بحث حول المهدي (عج)

بحث حول المهدي (عج)0%

بحث حول المهدي (عج) مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 136

بحث حول المهدي (عج)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 136
المشاهدات: 12011
تحميل: 5598

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12011 / تحميل: 5598
الحجم الحجم الحجم
بحث حول المهدي (عج)

بحث حول المهدي (عج)

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المبحث الثالث

لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمره (عج)؟

٨١

٨٢

ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول:

لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتُعطَّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تُترَك قيادة اليوم الموعود لشخصٍ يتمخَّض عنه المستقبل، وتُنضجه إرهاصات اليوم الموعود، فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظَر.

وبكلمةٍ أُخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة، وما المبرّر لها؟

وكثيرٌ من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أنْ يسمعوا جواباً غيبيّاً، فنحن نؤمن بأنَّ الأئمّة الاثني عشر مجموعةٌ فريدة (1) ، لا يمكن التعويض عن

____________________

(1) إشارة إلى معتقد الإماميّة الاثني عشريّة المستند إلى أدلة المعقول والمنقول، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر (إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي) . راجع: صحيح مسلم 4: 1874 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89، قال: ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً.

وكذلك إلى قوله (ص): (لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...) ، وإلى قوله (ص): (الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش) . ومفاد ذلك كلّه تقرير هذا المعنى.

٨٣

أيِّ واحدٍ منهم، غير أنَّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسيرٍ اجتماعي للموقِف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها، والمتطلَّبات المفهومة لليوم الموعود.

وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقَّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين (1) ، ونطرح السؤال التالي:

إنَّنا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقَبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سُنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أنْ نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدَّخر عاملاً من عوامل إنجاحها، وتمكّنه من ممارستها وقيادتها بدرجةٍ أكبر؟

ونُجيب عن ذلك بالإيجاب؛ وذلك لعدّة أسباب، منها ما يلي:

إنَّ عملية التغيير الكبرى تتطلَّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها، مشحوناً بالشعور... بالتفوّق، والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أُعدَّ للقضاء عليها، وتحويلها حضاريّاً إلى عالمٍ جديد.

فبقدر ما يعمِّر قلبَ القائد المغيِّر من شعورٍ بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساسٍ واضحٍ بأنَّها مجرّد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر

____________________

(1) تحدّث النبيّ الأكرم محمد (ص) كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم، ووظيفتهم ومهمّاتهم، وأنّهم حَمَلة الشريعة، وسفن النجاة، وأمان الأمّة، وعصمتها من الضلال، كما إليه الإشارة في حديث الثقلين، وحديث لن يفترقا، وكلاهما يؤكّدان عصمتهم، إذ لا يعقل أنّهم عصمة الأمّة من الضلال، وأنّهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم، وهم غير معصومين!!

راجع في هذا المطلب: الأصول العامّة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحكيم / مبحث حجّية السنّة: ص 169 وما بعدها.

٨٤

قدرة من الناحية النفسية (1) على مواجهتها، والصمود في وجهها، ومواصلة العمل ضدّها حتى النصر، ومن الواضح أنَّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة و كيان، فكلَّما كانت المواجهة لِكيانٍ أكبر ولِحضارة أرسخ وأشمخ، تطلَّب زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعَم.

ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغييرَ عالمٍ مليءٍ بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكلِّ قيمه الحضارية وكياناته المتنوِّعة، فمن الطبيعي أنْ تفتِّش هذه الرسالة عن شخصٍ أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالَم كلّه، عن شخصٍ ليس من مواليد ذلك العالَم الذين نشؤوا في ظلِّ تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحقّ بها ; لأنَّ مَن ينشأ في ظلِّ حضارةٍ راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة اتِّجاهها ; لأنَّه ولِدَ وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.

وخلافاً لذلك، شخص يتوغَّل في التاريخ عاش الدنيا قبل أنْ ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالَم الواحدة تلو الأُخرى، ثمّ تداعت وانهارت (2) ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتابِ تاريخ..

____________________

(1) أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة، أمرٌ مفروغ منه، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه يتحدّث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جدّاً، وبخاصة فيما يتعلّق بالنبيّ نوح (ع)، وهو أمرٌ يلفت الانتباه والنظر، وربّما يكون للتشابه والاتّفاق في الدور والمهمة التي أُوكلت لهما، كما نبّه الشهيد الصدر (ره) إليه.

راجع: مع الأنبياء / عفيف عبد الفتاح طبارة.

(2) ويمكن أن نقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتّحاد السوفيتي وترقّيه حتى صار القطب الثاني في العالم، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية، وركبا معاً أجواء الفضاء، ثمّ شهدنا انهيار الاتّحاد السوفيتي، وتفكّك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عِبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟

٨٥

ثمّ رأى الحضارة التي يقدَّر لها أنْ تكوِّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيَّن..

ثمّ شاهدها وقد اتَّخذتْ مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر..

ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارةً، ويحالفها التوفيق تارةً أُخرى..

ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله، فإنَّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنةٍ وانتباهٍ كاملين، ينظر إلى هذا العملاق - الذي يريد أنْ يصارعه - من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه، لا في بطون كُتُب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) (1) إلى المَلَكيّة في فرنسا، فقد جاء عنه أنَّه كان يرعبه مجرّد أنْ يتصوّر فرنسا بدون مَلِك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكريّاً وفلسفيّاً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ; لأنَّ (روسو) هذا نشأ في ظلِّ المَلَكِيّة، وتنفَّس هواءها طيلة حياته، وأمّا هذا الشخص المتوغِّل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعَم بأنَّ ما حوله من كيانٍ وحضارةٍ وليد يومٍ من أيام التاريخ، تهيّأت له الأسباب فوجد، وستتهيّأ

____________________

(1) جان جاك روسو (1712 - 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي، اعتبره بعض النقّاد الوجه الأبعد نفوذاً في الأدب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة، وقد مهّدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية، وأشهر مؤلّفاته العقد الاجتماعي، راجع: موسوعة المورد / منير البعلبكيّ 8: 169.

٨٦

الأسباب فيزول فلا يبقى منه شيء، كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأنَّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.

هل قرأت سورة الكهف؟

وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدىً؟ (1) ، وواجهوا كياناً وثنيّاً حاكماً، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أيِّ بذرةٍ من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس، وسُدَّت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجؤوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أنْ أعيتهم الحلول، وكبر في نفوسهم أنْ يظلَّ الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ، ويصفّي كلَّ مَن يخفق قلبه للحقّ.

هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟

إنَّه أنامهم ثلاثمئة سنة وتسع سنين (2) في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أنْ كان ذلك الكيان الذي بَهَرَهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّك ساكناً، كلّ ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم، ويتصاغر الباطل في نفوسهم.

ولئن تحقَّقتْ لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخمٍ وشموخٍ نفسيَّين، من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدَّد حياتهم ثلاثمئة سنة، فإنَّ

____________________

(1) إشارة إلى الآية القرآنية المباركة: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً... ) الكهف: 13، وراجع تفسيرها في الكشّاف / الزمخشري 2: 706، نشر دار الكتاب العربي - بيروت.

(2) إشارة إلى الآية: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا... ) الكهف: 25.

٨٧

الشيء نفسه يتحقَّق للقائد المنتظَر، من خلال عمره المديد الذي يُتيح له أنْ يشهد العملاق وهو قِزم، والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرّد نسمة (1) .

أضف إلى ذلك، أنَّ التجربة التي تُتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوّراتها، لها أثرٌ كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخِبرة القيادية لليوم الموعود ; لأنَّها تضع الشخص المدَّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوّة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التاريخية.

ثمّ إنّ عملية التغيير المدَّخرة للقائد المنتظَر تقوم على أساس رسالة معيَّنة هي: رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أنْ تتطلَّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأُولى، قد بُنِيتْ شخصيَّته بناءً كاملاً بصورةٍ مستقلَّة ومنفصلة عن مؤثِّرات الحضارة التي يُقدَّر لليوم الموعود أنْ يحاربها.

وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولَد وينشأ في كَنَفِ هذه الحضارة، وتتفتَّح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنَّه لا يتخلَّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإنْ قاد حملة تغييريّة ضدها.

فلكي يُضمن عدم تأثّر القائد المدَّخر بالحضارة التي أُعدَّ لاستبدالها، لابدّ أن تكون شخصيته قد بُنِيتْ بناءً كاملاً في مرحلةٍ حضاريةٍ سابقة، هي أقرب ما

____________________

(1) وكلّ ذلك له مدخليّة في تربيته، وإعداده الإعداد الخاص، بما في ذلك امتلاكه النظرة الشمولية العميقة، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً، ويسترهبون الناس، وهذا الشهود يؤهّله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير، أي ملئه للأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً، هذا بغمض النظر عن مؤهّلاته الذاتية، والعناية الربّانيّة الخاصة.

٨٨

تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتَّجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته (1) .

____________________

(1) ولا ينبغي أن يُشكِل أحدٌ بأنّ النبيّ محمد (ص) مع عالمية رسالته ومهمّته التغييرية الكبرى، إلاّ أنّه عاش في كنف الحضارة الجاهلية، ولم يتأثر بها، وكذا الأنبياء السابقون، فما هو الوجه في هذا الرأي؟

فجوابه:

أ - إنّ النبيّ (ص) قد أُخضع فعلاً إلى حالة عزلة تامة عن الحضارة الجاهلية، وأنّه كما ورد في السيرة النبوية قد حُبّب إليه الخلاء، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنّث فيه، وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عمّا عليه مجتمعهم، وكانوا يعتزلون، وإليه الإشارة في قوله تعالى: ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) مريم: 49.

ب - إنّ النبيّ المرسل يُوحى إليه، ويُسدّد مباشرةً من السماء، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخّذها خطوةً خطوةً، والإمام (ع) لا يُوحى إليه - كما هو عقيدة الإمامية - ولا يبلّغ بالأمور مباشرةً من السماء، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانيّة؛ ولذلك فهو يحتاج إلى إعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتّصلاً بالحضارة الإسلامية، مستمدّاً من آبائه (ع) الأصالة والمعرفة والعلم، يكون مطّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها، وعوامل تكوّنها وقوّتها، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً، هذا مع اعتقادنا بقدرات الإمام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له، وبكونه مسدّداً من السماء، كما سيتوضّح في المبحث الرابع.

٨٩

٩٠

المبحث الرابع

كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

٩١

٩٢

ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل:

كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنّه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلاّ خمس سنوات تقريباً؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟.

والجواب: إنّ المهديّ (ع) خلف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقت مبكّر جداً من حياته الشريفة.

والإمامة المبكّرة ظاهرة سَبقهُ إليها عددٌ من آبائه (ع)، فالإمام محمد بن علي الجواد (ع) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره (1) ، والإمام علي بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره (2) ، والإمام أبو محمد الحسن العسكري (3) - والد القائد المنتظر - تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره،

____________________

(1) راجع: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ المكّيّ (ت / 855 هـ). وراجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 316 وما بعدها.

(2) راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسّسة البعثة - قم.

وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 - 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته.

(3) راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسّسة البعثة - قم.

وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 - 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته.

٩٣

ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ والإمام الجواد، ونحن نسمّيها ظاهرةً، لأنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهديّ (ع)، تشكّل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نُطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أُمّة (1) .

ونوضّح ذلك ضمن النقاط التالية:

أ - لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت، مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ، التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العباسيّين، وإنّما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام، وقيادته على أُسس روحية وفكرية.

ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بُنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق (ع)، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد، تشكّل تيّاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي، يضم المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء، في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتى قال الحسن بن عليّ الوشا: إنّي دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمِئة شيخ (2) ، كلّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمد.

____________________

(1) راجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 319 وما بعدها. والصواعق المحرقة: ص 123 - 124

فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد (ع) ويحيى بن أكثم زمن المأمون، وكيف استطاع الإمام (ع) أن يثبت أعلميّته وقدرته على إفحام الخصم وهو في تلك السن المبكّرة.

(2) راجع: المجالس السنيّة / السيد الأمين العاملي 5: 209، وهذه قضية مشهورة تناقلها الخاص والعام. وراجع: صحاح الأخبار / محمد سراج الدين الرفاعي: ص 44، نقلاً عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1: 56.

وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 120: (جعفر الصادق، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك والسفيانين، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيوب السختياني...).

٩٤

ج - إنّ الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيّة في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام، والتعرّف على كفاءته للإمامة، شروط شديدة ; لأنّها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان أعلم علماء عصره (1) .

د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية، كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ; لأنّها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب، فقُتل مَن قُتل، وسُجن مَن سُجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. و هذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً (2) ، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده.

هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها،

____________________

(1) كون الإمام أعلم أهل زمانه أمرٌ متسالم عليه عند الإمامية. راجع: الباب الحادي عشر / العلاّمة الحلّيّ، هذا وقد عُرّضوا لأكثر من اختبار (صلوات الله وسلامه عليهم)؛ لإثبات هذا المدّعى، ونجحوا فيه.

راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123، فقد نقل تفصيلاً في هذه المسألة عن مسائل يحيى بن أكثم للإمام الجواد (ع).

(2) إنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة كلّف أتباعهم غالياً، وهذا ثابت تاريخياً، وليس إلى إنكاره من سبيل، والشاهد يدلّ على الغائب أيضاً. راجع: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.

٩٥

ولا متقوقعين في بروج عالية، شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كلّ واحد من الأئمّة الأحد عشر، ومن خلال ما نُقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة، عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلّ مكان لأداء فريضة الحج (1) ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة، بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي، بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة (ع)، كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية، بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدّراتها؛ وعلى هذا الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيّات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّة للأئمّة (2) أنفسهم، على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز، عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

____________________

(1) وقد أوصى الأئمّة بذلك أتباعهم كما هو لسان الروايات الكثيرة.

راجع: أصول الكافي 1: 322 / كتاب الحجّة / باب 2 (إنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم، أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم، ويُعلمونه ولايتهم ومودّتهم له).

(2) راجع في تاريخ الأئمة (ع)، وتعرّضهم للاضطهاد والمطاردة والسجن والقتل أحياناً:

أ - الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي.

ب - مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.

ج - الإرشاد للشيخ المفيد.

٩٦

إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ، أمكن أن نخرج بنتيجة، وهي: أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة كانت ظاهرةً واقعية، ولم تكن وهماً من الأوهام ; لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير، فيعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفكريّاً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع، لابدّ أن يكون على قدر واضح وملحوظ، بل وكبير من العلم والمعرفة، وسعة الأفق، والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ; لأنّه لو لم يكن كذلك لَما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيّتهم.

فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه، وينصّب منها علماً للإسلام، وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها، بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكّرة؛ لاستطلاع حقيقة الموقف، وتقويم هذا الصبيّ الإمام؟ (1) وهب أنّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع المواقف، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً، بل أعواماً دون أن تُتكشّف الحقيقة، على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقّاً، ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة، لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته، كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة

____________________

(1) إشارة إلى الإمام المهديّ (ع)، ومن قبلُ إلى الإمام الجواد مثلاً.

٩٧

والزعامة الروحيّة والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين، قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتيادي، مهما كان ذكيّاً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون (1) ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ.

إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة (2) ، هو أنّها أدركت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة حقيقيّة وليست شيئاً مصطنعاً.

والحقيقة أنّها أدركت ذلك بالفعل، بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتاريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها (3) ، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة، أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته، أو يزعزع ثقة الناس فيه.

وهذا معنى ما قلناه، من أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت، وليست مجرّد افتراض، كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء، الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة.

ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الربّاني لأهل البيت (ع)

____________________

(1) أي على أنّه يجب أن يكون أفضل الناس وأعلم الناس، كما هو معتقد الإماميّة الاثني عشريّة.

راجع: حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين للسيد عبد الله شُبّر (ت / 1242 هـ) 1: 141، المقصد الثالث.

(2) يقصد تقديم الإمام الصبيّ للاختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر.

(3) قد فعل المأمون ذلك، وانكشف لدى الخاصّ من العلماء مدى ما يمتلكه الإمام الجواد (ع) من الفقه والعلم. راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123.

٩٨

يحيى (ع) إذ قال الله سبحانه وتعالى: ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) مريم: 12.

ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية، ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت (ع)، لم يعد هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهديّ (ع)، وخلافته لأبيه وهو صغير (1) .

____________________

(1) وقد شاهد خاصّة الشيعة الإمام المهديّ واتّصلوا به، وأخذوا عنه، كما حصل عن طريق السفراء الأربعة. راجع: تبصرة الولي فيمَن رأى القائم المهديّ / البحراني، والإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 535 وما بعدها.

٩٩

١٠٠