعل إليه بالامكان دونَ الوجوب ، والكلام في إيجاب العلّة التامّة لا مطلق العلّة.

على أنّ تجويز استواء نسبة الفاعل المختار إلى الفعل وعدمه إنكارٌ لرابطة العلّيّة ، ولازُمُه تجويز علّيّةِ كلّ شيء لكلِّ شيء ومعلوليّةِ كلِّ شيء لكلِّ شيء.

فإن قلت : هب أنّ الإنسان الفاعل المختار ليس بعلّة تامّة ، لكنّ الواجب (عزّ اسمه) فاعلٌ مختارٌ ، وهو علّةٌ تامّةٌ لما سواه ، وكون العالَم واجباً بالنسبة إليه ينافي حدوثه الزمانيّ. ولذلك اختار قومٌ(2) أنّ فعل المختار لا يحتاج إلى مرجّح ، واختار بعضهم(3) أنّ الارادة مرجّحة بذاتها لا حاجةَ معها إلى مرجّح آخر ، واختار جمعٌ(4) أنّ الواجب (تعالى) عالِمٌ بجميع المعلومات ، فما عَلِمَ منه أنّه

__________________

(1) وهو المتكلّمون ، فراجع شرح الإشارات ج 3 ص 131.

(2) وهو الأشاعرة من المتكلّمين ، كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 85 : «والأشعريّ الناف للمرجّح». وراجع شرح الإشارات ج 3 ص 131.

(3) أي بعض الأشاعرة وهم جمهور المتكلّمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري. راجع شرح المقاصد ج 1 ص 236 ، وشرح المواقف ص 290 ، وشرح العقائد النسفيّة ج 2 ص 100 ، والملل والنحل ج 1 ص 94. ونُسب إليهم أيضاً في حوار بين الفلاسفة والمتكلّمين ص 117 ـ 118 ، والأسفار ج 6 ص 320 ـ 321. وذهب إليه أيضاً المتأخّرون من المعتزلة على ما نُقِل في تعليقة السبزواريّ على الأسفار ص 325.

(4) هذا القول هو الظاهر ممّا نُسب إلى جمهور أهل السنة والجماعة من أنّ إرادته (تعالى)

٢٠٧

ممكنٌ سيقع يفعله ، وما عَلِمَ منه أنّه محالٌ لا يقع لا يفعله ، واختار آخرون(1) أنّ أفعاله (تعالى) تابعة للمصالح وإن كنّا غير عالِمين بها ، فما كان منها ذا مصلحة في وقت تفوت لو لم يفعله في ذلك الوقت فَعَلَه في ذلك الوقت دون غيره(2) .

قلت : معنى كونه (تعالى) فاعلا مختاراً أنّه ليس وراءه (تعالى) شيءٌ يجبره على فعل أو ترك فيوجبه عليه ، فإنّ الشيء المفروض إمّا معلول له وإمّا غير معلول ، والثاني محالٌ ، لأنّه واجبٌ آخر أو فعلٌ لواجب آخر وأدلّة التوحيد تبطله ، والأوّل أيضاً محالٌ ، لاستلزامه تأثيرَ المعلول بوجوده القائم بالعلّة المتأخّر عنها في وجود علّته التي يستفيض عنها الوجود.

فكون الواجب (تعالى) مختاراً في فعله لا ينافي إيجابَهُ الفعلَ الصادرَ عن نفسه ولا ايجابُهُ الفعل ينافي كونَه مختاراً فيه.

وأمّا حدوث العالم ـ بمعنى ما سوى الواجب ـ حدوثاً زمانيّاً ، فمعنى حدوث العالم حدوثاً زمانيّاً كونه مسبوقاً بقطعة من الزمان خالية من العالَم ليس معه إلاّ الواجب (تعالى) ولا خَبَرَ عن العالم بعدُ ، والحال أنّ طبيعة الزمان طبيعة كميّة

__________________

نافذة في جميع مراداته على حسب علمه بها ، فما علم كونه أراد كونه في الوقت الذي علم أنّه يكون فيه ، وما علم انّه لا يكون أراد أن لا يكون. راجع الفَرْق بين الفِرَق ص 259. وقريبٌ منه ما يُنسب إلى الحسين بن محمّد النجّار الذي كان يقول : «إنّ الله لم يزل مريداً أن يكون في وقته ما علم أنّه يكون وقته ، مريداً أن لا يكون ما علم أنّه لا يكون». راجع مقالات الإسلامييّن ج 1 ص 315. وتعرّض لهذا القول الفخر الرازيّ في المباحث المشرقية ج 1 ص 479 من دون اشارة إلى قائله.

(1) وهم جمهور قدماء المعتزلة ، كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 85 : «وقيل ـ القائل هو المعتزلي ـ إنّ المرجّح علم ربّنا (تعالى وتقدّس) بالأصلح». ونُسب إليهم أيضاً في شرح الإشارات ج 3 ص 131 ، والأسفار ج 6 ص 325 ، وشرح المواقف ص 290 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 236 ، وكشف الفوائد ص 47.

(2) وفي المقام قولٌ آخر منسوب إلى أبي القاسم البلخي المعروف بالكعبيّ ، وهو القول بأنّ مخصّص الحدوث ذات الوقت على سبيل الوجوب. راجع شرح الإشارات ج 3 ص 131 ، وشرح المنظومة ص 85 ، والأسفار ج 6 ص 325.

٢٠٨

ممكنة موجودة معلولة للواجب (تعالى) ومِنْ فِعْلِه ، فهو من العالَم.

ولا معنى لكون العالَم ـ وفيه الزمان ـ حادثاً زمانيّاً مسبوقاً بعدم زمانيٍّ ولا قبلَ زمانيّاً خارجاً من الزمان.

وقد استشعر بعضهم(1) بالإشكال ، فدَفَعه بدعوى أنّ الزمان أمرٌ اعتباريٌّ وهميٌّ غيرُ موجود.

وهو مردودٌ بأنّ دعوى كونه اعتباريّاً وهميّاً اعترافٌ بعدم الحدوث الزمانيّ حقيقةً.

ودَفَعَ الإشكال بعضُهم(2) بأنّ الزمان حقيقةٌ منتزعةٌ من ذات الواجب (تعالى) من حيث بقائه.

ورَدَ(3) بأنّ لازِمَه التغيّر في ذات الواجب (تعالى وتقدّس) ، فإنّ المنتزَعَ عينُ المنتزَع منه ، وكون الزمان متغيّراً بالذات ضروريّ.

واُجيب عنه(4) بأنّ من الجائز أن يخالف المنتزَعُ المنتزَعَ منه بعدم المطابقة.

وهو مردودٌ بأنّ تجويز المغايرة بين المنتزَع والمنتزَع منه من السفسطة

__________________

(1) أى بعض المتكلّمين. وهو القائلون بالزمان المتوهّم الذي لا فرد يحاذيه ولا منشأ لانتزاعه. وتعرّض لهذا القول الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة وتعليقته عليه ص 82 ، وتعليقته على الأسفار ج 3 ص 142.

(2) أي بعض آخر من المتكلّمين. وهو القائلون بالزمان الموهوم الذي لا فرد يحاذيه وان كان منشأ لانتزاعه ويكون منشأ انتزاعه هو بقاء الواجب بالذات. وهذا القول تعرّض له الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة ص 82 ، وتعليقته على الأسفار ج 3 ص 142. ونَسَبه إلى الأشاعرة في حاشية شرح المنظومة ص 148. وتعرّض له أيضاً آقا على المدرّس فيما علّق على قول اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : «فالحدوث الزماني» ، راجع شوارق الإلهام ص 104 ، ط مكتبة الفارابيّ في طهران ، سنة 1401 من الهجرة.

(3) هكذا ردّه الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة ص 82 ، وتعليقته على الأسفار ج 3 ص 142. وتبعه الآملي في درر الفوائد ص 261.

(4) والمجيب هو المتكلّمون القائلون بالزمان الموهوم. راجع تعليقة المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 7 ص 298.

٢٠٩

ويُبطل معه العلم من رأس ، على أنّ فيه اعترافاً ببطلان أصل الدعوى.

وأمّاقول القائل (1) بجواز أن يختار الفاعل المختار أحد الأمرين المتساويين دون الآخر لا لمرجّح يرجّحه ، وقد مثّلوا له(2) بالهارب من السَّبُع إذا عَنَّ له طريقان متساويان فإنّه يختار أحدهما لا لمرجّح.

ففيه : أنّه دعوى من غير دليل ، وقد تقدّمت الحجّة(3) أنّ الممكن المتساوي الجانبين يحتاج في ترجُّح أحد الجانبين إلى مرجّح(4) .

فإن قيل (5) : إنّ المرجّح هو الفاعل مثلا بإرادته كما مرّ في مثال الهارب من السَّبُع.

اُجيب : بأنّ مرجعه إلى القول الآتي ، وسيأتي بطلانه(6) .

وأمّا مثال الهارب من السَّبُع فممنوعٌ ، بل الهارب المذكور على فرض التساوي من جميع الجهات يقف في موضعه ولا يتحرّك أصلا.

على أنّ جواز ترجّح الممكن من غير مرجّح ينسدّ به طريق إثبات الصانع (تعالى)(7) .

وأمّاقول القائل (8) : «إنّ الارادة مرجّحة بذاتها يتعيَّن بها أحد الأفعال

__________________

(1) راجع شرح المواقف ص 290 ، ومثّلوا له أيضاً بقدحي العطشان ، ورغيفي الجائع.

(2) راجع شرح المواقف ص 290 ، ومثّلوا له أيضاً بقدحي العطشان ، ورغيفي الجائع.

(3) راجع الفصلين الخامس والسادس من المرحلة الرابعة من المتن.

(4) هكذا أجابت عنه الفلاسفة. راجع المباحث المشرقيّة ج 1 ص 480 ، والأسفار ج 2 ص 136 ، وتعليقة المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 7 ص 298.

(5) والقائل صاحب المواقف ، حيث قال : «لا أقول لا يكون للفعل مرجّح على عدمه ، فإنّ الهارب بإرادته مرجّح ايّاه على عدمه ، بل أقول لا يكون إليه ـ أي إلى الفعل ـ داع باعثٌ للفاعل عليه من اعتقاد النفع أو ميل تابع له».

(6) في السطور الآتية.

(7) هذا أوّل الوجهين اللذين ذكرهما الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 480 ، وصدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 134.

(8) والقائل جمهور المتكلّمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري ، كما مرّ.

٢١٠

المتساوية من غير حاجة إلى مرجّح آخر».

ففيه (1) : أنّ الارادة لو رَجَّحت الفعلَ فإنمّا ترجُّحُه بتعلّقها به ، لكن أصل تعلّقها بأحد الاُمور المتساوية الجهات محالٌ.

ودعوى أنّ من خاصّة الارادة ترجيح أحد الأفعال المتساوية ، لا محصّلَ لها ، لأنّها صفة نفسانيّة علميّة لا تتحقّق إلاّ مضافةً إلى متعلّقها الذي رجّحه العلم السابق لها.

فما لم يرجّح العلمُ السابق متعلّقَ الارادة لم تتحقّق الإرادة حتّى يترجّح بها فعلٌ.

وأمّاقول من قال (2) : «إنّه تعالى عالِمٌ بجميع المعلومات ، فما عَلِمَ منها أنّه سيقع يفعله ، وما عَلِمَ منها أنّه لا يقع لا يفعله».

وبعبارة اُخرى : «ما عَلِمَ أنّه ممكن فَعَلَه ، دون المحال».

ففيه : أنّ الامكان لازِمُ الماهيّة ، والماهيّة متوقّفة في انتزاعها على تحقّق الوجود ، ووجود الشيء متوقّف على ترجيح المرجّح ، فالعلم بالامكان متأخّر عن المرجّح بمراتب فلا يكون مرجِّحاً.

وأمّاقول من قال (3) : «إنّ أفعاله (تعالى) غير خالية عن المصالح وإن كنّا لا نعلم بها فما كان منها ذا مصلحة في وقت يفوت لو لم يفعله في ذلك الوقت أخّره إلى ذلك الوقت».

ففيه : ـ مضافاً إلى ورود ما اُورِد على القول السابق عليه ـ أنّ المصلحة المفروضة المرتبطة بالوقت الخاصّ لأيّ فعل من أفعاله كيفما فرضت ذات ماهيّة ممكنة لا واجبة ولا ممتنعة ، فهي نظيرة الأفعال ذوات المصلحة من فعله (تعالى).

فمجموع ما سواه (تعالى) من المصالح وذوات المصالح فعلٌ له (تعالى) لا يتعدّى طور الامكان ، ولا يستغني عن علّة مرجّحة هي علّة تامّة ، وليس هناك وراء الممكن إلاّ الواجب (تعالى) ، فهو العلّة التامّة الموجبة لمجموع فعله لا مرجّح له سواه.

نعم لمّا كان العالَم مركّباً ذا أجزاء لبعضها نِسَبٌ وجودّيةٌ إلى بعض ، جاز أن

__________________

(1) هكذا دفعه صدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 134 ـ 135 وص 260 ـ 261.

(2) لعلّ القائل به جمهور أهل السنة والجماعة والنجار ، كما مرّ.

(3) والقائل جمهور قدماء المعتزلة ، كما مرّ.

٢١١

يقف وجود بعض أجزائه في موقف الترجيح لوجود بعض ، لكنّ الجميع ينتهي إلى السبب الواحد الذي لا سبب سواه ولا مرجّح غيره وهو الواجب (عزّ إسمه).

فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ المعلول يجب وجوده عند وجود العلّه التامّة.

وبعض من لم يجد بدّاً من إيجاب العلّة التامّة لمعلولها قال(1) بـ : «أنّ علّة العالَم هي إرادة الواجب دون ذاته (تعالى)».

وهو أسخف ما قيل في هذا المقام ، فإنّ المراد بإرادته إن كانت هي الارادة الذاتيّة كانت عين الذات وكان القول بعلّية الارادة عين القول بعلّية الذات ، وهو يفرق بينهما بقبول أحدهما وردّ الآخر.

وإن كانت هي الارادة الفعليّة ـ وهي من صفات الفعل الخارجة من الذات ـ كانت أحد الممكنات وراء العالَم ونستنتج منها وجود أحد الممكنات ، هذا.

وأمّا مسألة وجوب وجود العلّة عند وجود المعلول ، فلأنّه لو لم تكن العلّة واجبةَ الوجود عند وجود المعلول ، لكانت ممكنةً ، إذ تقدير امتناعها يرتفع بأدنى توجّه ، وإذ كانت ممكنة كانت جائزة العدم ، والمعلول موجود قائم الوجود بها ولازِمُه وجود المعلول بلا علّة.

فإن قلت : المعلول محتاج إلى العلّة حدوثاً لا بقاءً ، فمن الجائز أن تنعدم العلّة بعد حدوث المعلول ويبقى المعلول على حاله.

قلت : هو مبنيٌّ على ما ذهب اليه قومٌ(2) ـ من أنّ حاجة المعلول إلى العلّه في الحدوث دون البقاء ، فإذا حدث المعلول بايجاد العلّة إنقطعت الحاجة إليها ، ومثّلوا له بالبناء والبنّاء ، فإنّ البنّاء علّةٌ للبناء ، فإذا بنى وقام البناء على ساق ارتفعت حاجته إلى البنّاء ولم يضرّه عدمه ـ.

وهو مردودٌ بأنّ الحاجة إلى العلّة خاصّة لازمة للماهيّة ، لإمكانها في تلبّسها بالوجود أو العدم ، والماهيّة بإمكانها محفوظة في حالة البقاء ، كما أنّها محفوظة في حالة الحدوث ، فيجب وجود العلّة في حالة

__________________

(1) لم أجد قائله.

(2) وهم جمهور المتكلمين ، راجع شرحي الإشارات ج 1 ص 215 ، وشرح الإشارات للمحقّق الطوسيّ ج 3 ص 68 ـ 69.

٢١٢

البقاء كما يجب وجودها في حالة الحدوث.

على أنّه قد تقدّم(1) أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى العلّة وجودٌ رابطٌ قائمٌ بها غيرُ مستقلّ عنها ، فلو استغنى عن العلّة بقاءًكان مستقلاّعنهاغيرَ قائم بها ، وهذا خلف.

برهانٌ آخر : قال في الأسفار : «وهذا ـ يعني كون علّة الحاجة إلى العلّة هي الحدوث ـ أيضاً باطلٌ ، لأنّا إذا حلّلنا الحدوث بالعدم السابق والوجود اللاحق وكون ذلك الوجود بعد العدم وتفحّصنا عن علّة الإفتقار إلى الفاعل أهي أحد الاُمور الثلاثة أم أمرٌ رابع مغاير لها؟ لم يبق من الأقسام شيء إلاّ القسم الرابع. أمّا العدم السابق فلأنّه نفي محضٌ لا يصلح للعلّية. وأمّا الوجود فلأنّه مفتقر إلى الإيجاد المسبوق بالإحتياج إلى الوجود المتوقّف على علّة الحاجة إليه. فلو جعلنا العلّة هي الوجود لزم توقّف الشيء على نفسه بمراتب.

وأمّا الحدوث فلافتقاره إلى الوجود لأنّه كيفيّةٌ وصفةٌ له ، وقد علمت إفتقار الوجود إلى علّة الإفتقار بمراتب.

فلو كان الحدوث علّةَ الحاجة يتقدّم على نفسه بمراتب ، فعلّة الإفتقار زائدة على ما ذكرت»(2) .

وقد اندفعت بما تقدّممزعَمَةٌ اُخرى لبعضهم(3) ، وهي قولهم : «إنّ من شرط صحّة الفعل سبق العدم»(4) . والمراد بالسبق السبق الزمانيّ ، ومحصّله أنّ المعلول بما أنّه فعل لعلّته يجب أن يكون حادثاً زمانيّاً. وعلّلوه بأنّ دوام وجود الشيء لا يجامع حاجتَهُ ، ولازِمُ هذا القول أيضاً عدم وجود المعلول عند وجود العلّة.

وجه الإندفاع (5) : أنّ علّة الحاجة إلى العلّة هي الإمكان وهو لازِمُ الماهيّة ، والماهيّة مع المعلول كيفما فرض وجودها ، من غير فرق بين الوجود الدائم وغيره.

__________________

(1) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(2) راجع الأسفار ج 2 ص 203 ـ 204.

(3) وقال الفخر الرازيّ : «لا يشترط في الفعل تقدّم العدم عليه» ثمّ ذكر عشرة براهين عليه ، وبعد ذلك اجاب عن شبهات المخالفين. فراجع المباحث المشرقية ج 1 ص 485 ـ 494.

(4) وقال الفخر الرازيّ : «لا يشترط في الفعل تقدّم العدم عليه» ثمّ ذكر عشرة براهين عليه ، وبعد ذلك اجاب عن شبهات المخالفين. فراجع المباحث المشرقية ج 1 ص 485 ـ 494.

(5) كما في الأسفار ج 3 ص 18 ـ 19.

٢١٣

على أنّ وجود المعلول رابطٌ بالنسبة إلى العلّة قائمٌ بها غيرُ مستقلٍّ عنها ، ومن الممتنع أن ينقلب مستغنياً عن المستقلّ الذي يقوم به ، سواء كان دائماً أو منقطعاً.

على أنّ لازِمَ هذاالقول خروج الزمان من اُفق الممكنات ، وقدتقدّمت جهات فساده(1) .

الفصل الرابع

في أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد(2)

والمراد بالواحد الأمرُ البسيط الذي ليس في ذاته جهة تركيبيّة مكثّرة.

فالعلّة الواحدة هي العلّة البسيطة التي هي بذاتها البسيطة علّةٌ ، والمعلول الواحد هو المعلول البسيط الذي هو بذاته البسيطة معلولٌ. فالمراد بالواحد ما يقابل الكثير الذي له أجزاء أو آحاد متباينة لا ترجع إلى جهة واحدة.

بيانه(3) : أنّ المبدأ الذي يصدر عنه وجود المعلول هو وجود العلّة الذي هو

__________________

(1) راجع الفصل السادس من المرحلة الرابعة.

(2) هذا مذهب الحكماء والمعتزلة من المتكلّمين على ما نُقل في نقد المحصّل ص 237 ، وشوارق الإلهام ص 206.

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى خلاف ذلك. قال العلاّمة الإيجيّ في المواقف : «يجوز عندنا ـ يعني الأشاعرة ـ استناد آثار متعددة إلى مؤثر واحد بسيط ، وكيف لا ونحن نقول بأنّ جميع الممكنات مستندة إلى الله تعالى». راجع كلام الماتن في شرح المواقف ص 172. وتبعهم الفخر الرازيّ ، فإنّه نقل أربعة براهين على رأي الحكماء ثمّ ناقش في الجميع ، فراجع المباحث المشرقيّة ج 1 ص 460 ـ 468.

وقال صدر المتألّهين في شرح الهداية الأثيريّة ص 254 ـ بعد التعرّض لشبهات الرازيّ ـ : «والإشتغال بجواب أمثال هذه الشبهات تضييع للأوقات من دون فائدة ، فإنّ قائلها امّا أن لا يقدر على ادراك ...». وإن شئت تفصيل ما قالوا اساطين الحكمة في الردّ على شبهات الرازيّ فراجع الأسفار ج 2 ص 204 ـ 212 وج 7 ص 192 ـ 244 ، والقبسات ص 351 ـ 367 ، وشوارق الإلهام ص 207 ـ 208 ، وشرح الاشارات ج 3 ص 122 ـ 127.

(3) هذا بيانٌ جامع لأكثر البراهين. وادّعى بعض المحقّقين بداهة المسألة كما قال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص 210 : «فالحقّ ما ذكره الشارح القديم من أنّ الحكم بأنّ

٢١٤

نفس ذات العلّة ، فالعلّة هي نفس الوجود الذي يصدر عنه وجود المعلول وإن قطع النظر عن كلِّ شيء. ومن الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّةٌ ذاتيّةٌ هي المخصِّصة لصدوره عنها ، وإلاّ كان كلُّ شيء علّةً لكلُّ شيء وكلُ شيء معلولا لكلِّ شيء.

فلو صدر عن العلّة الواحدة التي ليس لها في ذاتها إلاّ جهة واحدة معاليلُ كثيرةٌ بما هي كثيرةٌ متباينةٌ لا ترجع إلى جهة واحدة ، تقرّرت في ذات العلّة جهاتٌ كثيرةٌ متباينةٌ متدافعةٌ ، وقد فرضت بسيطة ذات جهة واحدة ، وهذا خلف.

فالواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ، وهو المطلوب.

وقد اعُتِرض عليه بالمعارضة(1) : أنّ لازَمَهُ عدمُ قدرة الواجب (تعالى) على إيجاد أكثر من واحد ، وفيه تقييد قدرته ، وقد بُرهِنَ على إطلاق قدرته وأنّها عين ذاته المتعالية.

ويردّه : أنّه مستحيلٌ بالبرهان ، والقدرة لا تتعلّق بالمحال ، لأنّه بطلان محض لا شيئيّة له.

فالقدرة المطلقة على إطلاقها ، وكلُّ موجود معلول له (تعالى) بلا واسطة أو معلولُ معلولِهِ ، ومعلول المعلول معلول حقيقةً.

ويتفرّع عليه :

أوّلا : أنّ الكثير لا يصدر عنه الواحد.

فلو صُدِرَ واحد عن الكثير ، فإمّا أن يكون الواحد واحداً نوعيّاً ذا أفراد كثيرة يستند كلّ فرد منها إلى علّة خاصّة ، كالحرارة الصادرة عن النار والنور والحركة وغيرها ، أو تكون وحدُتُه عدديّةً ضعيفةً كالوحدة النوعيّة ، فيستند وجوده إلى كثير كالهيولى الواحدة بالعدد المستند وجودها إلى مفارق يقيم وجودها بالصور المتواردة عليها واحدة بعد واحدة على

__________________

الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد بديهيٌّ لا يتوقّف إلاّ على تصوّر طرفيه». وقال المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ج 3 ص 122 : «وكأنّ هذا الحكم قريباً من الوضوح».

(1) والمعترض هو الأشاعرة كالعلاّمة الإيجيّ والسيّد الشريف في شرح المواقف ص 172 وص 485. واعترض عليه الغزالي أيضاً ، حيث قال : «إنّهم قالوا : لا يصدر من الواحد إلاّ شيء واحد ، والمبدأ الواحد من كلّ وجه. والعالم مركّب من مختلفات ، فلا يتصوّر أن يكون فعلا لله تعالى بموجب أصلهم» ، راجع كلام الماتن في تهافت التهافت ص 292.

٢١٥

ما قالته الحكماء ، وقد تقدّم الكلام فيه(1) .

وإمّا أن تكون للكثير جهة وحدة يستند إليها المعلول ، وإمّا أن يكون الكثير مركّباً ذا أجزاء يفعل الواحد بواحد منها فينسب إلى نفس المركب.

وثانياً : أنّ المعلول الواحد لا يفعل فيه عِلَلٌ كثيرةُ ، سواء كان على سبيل الاجتماع في عرض واحد ، لأنّه يؤدّي إلى التناقض في ذات الواحد المؤدّى إلى الكثرة ، أو كان على سبيل التوارد بقيام علّة عليه بعد علّة(2) ، للزوم ما تقدّم من المحذور(3) .

وثالثاً : أنّه لو صدر عن الواحد كثيرٌ وجب أن تكون فيه جهةُ كثرة وتركيب يستند إليها الكثير غير جهة الوحدة المفروضة ، كالإنسان الواحد الذي يفعل أفعالا كثيرة من مقولات كثيرة متباينة بتمام الذات.

الفصل الخامس

في استحالة الدور والتسلسل في العلل

أمّا الدّور فهو توقّف وجود الشيء على ما يتوقّف وجوده عليه ، إمّا بلا واسطة ، كتوقّف (أ) على (ب) وتوقّف (ب) على (أ) ، ويسمّى : «دوراً مصرّحاً» ، وإمّا مع الواسطة ، كتوقّف (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (أ) ، ويسمّى : «دوراً مضمراً».

واستحالته قريبة من البداهة ، فإنّه يستلزم تقدٌّمَ الشيء على نفسه بالوجود ، وهو ضروريّ الاستحالة(4) .

__________________

(1) في الفصل السابع من المرحلة السادسة.

(2) قال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص 213 : «وأمّا إذا لم يفرض اجتماعهما بل فرض تبادلهما ابتداءً أو تعاقبهما فالمشهور هو الجواز».

(3) حيث قال : «بيانه ...».

(4) فإنّ تقدّم الشيء على نفسه مستلزم لتخلّل العدم ين الشيءونفسه ، وهو ضروريّ الاستحالة.

٢١٦

وأمّا التسلسل فهو ترتُّبُ شيء موجود على شيء آخر موجود معه بالفعل ، وترتُّبُ الثاني على ثالث كذلك ، والثالث على رابع ، وهكذا إلى غير النهاية.

سواء كان ذهاب السلسلة كذلك من الجانبين بأن يكون قبلَ كلِّ قبل قبلُ وبعدَ كلِّ بعد بعدُ أو من جانب واحد.

لكنّ الشرط على أيّ حال أن يكون لأجزاء السلسلة وجود بالفعل وأن تكون مجتمعةً في الوجود وأن يكون بينها ترتّب.

والتسلسل في العلل ترتُّبُ معلول على علّة وترتُّبُ علّته على علّة وعلّة علّته على علّة ، وهكذا إلى غير النهاية.

والتسلسل في العِلَلِ محالٌ(1) .

والبرهان عليه : أنّ وجودَ المعلول رابطٌ بالنسبة إلى علّته لا يقوم إلاّ بعلّته ، والعلّة هو المستقلّ الذي يقوّمه كما تقدّم(2) .

وإذا كانت علّته معلولةً لثالث وهكذا ، كانت غيرَ مستقلّة بالنسبة إلى ما فوقها ، فلو ذهبت السلسلة إلى غير النهاية ولم تنتهِ إلى علّة غير معلولة تكون مستقلّةً غير رابطة ، لم يتحقّق شيء من أجزاء السلسلة ، لإستحالة وجود الرابط إلاّ مع مستقلّ.

برهانٌ آخر : وهو المعروف ببرهان الوسط والطرف ، أقامه الشيخ في الشفاء ، حيث قال : «إذا فرضنا معلولا وفرضنا له علّةً ولعلّته علّةً ، فليس يمكن أن يكون لكلِّ علّة علّةٌ بغير نهاية ، لأنّ المعلول وعلّته وعلّة علّته إذا اعتبرت جملتها في القياس الذي لبعضها إلى بعض كانت علّةُ العلّة علّةً أولى مطلقة للآخرين ، وكان للآخرين نسبة المعلوليّة إليها ، وإن اختلفا في أنّ أحدهما معلولٌ بالواسطة والآخر معلولٌ بلا واسطة ، ولم يكونا كذلك لا الأخير ولا المتوسط ، لأنّ المتوسط الذي هو العلّة المماسّة للمعلول علّةٌ لشيء واحد فقط والمعلول ليس علّةً لشيء.

ولكلِّ واحد من الثلاثة خاصيّةٌ ، فكانت خاصيّة الطرف المعلول أنّه ليس علّةً

__________________

(1) بخلاف التسلسل في جانب المعلول ، وهو بأنّ الشيء علّة لآخر وهو لآخر وهكذا ، ولا ينتهي إلى معلول غير علّة ، فإنّه ليس بمستحيل.

(2) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٢١٧

لشيء ، وخاصيّة الطرف الآخر أنّه علّةٌ للكلِّ غيره ، وخاصيّة الوسط أنّه علّةٌ لطرف ومعلولٌ لطرف سواء كان الوسط واحداً أو فوق واحد.

وإن كان فوق واحد فسواء ترتّب ترتيباً متناهياً أو غير متناه ، فإنّه إن ترتّب في كثرة متناهية كانت جملة عدد ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك في خاصيّة الواحدة بالقياس إلى الطرفين فيكون لكلّ من الطرفين خاصيّة ، وكذلك إن ترتّب في كثرة غير متناهية فلم يحصل الطرف كان جميع غير المتناهي في خاصيّة الواسطة ، لأنّك أيَّ جملة أخذْتَ كانت علّةً لوجود المعلول الأخير وكانت معلولة ، إذ كلّ واحد منها معلول ، والجملة متعلّقة الوجود بها ، ومتعلّقة الوجود بالمعلول معلولٌ ، إلاّ أنّ تلك الجملة شرطٌ في وجود المعلول الأخير وعلّةٌ له ، وكلّما زدت في الحصر والأخذ كان الحكم إلى غير النهاية باقياً.

فليس يجوز أن تكون جملةُ عِلَل موجودةً وليس فيها علّة غير معلولة وعلّة أولى ، فإنّ جميع غير المتناهي كواسطة بلا طرف ، وهذا محال»(1) .

برهانٌ آخر : ـ وهو المعروف بالأسدّ الأخصر ـ للفارابيّ(2) ، أنّه إذ كان ما من واحد من آحاد السلسلة الذاهبة بالترتيب بالفعل لا إلى نهاية إلاّ وهو كالواحد في أنّه ليس يوجد إلاّ ويوجد آخر وراءه من قبل ، كانت الآحاد اللامتناهية بأسْرِها يصدق عليها أنّها لا تدخل في الوجود ما لم يكن شيءٌ من ورائها موجوداً من قبل.

فإذن بداهة العقل قاضية بأنّه من أين يوجد في تلك السلسة شيءٌ حتّى يوجد شيءٌ ما بعده؟(3) .

وهناك حُجَجٌ اُخرى أُقيمت على استحالة التسلسل(4) لايخلوأكثرهامن مناقشة.

__________________

(1) راجع الفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء.

(2) نُسب إليه في الأسفار ج 2 ص 166 ، وشرح المنظومة ص 136.

(3) راجع الأسفار ج 2 ص 166.

(4) وان شئت تفصيل ما أقاموا على استحالة التسلسل فراجع الأسفار ج 2 ص 141 ـ 169 ،

٢١٨

تنبيهٌ :

قال بعضهم(1) : «إنّ معيار الحكم بالاستحالة في كلٍّ من البراهين التي اُقيمت على استحالة التسلسل هو استجماع شرطَي الترتّب والاجتماع في الوجود بالفعل في جهة اللانهاية ، ومقتضاها استحالة التسلسل في العلل في جهة التصاعد بأنْ تترتّب العلل إلى ما لا نهاية له ، لا في جهة التنازل بأنْ يترتّب معلولٌ على علّته ، ثمّ معلول المعلول على المعلول ، وهكذا إلى غير النهاية.

والفرق بين الأمرين أنّ العلل مجتمعةٌ في مرتبة وجود المعلول ومحيطةٌ به.

وتقدُّمها عليه إنّما هو بضَرْب من التحليل ، بخلاف المعلولات ، فإنّها ليست في مرتبة علَلِها ، فذهاب السلسلة متصاعدةً يستلزم إجتماع العلَلِ المترتّبة بوجوداتها بالفعل في مرتبة المعلول الذي تبتدئ منه السلسلة مثلا ، بخلاف ذهاب السلسلة متنازلةً ، فإنّ المعلولات المترتّبة المتنازلة لا تجتمع على العلّة الاُولى التي تبدأ منها السلسلة مثلا»(2) ـ إنتهى كلامه ملخّصاً.

وأنت خبيرٌ بأنّ البرهانَيْن المتقدّمَيْن المنقولَيْن عنالشيخ والفارابيّ جاريان في صورتَي التصاعد والتنازل جميعاً فيما كانت السلسلة مؤلَّفةً من علل تامّة.

وأمّا العلل الناقصة فيجري البرهانان فيها إذا كانت السلسلة متصاعدةً ، لوجوب وجود

__________________

وشوارق الإلهام ص 215 ـ 226 ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 470 ـ 477 ، وشرح المنظومة ص 134 ـ 136 ، وغيرها من المطوّلات. وصنّف محمّد عبد الحي اللكهنويّ الأنصاري كتاباً موسوماً بـ «الكلام المتين في تحرير البراهين» ، وهو مشتمل على اثنين وخمسين برهاناً على ابطال التسلسل وهاهنا نكتفي بذكر بعضها اجمالا : 1 ـ برهان العروة الوثقى. 2 ـ برهان المنصف والتضعيف. 3 ـ برهان العرشي. 4 ـ برهان الزوج والفرد. 5 ـ برهان الزيادة. 6 ـ برهان النسبة. 7 ـ برهان اختلاف النصفين. 8 ـ برهان التحرك. 9 ـ برهان خلوّ الحيّز. 10 ـ برهان الطفرة. 11 ـ برهان المقاطعة. 12 ـ برهان الوصل. 13 ـ برهان السلّمي. 14 ـ برهان عروض العدد. 15 ـ برهان حصر ما لا ينحصر. 16 ـ برهان الوسط والطرف. 17 ـ برهان تلاقي المتوازيين. 18 ـ برهان كثرة الأنصاف. 19 ـ برهان تحرك الكرتين. وغيرها من البراهين المذكورة فيه. فراجع الكتاب المذكور.

(1) وهو السيّد الداماد.

(2) راجع القبسات ص 228.

٢١٩

العلّة الناقصة عند وجود المعلول ومعه ، بخلاف ما إذا كانت السلسلة متنازلةً ، لعدم وجوب وجود المعلول عند وجود العلّة الناقصة.

فما ذكره(1) ـ من أنّ معيار الاستحالة هو اجتماع اللامتناهى في جزء من أجزاء السلسلة وهو متأتّ في صورة التصاعد دون التنازل ـ ممنوعٌ.

تنبيهٌ آخر :

تقدَّمَ(2) أنّ التسلسل إنّما يستحيل فيما إذا كانت أجزاء السلسلة موجودةً بالفعل وأن تكون مجتمعةً في الوجود وأن يترتّب بعضها على بعض.

فلو كان بعض الأجزاء موجودةً بالقوّة كبعض مراتب العدد فليس بمستحيل ، لأنّ الموجود منه متناه دائماً؛ وكذا لو كانت موجودة بالفعل لكنّها غير مجتمعة في الوجود كالحوادث الزمانيّة بعضها معدومة عند وجود بعض ، لتناهي ما هو الموجود منها دائماً؛ وكذا لو كانت موجودةً بالفعل مجتمعةً في الوجود ، لكن لا ترتّب بينها ، وهو توقّف البعض على البعض وجوداً كعدد غير متناه من موجودات لا علّية ولا معلوليّة بينها.

والوجه في ذلك أنّه ليس هناك مع فَقْدِ شيء من الشرائط الثلاث سلسلةٌ واحدة موجودة غير متناهية حتّى يجري فيها براهين الاستحالة.

تنبيهٌ آخر :

مقتضى ما تقدَّمَ من البرهان استحالةُ التسلسل في أقسام العلل كلِّها من العلل الفاعليّة والغائيّة والمادّيّة والصوريّة ، كما أنّ مقتضاها استحالته في العلل التامّة ، لأنّ الملاك في الاستحالة ذهاب التوقّف الوجوديّ إلى غير النهاية ، وهو موجود في جميع أقسام العلل.

ويتبيّن بذلك أيضاً استحالة التسلسل في أجزاء الماهيّة ، كأن يكون مثلا للجنس جنسٌ إلى غير النهاية أو للفصل فصلٌ إلى غير النهاية ، لأنّ الجنس والفصل

__________________

(1) أي السيد الداماد.

(2) في ابتداء هذا الفصل.

٢٢٠