كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال11%

كليات في علم الرجال مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 530

كليات في علم الرجال
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149061 / تحميل: 5393
الحجم الحجم الحجم
كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اليه ، وضعيف تردّ روايته ، وعندما يلاحظ المستنبط الاسماء المشتركة في الاسناد لا يقدر على تعيين المراد.

ولأجل ذلك عمد الرجاليون إلى تأسيس فرع آخر لعلم الرجال أسموه بـ « تمييز المشتركات » ، أهمها وأعظمها هو « تمييز المشتركات للعلامة الكاظمي » ولذلك يجب على المستنبط في تعيين المراد من الاسماء المشتركة ، مراجعة فصل « تمييز المشتركات » ، ولولاه لما انحلت العقدة ، غير أن كثيراً من كتب الرجال فاقدة لهذا الفرع ، وإنما يذكرون الاسماء بالآباء والأجداد ، من دون أن يذكروا ما يميَّز به المشترك عن غيره. ولقد أدخل العلاّمة المامقاني ما كتبه العلاّمة الكاظمي في رجاله ، وبذلك صار كتاباً جامعاً بالنسبة ، وقد تطرق ذلك النقص إلى أكثر الكتب الرجالية ، لأجل أنها اُلِّفت على ما رسمه القدماء على ترتيب الحروف الهجائية ، دون ترتيب الطبقات.

بروز نمط خاصّ في تأليف الرجال

ولأجل هذه النَّقائص الفنية في هذه الخطة ، نهضت عدة من الاعلام والمشايخ في العصر الماضي والحاضر الى فتح طريق آخر في وجوه المجتهدين والمستنبطين ، وهذا الطريق هو لمس حالهم بالمباشرة لا بالرجوع الى أقوال أئمة الرجال بل بالرجوع الى سند الروايات المتكررة في الكتب الحديثَّية المشتملة على اسم الراوي ، فان في هذا الطريق إمكان التعرّف على ميزان علم الراوي وفقهه وضبطه ووثاقته في النقل ، اذ بالرجوع إلى متون أحاديث الراوي المبعثرة على الابواب وملاحظتها لفظاً ومعنى ، وكمّاً وكيفاً يعرف أمور :

١ ـ يفهم من رواياته ، مدى تضلّع الرواي في الفقه والكلام والتاريخ والتفسير وغيرها من المعارف ، كما يعرف عدم مهارته وحذاقته في شيء منها ، إذا قيست رواياته بعضها ببعض ، وبما رواه آخرون في معناها.

٢ ـ يعرف مقدار رواياته قلَّة وكثرة ، وأنه هل هو ضابط فيما يروي أو

١٤١

مخلّط أو مدلّس.

٣ ـ تعرف طبقات الرواة مشايخهم وتلاميذهم.

٤ ـ يحصل التعرّف على وضع الاسناد من حيث الكمال والسقط ، فربما تكون الرواية في الكتب الاربعة مسندة إلى الامام ، ولكن الواقف على طبقات الرجال يعرف المفقودة أثناء السند.

يقول الاستاذ الشيخ « محمد واعظ زاده الخراساني » في رسالة نشرت بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ الطوسيقدس‌سره :

« إن الرجاليّين كانوا وما يزالون يتعبدون في الاكثر بقول أئمة هذا الفنّ ويقلدونهم في جرح الرواة وتعديلهم ، الا أن الأمر لا ينحصر فيه ، فهناك بإزاء ذاك ، باب مفتوح إلى معرفة الرواة ولمس حالهم بالمباشرة. وهذا يحصل بالرجوع إلى أمرين :

١ ـ الرّجوع إلى أسناد الروايات المتكررة في الكتب الحديثية المشتملة على اسم الراوي ، وبذلك يظهر الخلل في كثير من الاسانيد ، وينكشف الارسال فيها بسقوط بعض الوسائط وعدم اتصال السلسلة ، ويمكننا معرفة الحلقة المفقودة في سلسلة حديث باستقراء الاشباه والنظائر إذا توفَّرت وكثرت القرائن ، وقامت الشواهد في الاسانيد المتكثّرة.

٢ ـ الرّجوع إلى متون أحاديث الراوي المبعثرة على الابواب ، واعتبارها لفظاً ومعنى وكمّاً وكيفا ، فيفهم منها أن الراوي هل كان متضلّعاً في علم الفقه او التفسير او غيرهما من المعارف ، او لم يكن له مهارة وحذاقة في شيء منها؟ يفهم ذلك كله إذا قيست رواياته بعضها ببعض وبما رواه الآخرون في معناها ، ويلاحظ أنه قليل الرواية او كثيرها وأنه ثبت ضابط فيما يرويه أو مخلط مدلس.

وإذا انضمّ اليه أمر ثالث ينكشف حال الراوي أتمَّ الانكشاف ، وهو مراجعة الاحاديث التي وردت في حال الرواة ، وقد جمع معظمها أبو عمرو

١٤٢

الكشي في رجاله ، فهي تعطينا بصيرة بحال رواة الحديث من ناحية اُخرى وهي موقف الرواة من الائمة الهداة ، ودرجات قرب الرجال وبعدهم عنهم.

وعلى الجملة فمعرفة الرواة وطبقاتهم عن طريق أحاديثهم وملاحظتها متناً وسنداً ، تكاد تكون معرفة بالمباشرة والنّظر لا بالتقليد والأثر »(١) .

١ ـ جامع الرواة

ان أول من قام بهذا العمل بصورة النواة ، هو الشيخ المحقق الاردبيلي ( مؤلف جامع الرواة ) المعاصر للعلامة المجلسي ، فانه يلتقط في ترجمة الرجال جملة من الاسانيد عن الكتب الاربعة وغيرها ، ويجعلها دليلا على التعرّف على شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وعصره.

٢ ـ طرائف المقال

وقام بعده بهذا العمل السيّد محمد شفيع الموسوي التفريشي ، فألَّف كتابه المسمّى بـ « طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال ». فقد جعل مشايخه الطبقة الاولى ، ثمَّ مشايخ مشايخه ، الطبقة الثانية ، الى أن ينتهي إلى عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء الكل في اثنتين وثلاثين طبقة وجعل الشيخ الطوسي ومن في طبقته ، الطبقة الثانية عشر. توجد نسخة من هذا الاثر النفيس في مكتبة آية الله المرعشي ـ دام ظله ـ وهو بعد لم يطبع.

٣ ـ مرتب الاسانيد

وقام بعده المحقّق البروجردي ، إمام هذا الفّن بعملين كبيرين يعدّان من أبرز الاعمال وأعمقها في الرجال.

الاول : رتَّب اسانيد كلّ من الكتب الاربعة وسمّاها « مرتّب أسانيد

__________________

١ ـ لاحظ الرسالة : ٦٨٣ ـ ٦٨٥ بتلخيص منّا.

١٤٣

الكافي » و « مرتَّب أسانيد التهذيب » ، ثم انصرف إلى ترتيب أسانيد الكتب الاربعة الرجالية وغيرها من كتب الحديث ، مراعياً فيها ترتيب الحروف ، فباستيفاء الاسانيد وقياس بعضها مع بعض يعرف جميع شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وغيرها من الفوائد.

فبالرجوع إلى هذا الفهرس يعلم مقدار مشايخ الراوي وتلاميذه ، كما يعرف من هو مشاركه في نقل الحديث وكان في طبقته ، كما يعلم مشايخ كل واحد من هؤلاء الرّاوة وطرقهم إلى الامام.

الثاني : قام بتأليف كتاب باسم « طبقات الرجال » فقد جعل سلسلة الرواة من عصر النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زمان الشيخ الطوسي اثنتي عشرة طبقة ، فجعل الصحابة الطبقة الاولى ، ومن أخذ عنهم الحديث الطبقة الثانية ، وهكذا والعمل الثاني منتزع من العمل الاول أعني تجريد الاسانيد ، وهذا الاثر النفيس ، بل الآثار النفيسة بعد غير مطبوعة ، بل مخزونة في مكتبته الشخصية العامرة ، نسأل الله سبحانه أن يوفق أهل الجدّ والعلم للقيام بطبع هذه التركة النفيسة.

يقول الاستاذ « واعظ زاده » وهو يتحدّث عن الامام البروجردي في تلك الرسالة وأنه أحد من سلك هذا الطريق ، وان لم يكن مبتكراً في فتح هذا الباب :

« إنَّ الإشراف على جميع روايات الرّاوي يستدعي جمعها في كرّاس واحد ، وهذا ما عمله قديماً علماء الحديث من الجمهور ، وسمَّوا هذا النوع من الكتب « المسند » ، وكان الغرض الأهم لهم من هذا العمل ، التلاقي مع الرواة في أحاديثهم. أما الشيعة الامامية فلم يهتمّوا بالمسانيد وكان الامام البروجردي ، يحبِّذ هذا العمل ويرغب طلاب العلم بالاشتغال به ، ولا ريب أنه فراغ في حديثنا يجب أن يسدَّ.

١٤٤

والإمام البروجردي اكتفى من ذلك بجمع اسانيد كل راو إلى الامام فقط ، ورتَّبها في فهارس كاملة. هذا ما ابتكره الإمام ولم يسبقه فيه غيره. نعم ، استخبار طبقة الرواة وشيوخهم وتلاميذهم من سند الاحاديث لم يتغافل عنه السّابقون ، كيف وإنهم يستدلون بذلك في كتبهم ، وقد اكثر الشيخ محمد الاردبيلي في كتابه « جامع الرواة » منه. فإنه يلتقط في ترجمة الرجال ، جملة من الاسانيد من الكتب الاربعة وغيرها ، ويستدلّ بها على شيوخ الراوي وتلاميذهم وطبقته من دون استقصاء.

نعم ، إنّ البروجردي ليس أول من تفطن والتفت إلى مدى تأثير الاسانيد في معرفة الرواة وطبقاتهم ، وإنما الاستاذ أول من رتَّب الاسانيد واستقصاها في فهارس جامعة ، وبذلك وضع أمام المحقّقين ذريعة محكمة للاستشراف على شتّى الاسانيد للرواة والانتفاع بها.

إنّ الاُستاذ لما أحسَّ بضرورة استقصاء الاسانيد التي وقع فيها اسم الراوي ، وكانت الاسانيد مبعثرة مع أحاديثها في ثنايا الكتب ، بحيث يصعب او يستحيل الاحاطة بها عادة ، تفطَّن بأنه يجب أن يلتقطها من مواضعها فيرتّبها في قوائم وفهارس.

وابتدأ عمله هذا بأسانيد الكتب الاربعة وسمّاها « مرتَّب أسانيد الكافي » ، ثم « مرتَّب أسانيد التهذيب » وهكذا. ثمَّ انصرف إلى الكتب الاربعة الرجالية وكثير من غيرها من كتب الحديث مراعياً ترتيب الحروف.

وها نحن نعرض نموذجاً من عمل الإمام الأكبر حتى يعرف منه ما تحمله من المشاق في سدّ هذا الفراغ.

ومن لاحظ هذا الاُنموذج ، يعرف مدى ما لهذه الفهارس من الأثر في علم الرجال كما يقف على اُسلوبها ، ولتوضيح حال هذا الانموذج نقول :

إن الشيخ الطوسي مؤلف « التهذيب والاستبصار » أخذ جميع ما يرويه في

١٤٥

هذين الكتابين ، من كتب وجوامع ظهرت في القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري ، فيكتفي في نقل الحديث باسم صاحب الكتاب في اول السند ، ثم يذكر طريقه إلى أرباب الكتب في خاتمة الكتابين ، في باب اسماه المشيخة ، وقد سبقه إلى هذا العمل الشيخ الصدوق في « من لا يحضره الفقيه ».

وممَّن نقل في التهذيب عنه « الحسن بن محمد بن سماعة » فقد نقل من كتابه أحاديث كثيرة في مختلف الابواب.

فالإمام البروجردي ذكر طرق ابن سماعة إلى الأئمة على ترتيب الحروف ، فيبدأ باسم أحمد بن أبي بشير ، ثم أحمد بن الحسن الميثمي ، ثم اسحاق. فمن تأمل في هذا الاُنموذج يعلم مشايخ ابن سماعة في التهذيب ويعلم مشايخ هذه المشايخ وطرقهم إلى الامام ، فاذا ضمَّ ترتيب اسانيد الحسن بن محمد بن سماعة في التهذيب إلى سائر الكتب يعلم من المجموع مشايخه ومشايخ مشايخه وطبقاتهم ، كما يعرف من ملاحظة المتون مقدار تضلّعه في الحديث وضبطه وإتقانه إلى غير ذلك من الفوائد.

٤ ـ معجم رجال الحديث

وأخيراً قام العلاّمة المحقّق الخوئي ـ دام ظلّه الوارف ـ بتأليف كتاب اسماه « معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة » ومن خصائص ومزايا هذا الكتاب هي أنه قد ذكر في ترجمة كل شخص جميع رواته ومن روى هو عنهم في الكتب الاربعة ، وقد يذكر ما في غيرها أيضاً ولا سيَّما رجال الكشي ، فقد ذكر أكثر ما فيه من الرواة والمرويّ عنهم ، وبذلك خدم علم الرجال خدمة كبيرة.

أوّلاً : يعرف بالمراجعة الى تفصيل طبقات الرّواة ـ أعني الَّذي ذيل به كل جزء من أجزاء كتابه البالغة ٢٣ جزء ـ طبقات الرواة من حيث العصر والمشايخ والتلاميذ ، وبذلك يقف الانسان على كمال السَّند ونقصانه ، وربما

١٤٦

يعرف الحلقة المفقودة في أثنائه إذا كان حافظاً للمشايخ والتلاميذ.

ثانياً : يحصل التمييز الكامل بين المشتركات غالباً ، فان قسماً كبيراً من الرواة مشترك الاسم في الشخص والأب فلا يعرف الانسان أنه من هو ، ولكن بالوقوف على تفصيل طبقات الرواة يميز المشترك ويعين الراوي بشخصه ، والكتاب من حسنات الدَّهر.

رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الباقين منهم وجعلنا مقتفين لآثارهم إن شاء الله.

١٤٧
١٤٨

الفصل الخامس

التوثيقات الخاصة

* نصّ أحد المعصومين أو الأعلام المتقدّمين أو المتأخّرين.

* دعوى الاجماع أو المدح الكاشف.

* سعي المستنبط على جمع القرائن.

١٤٩
١٥٠

المراد من التوثيقات الخاصة ، التوثيق الوارد في حق شخص أو شخصين من دون أن يكون هناك ضابطة خاصة تعمّهما وغيرهما ، وتقابلها التوثيقات العامة ، ويراد منها توثيق جماعة تحت ضابطة خاصة وعنوان معيَّن ، وسنذكرها في فصل قادم ، إن شاء الله.

ويثبت التوثيق الخاصّ بوجوه نذكرها واحداً بعد آخر :

الاول : نصّ أحد المعصومينعليهم‌السلام

اذا نصّ احد المعصومينعليهم‌السلام على وثاقة الرجل ، فان ذلك يثبت وثاقته قطعاً ، وهذا من اوضح الطرق وأسماها ، ولكن يتوقف ذلك على ثبوته بالعلم الوجداني ، او برواية معتبرة ، والاول غير متحقّق في زماننا ، إلا أن الثاني موجود كثيراً. مثلاً ; روى الكشي بسند صحيح عن علي بن المسيّب قال : « قلت للرّضاعليه‌السلام : شُقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فعمَّن آخذ معالم ديني؟

فقال : من زكريّا بن آدم القمّي ، المأمون على الدّين والدّنيا »(١) .

__________________

١ ـ رجال الكشي : ٤٩٦.

١٥١

نعم يجب أن يصل التوثيق بسند صحيح ، ويترتب عليه أمران :

الأول : لا يمكن الاستدلال على وثاقة شخص برواية نفسه عن الامام ، فان اثبات وثاقة الشخص بقوله يستلزم الدور الواضح ، وكان سيدنا الاستاذ الامام الخميني(١) ـ دام ظلّه ـ يقول : « إذا كان ناقل الوثاقة هو نفس الرّاوي ، فان ذلك يثير سوء الظن به ، حيث قام بنقل مدائحه وفضائله في الملأ الاسلامي ».

الثاني : لا يمكن إثبات وثاقة الرجل بالرواية الضعيفة ، فان الرواية إذا لم تكن قابلة للاعتماد كيف تثبت بها وثاقة الرجل؟

وربما يستدل على صحة الاستدلال بالخبر الضعيف لإثبات وثاقة الراوي إذا تضمن وثاقته ، بادّعاء انسداد باب العلم في علم الرجال ، فينتهي الأمر إلى العمل بالظن لا محالة ، على تقدير انسداد باب العلم إجماعاً ، ولكنه مردود بوجهين :

الأول : باب العلم والعلميّ بالتوثيقات غير مسندٍّ ، لما ورد من التوثيقات الكثيرة من طرق الاعلام المتقدمين بل المتأخرين ، لو قلنا بكفاية توثيقاتهم ، وفيها غنى وكفاية للمستنبط ، خصوصاً إذا قمنا بجمع القرائن والشواهد على وثاقة الراوي ، فان كثرة القرائن توجب الاطمئنان العقلائي على وثاقة الراوي وهو علم عرفيّ ، وحجة بلا إشكال.

الثاني : إن ما ذكره يرجع إلى انسداد باب العلم في موضوع التوثيقات ، ولكن ليس انسداد باب العلم في كل موضوع موجباً لحجية الظن في ذلك الموضوع ، وإنما الاعتبار بانسداد باب العلم في معظم الاحكام الشرعية ، فان ثبت الأخير كان الظن بالحكم الشرعي من أي مصدر جاء حجة ، سواء كان باب

__________________

١ ـ كان الإمام عندما يجري القلم على هذه الصحائف الماضية حيّاً يرزق وقد وافاه الأجل الليلة التاسعة والعشرين من شهر شوال المكرم من شهور عام ١٤٠٩ هـ ، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.

١٥٢

العلم في الرجال منسداً أم لم يكن ، وإذا كان باب العلم والعلميّ بمعظمها مفتوحاً ، لم يكن الظن الرجالي حجة سواء كان أيضاً باب العلم بالتوثيقات منسداً أم لم يكن.

وبالجملة ؛ انسداد باب العلم والعلمي في خصوص الاحكام الشرعية هو المناط لحجية كل ظن ( ومنه الظن الرجالي ) وقع طريقا إلى الاحكام الشرعية ، أما إذا فرضنا باب العلم والعلميّ مفتوحاً في باب الاحكام ، فلا يكن الظن الرجاليّ حجّة وان كان باب العلم والعلمي فيه منسداً.

وقد أشار إلى ما ذكرنا الشيخ الأعظم في فرائده عند البحث عن حجية قول اللغوي حيث قال :

« إنَّ كل من عمل بالظن في مطلق الاحكام الشرعية ، يلزمه العمل بالظن بالحكم النّاشي من الظنّ بقول اللّغوي ، لكنه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللّغات ، بل العبرة عندهم بانسداد باب العلم في معظم الاحكام ، فانه يوجب الرجوع إلى الظن بالحكم ، الحاصل من الظن باللغة ، وان فرض انفتاح باب العلم في ما عدا هذا المورد من اللغات »(١) .

الثاني : نص أحد أعلام المتقدمين

إذا نصّ أحد اعلام المتقدمين كالبرقي والكشي وابن قولويه والصدوق والمفيد والنجاشي والشيخ وأمثالهم على وثاقة الرجل ، يثبت به حال الرجل بلا كلام ، غير أن هناك بحثاً آخر وهو : هل يكتفي بتوثيق واحد منهم أو يحتاج إلى توثيقين؟ وتحقيق المسألة موكول إلى محلها في الفقه وخلاصة الكلام هو أن حجيّة خبر الثقة هل تختص بالاحكام الشرعية أو تعمّ الموضوعات أيضاً؟ فعلى القول الأول لا يصحّ الاعتماد على توثيق واحد ، بل يحتاج إلى ضمِّ توثيق

__________________

١ ـ الفرائد : بحث حجية قول اللغوي : ٤٦ ـ ٤٧ ـ طبعة رحمة الله.

١٥٣

آخر ، وعلى الثاني يكتفي بالتوثيق الواحد ، ويكون خبر الثقة حجَّة في الاحكام والموضوعات ، إلا ما قام الدليل على اعتبار التعدّد فيه ، كما في المرافعات وثبوت الهلال ، والمشهور هو الأول ، والاقوى هو الثاني وسيوافيك بيانه في آخر البحث.

الثالثة : نص أحد أعلام المتأخرين

وممّا تثبت به وثاقة الراوي أو حسن حاله هو نصّ أحد أعلام المتأخرين عن الشيخ وذلك على قسمين :

قسم مستند إلى الحس وقسم مستند إلى الحدس.

فالاول ؛ كما في توثيقات الشيخ منتجب الدين ( المتوفّى بعد عام ٥٨٥ هـ ) وابن شهرآشوب صاحب « معالم العلماء » ( المتوفّى عام ٥٨٨ هـ ) وغيرهما فانهم لأجل قرب عصرهم لعصور الرواة ، ووجود الكتب الرجالية المؤلفة في العصور المتقدمة بينهم ، كانوا يعتمدون في التوثيقات والتضعيفات على السماع ، أو الوجدان في الكتاب المعروف أو إلى الاستفاضة والاشتهار ودونهما في الاعتماد ما ينقله ابن داود في رجاله ، والعلاّمة في الخلاصته عن بعض علماء الرجال.

والثاني ؛ كالتوثيقات الواردة في رجال من تأخر عنهم ، كالميرزا الاسترآبادي والسيّد التفريشي والاردبيلي والقهبائي والمجلسي والمحقق البهبهاني وأضرابهم ، فان توثيقاتهم مبنية على الحدس والاجتهاد ، كما تُفصح عنه كتبهم ، فلو قلنا بأن حجيّة قول الرجالي من باب الشهادة ، فلا تعتبر توثيقات المتأخرين ، لأن آراءهم في حقّ الرواة مبنية على الاجتهاد والحدس ، ولا شك في أنه يعتبر في قبول الشهادة إحراز كونها مستندة إلى الحسّ دون الحدس ، كيف وقد ورد في باب الشهادة أن الصادقعليه‌السلام قال : « لا تشهدنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفَّك »(١) . وفي حديث عن النبي

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ١٨ أبواب الشهادات ، الباب ٢٠ ، الحديث ١ و ٣.

١٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن الشهادة ، قال : « هل ترى الشَّمس؟ على مثلها فاشهد أو دع »(١) .

هذا إذا قلنا بأن العمل بقول الرجالي من باب الشهادة ، وأما إذا قلنا بأن الرجوع اليهم من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، فاجمال الكلام فيه أنه لا يشترط في الاعتماد على قول أهل الخبرة أن يكون نظره مستنداً إلى الحسّ ، فان قول المقوّم حجّة في الخسارات وغيرها ، ولا شكَّ أن التقويم لا يمكن ان يكون مستنداً إلى الحسّ في عامة الموارد. وعلى ذلك فلو كان الرجوع إلى علماء الرجال من ذاك الباب ، فالرجوع إلى أعلام المتأخرين المتخصّصين في تمييز الثّقة عن غيره بالطرق والقرائن المفيدة للاطمئنان ممّا لا بأس به.

وما يقال من أن الفقيه غير معذور في التقليد ، فيجب على الفقيه أن يكون بنفسه ذا خبرة في التعرف على أحوال الرواة ، غير تام لان تحصيل الخبروية في كل ما يرجع إلى الاستنباط أمر عسير ، لو لم يكن بمستحيل ، فان مقدمات الاستنباط كثيرة ، وقد أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر فناً ، ولا يمكن للمجتهد في هذه الايام أن يكون متخصصاً في كل واحد من هذه الفنون ، بل يجوز أن يرجع في بعض المقدمات البعيدة أو القريبة إلى المتخصصين الموثوق بهم في ذاك الفن ، وقد جرت على ذلك سيرة الفقهاء ، بالأخص في ما يرجع إلى الأدب العربي ولغات القرآن والسنة وغير ذلك ، وليكن منها تمييز الثقة عن غيره. هذا على القول بأنّ الرجوع إلى أهل الرجال من باب الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بقولهم.

وهناك وجه ثالث في توثيقات المتأخّرين ، وهو أنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره عن المعصومعليه‌السلام لا خصوص خبر الثقة ، وبينهما فرق واضح ، إذ لو قلنا بأنّ الحجّة قول الثقة يكون المناط وثاقة الرّجل وإن لم يكن نفس الخبر موثوقاً بالصّدور.

__________________

١ ـ المصدر السابق.

١٥٥

ولا ملازمة بين وثاقة الراوي وكون الخبر موثوقاً بالصدور ، بل ربما يكون الراوي ثقة ، ولكن القرائن والأمارات تشهد على عدم صدور الخبر من الإمامعليه‌السلام ، وأن الثقة قد التبس عليه الأمر ، وهذا خلاف ما لو قلنا بأنّ المناط هو كون الخبر موثوق الصدور ، إذ عندئذ تكون وثاقة الراوي من إحدى الأمارات على كون الخبر موثوق الصدور ولا تنحصر الحجية بخبر الثقة ، بل لو لم يحرز وثاقة الراوي ودلّت القرائن على صدق الخبر وصحته يجوز الأخذ به.

وهذا القول غير بعيد بالنظر إلى سيرة العقلاء فقد جرت سيرتهم على الأخذ بالخبر الموثوق الصدور ، وإن لم تحرز وثاقة المخبر لأنّ وثاقة المخبر طريق إلى إحراز صدق الخبر ، وعلى ذلك فيجوز الأخذ بمطلق الموثوق بصدوره إذا شهدت القرائن عليه.

ويوضح هذا مفاد آية النَّبأ وهو لزوم التثبّت والتوقّف حتى يتبين الحال ، فاذا تبينت وانكشف الواقع انكشافاً عقلائياً بحيث يركن اليه العقلاء يجوز الركون اليه والاعتماد عليه. فلاحظ قوله سبحانه :( يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا ) فإنّ ظاهره أن المناط هو تبيّن الحال وإن كان الرّاوي غير ثقة.

وعلى هذا ( أي حجّية الخبر الموثوق الصدور ) يجوز الركون إلى توثيقات المتأخرين المتخصّصين الماهرين في هذا الفنّ ، إذا كان قولهم ورأيهم أوجب الوثوق بصدور الخبر ، خصوصاً إذا انضمّ اليها ما يستخرجه المستنبط من قرائن اُخر ممّا يوقفه على صحَّة الخبر وصدوره.

الرابع : دعوى الاجماع من قبل الأقدمين

وممّا تثبت به الوثاقة أو حسن حال الراوي أن يدّعي أحد من الاقدمين ، الاجماع على وثاقة الراوي إجماعاً منقولاً ، فانه لا يقصر عن توثيق مدّعي الاجماع بنفسه ، وعلى ذلك يمكن الاعتماد على الاجماع المنقول في حقّ

١٥٦

إبراهيم بن هاشم والد علي بن إبراهيم القمّي ، فقد ادّعى ابن طاووس الاتفاق على وثاقته. فهذه الدعوى تكشف عن توثيق بعض القدماء لا محالة وهو يكفي في إثبات وثاقته.

بل يمكن الاعتماد على مثل تلك الاجماعات المنقولة حتى إذا كانت في كلمات المتأخرين ، فانه يكشف أيضاً عن توثيق بعض القدماء لا محالة.

الخامسة : المدح الكاشف عن حسن الظاهر

ان كثيراً من المدائح الواردة في لسان الرجاليين ، يكشف عن حسن الظاهر الكاشف عن ملكة العدالة ، فان استكشاف عدالة الراوي لا يختصّ بقولهم : « ثقة أو عدل » بل كثير من الألفاظ التي عدُّوها من المدائح ، يمكن أن يستكشف بها العدالة ، وهذا بحث ضاف سيوافيك شرحه.

السادسة : سعي المستنبط على جمع القرائن

ان سعي المستنبط على جمع القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان على وثاقة الرّاوي أو خلافها ، من أوثق الطرق وأسدّها ، ولكن سلوك ذاك الطريق يتوقف على وجود قابليات في السالك وصلاحيات فيه ، ألزمُها التسلط على طبقات الرواة والاحاطة على خصوصيات الراوي ، من حيث المشايخ والتلاميذ ، وكمية رواياته من حيث القلة والكثرة ، ومدى ضبطه ، إلى غير ذلك من الاُمور التي لا تندرج تحت ضابط معيَّن ، ولكنها تورث الاطمئنان الذي هو علم عرفاً ولا شك في حجيته ، وبما أن سلوك هذا الطريق لا ينفكّ عن تحمل مشاقٍّ لا تستسهل ، قل سالكه وعزَّ طارقه ، والسائد على العلماء في التعرف على الرواة ، والرجوع إلى نقل التوثيقات والتضعيفات.

هذه الطرق ممّا تثبت بها وثاقة الراوي بلا كلام وهي طرق خاصة تثبت بها وثاقة فرد خاص ، وهناك طرق عامة توصف بالتوثيقات العامة ، تثبت بها وثاقة جمع من الرّواة وسيأتي البحث عنها في الفصل القادم إن شاء الله.

١٥٧

بحث استطرادي وهو هل يكفي تزكية العدل الواحد؟

قد وقفت على أن كثيراً من العلماء ، يعتبرون قول الرجالي من باب الشهادة ، وعندئذ اختلفوا في أنه هل يكتفي في تزكية الراوي بشهادة العدل الواحد أو لا؟ على قولين : الأول ؛ هو المشهور بين أصحابنا المتأخرين. والثاني ؛ هو قول جماعة من الاُصوليين وهو مختار المحقق وصاحب « منتقى الجمان ».

استدل صاحب « المنتقى » للقول الثاني بأن اشتراط العدالة في الراوي ، يقتضي اعتبار العلم بها ، وظاهر أن تزكية الواحد لا يفيده بمجردها ، والاكتفاء بالعدلين مع عدم افادتهما العلم ، إنما هو لقيامهما مقامه شرعاً ، فلا يقاس تزكية الواحد عليه(١) .

استدلّ المتأخرون بوجوه. منها : أن التزكية شرط لقبول الرواية ، فلا تزيد على شروطها وقد اكتفى في اصل الرواية بالواحد.

ولا يخفى أن الاستدلال أشبه شيء بالقياس ، إذ من الممكن أن يكتفي في أصل الرواية بالواحد ولا يكتفي في إحراز شرطها به.

منها : أن العلم بالعدالة متعذّر غالباً فلا يناط التكليف به(٢) .

وفيه أنه ادعاء محض مع كفاية العدلين عنه.

ولا يخفى أن استدلال صاحب « المنتقى متين لو لم يكن هناك اطلاق في حجّية خبر الواحد في الموضوعات والاحكام جميعاً ، والظاهر وجود الاطلاق في حجيَّة قول العادل أو حجية خبر الثقة في الموارد كلّها ، حكماً كان أو موضوعاً ، من غير فرق بينهما إلا في التسمية ، حيث إن الأول يسمى بالرواية

__________________

١ ـ منتقى الجمان : ١ / ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

١٥٨

والثاني بالشهادة. فظاهر الروايات أن قول العدل أو الثقة حجَّة إلا في مورد خرج بالدليل ، كالمرافعة والهلال الذي تضافرت الروايات على لزوم تعدّد الشاهد فيهما(١) .

ويدلّ على ما ذكرنا ـ أعني حجيّة قول الشاهد الواحد في الموضوعات ـ السيرة العقلائية القطعية ـ لأنهم يعتمدون على أخبار الآحاد في ما يرجع إلى معاشهم ومعادهم ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة تكون مُمضاة من قبل الشارع في الموضوعات والاحكام.

نعم لا يعتبر الشاهد الواحد في المرافعات بل يجب تعدّده بضرورة الفقه والنصوص الصحيحة.

وتدلّ على حجية قول الشاهد الواحد في الموضوعات ، مضافاً إلى السّيرة العقلائية التي هي أتقن الادلة ، عدَّة من الروايات التي نشير إلى بعضها :

١ ـ روى سماعة عن رجل تزوَّج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة ، فقال : إن كان ثقة فلا يقربها وان كان غير ثقة فلا يقبل منه(٢) .

٢ ـ وروى عيسى بن عبدالله الهاشمي عن أبيه ، عن جدّه عن عليعليه‌السلام ، قال : المؤذّن مؤتمن والإمام ضامن(٣) .

٣ ـ روى الصدوق وقال : قال الصادقعليه‌السلام في المؤذنين إنَّهم الاُمناء(٤) .

٤ ـ وروى أيضاً باسناده عن بلال ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ٧ كتاب الصوم ، الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان ، مضافاً إلى ما ورد في باب ٢٤ من أبواب الشهادات والباب ١٤ من أبواب كيفية الحكم.

٢ ـ الوسائل : الجزء ١٤ ، الباب ٢٣ من أبواب عقد النكاح واولياء العقد ، الحديث ٢.

٣ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الاذان والاقامة ، الباب ٣ ، الأحاديث ٢ ، ٦.

٤ ـ المصدر السابق.

١٥٩

عليه وآله ) يقول : المؤذنون اُمناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم(١) .

٥ ـ روى عمر بن يزيد قال : سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل ، فوضعت بعد موته غلاماً ، ثمَّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الارض ، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهلَّ وصاح حين وقع إلى الارض ، ثم مات ، قال : على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام(٢) .

٦ ـ وقد تضافرت الروايات على قبول قول المرأة الواحدة في ربع الوصية. روى الربعي عن أبي عبداللهعليه‌السلام في شهادة امرأة حضرت رجلاً يوصي ليس معها رجل ، فقال : يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها.(٣)

٧ ـ ويشعر بحجَّية قول المؤذّن الواحد ما رواه الفضل بن شاذان في ما ذكره من العلل لأمر الناس بالاّذان(٤) .

٨ ـ كما يشعر بذلك أيضاً ما رواه أحمد بن عبدالله القزويني عن أبيه في مذاكراته مع الفضل بن ربيع(٥) .

وهذه الروايات ( مع إمكان الخدشة في دلالة بعضها ) مع السيرة الرائجة بين العقلاء ، تشرف الفقيه إلى الاذعان بحجيَّة قول الثقة في الموضوعات كحجّية قوله في الاحكام ، إلا ما خرج بالدليل ، كباب القضاء والمرافعات وهلال الشهر ، والتَّفصيل موكول إلى محلّه(٦) .

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الأذان والإقامة ، الباب ٣ ، الحديث ٧.

٢ ـ الوسائل : الجزء ١٨ أبواب الشهادات ، الباب ٢٤ ، الحديث ٦.

٣ ـ الوسائل : الجزء ١٣ كتاب الوصايا ، الباب ٢٢ ، الحديث ١ إلى ٥.

٤ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الأذان والاقامة ، الباب ١٩ ، الحديث ١٤.

٥ ـ الوسائل : الجزء ٣ أبواب المواقيت ، الباب ٥٩ ، الحديث ٢.

٦ ـ ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مقباس الهداية في علم الدراية : ٨٨ ـ ٩٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530