كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال11%

كليات في علم الرجال مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 530

كليات في علم الرجال
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149094 / تحميل: 5395
الحجم الحجم الحجم
كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفصل الثامن

في فرق الشيعة الواردة في الكتب

* الكيسابية والزيدية.

* الناووسية والاسماعيلية.

* الفطحية والواقفية.

* الخطابية والمغيرية.

* الغلاة.

٤٠١
٤٠٢

ربما يضعف الراوي لاجل انتمائه إلى بعض فرق الشيعة كالكيسانية والفطحية والواقفية ، كما يضعف من غير جانب العقيدة ككونه متساهلاً في الرواية ، غير ضابط في النقل ، إلى غير ذلك من موجبات التضعيف في جانب العمل ، ولاجل ايقاف القارئ على مبدأ تكوّن هذه الفرق وعقائدها إجمالاً عقدنا هذا الفصل ، ليكون القارئ على بصيرة عند الوقوف على اسماء هذه الفرق. نعم اكثر هذه الفرق بائدة هالكة ، لم يبق منهم إلا الزيدية والاسماعيلية ، وانما تشكل اكثرية الشيعة ، الفرقة الإمامية التي تطلق عليها الاثنا عشرية أيضاً.

الشيعة هم المسلمون الذين بقوا على ما عهد اليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من كون الإمام بعده علي بن ابي طالبعليه‌السلام وان ذلك المنصب ، منصب يعين صاحبه من عند الله سبحانه ، كما ان منصب النبوة كذلك.

وليست الشيعة فرقة حادثة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر الفرق التي تكونت بعد النبي في ظل الابحاث الكلامية.

ان المسلمين اختلفوا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة الإمامة ، فذهبت عدة كثيرة منهم إلى ان الإمامة سياسة زمنية تناط باختيار العامة

٤٠٣

وينتصب بنصبهم ، وذهبت عدة اخرى إلى انها قضية اصولية وهي ركن الدين ، ولا يجوز للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اغفاله واهماله ولا تفويضه إلى العامة ، واستدلوا على ذلك بما ورد في الكتاب حول الإمامة ، وما سمعوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الدار ويوم الغدير وغيرهما من المقامات.

واما تسميتهم بالشيعة فانما هو لاجل ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سمى محبي علي بن ابي طالب ومقتفيه شيعة. روى السيوطي في تفسير قوله سبحانه :( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية ) (١) اخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال : كنا عند النبي ، فاقبل علي ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ». ونزل( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية ) . فكان اصحاب النبي إذا اقبل علي قالوا : « جاء خير البرية » واخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابي سعيد مرفوعاً : « علي خير البرية ».

وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت( انّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : « أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ».

واخرج ابن مردويه عن علي ، قال : قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألم تسمع قول الله( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية ) انت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جيئت الامم للحساب تدعون غراً محجّلين »(٢) .

والحاصل ؛ ان الشيعة على وجه الاجمال هم الذين بقوا على ما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق الوصي ولم يغيروا طريقه ، فالشيعة ليست

__________________

١ ـ البيّنة : ٧.

٢ ـ الدر المنثور تأليف الحافظ جلال الدين السيوطي : ٦ / ٣٧٩ ـ والمراد المحجلين هو المشرقون والمضيئون.

٤٠٤

فرقة مختلقة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يخلقهم السياسات الزمنية ، ولا الابحاث الكلامية ، بل لم تتكوّن الشيعة إلا في نفس عصر النبي ، فبقوا على ما كان النبي عليه وان كانوا من حيث العدد قليلين.

هذا هو اصل الشيعة الذي يجمع جميع فرقها الاعتقاد بأن الإمامة قضية اصولية غير مفوضة إلى الامة ، بل إلى الله سبحانه وتعالى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نعم تفرقت الشيعة حسب مرور الزمان وحسب السياسات الوقتية والابحاث الكلامية إلى فرق مختلفة ، غير انه لم يبق من تلك الفرق إلا ثلاث فرق وهم : الإمامية ، الزيدية ، والاسماعيلية ، والفرقة الشاخصة من بينها هي الإمامية المعتقدة بامامة الائمة الاثني عشر ، اولهم علي بن ابي طالب فالحسن ، فالحسين ، فعلي بن الحسين ، فمحمد بن علي ، فجعفر بن محمد ، فموسى بن جعفر ، فعلي بن موسى ، فمحمد بن علي ، فعلي بن محمد ، فالحسن بن علي ، فمحمد بن الحسن القائم الذي يملأ الله به الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ـ صلوات الله عليهم اجمعين ـ.

فكلما اطلقت الشيعية في زماننا تنصرف إلى الشيعة الإمامية ، اما غيرهم كالزيدية والاسماعيلية فيحتاج إلى قرينة.

نعم كانت الفرق الشيعة الاخرى موجودة في عصر الائمة وبعده ، ولاجل ذلك جاء اسماء عدة من فرق الشيعة في اسناد الروايات ، فلاجل ذلك نبحث عن الفرق الشائعة الرائجة في عصرهمعليهم‌السلام وبعده بقليل ، وان شرب عليهم الدهر وابادتهم واهلكتهم ، فلم يبق منهم اثر في الأزمنة الاخيرة ، واليك بيانها :

١ ـ الكيسانية

قيل : ان كيسان مولى امير المؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام .

٤٠٥

وقيل : هو المختار بن ابي عبيدة الثقفي ، وعلى كل تقدير ، هم الذين يعتقدون بامامة محمد بن الحنفية بعد امير المؤمنينعليه‌السلام وقيل لا بل بعد الحسن والحسين وكان كيسان يدعو الناس اليه وقد نسب إلى تلك الفرقة عقائد سخيفة في كتاب الملل والنحل(١) .

قال ابو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي :

والكيسانية يرجع محصَّلها إلى فرقتين : احداهما تزعم ان محمد بن الحنفية حي لم يمت ، وهم على انتظاره ويزعمون انه المهدي المنتظر ، والفرقة الثانية منهم يقرّون بامامته في وقته وبموته ، وينقلون الإمامة بعد موته إلى غيره ويختلفون بعد ذلك في المنقول اليه(٢) .

وكان السيد الحميري ايام عدم استبصاره يذهب مسلك الكيسانية ، وان رجع عنه واستبصر ، وقد قال في ذلك الزمان اشعاره التالية :

إلاّ ان الائمة من قريش

ولاة الحق ، اربعا سواء

علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء(٣)

ثم ان الكيسانية تفرقوا إلى هاشمية ، إلى بيانية ، إلى رزامية ، ولا حاجة إلى البحث عن عقائدهم ومن اراد فليراجع إلى محالها.

٢ ـ الزيدية

وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام عدلوا عن إمامة الإمام الباقرعليه‌السلام إلى إمامة أخيه « زيد » وهم ساقوا الإمامة في أولاد فاطمةعليها‌السلام ولم يجوّزوا

__________________

١ ـ الملل والنحل : ١ / ١٤٧.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ٢٣.

٣ ـ الملل والنحل : ١٥٠ ـ ١٩٠.

٤٠٦

ثبوت الإمامة في غيرهم ، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخيّ خرج بالإمامة ، إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسينعليهما‌السلام ، ولمّا قتل زيد بن علي وصلب سنة ١٢١ هـ ، قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ومضى إلى خراسان واجتمعت عليه جماعة كثيرة ، وقد وصل اليه الخبر من الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام بأنه يقتل كما قتل أبوه ، ويصلب كما صلب أبوه ، فجرى عليه الأمر كما اُخبر في سنة ١٢٦ هـ ، وقد فوَّض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم اللَّذين خرجا بالمدينة ، ومضى إبراهيم الى البصرة واجتمع الناس عليه وقتل أيضا.

فزيد بن علي قتل بكناسة الكوفة ، قتله هشام بن عبد الملك ، ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان ، قتله أميرها ، ومحمد الإمام قتل بالمدينة ، قتله عيسى بن ماهان ، وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة أمر بقتله المنصور.

والزيدية أصناف ثلاثة : الجارودية ، والسليمانية ، والبترية. والصالحية منهم والبترية على مذهب واحد.

الف ـ الجارودية : أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر ، وقد نقل عنهم الشهرستاني بأنهم زعموا أن النبي نصّ على علي بالوصف دون التسمية ، وقد خالفوا في هذه المقالة إمامهم زيد بن علي ، فانه لم يعتقد هذا الاعتقاد وقد وردت في ذمّ أبي الجارود روايات في رجال الكشي(١) .

قال النجاشي : « زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني الخارفي كان من أصحاب أبي جعفر وروى عن أبي عبداللهعليهما‌السلام وتغيَّر لمّا خرج زيد ( رضي الله عنه ) إلى أن قال : له تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفرعليه‌السلام »(٢) وتفسيره هذا هو الذي بثّه تلميذ القمي في تفسيره ، كما

__________________

١ ـ رجال الكشي : الرقم ١٠٤.

٢ ـ رجال النجاشي : الرقم ٤٤٨.

٤٠٧

أوضحنا حاله ، والرجل انحرف عن إمامة أبي جعفر بعد خروج زيد أخيه ، وأسَّس فرقة الجارودية.

ب ـ السليمانية : وهم أصحاب سليمان بن جرير ، وكان يقول : إن الإمامة شورى في ما بين الخلق ، ويصحّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وأنها تصحّ في المفضول مع وجود الافضل ، وقالوا إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي ( رضي الله عنه ) خطأ لا يبلغ درجة الفسق ، وذلك الخطأ خطأ اجتهادي ، غير أنه طعن في عثمان للأحداث التي أحدثها وكفرّه بذلك.

ج ـ الصالحية والبترية : الصالحية ، أصحاب الحسن بن صالح بن حيّ ، والبترية ، أصحاب كثير ، وهما متّفقان في المذهب وقولهم في الإمامة كقول السليمانية ، إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان أهو مؤمن أم كافر(١) .

قال عبد القاهر بن طاهر البغدادي : « فأما الزيدية فمعظمها ثلاث فرق وهي : الجارودية والسليمانية وقد يقال الجريرية أيضاً ، والبترية ، وهذه الفرق الثلاث يجمعها القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين في أيام خروجه ، وكان ذلك في زمن هشام بن عبد الملك »(٢) .

ثم إن النوبختي مؤلف « فرق الشيعة » وهو من أعلام القرن الثالث ذكر فرق الزيدية في كلام مبسوط(٣) .

٣ ـ الناووسية

وهم الذين قالوا إن جعفر بن محمدعليهما‌السلام حيّ لم يمت ولا يموت حتى يظهر ويلي اُمور الناس ، وأنه هو المهديعليه‌السلام وزعموا

__________________

١ ـ راجع فيما نقلناه حول الزيدية إلى الملل والنحل : ١ / ١٥٤ ـ ١٦١.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ٢٢.

٣ ـ لاحظ : الصفحة ٣٨ من « فرق الشيعة ».

٤٠٨

أنهم رووا عنه أنه قال : « إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدّقوه ، فإني أنا صاحبكم » وأنه قال لهم : « ان جاءكم من يخبركم عنّي أنه غسلني وكفنني فلا تصدّقوه ، فإني صاحبكم صاحب السيف » وهذه الفرقة تسمّى الناووسية ، وسمّيت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس(١) .

وقال عبد القاهر : وهم أتباع رجل من أهل البصرة كان ينتسب إلى « ناووس » بها وهم يسوقون الإمامة إلى جعفر الصادق بنصّ الباقر عليه وأنه المهدي المنتظر(٢) .

وقال الشهرستاني قريباً منه ; غير أنه قال : « هم أتباع رجل يقال له ناووس »(٣) .

٤ ـ الإسماعيلية

هم طائفة يقولون إن الإمام بعد جعفر الصادقعليه‌السلام هو ابنه اسماعيل ، إلا أنهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه ، فمنهم من قال : لم يمت إلا أنه أظهر موته تقيّة من خلفاء بني العباس ، ومنهم من قال : موته صحيح ، والنصّ لا يرجع قهقري ، والفائدة في النصّ بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيرهم ، فالإمام بعد اسماعيل هو محمد بن اسماعيل ، وهؤلاء يقال لهم المباركية. ثم منهم من وقف على محمد بن اسماعيل وقال برجعته بعد غيبته.

ومنهم من ساق الإمامة في المستورين منهم ، ثمَّ في الظاهرين القائمين

__________________

١ ـ فرق الشيعة : ٧٨.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ٦١.

٣ ـ الملل والنحل : ١ / ١٦٦.

٤٠٩

من بعدهم وهم الباطنية(١) .

قال عبد القاهر البغدادي : « إن الاسماعيلية ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمام بعده اسماعيل وافترق هؤلاء فرقتين :

فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت اسماعيل في حياة ابيه ، وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر ، سبطه محمد بن اسماعيل بن جعفر ، حيث إن جعفراً نصب أبنه اسماعيل للإمامة بعده ، فلمّا مات اسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه اسماعيل ، للدلالة على إمامة ابنه محمد بن اسماعيل وإلى هذا القول مالت الاسماعيلية من الباطنية »(٢) .

قال النوبختي : « فرقة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد ، ابنه اسماعيل بن جعفر وأنكرت موت اسماعيل في حياة أبيه ، وقالوا : كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس ، لأنه خاف فغيَّبه عنهم ، وزعموا أن اسماعيل لا يموت حتى يملك الارض ويقوم بأمر الناس ، وأنه هو القائم لأن أباه اشار اليه بالإمامة بعده ، وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبه ، والإمام لا يقول إلا الحق ، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق وأنه القائم وأنه لم يمت وهذه الفرقة هي الاسماعيلية الخالصة »(٣) .

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى أن الإمام حسب عقيدة الشيعة الإمامية لم يقل بإمامة اسماعيل قطّ ، وإنما الناس كانوا يزعمون ذلك لكبره وما تسالموا عليه من أن الأمر في الأكبر ما لم يكن به عاهة.

__________________

١ ـ الملل والنحل : ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ٦٣.

٣ ـ فرق الشيعة : ٨٩.

٤١٠

٥ ـ الفطحية أو الافطحية

وهم الذين يقولون بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه عبدالله الافطح ، وهو اخو اسماعيل من ابيه وامه وكان اسن اولاد الصادق ، زعموا انه قال : الإمامة في اكبر اولاد الإمام ، وهو ما عاش بعد ابيه إلا سبعين يوماً ومات ولم يعقب له ولداً ذكرا(١) .

سماهم عبد القاهر في « الفرق بين الفرق » باسم العمارية ، وهم منسوبون إلى زعيم منهم يسمى عمارين ، وهم يسوقون الأمامة إلى جعفر الصادقعليه‌السلام ثم زعموا ان الإمام بعده ولده عبدالله وكان اكبر اولاده ولهذا قيل لاتباعه « الأفطحية »(٢) .

وقال النوبختي : « هذه الفرقة هي القائلة بامامة عبدالله بن جعفر ، وسموا الفطحية لأن عبدالله كان افطح الرأس ( عريضه ) ـ إلى ان قال : ومال إلى هذه الفرقة جلّ مشايخ الشيعة وفقهائهم ولم يشكّوا في ان الأمامة في عبدالله بن جعفر وفي ولده من بعده ، فمات عبدالله ولم يخلف ذكراً ، فرجع عامة الفطحية عن القول بامامته سوى قليل منهم إلى القول بامامة موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، وقد كان رجع جماعة منهم في حياة عبدالله إلى موسى بن جعفرعليهما‌السلام ثم رجع عامتهم بعد وفاته عن القول به ، وبقي بعضهم على القول بامامته ، ثم امامة موسى بن جعفر من بعده وعاش عبدالله بن جعفر بعد ابيه سبعين يوماً او نحوها »(٣) .

__________________

١ ـ الملل والنحل : ١ / ١٦٧.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ٦٢.

٣ ـ فرق الشيعة : ٨٨ ـ ٨٩.

٤١١

٦ ـ الواقفة

وهم الذين ساقوا الامامة إلى جعفر بن محمد ، ثم زعموا ان الإمام بعد جعفر كان ابنه موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، وزعموا ان موسى بن جعفر حي لم يمت ، وانه المهدي المنتظر ، وقالوا انه دخل دار الرشيد ولم يخرج منها وقد علمنا امامته وشككنا في موته فلا نحكم في موته إلا بتعيين ، هذا مع ان مشهد موسى بن جعفر معروف في بغداد(١) .

وقال الشهرستاني : « كان موسى بن جعفر هو الذي تولى أمر الصادق وقام به بعد موت ابيه ورجع اليه الشيعة واجتمعت عليه مثل المفضل بن عمر وزرارة بن اعين وعمار الساباطي ، ثم ان موسى لما خرج واظهر الإمامة حمله هارون الرشيد من المدينة ، فحبسه عند عيسى بن جعفر ، ثم اشخصه إلى بغداد عند السندي بن شاهك ، وقيل ان يحيى بن خالد بن برمك سمه في رطب فقتله ، ثم اخرج ودفن في مقابر قريش واختلفت الشيعة بعده ـ إلى ان قال : ومنهم من توقف عليه وقال : انه لم يمت وسيخرج بعد الغيبة ويقال لهم الواقفية »(٢) .

وقال النوبختي : « ان وجوه اصحاب ابي عبدالله ثبتوا على امامة موسى بن جعفر ، حتى رجع إلى مقالتهم عامة من كان قال بامامة عبدالله بن جعفر فاجتمعوا جميعاً على امامة موسى بن جعفر ، ثم ان جماعة المؤمنين بموسى بن جعفر بعد ما مات موسى في حبس الرشيد صاروا خمس فرق ، فمن قال مات ورفعه الله اليه وأنه يردّه عند قيامه فسمّوا هؤلاء الواقفية »(٣) .

غير أن هؤلاء لم يشيروا إلى أنه كيف برزت تلك الفرقة ولكنَّ أبا عمرو

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق : ٦٣.

٢ ـ الملل والنحل : ١ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

٣ ـ فرق الشيعة : ٨٩ ـ ٩١.

٤١٢

الكشي صاحب الرجال المعروف قد كشف الستر عن كيفية نشوء هذه الفرقة وقال ما هذا خلاصته : « كان بدء الواقفية انه كان اجتمع ثلاثون الف رجل عند الاشاعثة لزكاة اموالهم وما كان يجب عليهم فيها ، فحملوها إلى وكيلين لموسى بن جعفرعليهما‌السلام بالكوفة ، احدهما حنان السراج وآخر كان معه ، وكان موسىعليه‌السلام في الحبس ، فاتخذا بذلك دوراً وعقاراً واشتريا الغلات ، فلما مات موسىعليه‌السلام وانتهى الخبر اليهما ، انكرا موته واذاعا في الشيعة انه لا يموت ، لانه القائم ، فاعتمدت عليهما طائفة من الشيعة وانتشر قولهما في الناس حتى كان عند موتهما اوصيا بدفع المال إلى ورثة موسىعليه‌السلام واستبان للشيعة انهما انما قالا ذلك حرصاً على المال »(١) .

واعلم ان اطلاق الوقف ينصرف إلى من وقف على الكاظمعليه‌السلام ولا ينصرف إلى غيرهم إلا بالقرينة. نعم ربما يطلق على من وقف على الكاظم من الائمة في زمانهعليه‌السلام ، ويستفاد من الروايات المروية في رجال الكشي في ترجمة يحيى بن أبي القاسم اطلاق الوقف في حال حياة الكاظمعليه‌السلام (٢) .

وبهذا يعلم ان الواقفية صنفان ، صنف منهم وقفوا على الكاظم في زمانه واعتقدوا كونه قائم آل محمدعليهم‌السلام وماتوا في زمانه كسماعة ، وصنف وقفوا عليه بعد موته ولا يصح تضليل من وقف على الكاظم في زمان حياته لشبهة حصلت له ، لانه عرف إمام زمانه.

وها هنا كلمة قيمة للوحيد البهبهاني ، يرشدنا إلى علة حصول شبهة الوقف في بعض الشيعة وهو ان الشيعة من فرط حبهم دولة الائمة وشدة تمنيهم اياها وبسبب الشدائد والمحن التي كانت عليهم وعلى ائمتهم ، كانوا دائماً

__________________

١ ـ رجال الكشي : ٣٩٠ ، الرقم ٣٢٩.

٢ ـ رجال الكشي : ٤٠٢ ـ ٤٠٣ ، الرقم ٣٤٦ و ٣٤٧.

٤١٣

مشتاقين إلى دولة قائم آل محمدعليهم‌السلام ، متوقعين لوقوعه عن قريب ، ولاجل ذلك قيل ان الشيعة تربي بالاماني ، ومن ذلك انهم كانوا كثيراً ما يسألون عن ائمتهم عن قائمهم ، فلربما قال واحد منهم فلان ـ يعني الذي يجيء بعد ـ تسلية لخواطرهم ، تصوروا ان المراد هو الذي يجيء بعد ذلك الإمام بلا فاصلة وهم من فرط ميل قلوبهم وزيادة حرصهم ربما كانوا لا يتفطنون(١) .

٧ ـ الخطابية

وهم فرقة يتظاهرون بالوهية الإمام الصادقعليه‌السلام وان ابا الخطاب ـ اعني محمد بن مقلاص ابا زينب الأسدي الكوفي الأجدع ، البزاز ـ نبي مرسل ، أمر الصادقعليه‌السلام بطاعته وهم احلوا المحارم وتركوا الفرائض ، وقد اورد الكشي في رجاله روايات كثيرة في ذمه وقد قتله عيسى بن موسى صاحب المنصور في الكوفة.

روى الكشي عن عيسى بن ابي منصور قال : سمعت ابا عبداللهعليه‌السلام عندما ذكر ابو الخطاب عنده فقال : اللّهم العن ابا الخطاب فانه خوفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي ، اللّهم اذقه حر الحديد.

وقد نقل عن إبراهيم بن ابي اسامة قال : قال رجل لابي عبداللهعليه‌السلام : اُؤخر المغرب حتى تستبين النجوم؟ فقال : خطابية ان جبرائيل انزلها على رسوله حين سقط القرص.

ونقل أيضاً عن يونس بن عبد الرحمن ، عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال : كتب ابو عبدالله إلى ابي الخطاب بلغني انك تزعم ان الزنا رجل ، وان الخمر رجل ، وان الصلاة رجل ، والصيام رجل ، والفواحش رجل وليس هو كما تقول. انا اصل الحق ، وفروع الحق طاعة الله ، وعدونا اصل الشر ،

__________________

١ ـ الفرائد الرجالية ، الفائدة الثانية : ٤٠.

٤١٤

وفروعهم الفواحش ، كيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع؟(١) .

ثم ان الخطابية لما بلغهم ان جعفر بن محمدعليهما‌السلام لعنه وبرأ منه ومن اصحابه تفرقوا اربع فرق.

قال الشهرستاني : « ان ابا الخطاب عزى نفسه إلى ابي عبدالله جعفر بن محمد الصادق ولما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه ، تبرأ منه ولعنه وأمر اصحابه بالبراءة منه ، وشدد القول في ذلك ، وبالغ في التبري منه واللعن عليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه ».

ثم ذكر قسماً من ارائه الفاسدة والفرق المنتمية اليه(٢) .

٨ ـ المغيرية

وهم اتباع المغيرة بن سعيد العجلي خرج بظاهر الكوفة في امارة خالد بن عبدالله القسري فظفر به فاحرقه واحرق اصحابه سنة ١١٩ هـ(٣) .

روى الكشي عن الرضاعليه‌السلام : « كان المغيرة بن سعيد يكذب على ابي جعفر فاذاقه الله حر الحديد ».

وروى عن ابن مسكان عمن حدثه من اصحابنا عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لعن الله المغيرة بن سعيد ، انه كان يكذب على ابي فاذاقه الله حر الحديد ، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في انفسنا ولعن الله من ازالنا عن العبودية لله الذي خلقنا واليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا »(٤) .

وروى أيضاً عن يونس بن عبد الرحمن ان بعض اصحابنا سأله وانا حاضر

__________________

١ ـ راجع في هذه الروايات واضرابها ; رجال الكشي : ٢٤٦ ، رقم الترجمة ١٣٥.

٢ ـ الملل والنحل : ١ / ١٧٩ ـ ١٨١.

٣ ـ تاريخ الطبري : ٥ / ٤٥٦ تحت عنوان : خروج المغيرة بن سعيد في نفر وذكر الخبر عن مقتلهم.

٤ ـ رجال الكشي : ١٩٥ ـ ١٩٦ ، رقم الترجمة ١٠٣.

٤١٥

فقال له : يا ابا محمد ما اشدك في الحديث واكثر انكارك لما يرويه اصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الاحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم انه سمع ابا عبداللهعليه‌السلام يقول : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة او تجدون معه شاهداً من احاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب اصحاب ابي احاديث لم يحدث بها ابي ».

وروى الكشي عن يونس قال : « وافيت العراق فوجدت بها قطعة من اصحاب ابي جعفرعليه‌السلام ووجدت اصحاب ابي عبداللهعليه‌السلام متضافرين فسمعت منهم واخذت كتبهم فعرضتها بعد على ابي الحسن الرضاعليه‌السلام فانكر منها احاديث كثيرة ان تكون احاديث ابي عبداللهعليه‌السلام وقال لي : ان ابا الخطاب كذب على ابي عبداللهعليه‌السلام ، لعن الله ابا الخطاب وكذلك اصحاب ابي الخطاب يدسون هذه الاحاديث إلى يومنا هذا في كتب اصحاب ابي عبدالله ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ».

وروى أيضاً عن يونس عن هشام بن الحكم انه سمع ابا عبداللهعليه‌السلام يقول : « كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على ابي ويأخذ كتب اصحابه ، وكان اصحابه المستترون باصحاب أبي يأخذون الكتب من اصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى ابي ، ثم يدفعها إلى اصحابه فيأمرهم ان يبثوها في الشيعة ، فكل ما كان في كتب اصحاب ابي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم »(١) .

وهذه الاحاديث تعطي بوضوح ان الدس كان يرجع إلى الغلوّ في الفضائل والمغالاة ، كما يصرح به قوله : « فكان يدس فيها الكفر والزندقة » وقوله :

__________________

١ ـ راجع رجال الكشي : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤١٦

« فكل ما كان في كتب اصحاب ابي من الغلو » وكانت الاحاديث المروية حول الفروع والاحكام محفوظة عن الدس.

قال النوبختي : « اما المغيرية اصحاب المغيرة بن سعيد فانهم نزلوا معهم ( مع الزيدية ) إلى القول بامامة محمد بن عبدالله بن حسن وتولوه واثبتوا امامته ، فلما قتل صاروا لا إمام لهم ولا وصي ولا يثبتون لاحد امامة بعده »(١) .

وما ذكره النوبختي يكشف عن وجه عداوته للامام الباقرعليه‌السلام ، فان الزيدية ومن لف لفهم يعتقدون بامامة زيد بن علي بعد الحسين ، ثم امامة يحيى بن زيد بن علي ، وبعده بامامة عيسى بن زيد بن علي ، ثم بامامة محمد بن عبدالله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية المقتول في المدينة سنة ١٤٥.

والرجل لانحرافه عن الامام الباقر كان يدس في كتب اصحابه ليشوه سمعته بادخال الاحاديث الحاكية عن المغالاة في الفضائل(٢) .

٩ ـ الغلاة

وهم الذين غلوا في حق النبي وآله حتى اخرجوهم من حدود الخليقة ، والخطابية والمغيرية من هذه الصنوف غير ان كثرة ورودهم على السن الائمة وفي طيات الاحاديث صارت سبباً لعنوانهم مستقلين وان كان الكل داخلاً تحت هذا العنوان ( الغلاة ).

ثم ان الغلاة صنوف قد عدهم الشهرستاني احد عشر صنفاً منهم : السبائية ، الكاملية ، العليائية ، المغيرية ، المنصورية ، الخطابية ، الكيالية ، الهشامية ، النعمانية ، اليونسية ، النصيرية ( الاسحاقية ) ثم ذكر آراءهم وعقائدهم(٣) .

__________________

١ ـ فرق الشيعة : ٧١ ـ ٧٢.

٢ ـ راجع في تفسير احواله : الملل والنحل : ١ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

٣ ـ لاحظ الملل والنحل : ١ / ١٧٤ ـ ١٩٠.

٤١٧

اقول : ما ذكره من الصنوف وما نسب إليهم من الآراء السخيفة غير ثابت جدّاً ، خصوصاً ما زعم من الفرقة السبائية التي أصبحت اسطورة تاريخية اختلقها بعض المؤرّخين ونقلها الطبري بلا تحقيق وأخذ عنه الآخرون وهكذا ساق واحد بعد واحد(١) .

ويتلوه في البطلان ما نسبه إلى هشام بن حكم من الآراء كالتشبيه وغيره ، فإن هذه الآراء ممّا يستحيل أن ينتحل بها تلميذ الإمام الصادقعليه‌السلام الذي تربّى في أحضانه ، ومن الممكن جدّاً ، بل هو الواقع أن رمي هشام بهذه الآراء إنما جاء من جانب المخالفين والحاسدين لفضله والمنكرين لفضل بحثه ، فلم يجدوا مخلصاً إلا تشويه سمعته بنسبة الأقاويل الباطلة اليه(٢) .

ومثله ما نسبه إلى محمد بن نعمان أبي جعفر الاحول الملقّب بمؤمن الطاق وإن لقَّبه مخالفوه بشيطان الطاق عصياناً لقوله سبحانه :( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ) الحجرات : ١١.

هذه ليست أول قارورة كسرت في التاريخ ، بل لها نظائر وأماثل كثيرة ، فكم من رجال صالحين شوَّه التاريخ سمعتهم ، وكم من أشخاص طالحين قد وزن لهم التاريخ بصاع كبير ، وعلى أي تقدير فلا نجد لأكثر هذه الفرق بل جميعها مصداقاً في أديم الارض ، ولو وجد من الغلاة من الطراز الذي ذكره الشهرستاني في الجوامع الاسلامية ، فإنما هي فرقة العلياوية وهم الذين يقولون بربوبية علي بن أبي طالبعليه‌السلام وربما يفسر النصيرية أيضا بهذا المعنى(٣) .

__________________

١ ـ لاحظ كتاب عبدالله بن سبأ للعلاّمة السيد مرتضى العسكري.

٢ ـ انظر كتاب هشام بن حكم للعلاّمة الشيخ نعمة ، فقد ألف كتاباً في ترجمة هشام بن حكم ونزه ساحته عن تلك المغالاة.

٣ ـ نقله العلاّمة المامقاني عن بعض معاصريه. لاحظ مقباس الهداية : ١٤٦.

٤١٨

قال الكشي : « وقالت فرقة بنبّوة محمد بن نصير الفهري النميري ، وذلك أنه ادّعى أنه نبي رسول ، وأن علي بن محمد العسكري أرسله ، وكان يقول بالتناسخ والغلوّ في أبي الحسن الهاديعليه‌السلام ويقول فيه بالربوبية ـ إلى آخر ما قاله »(١) .

وقال النوبختي : « فرقة من القائلين بامامة علي بن محمد في حياته قالت بنبوَّة رجل يقال له محمد بن نصير النميري ، وكان يدَّعي أنه نبي بعثه أبو الحسن العسكري ، وكان يقول بالتناسخ والغلوّ في أبي الحسن الهادي ، ويقول فيه بالربوبية ويقول بالاباحة للمحارم »(٢) .

وعلى كل تقدير ، فلا جدوى في البحث عن الغلاة على النحو الذي ذكره الشهرستاني وغيره في كتابه ، فان الرواة الواردين في أسناد الروايات ، منزهون عن الغلوّ بهذا المعنى الذي يوجب الخروج عن التوحيد والاسلام ، ويلحق الرجل بالكفار والمشركين ، كالقول بالربوبية ورسالة غير نبيّنا أو غير ذلك.

نعم وصف عدَّة من الرواة بالغلوّ والمغالاة ووقعوا في أسناد الروايات ، فيجب البحث عن هذا الطراز من الغلوّ لأن وضع كتابنا لا يقتضي إلا البحث فيما يرجع إلى الرواة والرجال الذين جاءت أسماؤهم في أسناد الروايات.

التفويض ومعانيه

إن الفرقة المعروفة بالغلوّ هي فرقة المفوّضة ، غير أنه يجب تحقيق معناها حتى يتبين الصحيح عن الزائف فنقول : إن التفويض يفسر بوجوه :

الأول : تفويض خلقة العالم إلى النبي والأئمةعليهم‌السلام وأنهم هم الخالقون والرازقون والمدبرون للعالم.

__________________

١ ـ رجال الكشي : ٤٣٨.

٢ ـ فرق الشيعة : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٤١٩

وغير خفيّ أن التفويض بهذا المعنى شرك على وجه ، وباطل على وجه آخر. فلو قالوا بأن الله سبحانه فوض أمر الخلق والتدبير اليهمعليهم‌السلام واعتزل هو عن كل شيء ، فهذا هو الشرك والكفر ، يخالفه العقل والبرهان ، ويضادّه صريح الآيات. قال سبحانه( بديع السموات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ) الانعام : ١٠١ ـ ١٠٢.

وقال سبحانه :( إنَّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) يونس : ٣.

ولو زعموا أن النبي والأئمة من جملة الأسباب لخلق العالم وتدبيره ، وأن الفاعل الحقيقي والسبب الواقعي هو الله سبحانه ، وهو لم يعتزل بعد ، وإنما جعلهم في مرتبة الاسباب والعلل ، فهذا القول وإن كان لا يوجب الشرك ، لكنه غير صحيح ، فان النبي والأئمةعليهم‌السلام ليسوا من أسباب الخلقة ، بل هم يستفيدون من تلك الاسباب الطبيعية وتتوقف حياتهم على وجود العلل والأسباب المادية ، فكيف يكونون في مرتبة العلل والأسباب؟ فالنبي والإمام يستنشقان الهواء ، ويسدّان جوعهما بالطعام ، ويداويان بالادوية إلى غير ذلك من الاُمور التي يتصف بها كل الناس.

نعم إن للعالم الامكاني ظاهره وباطنه ، دنياه واُخراه مدبراً ومدبّرات يدبّرون الكون بأمره سبحانه كما ينبئ عنه قوله تعالى :( فالمدبّرات أمراً ) النازعات : ٥.

وقال سبحانه :( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) التحريم : ٦.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530