نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 149990
تحميل: 5034

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149990 / تحميل: 5034
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

قطعاً ، وبتحقّقها يتحقّق الفعل الذي هو تحريك العضلات بواسطة القوّة العاملة المنبثّة فيها.

هذا ما يكشف البحث عن القدرة التي عندنا من القيود التي فيها ، وهي المبدئيّة للفعل والعلم بأنّه خيرٌ للفاعل ، علْماً يلازم كونه مختاراً في فعله والشوق إلى الفعل والإرادة له ، وقد تحقّق(1) أنّ كلَّ كمال وجوديٍّ في الوجود فإنّه موجود للواجب (تعالى) في حدّ ذاته ، فهو (تعالى) عين القدرة الواجبيّة ، لكن لا سبيل لتطرّق الشوق عليه ، لكونه كيفيّةً نفسانيّةً تلازم الفقدَ ، والفقد يلازم النقصَ ، وهو (تعالى) منزّه عن كلّ نقص وعدم.

وكذلك الإرادة التي هي كيفيّة نفسانيّة غير العلم والشوق ، فإنّها ماهيّة ممكنة ، والواجب (تعالى) منزّه عن الماهيّة والإمكان؛ على أنّ الإرادة بهذا المعنى هي مع المراد إذا كان من الاُمور الكائنة الفاسدة لا توجد قبله ولا تبقى بعده ، فاتّصاف الواجب (تعالى) بها مستلزم لتغيُّرِ الموصوف ، وهو محال.

فتحصّل أنّ القدرة المجردّة عن النواقص والأعدام هي كون الشيء مبدأً فاعليّاً للفعل عن علْم بكونه خيراً واختيار في ترجيحه ، والواجب (تعالى) مبدأٌ فاعليٌّ لكلّ موجود بذاته ، له علم بالنظام الأصلح في الأشياء بذاته ، وهو مختار في فعله بذاته ، إذ لا مؤثّر غيره يؤثّر فيه ، فهو (تعالى) قادر بذاته. وما أوردناه من البيان يجري في العقول المجرّدة أيضاً.

فإن قلت : ما سلكتموه من الطريق لإثبات القدرة للواجب (تعالى) خِلْوٌ عن إثبات الإرادة بما هي إرادةٌ له ، والذي ذكروه في تعريف القدرة بـ «أنّها كون الشيء بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل»(2) يتضمّن إثبات الإرادة صفةً ذاتيّة للواجب مقوّمةً للقدرة ، غير أنّهم(3) فسّروا الإرادة الواجبيّة بـ «أنّها علْمٌ

__________________

(1) راجع الفصل السادس من هذه المرحلة.

(2) راجع الأسفار ج 6 ص 307 وج 4 ص 112 ، وشرح المنظومة ص 177.

(3) أي الحكماء.

٣٦١

بالنظام الأصلح»(1) .

قلت : ما ذكروه في معنى القدرة يرجع إلى ما أوردناه في معناها المتضمّن للقيود الثلاثة : المبدئيّة والعلم والاختيار ، فما ذكروه في معنى قدرته (تعالى) حقّ. وإنّما الشأن كلّ الشأن في أخْذِهم(2) علْمَه (تعالى) مصداقاً للإرادة ، ولا سبيلَ إلى اثبات ذلك ، فهو أشبه بالتسمية.

فإن قلت : من الجائز أن يكون لوجود واحد مّا بحسب نشأته المختلفة ماهيّاتٌ مختلفةٌ ومراتبُ متفاوتةٌ ، كالعلم الذي إذا تعلّق بالخارج منّا هو كيف نفسانيّ وإذا تعلّق بنفوسنا جوهر نفسانيّ ، وعلم العقل بذاته جوهر عقليّ وعلم الواجب بذاته واجب بالذات وعلم الممكن بذاته ممكن بالذات ، فكون الإرادة التي فينا كيفاً نفسانيّاً لا يدفع كون إرادة الواجب لفعله هو علمه الذاتيّ.

ثمّ إنّ من المسلّم أنّ الفاعل المختار لا يفعل ما يفعل إلاّ بإرادة ومشيّة ، والواجب (تعالى) فاعلٌ مختارٌ فله إرادة لفعله ، لكنّ الإرادة التي فينا وهي الكيف النفسانيّ غير متحقّقة هناك ، وليس هناك إلاّ العلم وما يلزمه من الإختيار ، فعلمه (تعالى) هو إرادته ، فهو (تعالى) مريد بما أنّه عالم بعلمه الذي هو عين ذاته.

قلت : الذي نتسلّمه أنّ الفاعل المختار من الحيوان لا يفعل ما يفعل إلاّ عن علم بمصلحة الفعل وإرادة بمعنى الكيف النفسانيّ ، وأنّ الواجب (تعالى) لا يفعل ما يفعل إلاّ عن علم بمصلحة الفعل وأمّا أنّ هذا العلم الذي هناك وجوده وجود الإرادة والمشيّة وإن لم تكن ماهيّته هي الكيف النفسانيّ فغير مسلّم ، نعم لنا أن ننتزع الإرادة من مقام الفعل كسائر الصفات الفعليّة ، كما تقدّمت الإشارة إليه في البحث عن صفات الفعل(3) وسيجيء(4) .

وبالجملة لا دليل على صدق مفهوم الإرادة على علم الواجب (تعالى) بالنظام

__________________

(1) راجع الأسفار ج 4 ص 114 ، والتعليقات للشيخ ص 16 ـ 17.

(2) أي الحكماء.

(3) راجع آخر الفصل العاشر من هذ المرحلة.

(4) راجع آخر هذا الفصل.

٣٦٢

الأصلح ، فإنّ المراد بمفهومها إمّا هو الذي عندنا فهو كيفيّة نفسانيّة مغايرة للعلم ، وإمّا مفهوم آخر يقبل الصدق على العلم بأنّ الفعل خيرٌ ، فلا نعرف للارادة مفهوماً كذلك ، ولذا قدّمنا(1) أنّ القول بأنّ علم الواجب (تعالى) بالنظام الأحسن إرادةٌ منه(2) ، أشبه بالتسمية.

ولا ينبغي أن يقاس الإرادة بالعلم الذي يقال إنّه كيفيّة نفسانيّة ثمّ يجرّد عن الماهيّة ويجعل حيثيّة وجوديّة عامّة موجودة للواجب (تعالى) وصفاً ذاتيّاً هو عين الذات. وذلك لأنّا ولو سلّمنا أنّ بعض مصاديق العلم وهو العلم الحصوليّ كيفٌ نفسانيٌّ ، فبعض آخر من مصاديقه وهو العلم الحضوريّ جوهرٌ أو غير ذلك ، وقد تحقّق أن المفهوم الصادق على أكثر من مقولة واحدة وصفٌ وجوديٌّ غيرُ مندرج تحت مقولة منتزعٌ عن الوجود بما هو وجود ، فللعلم معنى جامع يهدي إليه التحليل وهو حضور شيء لشيء.

فإن قلت : لو كانت الإرادة لا يعرف لها معنى إلاّ الكيفيّة النفسانيّة التي في الحيوان ، فما بالها تنتزع من مقام الفعل ولا كيفيّة نفسانيّة هناك؟ فهو الشاهد على أنّ لها معنى أوسع من الكيفيّة النفسانيّة وأنّها صفة وجوديّة كالعلم.

قلت : اللفظ كما يطلق ويراد به معناه الحقيقيّ كذلك يطلق ويراد به لوازم المعنى الحقيقيّ وآثاره المتفرّعة عليه توسّعاً. والصفات المنتزعة من مقام الفعل لمّا كانت قائمةً بالفعل حادثةً بحدوث الفعل متأخّرةً بالذات عن الذات القديمة بالذات ، استحال أن يتّصف به الذات الواجبة بالذات ، سواء كان الإتّصاف بنحو العينيّة أو بنحو العروض ـ كما تبيّن في ما تقدّم(3) ـ ، إلاّ أن يراد به لوازم المعنى الحقيقيّ وآثاره المتفرّعة عليه توسّعاً؛ فالرحمة ـ مثلا ـ فيما عندنا تأثّر وانفعال

__________________

(1) حيث قال : «وانّما الشأن كلّ الشأن في أخذهم ...».

(2) هذا القول ذهب اليه الحكماء ، كما ذهب إليه الشيخ الرئيس في التعليقات ص 103 ، والنجاة ص 250 ، والفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء.

(3) راجع الفصل العاشر من هذه المرحلة.

٣٦٣

نفسانيّ من مشاهدة مسكين محتاج إلى كمال ، كالعافية والصحّة والبقاء ، ويترتّب عليه أن يرفع الراحم حاجته وفاقته ، فهي صفة محمودة كماليّة؛ ويستحيل عليه (تعالى) التأثّر والإنفعال ، فلا يتّصف بحقيقة معناها ، لكن تنتزع من ارتفاع الحاجة والتلبّس بالغنى ـ مثلا ـ أنّها رحمة ، لأنّه من لوازمها. وإذ كان رحمة لها نسبة إليه (تعالى) اشتقّ منه صفة الرحيم صفة فعل له (تعالى) ، والأمر على هذا القياس.

والإرادة المنسوبة إليه (تعالى) منتزعةٌ من مقام الفعل ، إمّا من نفس الفعل الذي يوجد في الخارج ، فهو إرادة ثمّ إيجاب ثمّ وجوب ثمّ إيجاد ثمّ وجود ، وإمّا من حضور العلّة التامّة للفعل كما يقال عند مشاهدة جَمْعِ الفاعل أسبابَ الفعل ليفعل : «أنّه يريد كذا فعلا».

الفصل الرابع عشر

في أنّ الواجب (تعالى) مبدأ لكلّ ممكن موجود وهو

المبحث المعنون عنه بشمول إرادته للأفعال

الذي حقَّقَتْه الاُصول الماضية هو أنّ الأصيل من كلّ شيء وجوده(1) ؛ وأنّ الموجود ينقسم إلى واجب بالذات وغيره(2) ؛ وأنّ ما سوى الواجب بالذات ـ سواءٌ كان جوهراً أو عرضاً ، وبعبارة اُخرى سواء كان ذاتاً أو صفةً أو فعلا ـ له ماهيّة ممكنة بالذات متساوية النسبة إلى الوجود والعدم(3) ؛ وأنّ ما شأنه ذلك يحتاج في تلبّسه بأحد الطرفَين من الوجود والعدم إلى مرجّح يعيِّن ذلك ويوجبه وهو العلّة الموجبة(4) ، فما من موجود ممكن إلاّ وهو محتاج في وجوده حدوثاً وبقاءً إلى علّة توجب وجودَهُ وتوجده واجبةً بالذات أو منتهيةً إلى الواجب

__________________

(1) راجع الفصل الثاني من المرحلة الاُولى.

(2) راجع الفصلين الأوّل والثاني من المرحلة الرابعة.

(3) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(4) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

٣٦٤

بالذات ، وعلّةٌ علّةِ الشيء علّةٌ لذلك الشيء(1) ؛ فما من شيء ممكن موجود سوى الواجب بالذات حتّى الأفعال الإختياريّة إلاّ وهو فعل الواجب بالذات معلولٌ له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط(2) .

ومن طريق آخر(3) : قد تبيّن في مباحث العلّة والمعلول(4) أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى العلّة وجودٌ رابطٌ غيرُ مستقلٍّ متقوّمٌ بوجود العلّة ، فالوجودات الإمكانية كائنةً مّا كانت روابطُ بالنسبة إلى وجود الواجب بالذات غيرُ مستقلّة منه محاطةٌ له بمعنى ما ليس بخارج ، فما في الوجود إلاّ ذات واحدة مستقلّة به تتقوّم هذه الروابط وتستقلّ ، فالذوات وما لها من الصفات والأفعال أفعال له.

فهو (تعالى) فاعلٌ قريبٌ لكلّ فعل ولفاعله ، وأمّا الاستقلال المتراءى من كلّ علّة إمكانيّة بالنسبة إلى معلولها فهو الاستقلال الواجبيّ الذي لااستقلال دونه بالحقيقة.

ولا منافاة بين كونه (تعالى) فاعلا قريباً كما يفيده هذا البرهان وبين كونه فاعلا بعيداً كما يفيده البرهان السابق المبنيّ على ترتُّب العلل وكون علّة علّة الشيء علّةً لذلك الشيء ، فإنّ لزوم البُعد مقتضى إعتبار النفسيّة لوجود ماهيّات العلل والمعلولات على ما يفيده النظر البدويّ ، والقُرب هو الذي يفيده النظر الدقيق(5) .

ومن الواضح أن لا تدافُعَ بين استناد الفعل إلى الفاعل الواجب بالذات والفاعل الذي هو موضوعه كالإنسان ـ مثلا ـ ، فإنّ الفاعليّة طوليّة لا عرضيّة.

وذهب جمع من المتكلّمين ـ وهم المعتزلة ومن تبعهم(6) ـ إلى أنّ الأفعال

__________________

(1) راجع الفصل السادس من المرحلة الرابعة.

(2) هذه طريقة طائفة من الحكماء وخواص أصحابنا الإماميّة كالمحقّق الطوسيّ في شرح رسالة مسألة العلم ، على ما في الأسفار ج 6 ص 371 وتعليقات الحكيم السبزواريّ عليه.

(3) وهذا الطريق منسوبٌ إلى الراسخين في العلم. راجع الأسفار ج 6 ص 372.

(4) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(5) ولمزيد التوضيح راجع ما علّق المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 6 ص 372.

(6) راجع المقالات والفِرَق ص 138 ، والفرق بين الفِرَق ص 79 ، والفصل في الملل والنحل

٣٦٥

الإختياريّة مخلوقة للإنسان ليس للواجب (تعالى) فيها شأن ، بل الذي له أن يقدر الإنسان على الفعل بأن يخلق له الأسباب التي يقدر بها على الفعل ، كالقوى والجوارح التي يتوصّل بها إلى الفعل باختياره الذي يصحّح له الفعل والترك ، فله أن يترك الفعل ولو أراده الواجب ، وأن يأتي بالفعل ولو كرهه الواجب ، ولا صنع للواجب في فعله(1) ؛ على أنّ الفعل لو كان مخلوقاً للواجب (تعالى) كان هو الفاعل له دون الإنسان ، فلم يكن معنى لتكليفه بالأمر والنهي ولا للوعد والوعيد ، ولا لاستحقاق الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية ، ولا فعل ولا ترك للانسان؛ على أنّ كونه (تعالى) فاعلا للأفعال الإختياريّة وفيها أنواع القبائح والشرور كالكفر والجحود وأقسام المعاصي والذنوب ، ينافي تنزّه ساحة العظمة والكبرياء عمّا لا يليق بها.

ويدفعه : أنّ الأفعال الإختياريّة اُمور ممكنة ، وضرورة العقل قاضية أنّ الماهيّة الممكنة متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، لا تخرج من حاقّ الوسط إلى أحد الطرفين إلاّ بمرجّح يوجب لها ذلك ، وهو العلّة الموجبة ، والفاعل من العلل. ولا معنى لتساوي نسبة الفاعل التامّ الفاعليّة التي معه بقيّة أجزاء العلّة التامّة إلى الفعل والترك ، بل هو موجب للفعل ، وهذا الوجوب الغيريّ منته إلى الواجب بالذات؛ فهو العلّة الاُولى للفعل ، والعلّة الاُولى علّة للمعلول الأخير ، لأنّ علّةَ علِّةِ الشيء علّةٌ لذلك الشيء. فهذه اُصول ثابتة مبيَّنة في الأبحاث السابقه. والمستفاد منها أنّ للفعل نسبة إلى الواجب (تعالى) بالإيجاد ، وإلى الإنسان مثلا بأنّه فاعِلٌ مسخَّرٌ هو في عين علّيّته معلولٌ ، وفاعليّة الواجب (تعالى) في طول فاعليّة

__________________

ج 1 ص 55 ـ 56 ، ومقالات الإسلاميّين ج 1 ص 273 ، وشرح المواقف ص 515 ـ 520 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 126 ، وكشف المراد ص 308 ـ 314 ، والشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 131.

(1) والمعتزلة يلقبّون بـ «المفوّضة» لأنّهم ذهبوا إلى أنّ الله فوّض الأفعال إلى المخلوقين راجع عقائد الإماميّة ص 65.

٣٦٦

الإنسان لا في عرضه حتى تتدافعا ولا تجتمعا.

وأمّا تعلّق الإرادة الواجبيّة بالفعل مع كون الإنسان مختاراً فيه فإنّما تعلّقت الإرادة الواجبيّة بأن يفعل الإنسان باختياره فعلا كذا وكذا ، لا بالفعل من غير تقيّد بالإختيار ، فلا يلغو الاختيار ولا يبطل أثر الإرادة الإنسانيّة؛ على أنّ خروج الأفعال الإختياريّة عن سعة القدرة الواجبيّة حتّى يريد فلا يكون ويكره فيكون ، تقييدٌ في القدرة المطلقة التي هي عين ذات الواجب ، والبرهان يدفعه؛ على أنّ البرهان قائم على أنّ الإيجاد وجعل الوجود خاصّة للواجب (تعالى) لا شريك له فيه. ونِعْمَ ما قالصدر المتألّهين (قدس سره) في مثل المقام : «ولا شبهة في أنّ مذهب مَن جعل أفراد الناس كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في إيجادها أشنع مِن مذهب مَن جعل الأصنام أو الكواكب شفعاء عند الله»(1) ـ إنتهى.

وأمّا قولهم (2) : «إنّ كون الفعل الإختياريّ مخلوقاً للواجب (تعالى) لا يجامع توجيه التكليف إلى الإنسان بالأمر والنهي ، ولا الوعد والوعيد على الفعل والترك ، ولا استحقاق الثواب والعقاب ، وليس له فعل ولا هو فاعل».

فيدفعه : أنّه إنّما يتمّ لو كان انتساب الفعل إلى الواجب (تعالى) لا يجامع انتسابه إلى الإنسان ، وقد عرفت(3) أنّ الفاعليّة طوليّة وللفعل انتساب إلى الواجب بالفعل بمعنى الإيجاد ، وإلى الإنسان المختار بمعنى قيام العرض بموضوعه.

وأمّا قولهم (4) : «إنّ كون أفعال الإنسان الإختيارية مخلوقة للواجب (تعالى) وفيها أنواع الشرور والمعاصي والقبائح ينافي طهارة ساحته (تعالى) عن كلّ نقص وشين».

فيدفعه : أنّ الشرور الموجودة في العالم على ما سيتضح ليست إلاّ اُموراً فيها خير كثير وشرّ قليل ، ودخول شرّها القليل في الوجود بتبع خيرها الكثير ، فالشرّ

__________________

(1) راجع الأسفار ج 6 ص 370.

(2) أى قول المعتزلة كما مرّ.

(3) في ما مرّ آنفاً حيث قال : «وفاعليّة الواجب تعالى في طول فاعليّة الإنسان».

(4) أي قول المعتزلة كما مرّ.

٣٦٧

مقصود بالقصد الثاني ولم يتعلّق القصد الأوّل إلاّ بالخير؛ على أنّه سيتّضح أيضاً(1) أنّ الوجود ـ من حيث إنّهوجود ـ خيرٌ لاغير ، وإنّما الشرور ملحقة ببعض الوجودات ، فالذي يفيضه الواجب من الفعل وجوده الخير بذاته الطاهرة في نفسه ، وما يلازمه من النقص والعدم لوازم تميُّزه في وجوده ، والتميّزات الوجوديّة لولاها لفسد نظام الوجود ، فكان في ترك الشرّ القليل بطلان الخير الكثير الذي في أجزاء النظام.

وذهب جمع آخر من المتكلّمين ـ وهم الأشاعرة ومن تبعهم(2) ـ إلى أن كلّ ما هو موجود غير الواجب بالذات من ذات أو صفة أو فعل فهو بإرادة الواجب بالذات من غير واسطة ، فالكلّ أفعاله ، وهو الفاعل ، لا غير.

ولازِمُ ذلك : أوّلا : ارتفاع العلّيّة والمعلوليّة من بين الأشياء وكون استتباع الأسباب للمسبّبات لمجرّد العادة ، أي إنّ عادة الله جرت على الإتيان بالمسبّبات عقيب الأسباب من غير تأثير من الأسباب في المسببّات ولا توقُّف من المسببّات على الأسباب.

وثانياً : كون الأفعال التي تعدّ أفعالا اختياريّةً أفعالا جبريّةً لا تأثير لإرادة فواعلها ولا لاختيارهم فيها.

ويدفعه : أنّ انتساب الفعل إلى الواجب (تعالى) بالإيجاد لا ينافي انتسابه إلى غيره من الوسائط ، والانتساب طوليٌّ لا عرضيٌّ ـ كما تقدّم توضيحه(3) ـ. وحقيقة وساطة الوسائط ترجع إلى تقيّد وجود المسبّب بقيود مخصّصة لوجوده ، فإنّ ارتباط الموجودات بعضها ببعض عرضاً وطولا يجعل الجميع واحداً يتقيّد بعض

__________________

(1) راجع الفصل الثامن عشر من هذه المرحلة.

(2) راجع الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 155 ، ومذاهب الاسلاميّين ج 1 ص 555 ، والفرْق بين الفِرَق ص 275 ، والملل والنحل ص 96 ، واللمع ص 69 ـ 91. واستدلّوا عليه بوجوه ذكرها المحقّق الشريف تبعاً للعلاّمة الإيجيّ في شرح المواقف ص 515 ـ 520 ، والعلاّمة التفتازانيّ في شرح المقاصد ج 2 ص 125 ـ 143. وتبعهم هشام بن الحكم من الرافضة ، راجع مقالات الاسلاميين ج 1 ص 110 ، والحسين بن محمّد النجار كما في الفرْق بين الفِرَق ص 155 ، ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 315.

(3) حيث قال : «وفاعليّة الواجب (تعالى) في طول فاعليّة الإنسان».

٣٦٨

أجزائه ببعض في وجوده. فإفاضة واحد منها إنّما يتمّ بإفاضة الكلّ ، فليست الإفاضة إلاّ واحدة ينال كلّ منها ما في وسعه أن يناله.

وأمّا إنكار العلّيّة والمعلوليّة بين الأشياء ، فيكفي في دفعه ما تقدّم في مرحلة العلّة والمعلول من البرهان على ذلك(1) . على أنّه لو لم يكن بين الأشياء شيء من رابطة التأثير والتأثّر وكان ما نجده منها بين الأشياء باطلا لا حقيقة له ، لم يكن لنا سبيل إلى اثبات فاعل لها وراءها وهو الواجب الفاعل للكلّ.

وأمّا القول بالجبر وإنكار الإختيار في الأفعال ، بتقريب أنّ فاعليّة الواجب بالذات وتعلُّقَ إرادته بالفعل المسمّى إختياريّاً يجعل الفعل واجبَ التحقّق ضروريَّ الوقوع ، ولا معنى لكون الفعل الضروريّ الوجود إختياريّاً للإنسان له أن يفعل ويترك ، ولا لكون إرادته مؤثّرةً في الفعل.

يدفعه : أنّ فاعليّته (تعالى) طوليّةٌ ، لا تنافي فاعليّة غيره أيضاً إذا كانت طوليّة ، وإرادته إنّما تعلّقت بالفعل بوصف أنّه إختياريٌّ ، فأراد أن يفعل الإنسان باختياره وإرادته فعلا كذا وكذا ، فالفعل الإختياريّ واجب التحقّق بوصف أنّه إختياريٌّ.

واستدلّ بعضهم(2) على الجبر في الأفعال بأنّ فعل المعصية معلوم للواجب (تعالى) فهو واجبُ التحقّق ضروريُّ الوقوع ، إذ لو لم يقع كان علمه جهلا ، وهو محال ، فالفعل ضروريٌّ ، ولا يجامع ضرورة الوقوع اختياريّة الفعل.

ويعارضه أنّ فعل المعصية معلوم للواجب (تعالى) بخصوصيّة وقوعه ، وهو أنّه صادرٌ عن الإنسان باختياره ، فهو بخصوصيّة كونه اختياريّاً واجبُ التحقّق ضروريُّ الوقوع ، إذ لو لم يقع كان علمه (تعالى) جهلا ، وهو محال ، فالفعل بما أنّه اختياريُّ ضروريُّ التحقّق.

__________________

(1) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(2) أي بعض الأشاعرة ، راجع اللمع ص 81 ـ 82.

٣٦٩

تنبيهٌ :

إستدلالُهم على الجبر في الأفعال بتعلُّق علم الواجب (تعالى) بها وتعيُّن وقوعها بذلك ، استنادٌ منهم في الحقيقة إلى القضاء العلميّ الذي يحتم ما يتعلّق به من الاُمور ، وأمّا الإرادة التي هي صفة ثبوتيّة زائدة على الذات عندهم ، فإنّهملا يرونها مبدأً للفعل موجِباً له ، زعماً منهم أنّ وجوب الفعل يجعل الفاعلموجَباً (بفتح الجيم) والواجب (تعالى) فاعل مختار ، بل شأن الإرادة أن يرجّح الفعل بالأولويّة من غير وجوب ، فللإرادة أن يخصّص أيَّ طرف من طرفَيِ الفعل تعلّقت به.

وهذه آراء سخيفة تبيّن بطلانها بما تقدّم بيانه من الاُصول الماضية(1) . فالوجوب الذي يلحق المعلول وجوبٌ غيريٌ منتزعٌ من وجوده الذي أفاضته علّته وهو أثرها ، فلو عاد هذا الوجوب وأثّر في العلّة بجعلها موجَبة في فاعليّته لزم كون المتأخّر وجوداً من حيث هو متأخّر متقدّماً على المتقدّم وجوداً من حيث هو متقدّم ، وهو محال؛ على أنّ الفاعل المختار لو عاد موجَباً (بالفتح) بسبب وجوب الفعلِ لم يكن في ذلك فرقٌ بين أن يستند وجوب المعلول إلى علم سابق وقضاء متقدَّم أو إلى إيجاب الفاعل للفعل الذي هو مفاد قولنا : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

وأيضاً قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الترجيح بالأولويّة مرجعه إلى عدم حاجة الممكن في تعيُّن أحد طرفَي الوجود والعدم إلى المرجّح ، لبقاء الطرف المرجوح على حدّ الجواز مع وجود الأولويّة في الطرف الراجح وعدم انقطاع السؤال بـ «لِمَ» بعدُ.

وأيضاً الترجيح بالإرادة مع فرض استواء نسبتها إلى طرفَيِ الفعل والترك مرجعه إلى عدم الحاجة إلى المرجّح.

__________________

(1) راجع أوّل هذا الفصل.

٣٧٠

الفصل الخامس عشر

في حياته (تعالى)

الحياة فيما عندنا ـ من أقسام الحيوان ـ كَوْنُ الشيء بحيث يدرك ويفعل(1) .

والإدراك العامّ في الحيوان كلّه هو الإدراك الحسّيّ الزائد عن الذات ، والفعل فعلٌ محدودٌ عن علْم به وإدراك؛ فالعلم والقدرة من لوازم الحياة وليسا بها ، لأنّا نجوّز مفارقة العلم الحياةَ ، وكذا مفارقة القدرة الحياةَ في بعض الأحيان.

فالحياة التي في الحيوان مبدأٌ وجوديٌّ يترتّب عليه العلم والقدرة.

وإذ كان الشيء الذي له علْمٌ وقدرةٌ زائدان على ذاته حيّاً وحياته كمالا وجوديّاً له ، فمَن كان علمه وقدرته عين ذاته وله كلُّ كمال وكلّ الكمال ، فهو أحقّ بأن يسمّى حيّاً ، وهو الواجب بالذات (تعالى) ، فهو (تعالى) حيٌّ بذاته ، وحياته كونُهُ بحيث يعلم ويقدر ، وعِلْمُهُ بكلّ شيء من ذاته ، وقدرته مبدئيّته لكلّ شيء سواه بذاته.

الفصل السادس عشر

في الإرادة والكلام

عدّوهما في المشهور من الصفات الذاتيّة للواجب (تعالى)(2) .

أمّا الإرادة فقد تقدّم القول فيها في البحث عن القدرة(3) .

وأمّا الكلام ، فقد قيل(4) : «إنّ الكلام في عرفنا لفظٌ دالٌّ بالدلالة الوضعيّة على

__________________

(1) قال المحقّق القوشجيّ : «واختلفوا في معنى الحياة. فقال جمهور المتكلّمين إنّها صفة توجب صحة العلم والقدرة. وقال الحكماء وأبو الحسين البصريّ من المعتزلة إنّها كونه بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر». راجع شرح التجريد للقوشجيّ ص 314.

(2) قال في الأسفار ج 6 ص 340 ـ 341 : «الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم ، وهي في الواجب تعالى عين ذاته».

(3) راجع الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة ، والفصل الثالث عشر من هذه المرحلة.

(4) والقائل الحكيم السبزواريّ حيث قال :

٣٧١

ما في الضمير ، فهو موجودٌ إعتباريٌّ يدل عند العارف بالوضع بدلالة وضعيّة اعتباريّة على ما في ذهن المتكلّم ، ولذلك يعدّ وجوداً لفظيّاً للمعنى الذهنيّ إعتباراً ، كما يعدّ المعنى الذهنيّ وجوداً ذهنيّاً ومصداقه الخارجيّ وجوداً خارجيّاً للشيء.

فلو كان هناك موجودٌ حقيقيٌّ دالٌّ على شيء دلالةً حقيقيّةً غير إعتباريّة كالأثر الدالّ على المؤثّر والمعلول الدالّ بما فيه من الكمال الوجوديّ على ما في علّته من الكمال بنحو أعلى وأشرف ، كان أحقّ بأن يسمّى «كلاماً» ، لأصالة وجوده وقوّة دلالته.

ولو كان هناك موجود بسيط الذات من كلّ وجه له كلّ كمال في الوجود بنحو أعلى وأشرف ، يكشف بتفاصيل صفاته التي هي عين ذاته المقدّسة عن إجمال ذاته ، كالواجب (تعالى) ، فهو كلام يدلّ بذاته على ذاته والإجمال فيه عين التفصيل».

أقول : فيه تحليل الكلام وإرجاع حقيقة معناه إلى نحو من معنى القدرة ، فلا ضرورة تدعو إلى إفراده من القدرة ، على أنّ جميع المعاني الوجوديّة وإن كانت متوغلّةً في الماديّة محفوفةً بالأعدام والنقائص يمكن أن تعود بالتحليل وحذف النقائص والأعدام إلى صفة من صفاته الذاتيّة.

فإن قلت : هذا جار في السمع والبصر ، فهما وجهان من وجوه العلم مع أنّهما أفرِدا من القدرة وعدّا صفتين من الصفات الذاتيّة.

__________________

اللفظ موضوعاً لدى الأنام

ممّا هو المعروف بالكلام

فهو وجود معه وجود

ذهناً له بجعلنا شهود

فحيث في تأدية ذا أيسر

من غيره لإسم الكلام أثروا

ولو فرضتَ غيره بديله

إذ ذاك حاله يكون حاله

فالكل بالذات له دلالة

حاكية جماله جلاله

راجع شرح المنظومة ص 182.

٣٧٢

قلت : ذلك لورودهما في الكتاب(1) والسنّة(2) ، وأمّا الكلام فلم يرد منه في الكتاب الكريم إلاّ ما كان صفةً للفعل(3) .

الفصل السابع عشر

في العناية الإلهيّة بخلقه وأنّ النظام الكوني في غاية ما يمكن من الحسن والإتقان

الفاعل العلميّ الذي لعِلْمِهِ دخلٌ في تمام علّيّته الموجبة إذا كان ناقصاً في نفسه مستكملا بفعله فهو بحيث كلّما قويت الحاجة إلى الكمال الذي يتوخاه بفعله زاد اهتمامه بالفعل وأمعن في إتيان الفعل بحيث يتضمّن جميع الخصوصيّات الممكنة اللحاظ في إتقان صُنْعِهِ واستقصاء منافعه ، بخلاف ما لو كان الكمال المطلوب بالفعل حقيراً غير ضروريّ عند الفاعل جائز الإهمال في منافعه ، وهذا المعنى هو المسمّى بـ «العناية»(4) .

والواجب (تعالى) غنيُّ الذات ، له كلّ كمال في الوجود ، فلا يستكمل بشيء من فعله ، وكلُّ موجود فِعْلُه ، ولا غاية له في أفعاله خارجةً من ذاته ، لكن لمّا كان له علم ذاتيّ بكلّ شيء ممكن يستقرّ فيه ، وعلْمُهُ الذي هو عين ذاته علّة لما سواه فيقع فِعْلُه على ما عَلِمَ من غير إهمال في شيء ممّا عَلِمَ من خصوصيّاته ، والكلّ معلوم ، فله (تعالى) عناية بخلقه.

__________________

(1) كقوله تعالى :( والله سميعٌ عليمٌ ) البقرة : 224. وقوله تعالى :( فانَّ الله سميعٌ عليم ) البقرة : 227. وقوله تعالى :( واعْلمُوا انّ الله سَميعٌ عَليمٌ ) البقرة : 244. وقوله تعالى :( والله بصيرٌ بما يعملون ) البقرة : 96.

(2) عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله يقول : «لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصَر ...» راجع اُصول الكافي ج 1 ص 143.

(3) كقوله تعالى :( وكَلَّمَ الله مُوسى تَكْليماً ) النساء : 164. وقوله تعالى :( وَلَمّا جاء مُوسى لميقاتِنا وَكلَّمَهُ ربَّهُ ) الاعراف : 143.

(4) ولمزيد التوضيح راجع الأسفار وتعليقة المصنّف (رحمه الله) عليه ج 7 ص 55 ـ 57.

٣٧٣

والمشهود من النظام العامّ الجاري في الخلق والنظام الخاصّ الجاري في كلّ نوع والنظم والترتيب الذي هو مستقرّ في أشخاص الأنواع يصدّق ذلك ، فإذا تأمّلنا في شيء من ذلك وجدنا مصالحَ ومنافعَ في خلقه نقضي منها عجباً وكلّما أمعنَّا وتعمّقنا فيه بدَتْ لنا منافع جديدة وروابطُ عجيبة تدهش اللبّ وتكشف عن دقةّ الأمر وإتقان الصنع.

وما تقدّم من البيان جار في العلل العالية والعقول المجرّدة التي ذواتها تامّة ووجوداتها كاملة منزّهة عن القوّة والإستعداد ، فليس صدور أفعالها منها لغرض وغاية تعود إليها من أفعالها ، ولم تكن حاصلة لها قبلَ الفعل لفرض تمام ذواتها ، فغايتها في فعلها ذواتها التي هي أظلال لذات الواجب (تعالى) ، وبالحقيقة غايتها في فعلها الواجب (عزّ إسمه).

ويظهر ممّا تقدّم أن النظام الجاري في الخلقة أتْقَنُ نظام وأحكَمُه ، لأنّه رقيقة العلم الذي لا سبيل للضعف والفتور إليه بوجه من الوجوه.

توضيحه : أنّ عوالم الوجود الكلّيّة ـ على ما سبقت إليها الإشارة(1) ـ ثلاثه عوالم ، لا رابع لها عقلا ، فإنّها إمّا وجودٌ فيه وَصِمة القوّة والإستعداد لا اجتماع لكمالاته الأوّليّة والثانويّة الممكنة في أوّل كينونته ، وإمّا وجودٌ تجتمع كمالاته الأوليّة والثانويّة الممكنة في أوّل كينونته ، فلا يتصوّر فيه طروّ شيء من الكمال بعد ما لم يكن ، والأوّل «عالم المادّة والقوّة» ، والثاني إمّا أن يكون مجرّداً من المادّة دون آثارها من كيف وكم وسائر الأعراض الطارية للأجسام المادّيّة ، وإمّا أن يكون عارياً من المادّة وآثار المادّة جميعاً ، والأوّل «عالم المثال» ، والثاني «عالم العقل».

فالعوالم الكلّيّة ثلاثة ، وهي مترتّبة من حيث شدّة الوجود وضَعْفِهِ ، وهو ترتُّبٌ طوليٌّ بالعلّيّة والمعلوليّة. فمرتبة الوجود العقليّ معلولة للواجب (تعالى) بلا

__________________

(1) راجع الفرع الثالث من الفروع المذكورة في الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

٣٧٤

واسطة. وعلّة متوسطة لما دونها من المثال ، ومرتبة المثال معلولة للعقل وعلّة لمرتبة المادّة والمادّيّات ، وقد تقدّمت إلى ذلك إشارة(1) وسيجيء توضيحه(2) .

فمرتبة الوجود العقليّ أعلى مراتب الوجود الإمكانيّ وأقربها من الواجب (تعالى) والنوع العقليّ منحصر في فرد ، فالوجود العقليّ بما له من النظام ظلّ للنظام الربّانيّ الذي في العالم الربوبيّ الذي فيه كلُّ جمال وكمال.

فالنظام العقليّ أحْسَنُ نظام ممكن وأتْقَنه ، ثمّ النظام المثاليّ الذي هو ظلّ للنظام العقليّ ، ثمّ النظام المادّيّ الذي هو ظلّ للمثال. فالنظام العالميّ العامّ أحْسنُ نظام ممكن(3) وأتْقَنُهُ(4) .

الفصل الثامن عشر

في الخير والشرّ ودخول الشرّ في القضاء الإلهي

الخير ما يطلبه ويقصده ويحبّه كلّ شيء ويتوجّه إليه كلّ شيء بطَبْعه ، وإذا تردّد الأمر بين أشياء فالمختار خيرها؛ فلا يكون إلاّ كمالا وجوديّاً يتوقّف عليه وجود الشيء كالعلّة بالنسبة إلى معلولها ، أو كمالا أوّلا هو وجود الشيء بنفسه ، أو كمالا ثانياً يستكمل الشيء به ويزول به عنه نقص. والشرّ يقابله ، فهو عدم ذات أو عدم كمال ذات.

والدليل على أنّ الشرّ عدم ذات أو عدم كمال ذات أنّ الشرّ لو كان أمراً وجوديّاً لكان إمّا شرّاً لنفسه أو شرّاً لغيره ، والأوّل محال ، إذ لو اقتضى الشيء عدم نفسه لم يوجد من رأس ، والشيء لا يقتضي عدم نفسه ولا عدم شيء من كمالاته الثانية ، لما بينه وبينها من الرابطة الوجوديّة ، والعناية الإلهيّة أيضاً توجب إيصالكلّ شيء إلى كماله؛ والثاني أيضاً محال ، لأنّ كون الشرّ ـ والمفروض أنّه

__________________

(1) راجع نفس المصدر السابق.

(2) في الفصل التاسع عشر من هذه المرحلة.

(3) إشارةٌ إلى قوله تعالى :( الّذي أحسَنَ كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ) السجدة : 7.

(4) إشارة إلى قوله تعالى :( صُنْعُ الله الَّذي أتْقَنَ كُلَّ شيء ) النمل : 88.

٣٧٥

وجوديٌّ ـ شرّاً لغيره ، إمّا بكونه مُعدِماً لذات ذلك الغير ، أو مُعدِماً لشيء من كمالاته ، أو بعدم إعدامه لا لذاته ولا لشيء من كمالاته ، والأوّل والثاني غير جائزين ، فإنّ الشرّ حينئذ يكون هو عدم ذلك الشيء أو عدم شيء من كمالاته دون الشيء المُعدِم المفروض ، وهذا خلف ، والثالث أيضاً غير جائز ، فإنّه إذا لم يعدم شيئاً لا ذاتاً ولا كمال ذات فليس يجوز عدَّهُ شرّاً ، فالعلم الضروريّ حاصلٌ بأنّ ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كماله فإنّه لا يكون شرّاً له لعدم استضراره به ، فالشرّ كيفما فرض ليس بوجوديٍّ ، وهو المطلوب(1) .

ويصدّق ذلك التأمّلُ الوافي في موارد الشرّ من الحوادث ، فإنّ الإمعان في أطرافها يهدي إلى أنّ الشرّ الواقع عدم ذات أو عدم كمال ذات ، كما إذا قَتَلَ رجلٌ رجلا بالسيف صبراً ، فالضرب المؤثّر الذي تصدّاه القاتل كمالٌ له وليس بشرَ ، وحدّة السيف وكونه قطّاعاً كمالٌ له وليس بشرّ ، وانفعال عُنُق المقتول ولينته كمالٌ لبدنه وليس بشرّ ، وهكذا ، فليس الشرّ إلاّ زهاق الروح وبطلان الحياة وهو عدميٌّ.

وتبيّن بما مرّ أنّ ما يعدّ من الوجودات شرّاً بسبب الاستضرار به هو شرّ بالعرض كالقاتل والسيف في المثال المذكور.

فإن قلت (2) : إنّ الألم من الإدراك غير تفرُّقِ الاتّصال الحاصل بالقطع مثلا ، وهو أمر وجوديّ بالوجدان. وينتقض به قولهم : «إنّ الشر بالذات عدميّ» اللهم إلاّ أن يراد به أنّ منشأ الشرّيّة عدميٌّ وإن كان بعض الشرّ وجوديّاً.

قلت : أجاب عنهصدر المتألّهين (3) (قدس سره) بأنّ الألم إدراك المنافي العدميّ ،

__________________

(1) هذا الدليل أقامه قطب الدين الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق ص 520. وتعرّض له أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج 7 ص 59.

(2) هذا الإشكال هو الذي ذكره المحقّق الدوانيّ في حاشية شرح التجريد القوشجيّ ص 14. وتعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ج 4 ص 126 ، وج 7 ص 62 ـ 63.

(3) راجع الأسفار ج 7 ص 63 ـ 68. ثمّ انّ المحقّق السبزواريّ ناقش في ما ذكره صدر المتألّهين في دفع الإشكال ، وبعد ذلك ذكر وجهاً آخر لدفعه ، فراجع تعليقاته على الأسفار ج 7 ص 63 ـ 65.

٣٧٦

كتفرّق الاتّصال ونحوه بالعلم الحضوريّ الذي يحضر فيه المعلوم بوجوده الخارجيّ عند العالم ، لا بالعلم الحصوليّ الذي يحضر فيه المعلوم عند العالم بصورة مأخوذة منه لا بوجوده الخارجيّ ، فليس عند الألم أمران : تفرُّق الاتّصال ـ مثلا ـ والصورة الحاصلة منه. بل حضور ذلك الأمر المنافي هو الألم بعينه ، فهو وإن كان نحواً من الإدراك لكنّه من أفراد العدم ، وهو وإن كان نحواً من العدم لكن له ثبوت على حدّ ثبوت أعدام الملكات ، كالعمى والنقص وغير ذلك.

والحاصل أنّ النفس لكونها صورة الإنسان الأخيرة التي بحذاء الفصل الأخير جامعةٌ لجميع كمالات النوع واجدةٌ لعامّة القوى البدنيّة وغيرها ، فتفرُّق الاتّصال الذي هو آفةٌ واردةٌ على الحاسّة تدرك النفس عنده فقدها كمالُ تلك القوّة التي وردَتْ عليها الآفة في مرتبة النفس الجامعة لا في مرتبة البدن المادّيّة.

ثمّ إنّ الشرّ لمّا كان هو عدم ذات أو عدم كمال ذات كان من الواجب أن تكون الذات التي يصيبه العدم قابلةً له ، كالجواهر المادّيّة التي تقبل العدم بزوال صورتها التي هي تمام فعليّتها النوعيّة ، وأن تكون الذات التي ينعدم كما لها بأصابة الشرّ قابلةً لفقد الكمال ، أي أن يكون العدم عدماً طارياً لها لا لازماً لذاتها ، كالأعدام والنقائص اللازمة للماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ هذا النوع من الأعدام منتزع من مرتبة الوجود وحده.

وبهذا تبيّن أنّ عالم التجرّد التامّ لا شرّ فيه ، إذ لا سبيل للعدم إلى ذواتها الثابتة باثبات مبدئها ، ولا سبيل لعروض الأعدام المنافية لكمالاتها التي تقتضيها وهي موجودة لها في بدء وجودها.

فمجال الشرّ ومداره هو عالم المادّة التي تتنازع فيه الأضداد وتتمانع فيه مختلف الأسباب وتجري فيه الحركات الجوهريّة والعرضيّة التي يلازمها التغيّر من ذات إلى ذات ومن كمال إلى كمال.

والشرور من لوازم وجود المادّة القابلة للصور المختلفة والكمالات المتنوّعة المتخالفة ، غير أنّها كيفما كانت مغلوبةٌ للخيرات ، حقيرة في جنبها إذا قيست إليها.

٣٧٧

وذلك أنّ الأشياء ـ كما نُقِل عنالمعلّم الأوّل (1) ـ من حيث الخيرات والشرور المنتسبة إليها على خمسة أقسام : إمّا خير محض ، وإمّا شرّ محض ، وإمّا خيرها غالب ، وإمّا شرّها غالب ، وإمّا متساوية الخير والشرّ.

والموجود من الأقسام الخمسة قسمان ، هما : الأوّل الذي هو خير محض ، وهو الواجب (تعالى) الذي يجب وجوده وله كلّ كمال وجوديّ وهو كلّ الكمال ، ويلحق به المجرّدات التامّة ، والثالث الذي خيره غالب ، فإنّ العناية الإلهيّة توجب وجوده ، لأنّ في ترك الخير الكثير شرّاً كثيراً.

وأمّا الأقسام الثلاثة الباقية ، فالشرّ المحض هو العدم المحض الذي هو بطلان صرف لا سبيل إلى وجوده ، وما شرّه غالب وما خيره وشرّه متساويان تأباهما العناية الإلهيّة التي نظمت نظام الوجود على أحْسَنِ ما يمكن وأتْقَنِهِ.

وأنت إذا تأمّلت أيّ جزء من أجزاء الكون وجدتَه أنّه لو لم يقع على ما وقع عليه بطل بذلك النظام الكونيّ المرتبط بعض أطرافه ببعض من أصله وكفى بذلك شرّاً غالباً في تركه خير غالب.

وإذ تبيّن أنّ الشرور القليلة التي تلحق الأشياء من لوازم الخيرات الكثيرة التي لها ، فالقصد والإرادة تتعلّق بالخيرات بالأصالة وبالشرور اللازمة لها بالتبع وبالقصد الثاني.

ومن هنا يظهر أنّ الشرور داخلة في القضاء الإلهيّ بالقصد الثاني.

وإن شئت قلت : «بالعرض» ، نظراً إلى أنّ الشرور أعدام ، لا يتعلّق بها قصدٌ بالذات(2) .

الفصل التاسع عشر

في ترتيب أفعاله وهو نظام الخلقة

قد اتضح بالأبحاث السابقة أنّ للوجود الإمكاني ـ وهو فعله (تعالى) ـ

__________________

(1) نقله عنه صدر المتألّهين في تعليقاته على شرح حكمة الإشراق ص 521.

(2) راجع شرح الإشارات ج 3 ص 320 ـ 321 ، والمباحث المشرقيّة ج 2 ص 519 ـ 522 ، والأسفار ج 7 ص 72 ـ 77 ، والنجاة ص 284 ـ 290.

٣٧٨

إنقسامات. منها : أنقسامه إلى مادّيّ ومجرّد ، وانقسام المجرّد إلى مجرّد عقليٍّ ومجرّد مثاليٍّ؛ وأشرنا هناك(1) إلى أنّ عوالم الوجود الكلّيّة ثلاثة : عالم التجرّد التامّ العقليّ ، وعالم المثال ، وعالم المادّة والمادّيّات؛ فالعالم العقليّ مجرّد تامّ ذاتاً وفعلا عن المادّة وآثارها؛وعالم المثال مجرّد عن المادّة دون آثارها من الأشكال والأبعاد والأوضاع وغيرها. ففي هذا العالم أشباح متمثّلة في صفة الأجسام التي في عالم المادّة والطبيعة في نظام شبيه بنظامها الذي في عالم المادّة؛ وإنّما الفرق بينه وبين النظام المادّيّ أنّ تعقُّبَ بعض المثاليّات لبعض بالترتّب الوجوديّ لا بتغيُّرِ صورة أو حال إلى صورة أو حال اُخرى بالخروج من القوّة إلى الفعل بالحركة ، كما هو الحال في عالم المادّة ، فحال الصور المثاليّة فيما ذكرناه مِن ترتُّب بعضها على بعض حالَ صورة الحركة والتغيّر في الخيال ، والعلم مجرّدٌ مطلقاً فالمتخيّل من الحركة علْمٌ بالحركة لا حركة في العلم ، وعلْمٌ بالتغيّر لا تغيّرٌ في العلم.

وعالم المادّة لا يخلو ما فيها من الموجودات من تعلّق مّا بالمادّة ، وتستوعبه الحركة والتغيّر ، جوهريّةً كانت أو عرضيّةً.

وإذ كان الوجود بحقيقته الأصيلة حقيقةً مشكّكةً ذاتَ مراتب مختلفة في الشدّة والضعف والشرف والخسّة ، تتقوّم كلّ مرتبة منها بما فوقها ويتوقّف عليها بهويّتها ، يستنتج من ذلك :

أوّلا : أنّ العوالم الثلاثة مترتّبةٌ وجوداً بالسبق واللحوق ، فعالم العقل قبلَ عالم المثال ، وعالم المثال قبلَ عالم المادّة وجوداً؛ وذلك لأنّ الفعليّة المحضة التي لا تشوبها قوّهٌ ولا يخالطها استعدادٌ أقوى وأشدّ وجوداً ممّا هو بالقوّة محضاً كالهيولى الاُولى أو تشوبه القوّة ويخالطه الاستعداد كالطبائع المادّيّة ، فعالَما العقل والمثال يسبقان عالَمَ المادّة.

ثمّ العقل المفارق أقلّ حدوداً وأوسع وجوداً وأبسط ذاتاً من المثال الذي تصاحبه آثار المادّة وإن خلا عن المادّة ، ومن المعلوم أنّ الوجود كلّما كان أقلّ

__________________

(1) راجع الفصل السابع عشر من هذه المرحلة ، والفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

٣٧٩

حدوداً وأوسع وأبسط ، كانت مرتبته من حقيقة الوجود المشكّكة أقدم وأسبق وأعلى ، ومن أعلى المراتب التي هي مبدأ الكلّ أقرب ، فعالم العقل أقدم وأسبق وجوداً من عالم المثال.

وثانياً : أنّ الترتيب المذكور بين العوالم الثلاثة ترتيبٌ علّيٌّ لمكان السبق والتوقّف الذي بينها ، فعالم العقل علّةٌ لعالم المثال ، وعالم المثال علّةٌ مفيضةُ لعالم المادّة.

وثالثاً : أنّ العوالم الثلاثة متطابقةٌ متوافقةٌ نظاماً بما يليق بكلّ منها وجوداً.

وذلك لما تقدّم(1) أنّ كلَّ علّة مشتملةٌ على كمال معلولها بنحو أعلى وأشرف.

ففي عالم المثال نظامٌ مثاليٌّ يضاهي نظامَ عالم المادّة وهو أشرف منه ، وفي عالم العقل ما يطابق نظام المثال ، لكنّه موجود بنحو أبسط وأشرف وأجمل منه ويطابقه النظام الربّانيّ الذي في العلم الربوبيّ.

ورابعاً : أنّه ما من موجود ممكن مادّيّ أو مجرّد علويّ أو سفليّ إلاّ هو آية للواجب (تعالى) من جميع الوجوه يحكِي بما عنده من الكمال الوجوديّ كمالَ الواجب (تعالى).

الفصل العشرون

في العالم العقليّ ونظامه وكيفيّة حصول الكثرة فيه

قد تحقّق في مباحث العلّة والمعلول أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد(2) . ولمّا كان الواجب (تعالى) واحداً بسيطاً من كلّ وجه ـ لا تتسرّب إليه جهة كثرة لا عقليّة ولا خارجيّة ـ واجداً لكلّ كمال وجوديّ وجداناً تفصيليّاً في عين

__________________

(1) راجع الفصل السادس والفصل التاسع من هذه المرحلة.

(2) راجع الفصل الرابع من المرحلة الثامنة.

٣٨٠