أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 75256
تحميل: 2974


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75256 / تحميل: 2974
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

صلاتي العيد لا تختلفان في حكم التكبير فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما فكذلك ينبغي أن تكون سنة التكبير في الخروج إليهما* وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول أهل الجبر لأن فيها أن الله قد أراد من المكلفين إكمال العدة واليسر وليكبروه ويحمده ويشكروه على نعمته وهدايته لهم إلى هذه الطاعات التي يستحقون بها الثواب الجزيل فقد أراد من الجميع هذه الطاعات وفعل الشكر وإن كان فيهم من يعصيه ولا يشكره فثبت بدلالة هذه الآية أن الله لم يرد من أحد أن يعصيه ولا أن يترك فروضه وأوامره بل أراد من الجميع أن يطيعوه ويشكروه مع ما دلت العقول عليه بأن فاعل ما أريد منه مطيع للمريد متبع لأمره فلو كان الله تعالى مريدا للمعاصي لكان العصاة مطيعين له فدلالة العقول موافقة لدلالة الآية والله سبحانه وتعالى الموافق للصواب.

باب الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام

قال الله تعالى( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) روى عن ابن عباس أن ذلك كان في الفرض الأول من الصيام بقوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وأنه كان صومه ثلاثة أيام من كل شهر وأنه كان من حين يصلى العتمة يحرم عليهم الطعام والشراب والجماع إلى القابلة رواه عطية عن ابن عباس وروى عكرمة عن ابن عباس مثله ولم يذكر أنه كان في الصوم الأول وروى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب والجماع وروى الضحاك أنه كان يحرم ذلك عليهم من حين يصلون العتمة وعن معاذ أنه كان يحرم ذلك عليهم بعد النوم وكذلك ابن أبى ليلى عن أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا ثم إن رجلا من الأنصار لم يأكل ولم يشرب حتى نام فأصبح صائما فأجهده الصوم وجاء عمر وقد أصاب امرأته بعد ما نام فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) ونسخ به تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم* والرفث للذكور هو الجماع لا خلاف بين أهل العلم فيه واسم الرفث يقع على الجماع وعلى الكلام الفاحش ويكنى به عن الجماع قال ابن عباس في قوله( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) إنه مراجعة النساء بذكر الجماع. قال العجاج :

عن اللغا ورفث التكلم

٢٨١

فأولى الأشياء بمعنى الآية هو الجماع نفسه لأن رفث الكلام غير مباح ومراجعة النساء بذكر الجماع ليس لها حكم يتعلق بالصوم لا فيما سلف ولا في المستأنف فعلم أن المراد هو ما كان محرما عليهم من الجماع فأبيح لهم بهذه الآية ونسخ به ما تقدم من الحظر* وقوله تعالى( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) بمعنى هن كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه قال النابغة الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنى عطفه

تثنت عليه فكانت لباسا

ويحتمل أن يريد باللباس الستر لأن اللباس هو ما يستر وقد سمى الله تعالى الليل لباسا لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه فإن كان المعنى ذلك فالمراد كل واحد منهما ستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه من الفواحش ويكون كل واحد منهما متعففا بالآخر مستترا به* وقوله تعالى( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) ذكر للحال التي خرج عليها الخطاب واعتداد بالنعمة علينا بالتخفيف بإباحة الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم واستدعاء لشكره عليها ومعنى قوله( تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) أى يستأثر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل والشرب بعد النوم في ليالي الصوم كقوله( تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) يعنى يقتل بعضكم بعضا* ويحتمل أن يريد به كل واحد في نفسه بأنه يخونها وسماه خائنا* لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه* ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المستأثر له فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة قوله تعالى( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) يحتمل معنيين أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم والآخر التخفيف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله تعالى( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ) يعنى والله أعلم خفف عنكم وكما قال عقيب ذكر حكم قتل الخطأ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ ) يعنى تخفيفه. لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه* وقوله تعالى( وَعَفا عَنْكُمْ ) يحتمل أيضا العفو عن الذنب الذي اقترفوه بخيانتهم لأنفسهم ثم لما أحدثوا التوبة منه عفا عنهم في الخيانة* ويحتمل أيضا التوسعة والتسهيل بإباحة ما أباح من ذلك لأن العفو يعبر به في اللغة عن التسهيل كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعنى تسهيله وتوسعته* وقوله تعالى( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ ) إباحة للجماع المحظور كان قبل ذلك في ليالي الصوم والمباشرة هي إلصاق البشر بالبشرة وهي في هذا الموضع

٢٨٢

كناية عن الجماع قال زيد بن أسلم هي المواقعة والجماع وقال في المباشرة مرة هي إلصاق الجلد بالجلد وقال الحسن المباشرة النكاح وقال مجاهد الجماع وهو مثل قوله عز وجل( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وقوله( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) قال عبد الوهاب عن أبيه عن ابن عباس قال الولد وعن مجاهد والحسن والضحاك والحكم مثله وروى معاذ بن هشام قال حدثني أبى عن عمرو بن مالك عن أبى الجوزاء عن ابن عباس وابتغوا ما كتب الله لكم قال ليلة القدر وقال قتادة في قوله( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) قال الرخصة التي كتب الله لكم* قال أبو بكر إذا كان المراد بقوله( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ ) الجماع فقوله( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) لا ينبغي أن يكون محمولا على الجماع لما فيه من تكرار المعنى في خطاب واحد ونحن متى أمكننا استعمال كل لفظ على فائدة مجددة فغير جائز الاقتصار بها على فائدة واحدة وقد أفاد قوله( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ ) إباحة الجماع فالواجب أن يكون قوله( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) على غير الجماع ثم لا يخلو من أن يكون المراد به ليلة القدر على ما رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس أو الولد على ما روى عنه وعن غيره ممن قدمنا ذكره أو الرخصة على ما روى عن قتادة فلما كان اللفظ محتملا لهذه المعاني ولو لا احتماله لها لما تأوله السلف عليها وجب أن يكون محمولا على الجميع وعلى أن الكل مراد الله تعالى فيكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان ولاتباع رخصة الله تعالى ولطلب الولد فيكون العبد مأجورا على ما يقصده من ذلك ويكون الأمر بطلب الولد على معنى ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) وكما سأل زكريا ربه أن يرزقه ولدا بقوله( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) وقوله( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) إطلاق من حظر كقوله( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) ونظائر ذلك من الإباحة الواردة بعد الحظر فيكون حكم اللفظ مقصورا على الإباحة لا على الإيجاب ولا الندب وأما قوله( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) قال أبو بكر قد اقتضت الآية إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر* روى أن رجالا منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود وتبين أحدهما من الآخر منهم عدى بن حاتم حدثنا

٢٨٣

محمد بن بكر قال أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا ابن إدريس المعنى عن حصين عن الشعبي عن عدى بن حاتم قال لما نزلت هذه الآية( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) قال أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك فقال (إن وسادك إذا لعريض طويل إنما هو الليل والنهار) قال عثمان إنما هو سواد الليل وبياض النهار قال وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد اليماني قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن أبى مريم عن أبى غسان محمد بن مطرف قال أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال لما نزل قوله( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) ولم ينزل( مِنَ الْفَجْرِ ) قال فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له فأنزل الله بعد ذلك( مِنَ الْفَجْرِ ) فعلموا أنه إنما يعنى بذلك الليل والنهار قال أبو بكر إذا كان قوله( مِنَ الْفَجْرِ ) مبينا فيه فلا إلباس على أحد في أنه لم يرد به حقيقة الخيط لقوله( مِنَ الْفَجْرِ ) ويشبه أن يكون إنما اشتبه على عدى وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله( مِنَ الْفَجْرِ ) وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول الآية وإن عدى بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة لأنه ليس كل العرب تعرف سائر لغاتها وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة فلما سألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه وأنزل الله تعالى بعد ذلك( مِنَ الْفَجْرِ ) فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهورا ذلك عندهم قال أبو داود الأيادى :

ولما أضاءت لنا ظلمة

ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر في الخيط الأسود :

قد كاد يبدو أو بدت تباشره

وسدف الخيط البهيم ساتره

٢٨٤

فقد كان ذلك مشهورا في اللسان قبل نزول القرآن به وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل قال والخيط هو اللون* فإن قيل كيف شبه الليل بالخيط الأسود وهو مشتمل على جميع العالم وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بالخيط لأنه مستطيل أو مستعرض في الأفق فأما الليل فليس بينه وبين الخيط تشابه ولا مشاكلة* قيل له إن الخيط الأسود هو السواد الذي في الموضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده فمن أجل ذلك سمى الخيط الأسود* وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحديد الوقت الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان قال حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر) فذكر في هذا الخبر الأحمر ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة يحرم به الطعام والشراب على الصائم وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم (إنما هو بياض النهار وسواد الليل) ولم يذكر الحمرة فإن قيل قد روى عن حذيفة قال تسحرنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان نهارا إلا أن الشمس لم تطلع * قيل له لا يثبت ذلك عن حذيفة وهو مع ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز الاعتراض به على القرآن قال الله تعالى( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الذي هو بياض الفجر وحديث حذيفة إن حمل على حقيقته كان مبيحا لما حظرته الآية وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عدى بن حاتم هو بياض النهار وسواد الليل فكيف يجوز الأكل نهارا في الصوم مع تحريم الله تعالى إياه بالقرآن والسنة ولو ثبت حديث حذيفة من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك الوقت لأنه لم يعز الأكل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما أخبر عن نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكونه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت الأكل لا دلالة فيه على علم

٢٨٥

النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك منه وإقراره عليه ولو ثبت أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بذلك وأقره عليه احتمل أن يكون ذلك كان في آخر الليل قرب طلوع الفجر فسماه نهارا لقربه منه كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا حماد بن خالد الخياط قال حدثنا معاوية بن صالح عن يونس بن سيف عن الحرث بن زياد عن أبى رهم عن العرباض بن سارية قال دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحور في رمضان فقال هلم إلى الغداء المبارك فسمى السحور غداء لقربه من الغداء كذلك لا يمتنع أن يكون حذيفة سمى الوقت الذي تسحر فيه نهارا لقربه من النهار* قال أبو بكر فقد وضح بما تلونا من كتاب الله وتوقيف نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أول وقت الصوم هو طلوع الفجر الثاني المعترض في الأفق وأن الفجر المستطيل إلى وسط السماء هو من الليل والعرب تسميه ذنب السرحان* وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاك في الفجر فذكر أبو يوسف في الإملاء أن أبا حنيفة قال يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إلى فإن تسحر فصومه تام وهو قولهم جميعا في الأصل وقال إن أكل فلا قضاء عليه وحكى ابن سماعة عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أنه إن أكل وهو شاك قضى يوما وقال أبو يوسف ليس عليه في الشك قضاء وقال الحسن ابن زياد عن أبى حنيفة أنه إن كان في موضع يستبين الفجر ويرى مطلعه من حيث يطلع وليس هناك علة فليأكل ما لم يستبن له الفجر وهو قول الله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) قال وقال أبو حنيفة إن كان في موضع لا يرى فيه الفجر أو كانت مقمرة وهو يشك في الفجر فلا يأكل وإن أكل فقد أساء وإن كان أكبر رأيه إن أكل والفجر طالع قضى وإلا لم يقض وسواء كان في سفر أو حضر وهذا قول زفر وأبى يوسف وبه نأخذ وكذلك روى عنهم في الشك في غيبوبة الشمس على هذا الاعتبار* قال أبو بكر وينبغي أن يكون رواية الأصل ورواية الإملاء في كراهيتهم الأكل عند الشك في الفجر محمولين على ما رواه الحسن بن زياد لأنه فسر ما أجملوه في الروايتين الأخريين ولأنها موافقة لظاهر الكتاب وقد روى عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر في الصوم فقال أحدهما قد طلع وقال الآخر لم يطلع فقال اختلفتما فأكل وكذلك روى عن ابن عمر وذلك في حال أمكن فيها الوصول إلى معرفة طلوع الفجر من طريق المشاهدة وقال تعالى( حَتَّى يَتَبَيَّنَ

٢٨٦

لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فأباح الأكل إلى أن يتبين والتبين إنما هو حصول العلم الحقيقي ومعلوم أن ذلك إنما أمروا به في حال يمكنهم فيها الوصول إلى العلم الحقيقي بطلوعه وأما إذا كانت ليلة مقمرة أو ليلة غيم أو في موضع لا يشاهد مطلع الفجر فإنه مأمور بالاحتياط للصوم إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه لما حدثنا شعبة قال حدثنا يزيد بن أبى مريم السلولي قال سمعت أبا الجوزاء السعدي قال قلت للحسن بن على ما تذكر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كان يقول (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو شهاب حدثنا ابن عون عن الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير ولا أسمع أحدا بعده يقول سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور متشابهات وسأضرب في ذلك مثلا إن الله حمى حمى وإن حمى الله ما حرم وأنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال أخبرنا عيسى قال حدثنا زكريا عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الحديث قال (وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) فهذه الأخبار تمنع من الإقدام على المشكوك فيه أنه من المباح أو المحظور فوجب استعمالهما فمن شك فلا سبيل له إلى تبين طلوع الفجر في أول ما يطلع حتى يكون مستبرئا لدينه وعرضه مجتنبا للريبة غير مواقع لحمى الله تعالى فاستعملنا قوله( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فيمن يمكنه معرفة طلوعه في أول أحواله فهذا مذهب أصحابنا وحجاجه فيما ذكرنا وقال مالك بن أنس أكره أن يأكل إذا شك في الفجر وإن أكل فعليه القضاء وقال الثوري يتسحر الرجل ما شك حتى يرى الفجر وقال عبيد الله بن الحسن والشافعى إن أكل شاكا في الفجر فلا شيء عليه* وأما قول من قال أنه يأكل شاكا من غير اعتبار منه بحال إمكان التبين في حال طلوعه أو تعذر ذلك عليه فذلك إغفال منه لأن ضريرا لو كان في موضع ليس بحضرته من يعرفه طلوع الفجر لم يجز له الإقدام على الأكل بالشك وهو لا يأمن أن يكون قد أصبح وكذلك من كان

٢٨٧

في بيت مظلم لا يأمن من طلوع الفجر لم يجز له الإقدام على الأكل بالشك فإن أجاز هذا وألغى الشك لزمه إلغاء الشك في كل موضع والإقدام على كل ما لا يأمن أن يكون محظورا من وطئ أو غيره وفي استعمال ذلك مخالفة لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب الشبهات وترك الريب إلى اليقين ومخالفة إجماع المسلمين لأنهم لا يختلفون أنه غير جائز له الإقدام على وطئ امرأة لا يعرفها وهو شاك في أنها زوجته وكذلك من طلق إحدى نسائه بعينها ثلاثا ونسيها فغير جائز له الإقدام على وطئ واحدة منهن باتفاق الفقهاء إلا بعد العلم بأنها ليست المطلقة* وأما القول بإيجاب القضاء على من أكل شاكا في الفجر فإنه لا يبيح له الإقدام على المشكوك فيه فكذلك لا يوجب عليه القضاء بالشك لأنه إذا كان الأصل براءة الذمة من الفرض فلا جائز إلزامه بالشك والذي تضمنته هذه الآية من الحكم من عند قوله( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـمِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) نسخ تحريم الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم بعد العتمة أو بعد النوم وفيها الدلالة على نسخ السنة بالقرآن لأن الحظر المتقدم إنما كان ثبوته بالسنة لا بالقرآن ثم نسخ بالإباحة المذكورة في القرآن* وفيها الدلالة على أن الجنابة لا تنافى صحة الصوم لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره مع العلم بأن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنبا ثم حكم مع ذلك بصحة صومه بقوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وفيها حث على طلب الولد بقوله( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) مع تأويل من تأوله واحتمال الآية له* وفيها الدلالة على أن ليلة القدر في رمضان لأن ابن عباس قد تأوله على ذلك فلو لا أنه محتمل له لما جاز أن يتأوله عليه وفيها الندب إلى الترخص برخصة الله لتأويل من تأوله على ما بينا فيما سلف وفيها الدلالة على أن آخر الليل إلى طلوع الفجر الثاني بقوله( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـحَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ) فثبت أن الليل إلى طلوع الفجر وأن ما بعد طلوعه فهو من النهار* وفيها الدلالة على إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يحصل له الاستبانة واليقين بطلوع الفجر وأن الشك لا يحظر عليه ذلك إذ غير جائز وجود الاستبانة مع الشك وهذا فيمن يصل إلى الاستبانة وقت طلوعه وأما من لا يصل إلى ذلك لساتر أو ضعف بصره أو نحو ذلك فغير داخل في هذا الخطاب لما بينا آنفا قبل

٢٨٨

هذا الفصل وورود لفظ الإباحة بعد الحظر دليل على أنه لم يرد به الإيجاب لأن ذلك حكم لفظ الإطلاق إذا كان وروده بعد الحظر على نحو ما ذكرنا من نظائره في قوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) وقوله( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ) ومع ذلك فليس يمتنع أن يكون بعض الأكل والشرب مندوبا وهو ما يكون في آخر الليل على جهة السحور وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (تسحروا فإن في السحور بركة) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن على بن رباح عن أبيه عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن فصلا بين صيامكم وصيام أهل الكتاب أكلة السحور) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن عمرو الزئبقى قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا عبد الله بن سعيد عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (نعم غداء المؤمن السحور وإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) فندب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحور وليس يمتنع أن يكون مراد الله بقوله( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) في بعض ما انتظمه أكلة السحور فيكون مندوبا إليها بالآية فإن قيل قد تضمنت الآية لا محالة الرخصة في إباحة الأكل وهو ما كان منه في أول الليل لا على وجه السحور فكيف يجوز أن ينتظم لفظ واحد ندبا وإباحة* قيل له لم يثبت ذلك بظاهر الآية وإنما استدللنا عليه بظاهر السنة فأما ظاهر اللفظ فهو إطلاق إباحة على ما بينا* وفيها الدلالة على أن الغاية قد لا تدخل في الحكم المقدر بها بقوله عز وجل( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ) وحال التبين غير داخلة في إباحة الأكل فيها ولا مرادة بها ثم قال الله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فجعل الليل غاية الصيام ولم تدخل فيه* وقد دخلت في بعض المواضع وهو قوله( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) والغاية مرادة في إباحة الصلاة بعدها وكذلك قوله تعالى( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ـوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قد دخلت الغاية في المراد وذلك أصل في أن الغاية قد تدخل في حال ولا تدخل في أخرى وأنها تحتاج إلى دلالة في إسقاط حكمها أو إثباته وأما قوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فإن عطفه على ما تقدم ذكره من إباحة الجماع

٢٨٩

والأكل والشرب يدل على أن الصوم المأمور به هو الإمساك عن هذه الأمور التي ذكر إباحتها ليلا وقد تقدم بيان ذلك مع ما يقتضيه الصوم الشرعي من المعاني التي بعضها إمساك وبعضها شرط لكون الإمساك صوما شرعيا* وفي قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) دلالة على أن من حصل مفطرا بغير عذر أنه غير جائز له الأكل بعد ذلك وأن عليه أن يمسك عما يمسك عنه الصائم لأن هذا الإمساك ضرب من الصيام وقد روى أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال (من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يأكل فليتم صومه) فسمى الإمساك بعد الأكل صوما* فإن قيل إذا لم يكن صوما شرعيا لم يتناوله اللفظ لأن قوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) المراد به الصوم الشرعي لا الصوم اللغوي قيل له هذا عندنا صوم شرعي قد أمر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إيجابه القضاء ووجوب القضاء لا يخرجه من أن يكون صوما مندوبا إليه مستحقا للثواب عليه وفيه الدلالة على أن من أصبح في رمضان غيرنا وللصوم أن عليه أن يتم صومه ويجزيه من فرضه ما لم يفعل ما ينافي صحة الصوم من أكل أو شرب أو جماع* فإن قيل الذي يقتضيه الظاهر الأمر بإتمام الصوم والإتمام يطلق فيما قد صح الدخول فيه وهو فلم يدخل فيه حتى يلحقه الخطاب بالإتمام* قيل له لما أصبح ممسكا عما يجب على الصائم الإمساك عنه فقد حصل له الدخول في الصوم لما بينا من أن الإمساك قد يكون صوما شرعيا وإن لم يحصل به قضاء فرض ولا تطوع ويدل على أن ذلك صوم مع عدم النية اتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن من أصبح في غير رمضان ممسكا عما يمسك عنه الصائم غير ناو للصوم أنه جائز له أن يبتدئ نية التطوع ويجزيه ولو لم يكن ما مضى صوما يتعلق به حكم الصوم الشرعي لما جاز أن يثبت له حكم الصوم بإيجاد النية بعده ألا ترى أنه لو أكل أو شرب ثم أراد أن ينوى صياما تطوعا لم يصح له ذلك فثبت بما وصفنا صحة دلالة قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) على جواز نية صيام رمضان في بعض النهار والله تعالى أعلم بالصواب.

باب لزوم صوم التطوع بالدخول فيه

قوله عز وجل( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) يدل على أن من دخل في صوم التطوع لزمه إتمامه وذلك لأن قوله( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) عام في سائر الليالى التي يريد الناس الصوم في صبيحتها وغير جائز الاقتصار به على ليالي صيام رمضان دون

٢٩٠

غيره لما فيه من تخصيص العموم بلا دلالة ولما كان حكم اللفظ مستعملا في إباحة الأكل والشرب في ليالي صوم التطوع ثبت أنها مراده باللفظ فإذا كان كذلك ثم عطف عليه قوله (( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) اقتضى ذلك لزوم إتمام الصوم الذي صح له الدخول فيه تطوعا كان ذلك الصوم أو فرضا وأمر الله تعالى على الوجوب فغير جائز لأحد دخل في صوم التطوع أو الفرض الخروج منه بغير عذر وإذا لزم المضي فيه وإتمامه بظاهر الآية فقد صح عليه وجوبه ومتى أفسده لزمه قضاؤه كسائر الواجبات* فإن قيل* قد روى أن الآية نزلت في صوم الفرض فوجب أن يكون مقصور الحكم عليه* قيل له نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عموم اللفظ لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب ولو كان الحكم في ذلك مقصورا على السبب لوجب أن يكون خاصا في الذين اختانوا أنفسهم منهم فلما اتفق الجميع على عموم الحكم فيهم وفي غيرهم ممن ليس في مثل حالهم دل ذلك على أن الحكم غير مقصور على السبب وأنه عام في سائر الصيام كهو في سائر الناس في صوم رمضان فصح بما وصفنا وجه الاستدلال بقوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) على لزوم الصوم بالدخول فيه وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من دخل في صيام التطوع أو صلاة التطوع فأفسده أو عرض له فيه ما يفسده فعليه القضاء وهو قول الأوزاعى إذا أفسده وقال الحسن بن صالح إذا دخل في صلاة التطوع فأقل ما يلزمه ركعتان وقال مالك إن أفسده هو فعليه القضاء ولو طرئ عليه ما أخرجه منه فلا قضاء عليه وقال الشافعى رحمه الله إن أفسد ما دخل فيه تطوعا فلا قضاء عليه وروى عن ابن عباس وابن عمر مثل قولنا حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا هشيم قال حدثنا عثمان البتى عن أنس بن سيرين قال صمت يوما فأجهدت فأفطرت فسألت ابن عباس وابن عمر فأمر انى أن أصوم يوما مكانه وروى طلحة بن يحيى عن مجاهد قال هو بمنزلة الصدقة يخرجها الرجل من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها ولم يختلفوا في الحج والعمرة إذا أحرم بهما تطوعا ثم أفسدهما أن عليه قضاؤهما وإن أحصر فيهما فقد اختلف الناس فيه أيضا فقال أصحابنا ومن تابعهم عليه القضاء وقال مالك والشافعى لا قضاء عليه* وما قدمنا من دلالة قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) يوجب القضاء سواء خرج منه بعذر أو بغير

٢٩١

عذر لأن الآية قد اقتضت الإيجاب بالدخول وإذا وجب لم يختلف حكمه في إيجاب القضاء إذا كان خروجه بعذر أو بغير عذر كسائر ما أوجبه الله عليه من صيام أو صلاة أو غيرهما كالنذور ونظير هذه الآية في إيجاب القرب فالدخول فيها قوله( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) والابتداع قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول ثم ذم تاركي رعايتها بعد الابتداع فدل ذلك على أن من يبتدع قربة بالدخول فيها أو بإيجابها بالقول أن عليه إتمامها لأنه متى قطعها قبل إتمامها فلم يرعها حق رعايتها والذم لا يستحق إلا بترك الواجبات فدل ذلك على أن لزومها بالدخول كهو بالنذر والإيجاب بالقول* ويحتج في مثله أيضا بقوله( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) جعله الله مثلا لمن عهد الله عهدا أو حلف بالله ثم لم يف به ويقضه هو عموم في كل من دخل في قربة فيكون منهيا عن نقضها قبل إتمامها لأنه متى نقضها فقد أفسد ما مضى منها بعد تضمن تصحيحها بالدخول فيها ويصير بمنزلة ناقضة غزلها بعد فتلها بقواها وهذا يوجب أن كل من ابتدأ في حق الله وإن كان متطوعا بديا فعليه إتمامه والوفاء به لئلا يكون بمنزلة ناقضة غزلها* فإن قيل إنما نزلت هذه الآية فيمن نقض العهد والأيمان بعد توكيدها لأنه قال تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) ثم عطف عليه قوله( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قيل له نزولها على سبب لا يمنع اعتبار عموم لفظها وقد بينا ذلك في مواضع ويدل عليه أيضا قوله تعالى( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) وقد علمنا أن أقل ما يصح في الفرض من الصوم يوم كامل وفي الصلاة ركعتان ولا تصح النوافل وتكون قربة إلا حسب موضوعها في الفروض بدلالة أنه يحتاج إلى استيفاء شروطها ألا ترى أن صوم النفل مثل صوم الفرض في لزوم الإمساك عن الجماع والأكل والشرب وكذلك صلاة التطوع تحتاج من القراءة والطهارة والستر إلى مثل ما شرط في الفروض ولما لم يكن في أصل الفرض ركعة واحدة ولا صوم بعض يوم وجب أن يكون كذلك حكم النفل فمتى دخل في شيء منه ثم أفسده قبل إتمامه فقد أبطله وأبطل ثواب ما فعله منه وقوله تعالى( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) يمنع الخروج منه قبل إتمامه لنهى الله تعالى إياه عن إبطاله وإذا لزمه إتمامه فقد وجب عليه قضاؤه إذا خرج منه قبل إتمامها معذورا كان في خروجه أو غير معذور

٢٩٢

ويدل عليه من جهة السنة ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن البتيراء وهو أن يوتر الرجل بركعة فاقتضى هذا اللفظ إيجاب إتمامه وإذا وجب إتمامها فقد لزمته فمتى أفسدها أو فسدت عليه بغير اختياره لزمه قضاؤها كسائر الواجبات ويدل عليه حديث الحجاج ابن عمرو الأنصارى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل) قال عكرمة فذكرت ذلك لابن عباس وأبى هريرة فقالا صدق فصارت رواته عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وذلك يدل على معنيين أحدهما إلزامه بالدخول فيه لأنه لم يفرق بين الفرض والنفل والثاني أنه وإن خرج منه بغير اختيار منه فإن القضاء واجب عليه* ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرنى حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت أهدى لي ولحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا يا رسول الله أهديت لنا هدية فاشتهيناها فأفطرنا فقال (لا عليكما صوما مكانه يوما آخر) وهذا يدل على وجوب القضاء في التطوع لأنه لم يسألهما عن جهة صومهما* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد الله بن عمر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعين فأهدى لنا طعام فأفطرنا فسألت حفصة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (اقضيا يوما مكانه) قال عبد الباقي وحدثنا عبد الله بن أسيد الأصبهانى الأكبر قال حدثنا أزهر بن جميل قال حدثنا أبو همام محمد بن الزبرقان عن عبد الله بن عمر عن الزهري عن عروة عن عائشة نحوه* قال عبد الباقي وحدثنا إسحاق قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن الزهري أن حفصة وعائشة وذكر نحوه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (اقضيا مكانه يوما) وأصحاب حديث يتكلمون في إسناد هذا الحديث بأشياء يطعنون بها فيه أحدها ما حدثنا به عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال سمعت سفيان يحدثه عن الزهري فقيل للزهري هو من حديث عروة فقال الزهري ليس هو من حديث عروة قال الحميدي وأخبرنى غير واحد عن معمر أنه قال لو كان من حديث الزهري ما نسيته وهذا الذي ذكروه لا يبطله عندنا لأنه جائز أن يريد الزهري بذلك أنه لم يسمعه من عروة وسمعه من غير عروة وأكثر أحواله أن يكون مرسلا عن

٢٩٣

عروة وإرساله لا يفسده عندنا وأما قول معمر لو كان من حديث الزهري ما نسيته فليس بشيء لأن النسيان جائز عليه في حديث الزهري كجوازه في حديث غيره وأكثر أحواله أن لا يكون معمر قد سمعه من الزهري وغير معمر قد سمعه من الزهري ورواه عنه فلا يفسده أن لا يكون معمر قد رواه عنه وقد رواه زميل مولى عروة عن عروة ويطعنون فيه أيضا بما ذكره ابن جريج أنه قال للزهري في هذا الحديث أسمعته من عروة قال إنما أخبرنى به رجل بباب عبد الملك وروى في غير هذا الحديث أن الرجل سليمان بن أرقم وكيفما تصرفت به الحال فليس فيه ما يفسده على مذهب الفقهاء وما يعترض به أصحاب الحديث من مثل هذا لا يفسد الحديث ولا يقدح فيه عندهم وقد روى أيضا خصيف عن عكرمة عن ابن عباس أن حفصة وعائشة أصبحتا صائمتين فأهدى لهما طعام فأفطرتا فأمرهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقضيا يوما مكانه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أبى حمزة عن الحسن عن أبى سعيد الخدري أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين فأهدى لهما طعام فدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما تأكلان فقال (ألم تصبحا صائمتين قالتا بلى قال اقضيا يوما مكانه ولا تعودا) وقد روى من طريق آخر وهو ما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال حدثنا حرملة قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى إلينا طعام فأعجبنا فأفطرنا فلما جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرتنى حفصة فسألته وهي ابنة أبيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوما يوما مكانه) وروى الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل ذلك وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر هذه القصة وذكر نحوها إلا أنه لم يذكر تطوعا* فهذه آثار مستفيضة قد رويت من طرق في بعضها أنها أصبحتا صائمتين متطوعتين* وفي بعضها لم يذكر التطوع وفي كلها الأمر بالقضاء* ويدل على وجوب القضاء ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض) وفي هذا الحديث ما يوجب القضاء على الصائم المتطوع إذا استقاء عمدا لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفرق بين المتنفل وبين من يصوم فرضا

٢٩٤

ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن المتصدق بصدقة تطوعا إذا قبضها من تصدق بها عليه لا يرجع فيها لما فيه من إبطال القربة التي حصلت له بها فكذلك الداخل في صلاة أو صوم تطوعا غير جائز له الخروج منها قبل إتمامها لما فيه من إبطال ما تقدم منه فهو بمنزلة الصدقة المقبوضة فإن قيل هو بمنزلة الصدقة التي لم تقبض لأنه إنما امتنع من فعل باقى أجزاء الصلاة والصوم بمنزلة الممتنع من تسليم الصدقة* قيل له لو لم يكن إلا كذلك لكان كما ذكرت لكنه لما كان في الخروج منه قبل إتمامه إبطال ما تقدم لم يكن له سبيل إلى ذلك ومتى فعله لزمه القضاء ألا ترى أنه لا يصح صوم بعض النهار دون بعض وأن من أكل في أول النهار لا يصح له صوم بقيته وكذلك من صام أوله ثم أفطر في باقيه فقد أخرج نفسه من حكم صوم ذلك اليوم رأسا وأبطل به حكم ما فعله كالراجع في الصدقة المقبوضة فصار كما إذا رجع في صدقة مقبوضة لزمه ردها إلى المتصدق بها عليه ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن المحرم بحج أو عمرة تطوعا متى أفسده لزمه القضاء وكان الدخول فيه بمنزلة الإيجاب بالقول* فإن قيل إنما لزمه القضاء لأن فساده لا يخرجه* منه وليس ذلك كسائر القرب من الصلاة والصوم إذ هو يخرج منهما بالإفساد* قيل له هذا الفرق لا يمنع تساويهما في جهة الإيجاب بالدخول ولا يخلو هذا المحرم من أن يكون قد لزمه الإحرام بالدخول ووجب عليه إتمامه أو لم يلزمه فإن كان قد لزمه إتمامه فالواجب عليه القضاء سواء أحصر أو أفسده بفعله لأن ما قد وجب لا يختلف حكمه في وقوع الفساد فيه بفعله أو غير فعله مثل النذر وحجة الإسلام فمتى اتفقنا على أنه متى أفسده لزمه قضاؤه وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أحصر وتعذر فعله من غير جهته كسائر الواجبات وعلى أن السنة قد قضت ببطلان قول الخصم وهو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل فأوجب عليه القضاء مع وقوع المنع من قبل غيره وإذا ثبت ذلك في الحج والعمرة وجب مثله في سائر القرب التي شرط صحتها إتمامها وكان بعضها منوطا ببعض وذلك مثل الصلاة والصيام ويجب أن لا يختلف في وجوب قضائه حكم خروجه منها بفعله أو غير فعله كما في سائر الواجبات* واحتج من خالف في ذلك بحديث أم هانئ حين ناولها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤره فشربته ثم قالت إنى كنت صائمة وكرهت أن أرد سؤرك فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن كان من قضاء رمضان فأقضي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت

٢٩٥

فأقضي وإن شئت فلا تقضى) وهذا حديث مضطرب السند والمتن جميعا* فأما اضطراب سنده فإن سماك بن حرب يرويه مرة عمن سمع أم هانئ ومرة يقول هارون بن أم هانئ أو ابن ابنة أم هانئ ومرة يرويه عن ابني أم هانئ ومرة عن ابن أم هانئ قال أخبرنى أهلنا ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يدل على قلة ضبط رواته* وأما اضطراب المتن فمن قبل ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبى زياد عن عبد الله بن الحرث عن أم هانئ قالت لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأم هانئ عن يمينه قال فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه ثم قالت يا رسول الله أفطرت وكنت صائمة فقال (لها أكنت تقضين شيئا قالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا) فذكر في هذا الحديث أنه قال لا يضرك وليس في ذلك نفى لوجوب القضاء لأنا كذلك نقول أنه لم يضرها لأنها لم تعلم أنه لا يجوز لها الإفطار أو علمت ذلك ورأت اتباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشرب والإفطار أولى من المضي فيه وحدثنا عبد الله بن جعفر ابن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا شعبة قال أخبرنى جعدة رجل من قريش وهو ابن أم هانئ وكان سماك بن حرب يحدثه يقول أخبرنى ابنا أم هانئ قال شعبة فلقيت أنا أفضلهما جعدة فحدثني عن أم هانئ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فناولته شرابا فشرب ثم ناولها فشربت فقالت يا رسول الله إنى كنت صائمة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (الصائم المتطوع أمين نفسه أو أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) فقلت لجعدة سمعته أنت من أم هانئ فقال أخبرنى أهلنا وأبو صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ ورواه سماك عمن سمع أم هانئ وذكر فيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (المتطوع بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر) وروى سماك عن هارون ابن أم هانئ عن أم هانئ وقال فيه (إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطرى) ولم يذكر في شيء من هذه الأخبار نفى القضاء وإنما ذكر فيه أن الصائم بالخيار وأنه أمين نفسه وأن له أن يفطر في التطوع ولم يقل لا قضاء عليك وهذا الإختلاف في متنه يدل على أنه غير مضبوط ولو ثبتت هذه الألفاظ لم يكن فيها ما ينفى وجوب القضاء لأن أكثر ما فيها إباحة الإفطار وإباحة الإفطار

٢٩٦

لا تدل على سقوط القضاء وقوله الصائم أمين نفسه والصائم بالخيار جائز أن يريد به من أصبح ممسكا عما يمسك عنه الصائم من غير نية للصوم أنه بالخيار في أن ينوى صوم التطوع أو يفطر والمسك عما يمسك عنه الصائم يمسي صائما كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم عاشوراء(من أكل فليصم بقية يومه) ومراده الإمساك عما يمسك عنه الصائم كذلك قوله (الصائم بالخيار والصائم أمين نفسه) هو على هذا المعنى فإن وجد في بعض ألفاظ هذا الحديث فإن شئت فأقضي وإن شئت فلا تقضى فإنما هو تأويل من الراوي لقوله لا يضرك وإن شئت فأفطرى والصائم بالخيار وإذا كان كذلك لم يثبت نفى القضاء بما ذكرت* على أنه لو ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى إيجاب القضاء من غير احتمال التأويل مع صحة السند واتساق المتن لكانت الأخبار الموجبة للقضاء أولى من وجوه أحدها أنه متى ورد خبران أحدهما مبيح والآخر حاظر كان خبر الحظر أولى بالاستعمال وخبرنا حاظر لترك القضاء وخبرهم مبيح فكان خبرنا أولى من هذا الوجه ومن جهة أخرى أن الخبر النافى للقضاء وارد على الأصل والخبر الموجب له ناقل عنه والخبر الناقل أولى لأنه في المعنى وارد بعده كأنه قد علم تاريخه ومن جهة أخرى وهو أن ترك الواجب يستحق به العقاب وفعل المباح لا يستحق به العقاب فكان استعمال خبر الوجوب أولى من خبر النفي* ومما يعارض خبر أم هانئ في إباحة الإفطار ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله ابن سعيد قال حدثنا أبو خالد عن هشام عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا دعى أحدكم فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل) قال أبو داود رواه حفص بن غياث أيضا* وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن أبى الزناد عن الأعراج عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إنى صائم) فهذان خبران يحظران على الصائم الإفطار من غير عذر ولم يفرق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصائم تطوعا أو من فرض ألا ترى أنه قال في الخبر الأول وإن كان صائما فليصل والصلاة تنافى الإفطار وفرق أيضا بين المفطر والصائم فلو جاز للصائم الإفطار لقال فليأكل* فإن قيل إنما أراد* بالصلاة الدعاء والدعاء لا ينافي الأكل* قيل له بل هو على الصلاة المعهودة عند الإطلاق وهي التي بركوع وسجود وصرفه إلى الدعاء غير جائز إلا بدلالة فلو كان المراد الدعاء

٢٩٧

لكانت دلالته قائمة على أنه لا يفطر حين فرق بين المفطر والصائم بما ذكرنا وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث فليقل إنى صائم يدل على أن الصوم يمنعه من الأكل وقد علمنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جعل إجابة الدعوة من حق المسلم كالسلام وعيادة المريض وشهود الجنازة فلما منعه الإجابة وقال فليقل إنى صائم دل ذلك على حظر الإفطار في سائر الصيام من غير عذر* فإن قيل قد روى عن أبى الدرداء وجابر أنهما كانا لا يريان بالإفطار في صيام التطوع بأسا وأن عمر بن الخطاب دخل المسجد فصلى ركعة ثم انصرف فتبعه رجل فقال يا أمير المؤمنين صليت ركعة واحدة فقال هو التطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص* قيل له قد روينا عن ابن عباس وابن عمر إيجاب القضاء على من أفطر في صيام التطوع وأما ما روى عن أبى الدرداء وجابر فليس فيه نفى القضاء وإنما فيه إباحة الإفطار وحديث عمر يحتمل أن يريد به من دخل في صلاة يظن أنها عليه ثم ذكر أنها ليست عليه أنها تكون تطوعا وجائز أن يقطعها ولم يجب عليه القضاء وقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما أجزأت ركعة قط* فإن قيل قوله تعالى( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) يدل على جواز الاقتصار على* ركعة* قيل له إنما ذلك تخيير في القراءة لا في ركعات الصلاة والتخيير فيها لا يوجب تخييرا في سائر أركانها فلا دلالة في ذلك حكم الركعات وقال الشافعى عليه في الأضحية البدل إذا استهلكها فيلزمه مثله في سائر القرب ومن دلالات قوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) على الأحكام أن من أصبح مقيما صائما ثم سافر أنه لا يجوز له الإفطار في يومه ذلك بدلالة ظاهر قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ولم يفرق بين من سافر بعد الدخول في الصوم وبين من أقام وفيه الدلالة على أن من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أن عليه ليلا أو أكل قبل قبل غروب الشمس وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم تبين أن عليه القضاء لقوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وهذا لم يتم الصيام لأن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وهو لم يمسك فليس هو إذا صائم وقد اختلف السلف في ذلك فقال مجاهد وجابر ابن زيد والحكم أن صومه تام ولا قضاء عليه هذا في المتسحر الذي يظن أن عليه ليلا وقال مجاهد لو ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم علم أنها لم تغب كان عليه القضاء فرق بين المتسحر وبين من أكل قبل غروب الشمس على ظن منه ثم علم قال لأن الله تعالى قال( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فما لم يتبين فالأكل

٢٩٨

له مباح فلا قضاء عليه فيما أكل قبل أن يتبين له طلوع الفجر وأما الذي أفطر على ظن منه بغيبوبة الشمس فقد كان صومه يقينا فلم يكن جائزا له الإفطار حتى يتبين له غروب الشمس وقال محمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأصحابنا جميعا ومالك والثوري والشافعى يقضى في الحالين إلا أن مالكا قال في صوم التطوع يمضى فيه وفي الفرض يقضى وروى الأعمش عن زيد بن وهب أن عمر أفطر هو والناس في يوم غيم ثم طلعت الشمس فقال لا تجانفنا لإثم والله لا نقضيه وروى عنه أنه قال الخطب يسير نقضي يوما وظاهر قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) يقضى ببطلان صيامه إذ لم يتممه ولم تفصل الآية بين من أكل جاهلا بالوقت أو عالما به* فإن قيل قال الله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ* مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فما لم يتبين له ذلك فالأكل له مباح* قيل له لا يخلو هذا الأكل من أحد حالين إما أن يكون ممن أمكنه استبانة طلوع الفجر والوصول إلى علمه من جهة اليقين بأن يكون عارفا به وليس بينه وبينه حائل فإن كان كذلك ثم لم يستبن فإن هذا لا يكون إلا من تفريطه في تأمله وترك مراعاته ومن كانت هذه حاله فغير جائز له الإقدام على الأكل فإذا أكل فقد فعل ما لم يكن له أن يفعله إذ قد كان في وسعه وإمكانه الوصول إلى اليقين والاستبانة ففرط فيه ولم يفعله وتفريطه غير مسقط عنه فرض الصوم وإن كان هذا الأكل ممن لا يعرف الفجر بصفته أو بينه وبينه حائل أو قمر أو ضعف بصر أو نحو ذلك فهذا أيضا ممن لا يجوز له العمل على الظن بل عليه أن يصير إلى اليقين ولا يأكل وهو شاك وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يسقط عنه القضاء بتركه الاحتياط للصوم وكذلك من أكل على ظن منه بغيبوبة الشمس في يوم غيم فهو بهذه المنزلة بمقتضى ظاهر قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فإن قيل لم يكلف تبين الفجر عند الله تعالى وإنما كلف ما عنده* قيل له إذا أمكنه الوصول إلى معرفة طلوع الفجر الذي هو عند الله فعليه مراعاته فمتى لم يكن هناك حائل استحال أن لا يعلمه ومع ذلك فإنه إن غفل أبيح له الأكل في حال غفلته فإن إباحة الأكل غير مسقطة للقضاء كالمريض والمسافر وهما أصل في ذلك لأنهما معذوران والذي اشتبه عليه طلوع الفجر أو ظنه قد طلع معذور في الأكل والعذر لا يسقط القضاء بدلالة ما وصفنا ويدل عليه اتفاق الجميع أنه لو غم عليهم الهلال في أول ليلة من رمضان فأفطروا ثم علموا بعد ذلك أنه كان

٢٩٩

من رمضان كان عليهم القضاء فكذلك من وصفنا أمره وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بشهر رمضان حتى مضى ثم علم به كان عليه القضاء ولم يكن مكلفا في حال الإفطار إلا علمه ثم لم يكن جهله بالوقت مسقطا للقضاء فكذلك من خفى عليه طلوع الفجر وغروب الشمس* فإن قيل هلا كان بمنزلة التأسي في سقوط القضاء لأنه لم يعلم في حال الأكل بوجوب الصوم عليه قيل له هذا اعتلال فاسد لوجوده فيمن غم عليه هلال رمضان مع إيجاب الجميع عليه القضاء متى علم أنه من رمضان وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بالشهر حتى مضى عليه القضاء عند الجميع من جهله بوجوب الصوم عليه* وقال أصحابنا في الآكل ناسيا القياس أن يجب القضاء عليه وإنما تركوا القياس للأثر ولو كان ظاهر الآية ينفى صحة صوم الناسي لأنه لم يتم صومه والله سبحانه قال( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والصوم هو الإمساك ولم يوجد منه ذلك ألا ترى أنه لو نسى الصوم رأسا أنه لا خلاف أن عليه القضاء ولم يكن نسيانه مسقطا القضاء عنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء المعنى قالا حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبى بكر قالت أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم طلعت الشمس قال أبو أسامة قلت لهشام أمروا بالقضاء قال وبد من ذلك وقوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) يوجب أيضا إبطال صوم المكره على الأكل لأنه لم يتمه على ما قدمنا وكذلك إبطال صوم من جن فأكل في حال جنونه لأن الله تعالى حكم بصحة الصوم لمن أتمه إلى الليل فمن وجد منه فعل يحظره الصوم فهو غير متم لصومه إلى الليل فيلزمه القضاء وأما الوقت الذي هو نهاية الصوم ويجب به الإفطار هو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا سليمان الشيباني قال سمعت عبد الله بن أبى أوفى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم وأشار بإصبعه قبل المشرق) وروى أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (إذا سقط القرص

٣٠٠