نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 147415
تحميل: 4929

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147415 / تحميل: 4929
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

والذي تقدّم هو توقُّفُ العلْم بذي السبب على سببه ، وأمّا ما لا سبب له فإنّما يعلم ثبوته من طريق الملازمات العامّة كما حُقّقَ في صناعة البرهان(1) .

فكون الشيء مستقلاّ عن شيء آخر ولا صُنْعَ له فيه وكونُهُ مغايراً لذلك وخارجاً عنه ، صفتان عامّتان متلازمتان لا سبَبَ لهما ، بل الملازمة ذاتيّة كسائر موضوعات الحكمة الإلهيّة ، ووجود المحسوس في الخارج من النفس من مصاديق هاتين المتلازمتَيْن ينتقل العقل من أحدهما إلى الآخر. وهذا كما أنّ الملازمة بين الشيء وبين ثبوته لنفسه ذاتيّهٌ ، وثبوت هذا الشيء لنفسه من مصاديقه ، والعلم به لا يتوقّف على سبب.

فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ البحث عن المطلوب إنّما يفيد العلم به بالسلوك إليه عن طريق سببه إن كان ذا سبب أو من طريق الملازمات العامّة إن كان ممّا لا سبب له. وأمّا السلوك إلى العلّة من طريق المعلول فلا يفيد علماً البتّةَ.

الفصل الرابع عشر

في أنّ العلوم ليست بذاتيّة للنفس

قيل(2) : «إنّ ما تناله النفس من العلوم ذاتيّةٌ لها موجودةٌ فيها بالفعل في بدء كينونتها».

ولمّا اُورِدعليهم : أنّ ذلك ينافي الجهلَ المشهود من الإنسان ببعض العلوم والحاجة في فعليّتها إلى الإكتساب.أجابوا (3) بأنّها ذاتيّة فطريّة لها ، لكنّ اشتغال النفس بتدبير البدن أغفلها علومها وشغلها عن التوجه إليها.

__________________

(1) راجع الفصل الثامن من المقالة الاُولى من الفن الخامس من منطق الشفاء.

(2) والقائل بعض القائلين بقدم النفوس البشريّة على ما نقل في المباحث المشرقية ج 1 ص 357 ، والأسفار ج 3 ص 487.

(3) وتعرّض له الفخر الرازيّ ونقدَه في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 375. وتبعه على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار ج 3 ص 489 ـ 490.

٣٢١

وفيه : أنّ نحو وجود النفس بما أنّها نفس أنّها صورة مدبّرة للبدن ، فتدبير البدن ذاتيّ لها حيثما فرضت نفساً. فلا يؤول الجمع بين ذاتيّة العلوم لها وبين شاغليّة تدبير البدن لها عن علومها إلاّ إلى المناقضة.

نعم ، يتّجه هذا القول بناءً على ما نُسب إلىأفلاطون (1) أنّ النفوس قديمة زماناً والعلوم ذاتيّة لها وقد سنح لها التعلّق التدبيريّ بالأبدان فأنساها التدبيرُ علومَها المرتكزة في ذواتها.

لكنّه فاسدٌ بما تحقّق في علم النفس من حدوث النفوس بحدوث الأبدان على ما هو المشهور أو بحركة جواهر الأبدان بعد حدوثها(2) .

وربّما وُجِّهَ القول بقدمها بأنّ المراد به قدم نشأتها العقليّة المتقدّمة على نشأتها النفسانيّة. لكن لا يثبت بذلك أيضاً أنّ حصول العلم بالذكر لا بالانتقال الفكريّ من الأسباب إلى المسبّبات أو من بعض اللوازم العامّة إلى بعض آخر ، كما تقدّم(3) .

الفصل الخامس عشر

في انقسامات اُخر للعلم

قال في الأسفار ما ملخّصه : «إنّ العلم عندنا نفس الوجود غير المادّيّ ، والوجود ليس في نفسه طبيعة كلّيّة جنسيّة أو نوعيّة حتّى ينقسم بالفصول إلى الأنواع ، أو بالمشخّصات إلى الأشخاص ، أو بالقيود العرضيّة إلى الأصناف ، بل كلّ علْم هويّةٌ شخصيّةٌ بسيطةٌ غيرُ مندرجة تحت معنى كلّيٍّ ذاتيٍّ.

فتقسيم العلم باعتبار عينُ تقسيم المعلوم لاتّحاده مع المعلوم إتّحادَ الوجود مع الماهيّة ، فعلى هذا نقول : إنّ من العلم ما هو واجب الوجود بذاته وهو علم الأوّل (تعالى) بذاته الذي هو عين ذاته بلا ماهيّة ، ومنه ما هو ممكن الوجود بذاته وهو علم جميع ما عداه. وينقسم إلى ما هو جوهر ، كعلوم الجواهر العقليّة بذواتها ،

__________________

(1) راجع الأسفار ج 8 ص 331.

(2) راجع الأسفار ج 8 ص 330 ـ 380.

(3) في الفصل السابق.

٣٢٢

وإلى ما هو عرض ، وهو في المشهور جميع العلوم الحصوليّة المكتسبة لقيامها بالذهن عندهم ، وعندنا العلم العرضيّ هو صفات المعلومات التي تحضر صورها عند النفس ، وقد بيّنا أنّ العلم عقليّاً كان أو خياليّاً ليس بحلول المعلومات في العقل أو النفس ، بل على نحو المثول بين يدي العالم واتّحاد النفس بها.

قسمة اُخرى ، قالوا : من العلم ما هو فعليٌّ ، ومنه ما هو انفعاليٌّ ، ومنه ما ليس بفعليٍّ ولا انفعاليٍّ. أمّا العلم الفعليّ ، فكعلم البارئ (تعالى) بما عدا ذاته وعلم سائر العلل بمعلولاتها. وأمّا العلم الانفعاليّ ، فكعلم ما عدا البارئ (تعالى) بما ليس بمعلول له ممّا لا يحصل إلاّ بانفعال مّا وتغيّر مّا للعالم ، وبالجملة بارتسام صوَر تحدث في ذات النفس أو آلاتها. والعلم الذي ليس بفعليٍّ ولا انفعاليٍّ ، فكعلم الذوات العاقلة بأنفسها وبالاُمور التي لا تغيب عنها. وقد يكون علم واحد فعليّاً من وجه وانفعاليّاً من وجه ، كالعلوم الحادثة التي لها آثار خارجيّة ، كتأثير الأوهام في الموادّ الخارجيّة»(1) .

وقال أيضاً : «إنّ العلم يقع على مصاديقه بالتشكيك كالوجود ، فيختلف بالشدّة والضعف ، والأوّليّة والأولويّة وخلافهما ، والأقدميّة وغيرها. فإنّ العلم بذات الأوّل (تعالى) ـ وهو علمه (تعالى) بذاته الذي هو عين ذاته ـ أولى في كونه علماً من العلم بغيره ، وهو أقدم العلوم لكونه سبب سائر العلوم وهو أشدّها جلاءً وأقوى ظهوراً في ذاته. وأمّا خفاؤه علينا فلما علمتَ من أنّه لغاية ظهوره وضَعْفِ بصائرنا عن إدراكه ، فجهة خفائه هي بعينها جهة وضوحه وجلائه. وهكذا كلّ علم بحقيقة علّة بالقياس إلى العلم بحقيقة معلولها. وكذا العلم بحقيقة كلّ جوهر هو أشدّ من العلم بحقيقة كلّ عرض ، وهو أولى وأقدم من العلم بحقيقة العرض القائم بذلك الجوهر ، لكونه علّةً لها ، لا بحقيقة سائر الأعراض غير القائمة به.

وأمّا اطلاق العلم على الفعل والانفعال والإضافة كالتعليم والتعلّم والعالميّة فعلى سبيل الاشتراك أو التجوّز»(2) ـ إنتهى.

__________________

(1) راجع الأسفار ج 3 ص 382 ـ 383.

(2) راجع الأسفار ج 3 ص 383 ـ 384.

٣٢٣
٣٢٤

المرحلة الثانية عشرة

في ما يتعلّق بالواجب الوجود

عزّ إسمه من المباحث

وهي في الحقيقة مسائل متعلّقة بمرحلة الوجوب والإمكان ،

أفردوا للكلام فيها مرحلةً مستقلّةً اهتماماً بها واعتناء

ًبشرافة موضوعها

وفيها أربعة وعشرون فصلا

٣٢٥
٣٢٦

الفصل الأوّل

في إثبات الوجود الواجبي

البراهين الدالّة على وجوده (تعالى) كثيرةٌ متكاثرةٌ(1) .

وأوثَقُها وأمتَنُها هو البرهان المتضمّن للسلوك إليه من ناحية الوجود(2) ، وقد سمّوه «برهان الصدّيقين»(3) ، لما أنّهم يعرّفونه (تعالى) به لا بغيره. وهو كما ستقف عليه برهانُ

__________________

(1) وإن شئت تفصيلها فراجع الأسفار ج 6 ص 12 ـ 47 ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص 279 ـ 283 ، والتعليقات للشيخ الرئيس ص 70 ، وشرح الإشارات ج 3 ص 20 ـ 30 و 66 ـ 67 ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس ص 22 ، وكشف المراد ص 280 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 57 ـ 60 ، وشرح المواقف ص 465 ـ 470 ، ورسالة اثبات الواجب للمحقّق الدوانيّ ، وغيرها من المطوّلات.

(2) هذا مذهب الحكماء الإلهيّين ، كما نسبه إليهم الشيخ الرئيس في رسالة الفصول ، حيث قال : ـ بعد التعرّض لمسلك الطبيعيين ـ : «والإلهيون سلكوا غير هذا المسلك وتوصّلوا إلى إثباته من وجوب الوجود» إنتهى كلامه في رسالة الفصول على ما نُقل في شوارق الإلهام ص 495.

ومن هنا يظهر ضعف كلام مَن زعم أنّ الشيخ أوّلُ من سلك هذا المنهج ، فإنّ كلامه في رسالة الفصول صريح في أنّه تَبَعَ غيره من الإلهيّين. نعم انّه أوّلُ من وَسَم الحكماء الإلهيّين بالصديقين.

(3) وأوّلُ من سمّاه بـ «برهان الصدّيقين» هو الشيخ الرئيس ، حيث قال : «أقول : إنّ هذا حكمٌ

٣٢٧

إنّيٌّ يُسلك فيه من لازم من لوازم الوجود إلى لازم آخر.

وقد قُرِّر بغير واحد من التقرير(1) : وأوجَزُ ما قيل أنّ حقيقة الوجود إمّا واجبة وإمّا تستلزمها ، فإذن الواجب بالذات موجود ، وهو المطلوب.

وفي معناه ما قُرِّر(2) ـ بالبناء على أصالة الوجود ـ أنّ حقيقة الوجود التي هي عين الأعيان وحاقُّ الواقع حقيقةٌ مرسلةٌ يمتنع عليها العدم ، إذ كلّ مقابل غير قابِل لمقابله ، والحقيقة المرسلة التي يمتنع عليها العدم واجبة الوجود بالذات ، فحقيقة الوجود الكذائيّة واجبة بالذات ، وهو المطلوب.

فإن قلت : امتناع العدم على الوجود لا يوجب كونه واجباً بالذات وإلاّ كان وجود كلّ ممكن واجباً بالذات لمناقضته عدمَهُ ، فكان الممكن واجباً وهو ممكن ، وهذا خلف.

قلت : هذا في الوجودات الممكنة ، وهي محدودة بحدود ماهويّة لا تتعدّاها ، فينتزع عدمها ممّا وراء حدودها.

وهو المراد بقولهم : «كلّ ممكن فهو زوج تركيبي»(3) وأمّا حقيقة الوجود المرسلة التي هي الأصيلة لا أصيل غيرها ، فلا حدٌّ يحدّها ولا قيدٌ يقيّدها ، فهي بسيطة صرفة تُمانع العدمَ وتُناقضه بالذات ، وهو الوجوب بالذات.

__________________

للصدّيقين الذين يستشهدون به لا عليه». راجع شرح الإشارات ج 3 ص 66.

وقال المحقّق الطوسي : «ولمّا كان طريقة قومه أصدق الوجهين وَسَمهم بالصديقين ، فانّ الصديق هو ملازم الصدق» راجع شرح الإشارات ج 3 ص 67.

(1) راجع شرح المنظومة ص 145 ـ 146 ، والأسفار ج 6 ص 14 ـ 16 ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس ص 22 ، وكشف المراد ص 280 ، وشوارق الإلهام ص 494 ـ 498 ، وتهافت التهافت 460.

(2) والمقرِّر هو الحكيم السبزواريّ في حاشية الأسفار ج 6 ص 16 ـ 17 ، وحاشية شرح المنظومة ص 146.

(3) راجع الفصل السابع من المقالة الاُولى من إلهيات الشفاء

٣٢٨

وقرّرصدر المتألّهين (قدس سره) البرهان على وجه آخر ، حيث قال : «وتقريره أنّ الوجود ـ كما مرّ ـ حقيقة عينيّة واحدة بسيطة ، لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلاّ بالكمال والنقص والشدّة والضعف أو بأُمور زائدة ، كما في أفراد ماهيّة نوعيّة. وغاية كمالها ما لا أتمّ منه ، وهو الذي لا يكون متعلّقاً بغيره ، ولا يتصوّر ما هو أتمّ منه ، إذ كلّ ناقص متعلّقٌ بغيره مفتقرٌ إلى تمامه. وقد تبيّن فيما سبق أنّ التمام قبل النقص ، والفعل قبل القوّة ، والوجود قبل العدم؛ وبيّن أيضاً أنّ تمام الشيء هو الشيء وما يفضل عليه.

فإذن الوجود إمّا مستغن عن غيره وإمّا مفتقرٌ بالذات إلى غيره. والأوّل هو واجب الوجود ، وهو صرف الوجود الذي لا أتمّ منه ، ولا يشوبه عدم ولا نقص. والثاني هو ما سواه من أفعاله وآثاره ، ولا قوام لما سواه إلاّ به ، لما مرّ أنّ حقيقة الوجود لا نقص لها وإنّما يلحقه النقص لأجل المعلوليّة؛ وذلك لأنّ المعلول لا يمكن أن يكون في فضيلة الوجود مساوياً لعلّته. فلو لم يكن الوجود مجعولا ذا قاهر يوجده ويحصّله كما يقتضيه لا يتصوّر أن يكون له نحو من القصور ، لأنّ حقيقة الوجود ـ كما علمت ـ بسيطةٌ لا حدَّ لها ولا تعيُّنَ إلاّ محض الفعليّة والحصول ، وإلاّ لكان فيه تركيب أو له ماهيّة غير الوجوديّة(1) . وقد مرّ أيضاً أنّ الوجود إذا كان معلولا كان مجعولا بنفسه جعلا بسيطاً وكان ذاته بذاته مفتقراً إلى جاعل وهو متعلّق الجوهر والذات بجاعله.

فإذن قد ثبت واتّضح أنّ الوجود إمّا تامّ الحقيقة واجب الهويّة وإمّا مفتقر الذات إليه متعلّق الجوهريّة. وعلى أيّ القسمين يثبت ويتبيّن أنّ وجود واجب الوجود غنيُّ الهويّة عمّا سواه ، وهذا هو ما أردناه»(2) ـ إنتهى.

__________________

(1) وفي المطبوع : «غير الموجوديّة».

(2) راجع الأسفار ج 6 ص 14 ـ 16.

٣٢٩

الفصل الثاني

في بعض آخر ممّا أُقيم على وجود الواجب (تعالى) من البراهين

من البراهين عليه(1) أنّه لا ريب أنّ هناك موجوداً مّا ، فإن كان هو أو شيءٌ منه واجباً بالذات فهو المطلوب ، وإن لم يكن واجباً بالذات وهو موجود فهو ممكن بالذات بالضرورة ، فرجّح وجوده على عدمه بأمر خارج من ذاته وهو العلّة ، وإلاّ كان مرجّحاً بنفسه فكان واجباً بالذات وقد فرض ممكناً ، وهذا خلف.

وعلّته إمّا ممكنة مثله أو واجبة بالذات ، وعلى الثاني يثبت المطلوب ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى علّته ، وهلمّ جراً ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل ، وهما محالان ، أو ينتهي إلى علّة غير معلولة هي الواجب بالذات ، وهو المطلوب.

واعُترِض عليه (2) : بأنّه ليس بياناً برهانيّاً مفيداً لليقين ، فإنّ البرهان إنّما يفيد اليقين إذا كان السلوك فيه من العلّة إلى المعلول ، وهو البرهان اللمّيّ.

وأمّا البرهان الإنّي المسلوك فيه من المعلول إلى العلّة فلا يفيد يقيناً كما بيّن في المنطق.

ولمّا كان الواجب (تعالى) علّةً لكلّ ما سواه غيرَ معلول لشيء بوجه ، كان السلوك إلى إثبات وجوده ـ من أي شيء كان ـ سلوكاً من المعلول إلى العلّة غيرَ مفيد لليقين ، وقد سلك في هذا البيان من الموجود الممكن الذي هو معلوله إلى إثبات وجوده.

والجواب عنه (3) : أنّ برهان الإنّ لا ينحصر فيما يسلك فيه من المعلول إلى

__________________

(1) وهذا هو البرهان المنسوب إلى الإلهيّين. وهذا نفس البرهان الصديقين الذي ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات ، وتمسّك به المحقّق الطوسيّ وتبعه العلاّمة الحلّي ، راجع كشف المراد ص 280 ، وشوارق الإلهام ص 494 ـ 500 ، وشرح القوشجي ص 210 ، والنافع يوم الحشر ص 8 ـ 9 ، ومفتاح الباب 83 ـ 97.

(2) هذا الإعتراض تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 27.

(3) كذا أجاب عنه المصنّف (رحمه الله) في تعليقته على الأسفار ج 6 ص 67. وقال المحقّق اللاهيجيّ

٣٣٠

العلّة ، وهو لا يفيد اليقين ، بل ربّما يسلك فيه من بعض اللوازم العامّة التي للموجودات المطلقة إلى بعض آخر وهو يفيد اليقين ، كما بيّنه الشيخ في كتاب البرهان من منطق الشفاء(1) .

وقد سلك في البرهان السابق من حال لازمة لمفهومو موجود مّا ـ وهو مساوقٌ للموجود من حيث هو موجود ـ إلى حال لازمة اُخرى له ، وهو أنّ من مصاديقه وجودَ علّة غير معلولة يجب وجودها لذاتها.

فقد تبيّن بذلك أنّ البيان المذكور برهان إنّيٌّ مفيدٌ لليقين كسائر البراهين الموضوعة في الفلسفة لبيان خواصّ الموجود من حيث هو موجود المساوية للموجود العامّ.

تنبيهٌ

محصّل البيان السابق أنّ تحقُّقَ موجود مّا ملازمٌ لترجُّح وجوده إمّا لذاته فيكون واجباً بالذات ، أو لغيره وينتهي إلى ما ترجّح بذاته ، وإلاّ دار أو تسلسل وهما مستحيلان.

ويمكن تبديل ترجّح الوجود من وجوب الوجود فيكون سلوكاً إنّيّاً من مسلك آخر. تقريره : أنّه لا ريب أنّ هناك موجوداً مّا ، وكلّ موجود فإنّه واجب ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإن كان هو أو شيءٌ منه واجباً لذاته فهو المطلوب ، وإن كان واجباً لغيره وهو علّته الموجودة الواجبة ، فعلّيتُهُ إمّا واجبة لذاتها فهو ، وإمّا واجبة لغيرها ، فننقل الكلام إلى علّة علّته ، وهلمّ جراً ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل أو ينتهي إلى واجب لذاته ، والشقّان الأوّلان مستحيلان ، والثالث هو المطلوب.

__________________

في شوارق الإلهام ص 498 : «وأيضاً قالوا : من القياسات الإنيّة ما هو أقرب إلى اللّم ، بل كاد أن يكون في مرتبته في الوثوق ، وهو ما يكون من اللوازم المنتزعة من حاقّ الملزوم وحقيقته من غير اعتبار أمر آخر على ما صرّح به الشيخ في الحكمة المشرقيّة» إنتهى.

(1) راجع الفصل الثامن من المقالة الاُولى من الفن الخامس من منطق الشفاء.

٣٣١

برهانٌ آخر ، أقامه الطبيعيّون(1) من طريق الحركة والتغيّر. تقريره : أنّه قد ثبت فيما تقدّم ـ في مباحث القوّة والفعل(2) ـ أنّ المحرّك غير المتحرّك ، فلكلّ متحرّك محرّك غيره ، ولو كان المحرّك متحرّكاً فله محرّك أيضاً غيره ، ولا محالة تنتهي سلسلة المحرّكات إلى محرّك غير متحرّك دفعاً للدور والتسلسل. وهو لبراءتِهِ من المادّة والقوّة ، وتنزُّهِهِ عن التغيّر والتبدّل ، وثباتِهِ في وجوده ، واجب الوجود بالذات أو ينتهي إليه في سلسلة علله.

برهانٌ آخر ، أقامه الطبيعيّون أيضاً من طريق النفس الإنسانيّة(3) . تقريره : أنّ النفس الإنسانيّة مجرّدةٌ عن المادّة ذاتاً ، حادثةٌ بما هي نفس بحدوث البدن ، لامتناع التمايز بدون الأبدان واستحالة التناسخ ـ كما بيّن في محلّه(4) ـ فهي ممكنة مفتقرة إلى علّة غير جسم ولا جسمانيّة ، أمّا عدم كونها جسماً ، فلأنّها لو كانت جسماً كان كلّ جسم ذا نفس ، وليس كذلك ، وأمّا عدم كونها جسمانيّة ، فلأنّها لو كانت جسمانيّة ، سواء كانت نفساً اُخرى أو صورةً جسميّةً أو عرضاً جسمانيّاً ، كان تأثيرها بتوسّط الوضع ، ولا وضع للنفس مع كونها مجرّدة ، على أنّ النفس لتجرّدها أقوى تجوهراً وأشرف وجوداً من كلّ جسم وجسمانيّ ، ولا معنى لعلّيّة الأضعف الأخسّ للأقوى الأشرف.

فالسبب الموجد للنفس أمر وراء عالم الطبيعة وهو الواجب (تعالى) بلا واسطة أو بواسطة علل مترتّبة تنتهي إليه.

برهانٌ آخر ، للمتكلّمين من طريق الحدوث(5) . تقريره : أنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ،

__________________

(1) نُسب إليهم في المباحث المشرقيّة ج 2 ص 451 ، وشوارق الإلهام ص 459 ، وشرح الإشارات ج 3 ص 66 ، والأسفار ج 6 ص 42.

(2) راجع الفصل العاشر من المرحلة التاسعة.

(3) راجع الأسفار ج 6 ص 44 ، والمطارحات ص 402 ـ 403.

(4) راجع تعليفات صدر المتألّهين على شرح حكمة الإشراق ص 476.

(5) راجع شرح المواقف ص 466 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 57.

٣٣٢

فالأجسام كلّها حادثة ، وكلّ حادث مفتقر إلى محدِث ، فمحدِثها أمر غير جسم ولا جسمانيّ ، وهو الواجب (تعالى) ، دفعاً للدور والتسلسل.

والحجّة غير تامّة ، فإنّ المقدّمة القائلة : «إنّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث» لا بيِّنة ولا مبيَّنة ، وتغيّر أعراض الجوهر عندهم غير ملازم لتغيّر الجوهر الذي هو موضوعها ، نعم لو بنى على الحركة الجوهريّة تمّت المقدّمة ونجحت الحجّة. وهذه الحجّة كما ترى ـ كالحجج الثلاث السابقة ـ مبنيّة على تناهي العلل وانتهائها إلى علّة غير معلولة هو الواجب (تعالى).

الفصل الثالث

في أنّ الواجب لذاته لا ماهيّة له

وقد تقدّمت المسألة في مرحلة الوجوب والإمكان(1) ، وتبيّن هناك أنّ كلّ ما له ماهيّة فهو ممكن ، وينعكس إلى أنّ ما ليس بممكن فلا ماهيّة له ، فالواجب بالذات لا ماهيّة له ، وكذا الممتنع بالذات.

وأوردنا هناك أيضاً الحجّة المشهورة التي أقاموها لنفي الماهيّة عن الواجب (تعالى وتقدّس) ، وهي : أنّه لو كانت للواجب (تعالى) ماهيّةٌ وراءَ وجوده كانت في ذاتها لا موجودة ولا معدومة ، فتحتاج في تلبُّسها بالوجود إلى سبب ، والسبب إمّا ذاتها أو أمر خارج منها ، وكلا الشقّين محال؛ أمّا كون ذاتها سبباً لوجودها ، فلأنّ السبب متقدّم على مسبَّبه وجوداً بالضرورة ، فيلزم تقدّمها بوجودها على وجودها ، وهو محالٌ؛ وأمّا كون غيرها سبباً لوجودها ، فلأنّه يستلزم معلوليّة الواجب بالذات لذلك الغير فيكون ممكناً ، وقد فرض واجباً بالذات ، وهذا خلفٌ؛ فكون الواجب بالذات ذا ماهيّة وراءَ وجودِهِ محالٌ ، وهو المطلوب.

وهذه حجّة برهانيّة تامّة لا غبار عليها. ونقْضُها بالماهيّة الموجودة التي

__________________

(1) راجع الفصل الثالث من المرحلة الرابعة.

٣٣٣

للممكنات(1) ـ بتقريب أنّ فرض كون الماهيّة المفروضة للواجب علّة فاعليّة لوجودها ، لو اقتضى تقدّم الماهيّة على وجودها المعلول لها لزم نظيره في الماهيّات الموجودة للممكنات ، فإنّ ماهيّة الممكن قابلةٌ لوجوده والقابل كالفاعل في وجوب تقدّمه على ما يستند إليه ـ ، غير مستقيم(2) ، لأنّ وجوب تقدّم القابل على مقبوله بالوجود إنّما هو في القابل الذي هو علّة مادّيّة ، فهي المتقدّمة على معلولها الذي هو المجموع من الصورة والمادّة ، وماهيّة الممكن ليست علّة مادّية بالنسبة إلى وجوده ولا بالنسبة إلى الماهيّة الموجودة ، وإنّما قابليّتها إعتبار عقليٌّ منشؤهُ تحليلُ العقل الممكنَ إلى الماهيّة ووجود واتّخاذهُ الماهيّةَ موضوعه والوجود محمولا لها. وبالجملة ليست الماهيّة علّة قابليّة للوجود ، لكن لو فرضت علّة فاعليّة لوجودها كانت علّة حقيقيّة واجبة التقدّم حقيقة ، فإنّ الحاجة إلى علّة الوجود حاجة حقيقيّة تستبع علّة حقيقيّة ، بخلاف الحاجة إلى قابل ماهويّ يقبل الوجود ، فإنّها إعتبارٌ عقليٌّ والماهيّة في الحقيقة عارضة للوجود لا معروضة لها.

حجّةٌ اُخرى (3) ، وهي : أنّ الوجود إذا كان زائداً على الماهيّة تقع الماهيّة لا محالة تحت إحدى المقولات ، وهي لا محالة مقولة الجوهر دون مقولات الأعراض ، سواءانحصرت المقولات في عدد معيّن مشهور أو غير مشهور أو زادت عليه ، لأنّ الأعراض ـ أيّاً مّا كانت ـ قائمةٌ بغيرها ، فإذا كانت الماهيّة المفروضة تحت مقولة الجوهر ، فلابدّ أن يتخصّص بفصل بعد اشتراكها مع غيرها من الأنواع الجوهريّة ، فتحتاج إلى المخصِّص. وأيضاً لا شبهة في حاجة بعض الأنواع الجوهريّة إلى المخصِّص والمرجِّح ، وإذا صحّ الإمكان على بعض ما تحت الجنس من الأنواع صحّ على الجنس ، فالجائز على بعض الأنواع التي تحت الجنس جائزٌ

__________________

(1) هذا النقض أورده الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 37 ، وقرّره على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 48.

(2) راجع تعليقة المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 6 ص 48 الرقم (1).

(3) هذه الحجّة أقامها الشيخ الإشراقيّ في المطارحات ص 391 ـ 392 ، والتلويحات ص 39.

٣٣٤

على الجنس ، والممتنع أو الواجب على الجنس ممتنعٌ أو واجبٌ على كلّ نوع تحتَه ، فلو دخل واجب الوجود (تعالى) تحت المقولة لزم فيه جهة إمكانيّة باعتبار الجنس ، فلم يكن واجباً بل ممكناً ، وهذا خلف ، وإذا استحال دخول الماهيّة المفروضة تحت مقولة الجوهر استحال كون الواجب ذا ماهيّة ، وهو المطلوب.

وقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ ضرورة الوجود ووجوبه في الواجب (تعالى) أزليّة هي منتزعة من حاقّ الذات التي هي وجودٌ لا ماهيّة له

الفصل الرابع

في أنّ الواجب (تعالى) بسيط غير مركّب من أجزاء خارجيّة ولا ذهنيّة

وقد تقدّم أنّ الواجب (تعالى) لا ماهيّة له(1) ، فليس له حدٌّ ، وإذ لا حدّ له فلا أجزاء حدّية له من الجنس والفصل ، وإذ لا جنس ولا فصل له فلا أجزاء خارجيّة له من المادّة والصورة الخارجيّتين ، لأنّ المادّة هي الجنس بشرط لا والصورة هي الفصل بشرط لا ، وكذا لا أجزاء ذهنيّة له من المادّة والصورة العقليّتين ، وهما الجنس والفصل المأخوذان بشرط لا في البسائط الخارجيّة كالأعراض. وبالجملة لا أجزاء حدّيّة له من الجنس والفصل ، ولا خارجيّة من المادّة والصورة الخارجيّتين ، ولا ذهنيّة عقليّة من المادّة والصورة العقليّتين.

برهانٌ آخر (2) : لو كان له جزءٌ لكان متقدّماً عليه في الوجود وتوقَّفَ الواجب عليه في الوجود ، ضرورةَ تقدُّم الجزء على الكلّ في الوجود وتوقُّف الكلّ فيه عليه ، ومسبوقيّة الواجب وتوقّفه على غيره وهو واجب الوجود محالٌ.

برهانٌ آخر (3) : لو تركّبت ذات الواجب (تعالى) من أجزاء ، لم يخلُ إمّا أن

__________________

(1) راجع الفصل الثالث من المرحلة الرابعة ، والفصل السابق من هذه المرحلة.

(2) راجع الأسفار ج 6 ص 100.

(3) راجع الأسفار ج 6 ص 102 ـ 103.

٣٣٥

يكون جميع الأجزاء واجبات بذواتها ، وإمّا أن يكون بعضها واجباً بالذات وبعضها ممكناً ، وإمّا أن يكون جميعها ممكنات؛ والأوّل محالٌ ، إذ لو كانت الأجزاء واجبات بذواتها كان بينها إمكان بالقياس كما تقدّم(1) ، وهو ينافي كونَها أجزاءً حقيقيّة لمركّب حقيقيّ ذي وحدة حقيقيّة ، إذ من الواجب في التركيب أن يحصل بين الأجزاء تعلّق ذاتيّ يحصل به أمر جديد وراء المجموع ، له أثرٌ وراء آثار كلّ واحد من الأجزاء؛ والثاني محالٌ للزوم افتقار الواجب بالذات إلى الممكن ، على أنّ لازمَهُ دخول الماهيّة في حقيقة الواجب ، لما تقدّم في مرحلة الوجوب والإمكان أنّ كلّ ممكن فله ماهيّة(2) ؛ والثالث أيضاً محالٌ بمثل ما تقدّم.

وهذه البراهين غير كافية في نفي الأجزاء المقداريّة ـ كما قالوا(3) ـ ، لأنّها أجزاء بالقوّة لا بالفعل ـ كما تقدّم في بحث الكمّ من مرحلة الجواهر والأعراض(4) ـ.

وقد قيل(5) في نفيها(6) : «إنّه لو كان للواجب جزء مقداريّ فهو إمّا ممكن فيلزم أن يخالف الجزء المقداريّ كلّه في الحقيقة وهو محال ، وإمّا واجب فيلزم أن يكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل بل بالقوّة وهو محالٌ».

ثمّ إنّ من التركّب ما يتّصف به الشيء بهويّته الوجوديّة من السلوب ، وهو منفي عن الواجب بالذات (تعالى وتقدّس).

بيان ذلك : أنّ كلّ هويّة صحّ أن يسلب عنها شيء بالنظر إلى حدّ وجودها ، فهي متحصّلة من إيجاب وسلب ، كالإنسان مثلا هو إنسان ، وليس بفرس في حاقّ وجوده ، وكلّ ما كان كذلك فهو مركّب من إيجاب هو ثبوت نفسه له وسلب هو نفي

__________________

(1) في الفصل الثاني من المرحلة الرابعة.

(2) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(3) أي بثبوت الأجزاء المقداريّة للواجب. والقائل هو المشبهة كما في الأسفار ج 6 ص 101 (4) راجع الفصل التاسع من المرحلة السادسة.

(5) والقائل صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 101 ـ 102.

(6) أي نفي الأجزاء المقداريّة عن الواجب.

٣٣٦

غيره عنه ، ضرورةَ مغايرة الحيثيّتين. فكلّ هويّة يسلب عنها شيء فهي مركّبة.(ومعنى دخول النفي في هويّة وجوديّة ـ والوجود مناقض للعدم ـ نقص وجوديّ في وجود مقيس إلى وجود آخر ، ويتحقّق بذلك مراتب التشكيك في حقيقة الوجود وخصوصيّاتها) ، وتنعكس النتيجة بعكس النقيض إلى أنّ كلّ ذات بسيطة الحقيقة فإنّها لا يسلب عنها كمال وجوديّ.

والواجب بالذات وجود بحت لا سبيل للعدم إلى ذاته ولا يسلب عنه كمال وجوديّ ، لأنّ كلّ كمال وجوديّ ممكنٌ ، فإنّه معلول مفاض من علّة ، والعلل منتهية إلى الواجب بالذات ، ومعطي الشيء لا يكون فاقداً له ، فله (تعالى) كلّ كمال وجوديّ من غير أن يداخله عدم ، فالحقيقة الواجبيّة بسيطة بحتة ، فلا يسلب عنها شيء ، وهو المطلوب.

فإن قيل (1) : إنّ له (تعالى) صفات سلبيّه بالبرهان ، ككونه ليس بجسم ولا جسمانيّ ولا بجوهر ولا بعرض.

قلنا : الصفات السلبيّة راجعة إلى سلب النقائص والأعدام ، وسلب السلب وجودٌ ، وسلب النقص كمالُ وجود ـ كما قيل(2) ـ.

فإن قيل : لازِمُ ما تقدّم من البيان صحّة الحمل بينه (تعالى) وبين كلّ موجود وكمال وجوديّ ، ولازِمُه عينيّة الواجب والممكن (تعالى الله عن ذلك) ، وهو خلاف الضرورة.

قلنا : كلاّ ، ولو حُمِلَ الوجودات الممكنة عليه (تعالى) حملا شائعاً صدقَتْ عليه (تعالى) بكلتا جهتَىِ إيجابها وسلبها وحيثيّتَيِ كمالها ونقصها اللتَيْن تركّبَتْ ذواتها منها ، فكانت ذات الواجب مركّبة وقد فرضَتْ بسيطة الحقيقة ، وهذا خلفٌ. بل وجدانُه (تعالى) بحقيقته البسيطة كمالَ كلّ موجود وجدانُه له بنحو أعلى

__________________

(1) هذا الإشكال تعرّض له في الأسفار ج 6 ص 114.

(2) والقائل صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 114.

٣٣٧

وأشرف ، من قبيل وجدانِ العلّة كمالَ المعلول ، مع ما بينهما من المباينة الموجبة ، لامتناع الحمل.

وهذا هو المراد بقولهم : «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء»(1) ، والحمل حمل الحقيقة والرقيقة دون الحمل الشائع(2) .

وقد تبيّن بما تقدّم أنّ الواجب لذاته تمام كلّ شيء.

الفصل الخامس

في توحيد الواجب لذاته وأنّه لا شريك له في وجوب الوجود

قد تبيّن في الفصول السابقة(3) ، أنّ ذات الواجب لذاته عين الوجود الذي لا ماهيّة له ولا جزء عدميّ فيه ، فهو صِرْف الوجود ، وصِرْف الشيء واحد بالوحدة الحقّة التي لا تتثنّى ولا تتكرّر ، إذ لا تتحقّق كثرة إلاّ بتميّز آحادها ، باختصاص كلّ منها بمعنىً لا يوجد في غيره ، وهو ينافي الصرافة ، فكلّ ما فرضت له ثانياً عاد أوّلا ، فالواجب لذاته واحد لذاته ، كما أنّه موجود بذاته واجب لذاته ، وهو المطلوب. ولعلّ هذا هو مرادالشيخ بقوله فيالتعليقات : «وجود الواجب عين هويّته ، فكونه موجوداً عين كونه هو ، فلا يوجد وجود الواجب لذاته لغيره»(4) ـ إنتهى.

برهان آخر (5) : لو تعدّد الواجب بالذات ، كأن يفرض واجبان بالذات وكان

__________________

(1) راجع الأسفار ج 6 ص 110 ـ 114.

(2) ولمزيد التوضيح راجع تعليقة المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 6 ص 110.

(3) راجع الفصل الثالث من هذه المرحلة ، والفصل الثالث من المرحلة الرابعة.

(4) راجع التعليقات للشيخ الرئيس ص 183 ـ 184.

(5) هذا البرهان استدلّ به المشهور ، كما في الأسفار ج 6 ص 57 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 61 ، والمباحث المشرقيّة ج 2 ص 451 ـ 454.

٣٣٨

وجوب الوجود مشتركاً بينهما وكان تميّزهما بأمر وراء المعنى المشترك بينهما ، فإن كان داخلا في الذات لزم التركّب ، وهو ينافي وجوبَ الوجود ، وإن كان خارجاً منها كان عرضيّاً معلّلا ، فإن كان معلولا للذات كانت الذات متقدّمةً على تميّزها بالوجود ، ولا ذات قبل التميّز فهو محال ، وإن كان معلولا لغيره كانت الذات مفتقرةً في تميّزها إلى غيرها وهو محال ، فتعدُّدُ واجب الوجود على جميع تقاديره محال.

وأُورد عليه الشبهة المنسوبة إلىابن كمونة (1) ـ وفيالأسفار (2) أنّ أوّل من ذكرهاالشيخ الإشراقيّ فيالمطارحات (3) ، ثمّ ذكرهاابن كمونة ، وهو من شرّاح كلامه في بعض مصنّفاته(4) واشتهرت باسمه ـ بأنّه لِمَ لا يجوز أن تكون هناك ماهيّتان بسيطتان مجهولتا الكنه متباينتان بتمام الذات ويكون قول الوجود عليهما قولا عرضيّاً؟!وهذه الشبهة كما تجري على القول بأصالة الماهيّة المنسوب إلى الإشراقيّين تجري على القول بأصالة الوجود وكون الوجودات حقائق بسيطة متباينة بتمام الذات المنسوب إلى المشّائين. والحجّة مبنيّة على أصالة الوجود وكونه حقيقة

__________________

(1) قال : «الشبهة المنسوبة إلى ابن كمونة» ولم يقل : «شبهة ابن كمونة». والوجه في ذلك أنّ ابن كمونة ليس أوّلَ من اعتراه هذه الشبهة ، بل هو مقرِّرها بأتمّ وجه فاشتهرت باسمه.

قال السيّد الداماد : «وهذا الإعضال معزى على ألسُن هؤلاء المحدّثة إلى رجل من المتفلسفين المحدثين يُعرف بابن كمونة. وليس أوّلُ من اعتراه هذا الشك ، كيف؟ والأقدمون كالعاقبين قد وكّدوا الفصيّة عنه وبذلوا جهودهم في سبيل ذلك قروناً ودهوراً». إنتهى كلامه في التقديسات على ما نقله عنه بعض المحشين في شوارق الإلهام ص 125 ط الفارابيّ.

وقال صدرالمتألّهين : «مايُنسب إلى ابن كمونة وقد سمّاه بعضهم بافتخار الشياطين لإشتهاره بابداء هذه الشبهة العويصة والعقدة العسيرة الحل ، فإنّي قد وجدت هذه الشبهة في كلام غيره ممن تقدّمه زماناً» راجع الأسفار ج 1 ص 132 وشرح الهداية الأثيريّة ص 291. والمراد من قوله : «ممن تقدّمه زماناً» هو الشيخ الإشراقيّ كما صرّح به في الأسفار ج 6 ص 63.

(2) راجع الأسفار ج 6 ص 63.

(3) راجع المطارحات ص 395.

(4) وهو كتاب التلويحات ، فراجعه ص 37.

٣٣٩

واحدة مشكّكة ذات مراتب مختلفة.

واُجيب (1) عن الشبهة بأنّها مبنيّة على انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة متباينة بما هي كثيرة متباينة وهو محال.

برهانٌ آخر (2) : لو تعدّد الواجب بالذات وكان هناك واجبان بالذات ـ مثلا ـ كان بينهما الإمكان بالقياس من غير أن يكون بينهما علاقة ذاتيّة لزوميّة ، لأنّها لا تتحقّق بين الشيئين إلاّ مع كون أحدهما علّةً والآخر معلولا أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمعلوليّة تنافي وجوب الوجود بالذات.

فإذن لكلّ واحد منهما حظٌّ من الوجود ومرتبةٌ من الكمال ليس للآخر. فذات كلّ منهما بذاته واجدٌ لشيء من الوجود وفاقدٌ لشيء منه ، وقد تقدّم(3) أنّه تركُّبٌ مستحيل على الواجب بالذات.

برهانٌ آخر : ذكرهالفارابيّ في الفصوص : «وجوب الوجود لا ينقسم بالحمل على كثيرين مختلفين بالعدد ، وإلاّ لكان معلولا»(4) .

ولعلّ المراد أنّه لو تعدّد الواجب بالذات لم تكن الكثرة مقتضى ذاته ، لاستلزامه أن لا يوجد له مصداق ، إذ كلّ ما فرض مصداقاً له كان كثيراً والكثير لا يتحقّق إلاّ بآحاد ، وإذ لا واحد مصداقاً له فلا كثير ، وإذ لا كثير فلا مصداق له ، والمفروض أنّه واجب بالذات. فبقى أن تكون الكثرة مقتضى غيره ، وهو محال ، لاستلزامه الافتقار إلى الغير الذي لا يجامع الوجوب الذاتيّ.

الفصل السادس

في توحيد الواجب لذاته في ربوبيّته وأنّه لارَبَّ سواه

الفحص البالغ والتدبّر الدقيق العلميّ يعطي أنّ أجزاء عالَمنا المشهود ـ وهو عالَم الطبيعة ـ مرتبطةٌ بعضها ببعض من أجزائها العلويّة والسفليّة وأفعالها

__________________

(1) كذا أجاب عنها صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 58 ـ 62 ، وج 1 ص 133.

(2) هذا البرهان ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ج 1 ص 136

(3) راجع الفصل السابق.

(4) راجع الفصوص للفارابيّ ص 4.

٣٤٠