أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 73956
تحميل: 2852


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73956 / تحميل: 2852
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

أفطر) ولا خلاف في أنه إذا غابت الشمس فقد انقضى وقت الصوم وجاز للصائم الأكل والشرب والجماع وسائر ما حظره عليه الصوم وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم) يوجب أن يكون مفطرا بغروب الشمس أكل أو لم يأكل لأن الصوم لا يكون بالليل ولذلك نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال لأنه يترك الطعام والشراب وهو مفطر والوصال أن يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل شيئا ولا يشرب فإن أكل أو شرب في أى وقت كان شيئا قليلا فقد خرج من الوصال وقد روى ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن الوصال قالوا يا رسول الله إنك تواصل فقال (إنكم لستم كهيئتى إنى أبيت لي مطعم يطعمنى وساق يسقيني فأيكم واصل فمن السحر إلى السحر) فأخبر أنه إذا أكل أو شرب سحرا فهو غير مواصل وأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يواصل لأن الله يطعمه ويسقيه وفي حديث أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قيل له إنك تواصل فقال (إنى أبيت يطعمنى ربي ويسقيني) ومن الناس من يقول إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخصوصا بإباحة الوصال دون أمته وقد أخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله يطعمه ويسقيه ومن كان كذلك فلم يواصل والله أعلم بالصواب.

باب الاعتكاف

قال الله تعالى( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) ومعنى الاعتكاف في أصل اللغة هو اللبث قال الله( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) وقال تعالى( فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) وقال الطرماح :

فباتت بنات الليل حولي عكفا

عكوف البواكي بينهن صريع

ثم نقل في الشرع إلى معان أخر مع اللبث لم يكن الاسم يتناولها في اللغة منها الكون في المسجد ومنها الصوم ومنها ترك الجماع رأسا ونية التقرب إلى الله عز وجل ولا يكون معتكفا إلا بوجود هذه المعاني وهو نظير ما قلنا في الصوم أنه اسم للإمساك في اللغة ثم زيد فيه معان أخر لا يكون الإمساك صوما شرعيا إلا بوجودها وأما شرط اللبث في المسجد فإنه للرجال خاصة دون النساء وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف فالأصل فيه قوله عز وجل( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد وقد اختلف السلف في المسجد الذي يجوز الاعتكاف فيه

٣٠١

على أنحاء وروى عن أبى وائل عن حذيفة أنه قال لعبد الله رأيت ناسا عكوفا بين دارك ودار الأشعرى لا تعير وقد علمت أن لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو في المسجد الحرام فقال عبد الله لعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت وروى إبراهيم النخعي أن حذيفة قال لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عن قتادة عن سعيد بن المسيب لا اعتكاف إلا في مسجد نبي وهذا موافق لمذهب حذيفة لأن المساجد الثلاثة هي مساجد الأنبياء عليهم السلام وقول آخر وهو ما روى إسرائيل عن أبى إسحاق عن الحرث عن على قال لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عن عبد الله بن مسعود وعائشة وإبراهيم وسعيد بن جبير وأبى جعفر وعروة بن الزبير لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة فحصل من اتفاق جميع السلف أن من شرط الاعتكاف الكون في المسجد على اختلاف منها في عموم المساجد وخصوصها على الوجه الذي بينا ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في سائر المساجد التي تقام فيها الجماعات إلا شيء يحكى عن مالك ذكره عنه ابن عبد الحكم قال لا يعتكف أحد إلا في المسجد الجامع أو في رحاب المساجد التي تجوز فيها الصلاة وظاهر قوله( وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدلالة وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه كما أن تخصيص من خصه بمساجد الأنبياء لما لم يكن عليه دليل سقط اعتباره* فإن قيل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدى هذا) يدل على اعتبار تخصيص هذه المساجد وكذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام) يدل على اختصاص هذين المسجدين بالفضيلة دون غيرهما* قيل له لعمري أن هذا القول من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تخصيصه المساجد الثلاثة في حال والمسجدين في حال دليل على تفضيلهما على سائر المساجد وكذلك نقول كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه لا دلالة فيه على نفى جواز الاعتكاف في غيرهما كما لا دلالة على نفى جواز الجمعات والجماعات في غيرهما فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصهما وقول مالك في الرواية التي رويت عنه في تخصيص مساجد الجماعات دون مساجد الجماعات لا معنى له وكما لا تمنع صلاة الجمعة في سائر المساجد كذلك

٣٠٢

لا يمتنع الاعتكاف فيها فكيف صار الاعتكاف مخصوصا بمساجد الجمعات دون مساجد الجماعات وقد اختلف الفقهاء في موضع اعتكاف النساء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد جماعة وقال مالك تعتكف المرأة في مسجد الجماعة ولا يعجبه أن تعتكف في مسجد بيتها وقال الشافعى العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاءوا لأنه لا جمعة عليهم* قال أبو بكر روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن فأخبر أن بيتها خير لها ولم يفرق بين حالها في الاعتكاف وفي الصلاة ولما أجاز للمرأة الاعتكاف باتفاق الفقهاء وجب أن يكون ذلك في بيتها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وبيوتهن خير لهن) فلو كانت ممن يباح لها الاعتكاف في المسجد لكان اعتكافها في المسجد أفضل ولم يكن بيوتهن خير لهن لأن الاعتكاف شرطه الكون في المساجد لمن يباح له الاعتكاف فيه ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) فلما كانت صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كان اعتكافها كذلك ويدل على كراهة الاعتكاف في المساجد للنساء ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه قالت وأنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت ببنائى فضرب قالت وأمر غيرى من أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنائه فضرب فلما صلّى الفجر نظر إلى الأبنية فقال ما هذه آلبر تردن قالت ثم أمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول يعنى من شوال وهذا الخبر يدل على كراهية الاعتكاف للنساء في المسجد بقوله آلبر تردن يعنى أن هذا ليس من البر ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر ونقض بناءه حتى نقضن ابنيتهن ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لما ترك الاعتكاف بعد العزيمة ولما جوز لهن تركه وهو قربة إلى الله تعالى وفي هذا دلالة على أنه قد كره اعتكاف النساء في المساجد* فإن قيل قد روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وقالت فيه فاستأذنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاعتكاف فأذن لي

٣٠٣

ثم استأذنته زينب فأذن لها فلما صلّى الفجر رأى في المسجد أربعة أبنية فقال ما هذا فقالوا لزينب وحفصة وعائشة فقال آلبر تردن فلم يعتكف فأخبرت في هذا الحديث بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له ليس فيه أنه أذن لهن في الاعتكاف في المسجد ويحتمل أن يكون الإذن انصرف إلى اعتكافهن في بيوتهن ويدل عليه أنه لما رأى ابنيتهن في المسجد ترك الاعتكاف حتى تركن أيضا وهذا يدل على أن الإذن بديا لم يكن إذنا لهن في الاعتكاف في المسجد وأيضا فلو صح أن الإذن بديا انصرف إلى فعله في المسجد لكانت الكراهة دالة على نسخه وكان الآخر من أمره أولى مما تقدم* فإن قيل لا يجوز أن يكون ذلك نسخا للإذن لأن النسخ عندكم لا يجوز قبل التمكن من الفعل قيل له قد كن مكن من الفعل لأدنى الاعتكاف لأنه من حين طلوع الفجر من ذلك اليوم أن صلّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر فعلهن ذلك فقد حصل التمكين من الاعتكاف فلذلك جاز ورود النسخ بعده وأما قول الشافعى فيمن لا جمعة عليه أن له أن يعتكف حيث شاء فلا معنى له لأنه ليس الاعتكاف تعلق بالجمعة وقد وافقنا الشافعى على جواز الاعتكاف في سائر المساجد فيمن عليه جمعة ومن ليست عليه لا يختلفان في موضع الاعتكاف وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة فأما من سواها فلا يختلف الحكم فيه لقوله تعالى( وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) فلم يخصص من عليه جمعة من غيرهم فلا يختلف في الاعتكاف من عليه جمعة ومن ليست عليه لأنه نافلة ليس بفرض على أحد وقد اختلف الفقهاء في مدة الاعتكاف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعى له أن يعتكف يوما وما شاء وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في من دخل في الاعتكاف من غير إيجاب بالقول في إحدى الروايتين هو معتكف ما دام في المسجد وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه فيه والرواية الأخرى وهي في غير الأصول أن عليه أن يتمه يوما وروى ابن وهب عن مالك قال ما سمعت أن أحدا اعتكف دون عشر ومن صنع ذلك لم أر عليه شيئا وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يقول الاعتكاف يوم وليلة ثم رجع وقال لا اعتكاف أقل من عشرة أيام وقال عبيد الله بن الحسن لا أستحب أن يعتكف أقل من عشرة أيام* قال أبو بكر تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة

٣٠٤

فإن قيل تحديد العشرة لما روى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان وروى أنه اعتكف العشر الأواخر من شوال في بعض السنين ولم يرو أنه اعتكف أقل من ذلك* قيل له لم يختلف الفقهاء إن فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للاعتكاف ليس على الوجوب وأنه غير موجب على أحد اعتكافا فإذا لم يكن فعله للاعتكاف على الوجوب فتحديد العشرة أولى أن لا يثبت بفعله ومع ذلك فإنه لم ينف عن غيره فنحن نقول أن اعتكاف العشرة جائز ونفى ما دونها يحتاج إلى دليل وقد أطلق الله تعالى ذكر الاعتكاف فقال( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) ولم يحده بوقت ولم يقدره بمدة فهو على إطلاقه وغير جائز تخصيصه بغير دلالة والله أعلم.

باب الاعتكاف هل يجوز بغير صوم

قال الله تعالى( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وقد بينا أن الاعتكاف اسم شرعي وما كان هذا حكمه من الأسماء فهو بمنزلة المجمل الذي يفتقر إلى البيان* وقد اختلف السلف في ذلك فروى عطاء عن ابن عمر عن ابن عباس وعائشة قالوا المعتكف عليه الصوم وقال سعيد بن المسيب عن عائشة من سنة المعتكف أن يصوم وروى حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على قال لا اعتكاف إلا بصوم وهو قول الشعبي وإبراهيم ومجاهد وقال آخرون يصح بغير صوم روى الحكم عن على وعبد الله وقتادة عن الحسن وسعيد وأبو معشر عن إبراهيم قالوا إن شاء صام وإن شاء لم يصم وروى طاوس عن ابن عباس مثله* واختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لا اعتكاف إلا بصوم وقال الليث بن سعد الاعتكاف في رمضان والجوار في غير رمضان ومن جاور فعليه ما على المعتكف من الصيام وغيره وقال الشافعى يجوز الاعتكاف بغير صوم* قال أبو بكر لما كان الاعتكاف اسما مجملا لما بينا كان مفتقرا إلى البيان فكل ما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في اعتكافه فهو وارد مورد البيان فيجب أن يكون على الوجوب لأن فعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب إلا ما قام دليله فلما ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا اعتكاف إلا بصوم وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح إلا به كفعله في الصلاة لإعداد الركعات

٣٠٥

والقيام والركوع والسجود لما كان على وجه البيان كان على الوجوب* ومن جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن بديل بن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اعتكف وصم * وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن إبان بن صالح القرشي قال حدثنا عمرو بن محمد عن عبد الله بن بديل بإسناده نحوه وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجوب فثبت بذلك أنه من شروط الاعتكاف* ويدل عليه أيضا قول عائشة رضى الله تعالى عنها من سنة المعتكف أن يصوم ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على لزومه بالنذر فلو لا ما يتضمنه من الصوم لما لزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في الوجوب لا يلزم بالنذر ولا يصير واجبا كما أن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة وإن تقرب به ويدل عليه أن الاعتكاف لبث في مكان فأشبه الوقوف بعرفة والكون بمنى لما كان لبثا في مكان لم يصر قربة إلا بإنضمام معنى آخر إليه هو في نفسه قربة فالوقوف بعرفة الإحرام والكون بمنى الرمي* فإن قيل لو كان من شرطه الصوم لما* صح بالليل لعدم الصوم فيه* قيل له قد اتفقوا على أن من شرطه اللبث في المسجد ثم لا يخرجه من الاعتكاف خروجه لحاجة الإنسان وللجمعة ولم ينف ذلك كون اللبث في المسجد شرطا فيه كذلك من شرطه الصوم وصحته بالليل مع عدم الصوم غير مانع أن يكون من شرطه وكذلك اللبث بمنى قربة لأجل الرمي ثم يكون اللبث بالليل بها قربة لرمي يفعله في غد كذلك الاعتكاف بالليل صحيح بصوم يستقبله في غد والله أعلم.

باب ما يجوز للمعتكف أن يفعله

قال الله تعالى( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) يحتمل اللفظ حقيقة المباشرة التي هي إلصاق البشرة بالبشرة من أى موضع كان من البدن ويحتمل أن يكون كناية عن الجماع كما كان المسيس كناية عن الجماع وحقيقته المس باليد وبسائر الأعضاء وكما قال( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) والمراد الجماع فلما اتفق الجميع أن هذه الآية قد حظرت الجماع على المعتكف وأنه مراد بها وجب أن تنتفى إرادة المباشرة التي هي حقيقة لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا وقد اختلف الفقهاء في مباشرة

٣٠٦

المعتكف فقال أصحابنا لا بأس بها إذا لم تكن بشهوة وأمن على نفسه ولا ينبغي أن يباشرها بشهوة ليلا ولا نهارا فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه فإن لم ينزل لم يفسد وقد أساء وقال ابن القاسم عن مالك إذا قبل امرأته فسد اعتكافه وقال المزني عن الشافعى إن باشر فسد اعتكافه وقال في موضع آخر لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد قال أبو بكر قد بينا أن مراد الآية في المباشرة هو الوطء دون المباشرة باليد والقبلة وكذلك قال أبو يوسف أن قوله( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) إنما هو على الجماع وروى عن الحسن البصري قال المباشرة النكاح وقال ابن عباس إذا جامع المعتكف فسد اعتكافه وقال الضحاك كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزل( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وقال قتادة كان الناس إذا اعتكفوا خرج الرجل منهم فباشر أهله ثم رجع إلى المسجد فنهاهم الله عن ذلك بقوله( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وهذا من قولهم يدل على أنهم عقلوا من مراد الآية الجماع دون اللمس والمباشرة باليد ويدل على أن المباشرة لغير شهوة مباحة للمعتكف حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت رجل رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معتكف فكانت لا محالة تمس بدن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدها فدل على أن المباشرة لغير شهوة غير محظورة على المعتكف وأيضا لما ثبت أن الاعتكاف بمعنى الصوم في باب حظر الجماع ولم يكن الصوم مانعا من المباشرة أو القبلة لغير شهوة إذا أمن على نفسه وروى ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثار مستفيضة وجب أن لا يمنع الاعتكاف القبلة لغير شهوة ولما كانت المباشرة والقبلة لشهوة محظورتين في الصوم وجب أن يكون ذلك حكمهما في الاعتكاف ولما كانت المباشرة في الصوم إذا حدث عنها إنزال فسد الصوم وجب أن يفسد الاعتكاف لأن الاعتكاف والصوم قد جريا مجرى واحدا في اختصاصهما بحظر الجماع دون دواعيه من الطيب ودون اللباس فإن قيل المحرم إذا قبل بشهوة لزمه دم وإن لم ينزل فهلا أفسدت اعتكاف بمثله قيل له ليس الإحرام بأصل للاعتكاف ألا ترى أنه ممنوع في الإحرام من الجماع ودواعيه من الطيب ومحظور عليه اللبس والصيد وإزالة التفث عن نفسه وليس يحظر ذلك عليه الاعتكاف فثبت بذلك أن الإحرام ليس بأصل للاعتكاف وأن الإحرام أكبر حرمة فيما يتعلق به من الأحكام فلما كان المحرم ممنوعا من الاستمتاع

٣٠٧

وقد حصل له ذلك بالمباشرة وإن لم ينزل وجب عليه دم لحصول الاستمتاع بما هو محظور عليه فأشبه الاستمتا ث عنها إنزال كما لا يفسد إحرامه قيل له لم نجعل ما وصفنا علة في فساد الاعتكاف ع بالطيب واللباس فلزمه من أجل ذلك دم فإن قيل فلا يفسد اعتكافه وإن حد حتى يلزمنا علتها وإنما أفسدنا اعتكافه بالإنزال عن المباشرة كما أفسدنا صومه وأما الإحرام فهو مخصوص في إفساده بالجماع في الفرج وسائر الأمور المحظورة في الإحرام لا يفسده ألا ترى أن اللبس والطيب والصيد كل ذلك محظور في الإحرام ولا يفسده إذا وقع فيه فالإحرام في باب البقاء مع وجود ما يحظره أكبر من الاعتكاف والصوم ألا ترى أن بعض الأشياء التي يحظرها الصوم يفسده مثل الأكل والشرب وكذلك يفسد الاعتكاف فلذلك قلنا إن المباشرة في الاعتكاف إذا حدث عنها إنزال أفسدته كما تفسد الصوم ومتى لم يحدث عنها لم يكن لها تأثير في إفساد الاعتكاف كما لم تؤثر في إفساد الصوم واختلف فقهاء الأمصار في أشياء من أمر المعتكف فقال أصحابنا لا يخرج المعتكف من المسجد في اعتكاف واجب ليلا ولا نهارا إلا لما لا بد منه من الغائط والبول وحضور الجمعة ولا يخرج لعيادة مريض ولا لشهود جنازة قالوا ولا بأس بأن يبيع ويشترى ويتحدث في المسجد ويتشاغل بما لا مأثم فيه ويتزوج وليس فيه صمت وبه قال الشافعى وقال ابن وهب عن مالك لا يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها بل يشتغل باعتكافه ولا بأس أن يأمر بصنعته ومصلحة أهله وبيع ماله أو شيئا لا يشغله في نفسه ولا بأس به إذا كان خفيفا قال مالك ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف ولا بأس بنكاح المعتكف ما لم يكن الوقاع وقال ابن القاسم عن مالك لا يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد يقوم إليه في المسجد ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر به بأسا ولا يقوم إلى الناكح فيهنيه ولا يتشاغل في مجلس العلم ولا يكتب العلم في المجلس وكرهه ويشترى ويبيع إذا كان خفيفا وقال سفيان الثوري المعتكف يعود المريض ويشهد الجمعة وما لا يحسن به أن يصنعه في المسجد أتى أهله فصنعه ولا يدخل سقفا إلا أن يكون ممره فيه ولا يجلس عند أهله وليوصهم بحاجته وهو قائم أو يمشى ولا يبيع ولا يبتاع وإن دخل سقفا بطل اعتكافه وقال الحسن بن صالح إذا دخل المعتكف بيتا ليس فيه طريقه أو جامع بطل

٣٠٨

اعتكافه ويحضر الجنازة ويعود المريض ويأتى الجمعة ويخرج للوضوء ويدخل بيت المريض ويكره أن يبيع ويشترى قال أبو بكر روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير عن عائشة قالت إن من السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا يتبع الجنازة ولا يعود مريضا ولا يمس امرأة ولا يباشرها وعن سعيد بن المسيب ومجاهد قالا لا يعود المعتكف مريضا ولا يجيب دعوة ولا يشهد جنازة وروى مجاهد عن ابن عباس قال ليس على المعتكف أن يعود مريضا ولا يتبع جنازة فهؤلاء السلف من الصحابة والتابعين قد روى عنهم في المعتكف ما وصفنا وروى عن غيرهم خلاف ذلك وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على قال المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويتبع الجنازة وروى مثله عن الحسن وعامر وسعيد بن جبير وروى سفيان بن عيينة عن عمار بن عبد الله بن يسار عن أبيه عن على أنه لم ير بأسا أن يخرج المعتكف ويبتاع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف يدنى إلى رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان فهذا الحديث يقتضى حظر الخروج إلا لحاجة الإنسان مما وصفنا من أن فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للاعتكاف وارد مورد البيان وفعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فأوجب ما ذكرنا من فعله حظر الخروج على المعتكف إلا لحاجة الإنسان وإنما يعنى به البول والغائط ولما كان من شرط الاعتكاف اللبث في المسجد وبذلك قرنه الله تعالى عند ذكره في قوله( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وجب أن لا يخرج إلا لما لا بد منه من حاجة الإنسان وقضاء فرض الجمعة ولأنه معلوم أنه لم يعقد على نفسه اعتكافا هو منتقل بإيجابه وهو يريد ترك شهود الجمعة وهي فرض عليه فصار حضورها مستثنى من اعتكافه* فإن قيل أليس في قوله( وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) دلالة على أن من شرطه دوام اللبث فيه لأنه إنما ذكر الحال التي يكونون عليها وعلق به حظر الجماع إذا كانوا من بهذه الصفة ولا دلالة على حظر الخروج من المسجد في حال الاعتكاف قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أنه معلوم أن حظر الجماع على المعتكف غير متعلق يكونه في المسجد لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس له أن يجامع امرأته في بيته في

٣٠٩

حال الاعتكاف وقد حكينا عن بعض السلف أن الآية نزلت فيمن كان يخرج من المسجد في حال اعتكافه إلى بيته ويجامع فلما كان ذلك كذلك ثبت أن ذكر المسجد في هذا الموضع إذا لم يعلق به حظر الجماع إنما هو لأن ذلك شرط الاعتكاف ومن أوصافه التي لا يصح إلا به والوجه الآخر أن الاعتكاف لما كان أصله في اللغة اللبث في الموضع ثم ذكر الله تعالى الاعتكاف فاللبث لا محالة مراد به وإن أضيف إليه معان أخر لم يكن الاسم لها في اللغة كما أن الصوم لما كان في اللغة هو الإمساك ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يخرجه ذلك من أن يكون من شرطه وأوصافه التي لا يصح إلا به فثبت أن الاعتكاف هو اللبث في المسجد فواجب على هذا أن لا يخرج إلا لما لا بد منه أو لشهود الجمعة إذ كانت فرضا مع ما عاضد هذه المقالة ما قدمنا من السنة* ولما لم يتعين فرض شهود الجنازة وعيادة المريض لم يجز له الخروج لهما وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فما يعرج عليه يسئل عنه ويمضى وروى الزهري عن عمرة عن عائشة مثله من فعلها ولما اتفق الجميع ممن ذكرنا قوله أنه غير جائز للمعتكف أن يخرج فينصرف في سائر أعمال البر من قضاء حوائج الناس والسعى على عياله وهو من البر وجب أن يكون كذلك حكم عيادة المريض وكما لا يجيبه إلى دعوته كذلك عيادته لأنهما سواء في حقوق بعضهم على بعض فالكتاب والأثر والنظر يدل على صحة ما وصفنا* فإن احتج محتج بما روى الهياج الخراساني قال حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الخالق عن أنس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (المعتكف يتبع الجنازة ويعود المريض وإذا خرج من المسجد قنع رأسه حتى يعود إليه) قيل له هذا حديث مجهول السند لا يعارض به حديث الزهري عن عمرة عن عائشة وأما قول من قال أنه إن دخل سقفا بطل اعتكافه فتخصيصه السقف دون غيره لا دلالة عليه ولا فرق بين السقف وغيره من الفضاء فإن كونه في الفضاء والصحراء لا يفسد اعتكافه فكذلك السقف مثله وأما البيع والشراء من غير إحضار السلعة والميزان فلا بأس عندهم به وإنما أرادوا البيع بالقول فحسب لا إحضار السلع والأثمان وإنما جاز ذلك لأنه مباح فهو كسائر كلامه في الأمور المباحة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن الصمت يوم إلى الليل فإذا كان الصمت محظورا فهو لا محالة مأمور بالكلام فسائر ما ينافي الصمت

٣١٠

من مباح الكلام قد انتظمه اللفظ وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزى قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن على بن الحسين عن صفية قالت كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معى ليقلبنى وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرعا فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (على رسلكما إنها صفية بنت حيي قالا سبحان الله يا رسول الله قال إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال شرا) فتشاغل في اعتكافه بمحادثة صفية ومشى معها إلى باب المسجد وهذا يبطل قول من قال لا يتشاغل بالحديث ولا يقوم فيمشى إلى أملاك في المسجد* وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون متعكفا في المسجد فيناولنى رأسه من خلال الحجرة فأغسل رأسه وأرجله وأنا حائض * وقد حوى هذا الخبر أحكاما منها إباحة غسل الرأس وهو في المسجد ومنها جواز المباشرة واللمس بغير شهوة للمعتكف ومنها جواز غسل الرأس في حال الاعتكاف وغسل الرأس إنما هو لإصلاح البدن فدل ذلك على أن للمعتكف أن يفعل ما فيه صلاح بدنه ودل أيضا على أنه له أن يشتغل بما فيه صلاح ماله كما أبيح له الاشتغال بإصلاح بدنه لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (قتال المؤمن كفر وسبابة فسق وحرمة ماله كحرمة دمه) ودل أيضا على أن للمعتكف أن يتزين لأن ترجيل الرأس من الزينة ويدل على أن من كان في المسجد فأخرج رأسه فغسله كان غاسلا له في المسجد وهو يدل على قولهم فيمن حلف لا يغسل رأس فلان في المسجد أنه يحنث إن أخرج رأسه من المسجد فغسله والحالف خارج المسجد وأنه إنما يعتبر موضع المغسول لا الغاسل لأن الغسل لا يكون إلا وهو متصل به يقتضى وجود المغسول ولذلك قالوا فيمن حلف لا يضرب فلانا في المسجد أنه يعتبر وجود المضروب في المسجد لا الضارب ويدل أيضا على طهارة يد الحائض وسؤرها وأن حيضها لا يمنع طهارة بدنها وهو كقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس حيضك في يدك والله أعلم.

باب ما يحله حكم الحاكم وما لا يحله

قال الله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا

٣١١

فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ) والمراد والله أعلم لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كما قال تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وقوله( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) يعنى بعضكم بعضا وكما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أموالكم وأعراضكم عليكم حرام) يعنى أموال بعضكم على بعض وأكل المال بالباطل على وجهين أحدهما أخذه على وجه الظلم والسرقة والخيانة والغصب وما جرى مجراه والآخر أخذه من جهة محظوره نحو القمار وأجرة الغناء والقيان والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير والحر وما لا يجوز أن يتملكه وإن كان بطيبة نفس من مالكه وقد انتظمت الآية حظر أكلها من هذه الوجوه كلها* ثم قوله( وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ) فيما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له في الظاهر فأبان تعالى أن حكم الحاكم به لا يبيح أخذه فزجر عن أكل بعضنا لمال بعض بالباطل ثم أخبر أن ما كان منه بحكم الحاكم فهو في حيز الباطل الذي هو محظور عليه أخذه وقال في آية أخرى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) فاستثنى من الجملة ما وقع من التجارة بتراض منهم به ولم يجعله من الباطل وهذا هو في التجارة الجائزة دون المحظورة وما تلونا من الآي أصل في أن حكم له الحاكم بالمال لا يبيح له أخذ المال الذي لا يستحقه* وبمثله وردت الأخبار والسنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قالت كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنما أقضى بينكما برأى فيما لم ينزل على فيه فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع قطعة من النار يأتى بها أسطاما يوم القيامة في عنقه) فبكى الرجلان فقال كل واحد منهما يا رسول الله حقي له فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا ولكن اذهبا فتوخيا للحق ثم استهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه) ومعنى هذا الخبر مواطئ لما ورد به نص التنزيل في أن حكم الحاكم له بالمال لا يبيح له أخذه* وقد حوى هذا الخبر معاني أخر منها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يقضى برأيه واجتهاده فيما لم ينزل به وحى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أقضى بينكما برأى فيما لم ينزل على فيه) وقد دل ذلك أيضا على أن الذي كلف الحاكم من ذلك الأمر الظاهر وأنه لم يكلف المغيب عند الله تعالى* وفيه الدلالة على أن كل مجتهد فيما يسوغ فيه الاجتهاد

٣١٢

مصيب إذ لم يكلف غير ما أداه إليه اجتهاده ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبر أنه مصيب في حكمه بالظاهر وإن كان الأمر في المغيب خلافه ولم يبح مع ذلك للمقتضي له أخذ ما قضى له به* ودل أيضا على أن الحاكم جائز له أن يعطى إنسانا مالا ويأمر له به وإن لم يسع* المحكوم له أخذه إذا علم أنه غير مستحق* ودل أيضا على جواز الصلح عن غير إقرار لأن واحدا منهما لم يقر بالحق وإنما بذل ماله لصاحبه فأمرهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلح وأن يستهما عليه والاستهام هو الاقتسام* ويدل على أن القسمة في العقار وغيره واجبة إذا* طلبها أحدهما ويدل أيضا على أن الحاكم يأمر بالقسمة* ويدل على جواز البراءة من المجاهيل أيضا لأنه أخبر بجهالة المواريث التي قد درست ثم أمرهما مع ذلك بالتحليل وعلى أنه لو لم يذكر فيه أنها مواريث قد درست لكان يقتضى قوله وليحلل كل واحد منكما صاحبه جواز البراءة من المجاهيل لعموم اللفظ إذ لم يفرق بين المجهول من ذلك والمعلوم ودل أيضا على جواز تراضى الشريكين على القسمة من غير حكم الحاكم* ودل أيضا على أن من له قبل رجل حق فوهبه له فلم يقبله أنه لا يصح ويعود الملك إلى الوهاب لأن كل واحد منهما رد ما وهبه الآخر وجعل حق نفسه لصاحبه ولما لم يفرق في ذلك بين الأعيان والديون وجب أن يستوي حكم الجميع إذا رد البراءة والهبة في وجوب بطلانهما* ويدل أيضا على أن قول القائل لفلان من مالي ألف درهم أنه هبة منه وليس بإقرار لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجعل قول كل واحد منهما الذي لي له إقرارا لأنه لو جعل إقرارا لجاز عليه ولم يحتاجا بعد ذلك إلى الصلح والتحليل والقسمة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لفلان من مالي ألف درهم* ويدل أيضا على جواز التحري والاجتهاد في موافقة الحق* وإن لم يكن يقينا لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوخيا للحق أى تحريا واجتهادا* ويدل أيضا على أن الحاكم جائز له أن يرد الخصوم للصلح إذا رأى ذلك وأن لا يحملها على مر الحكم ولهذا قال عمر ردوا الخصوم كي يصطلحوا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه فأقضى له على نحو مما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يؤخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا

٣١٣

أبو داود قال حدثنا الربيع بن نافع قال حدثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر نحوه فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك فقال لهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا) وهذان الحديثان في معنى الحديث الذي قدمناه في حظر أخذ ما يحكم له به الحاكم إذا علم أنه غير مستحق له وفيهما فوائد أخر منها أن قوله في حديث زينب بنت أم سلمة أقضى له على نحو مما أسمع يدل على جواز إقرار المقر بما أقر به على نفسه لإخباره أنه يقضى بما يسمع وكذلك قد اقتضى الحكم بمقتضى ما يسمعه من شهادة الشهود واعتبار لفظهما فيما يقتضيه ويوجبه وقال في حديث عبد الله بن رافع هذا اقتسما وتوخيا الحق ثم استهما وهذا الاستهام هو القرعة التي يقرع بها عند القسمة وفيه دلالة على جواز القرعة في القسمة والذي ورد التنزيل من حظر ما حكم له به الحاكم إذا علم المحكوم له أنه غير محكوم له بحق قد اتفقت الأمة عليه فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة فقضى له أنه غير جائز له أخذه وإن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل ذلك محظورا عليه واختلفوا في حكم الحاكم بعقد أو فسخ عقد بشهادة شهود إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور فقال أبو حنيفة إذا حكم الحاكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ويكون كعقد نافذ عقداه بينهما وإن كان الشهود شهود زور أبو يوسف ومحمد والشافعى حكم الحاكم في الظاهر كهو في الباطن وقال أبو يوسف فإن حكم بفرقة لم تحل للمرأة أن تتزوج ولا يقربها زوجها أيضا قال أبو بكر روى نحو قول أبى حنيفة عن على وابن عمر والشعبي ذكر أبو يوسف عن عمرو بن المقدام عن أبيه أن رجلا من الحي خطب امرأة وهو دونها في الحسب فأبت أن تزوجه فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين عند على فقالت إنى لم أتزوجه قال قد زوجك الشاهدان فأمضى عليهما النكاح قال أبو يوسف وكتب إلى شعبة بن الحجاج يرويه عن زيد أن رجلين شهدا على رجل أنه طلق امرأته بزور ففرق القاضي بينهما ثم تزوجها أحد الشاهدين قال الشعبي ذلك جائز وأما ابن عمر فإنه باع عبدا بالبراءة فرفعه المشترى إلى عثمان فقال عثمان أتحلف بالله ما بعته وبه داء كتمته فأبى أن يحلف فرده عليه عثمان فباعه من غيره بفضل كثير فاستجاز ابن عمر بيع العبد مع علمه بأن باطن ذلك الحكم خلاف

٣١٤

ظاهره وإن عثمان لو علم منه مثل علم ابن عمر لما رده فثبت بذلك أنه كان من مذهبه إن فسخ الحاكم العقد يوجب عوده إلى ملكه وإن كان في الباطن خلافه* ومما يدل على صحة قول أبى حنيفة في ذلك حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية ولعان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ثم قال إن جاءت به على صفة كيت وكيت فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به على صفة أخرى فهو لشريك بن سحماء الذي رميت به فجاءت به على الصفة المكروهة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن ولم تبطل الفرقة الواقعة بلعانهما مع علمه بكذب المرأة وصدق الزوج فصار ذلك أصلا في أن العقود وفسخها متى حكم بها الحاكم مما لو ابتدأ أيضا بحكم الحاكم وقع* ويدل على ذلك أيضا أن الحاكم مأمور بإمضاء الحكم عند شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة ولو توقف عن إمضاء الحكم بما شهد به الشهود من عقد أو فسخ عقد لكان آثما تاركا لحكم الله تعالى لأنه إنما كلف الظاهر ولم يكلف علم الباطن المغيب عند الله تعالى وإذا مضى الحكم بالعقد صار ذلك كعقد مبتدأ بينهما وكذلك إذا حكم بالفسخ صار كفسخ فيما بينهما وإنما نفذ العقد والفسخ إذا تراضى المتعاقدان بحكم الله عز وجل بذلك وكذلك حكم الحاكم* فإن قيل فلو حكم بشهادة عبيد لم ينفذ حكمه إذا تبين مع كونه مأمورا بإمضاء الحكم به قيل له إنما لم ينفذ حكمه من قبل أن الرق معنى يصح ثبوته من طريق الحكم وكذلك الشرك والحد في القذف فجاز فسخ حكم الحاكم به بعد وقوعه ألا ترى أنه يصح قيام البينة به والخصومة فيه عند الحاكم فلذلك جاز أن لا ينفذ حكم الحاكم بشهادة هؤلاء لوجود ما ذكرنا من المعاني التي يصح إثباتها من طريق الحكم وأما الفسق وجرح الشهادة من قبل أنهم شهود زور فليس هو معنى يصح إثباته من طريق الحكم ولا يتقبل فيه الخصومة فلم ينفسخ ما أمضاه الحاكم فإن ألزمنا على العقد وفسخه الحكم بملك مطلق ولم نبح له أخذه لم يلزمنا ذلك لأن الحاكم عندنا إنما يحكم له بالتسليم لا بالملك لأنه لو حكم له بالملك لاحتيج إلى ذكر جهة الملك في شهادة الشهود فلما اتفق الجميع على أنه تقبل شهادة الشهود من غير ذكر جهة الملك دل ذلك على أن المحكوم به هو التسليم والحكم بالتسليم ليس بسبب لنقل الملك فلذلك كان الشيء باقيا على ملك مالكه* وقوله( لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يدل على أن ذلك فيمن علم أنه أخذ ما ليس له فأما من لم يعلم فجائز له أن يأخذه بحكم الحاكم

٣١٥

له بالمال إذا قامت بينة وهذا يدل على أن البينة إذا قامت بأن لأبيه الميت على هذا ألف درهم أو أن هذه الدار تركها الميت ميراثا أنه جائز للوارث أن يدعى ذلك ويأخذه بحكم الحاكم له به وإن لم يعلم صحة ذلك إذ هو غير عالم بأنه مبطل فيما يأخذه والله تعالى إنما ذم العالم به إذا أخذه بقوله( لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ومما يدل على نفاذ حكم الحاكم بما وصفنا من العقود وفسخها اتفاق الجميع على أن ما اختلف فيه الفقهاء إذا حكم الحاكم بأحد وجوه الاختلاف نفذ حكمه وقطع ما أمضاه تسويغ الاجتهاد في رده ووسع المحكوم له أخذه ولم يسع المحكوم عليه منعه وإن كان اعتقادهما خلافه كنحو الشفعة بالجوار والنكاح بغير ولى ونحوهما من اختلاف الفقهاء.

باب الإهلال

قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) وإنما يسمى هلالا في أول ما يرى وما قرب منه لظهوره في ذلك الوقت بعد خفائه ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية واستهلال الصبى ظهور حياته بصوت أو حركة ومن الناس من يقول أن الإهلال هو رفع الصوت وأن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت بذكره عند رؤيته والأول أبين وأظهر ألا ترى أنهم يقولون تهلل وجهه إذا ظهر منه البشر والسرور وليس هناك صوت مرفوع* وقال تأبط شرا :

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه

برقت كبرق العارض المتهلل

يعنى الظاهر* وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمى هلالا فمنهم من قال يسمى هلالا لليلتين من الشهر ومنهم من قال يسمى لثلاث ليال ثم يسمى قمرا وقال الأصمعى يسمى هلالا حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة ومنهم من يقول يسمى هلالا حتى يبهر ضوءه سواد الليل فإذا غلب ضوءه سمى قمرا قالوا وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة وقال الزجاج الأكثر يسمونه هلالا لابن ليلتين* وقيل أن سؤالهم وقع عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها فأجابهم أنها مقادير لما يحتاج إليه الناس في صومهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل الديون وغير ذلك من الأمور فكانت هذه منافع عامة لجميعهم وبها عرفوا الشهور والسنين وما لا يحصيه من المنافع والمصالح غير الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة لعموم اللفظ في سائر

٣١٦

الأهلة أنها مواقيت للحج ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج فوجب أن يكون المراد الإحرام* وقوله تعالى( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) لا ينفى ما قلنا لأن قوله( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) فيه ضمير لا يستغنى عنه الكلام وذلك لاستحالة كون الحج أشهرا لأن الحج هو فعل الحاج وفعل الحاج لا يكون أشهرا لأن الأشهر إنما هي مرور الأوقات ومرور الأوقات هو فعل الله ليس بفعل للحاج والحج فعل الحاج فثبت أن في الكلام ضميرا لا يستغنى عنه ثم لا يخلو ذلك الضمير من أن يكون فعل الحج أو الإحرام بالحج وليس لأحد صرفه إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدلالة فلما كان في اللفظ هذا الاحتمال لم يجز تخصيص قوله تعالى( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) به إذ غير جائز لنا تخصيص بالاحتمال* والوجه الآخر أنه إن كان المراد إحرام الحج فليس فيه نفى لصحة الإحرام في غيرها وإنما فيها إثبات الإحرام فيها وكذلك نقول أن الإحرام جائز فيها بهذه الآية وجائز في غيرها بالآية الأخرى إذ ليس في إحداهما ما يوجب تخصيص الأخرى به والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن يكون المراد أفعال الحج لا إحرامه إلا أن فيه ضمير حرف الظرف وهو «في» فمعناه حينئذ الحج في أشهر معلومات وفيه تخصيص أفعال الحج في هذه الأشهر دون غيرها وكذلك قال أصحابنا فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج فطاف له وسعى بين الصفا والمروة قبل أشهر الحج أن سعيه ذلك لا يجزيه وعليه أن يعيده لأن أفعال الحج لا تجزى قبل أشهر الحج فعلى هذا يكون معنى قوله( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) أن أفعاله في أشهر الحج معلومات وقوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) عموم في إحرام الحج لا في أفعال الحج الموجبة وغير جائز أن يكون مراده في قوله( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) أهلة مخصوصة بأشهر الحج كما لا يجوز أن تكون هذه الأهلة في مواقيت الناس وآجال ديونهم وصومهم وفطرهم مخصوصة بأشهر الحج دون غيرها فلما ثبت عموم المراد في سائر الأهلة فيما تضمنه اللفظ من مواقيت الناس وجب أن يكون ذلك حكمه في الحج لأن الأهلة المذكورة لمواقيت الناس هي بعينها الأهلة المذكورة للحج وعلى أنا لو حملناه على أفعال الحج وجعلناها مقصورة المعنى على المذكور في الآية في قوله تعالى( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) لأدى ذلك إلى إسقاط فائدته وإزالة حكمه وتخصيص لفظه بغير دلالة توجب الاقتصار به على معنى قوله( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ )

٣١٧

فلما وجب أن يوفى كل لفظ حقه مما اقتضاه من الحكم والفائدة وجب أن يكون محمولا على سائر الأهلة وأنها مواقيت لإحرام الحج وسنتكلم في المسألة عند بلوغنا إليها إن شاء الله* وقوله( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ ) قد دل على أن العدتين إذا وجبتا من رجل واحد يكتفى فيهما بمضيها لهما جميعا ولا تستأنف لكل واحد منهما حيضا ولا شهورا غير مدة الأخرى لأن الله تعالى لم يخصص إحداهما حين جعلها وقتا لجميع الناس ببعضه دون بعض ومضى مدة العدة هو وقت لكل واحدة منهما لقوله( فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) فجعل العدة حقا للزوج ثم لما كانت العدة مرور الأوقات وقد جعل الله الأهلة وقتا للناس كلهم وجب أن يكتفى بمضى واحدة للعدتين* ألا ترى أن قوله تعالى( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ ) قد عقل من مفهوم خطابه أنها تكون مدة لإجارة جميع الناس ومحلا لجميع ديونهم وإن كان واحد منهم لا يحتاج إلى أن يختص لنفسه ببعض الأهلة دون بعض كذلك مفهوم الآية في العدة قد اقتضى مضى مدة واحدة لرجلين وقد دل قوله تعالى( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ ) على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال وكانت بالشهور أنه إنما يجب استيفاؤها بالأهلة ثلاثة أشهر إن كانت ثلاثة وإن كانت عدة الوفاة فأربعة أشهر بالأهلة وأن لا تعتبر عدد الأيام وكذلك يدل على أن شهر الصوم معتبر بالهلال في ابتدائه وانتهائه وأنه إنما يرجع إلى العدد عند فقد رؤية الهلال ويدل أيضا على أن من آلى من امرأته في أول الشهر أن مضى الأربعة الأشهر معتبر بالأهلة في إيقاع الطلاق دون اعتبار الثلاثين وكذلك هذا في الإجارات والأيمان وآجال الديون متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك وسقط اعتبار عدد الثلاثين وبذلك حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) بالرجوع إلى اعتبار العدد عند فقد الرؤية وأما قوله( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ) فإنه قد قيل فيه ما حدثنا عبد الله بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري قال كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم على حجرته فيأمر

٣١٨

بحاجته فيخرج من بيته وبلغنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل من الحديبية بالعمرة فدخل حجرته فدخل في أثره رجل من الأنصار من بنى سلمة فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى أحمس قال الزهري وكانت الحمس لا يبالون ذلك فقال الأنصارى وأنا أحمس يقول وأنا على دينك فأنزل الله تعالى( لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ) وروى ابن عباس والبراء وقتادة وعطاء أنه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا نقبوا في ظهور بيوتهم نقبا يدخلون منه ويخرجون فنهوا عن التدين بذلك وأمروا أن يأتوا البيوت من أبوابها وقيل فيه أنه مثل ضربه الله لهم بأن يأتوا البر من وجهه وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به وليس يمتنع أن يكون مراد الله تعالى به جميع ذلك فيكون فيه بيان أن إتيان البيوت من ظهورها ليس بقربة إلى الله تعالى ولا هو مما شرعه ولا ندب إليه ويكون مع ذلك مثلا أرشد بابه إلى أن يأتى الأمور من مأتاها الذي أمر الله تعالى به وندب إليه وفيه بيان أن ما لم يشرعه قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة ولا دينا بأن يتقرب به متقرب ويعتقده دينا* ونظيره من السنة ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نهيه عن صمت يوم إلى الليل وأنه رأى رجلا في الشمس فقال ما شأنه فقيل إنه نذر أن يقوم في الشمس فأمره بأن يتحول إلى الفيء وأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الوصال لأن الليل لا صوم فيه فنهى أن يعتقد صومه وترك الأكل فيه قربة وهذا كله أصل في أن من نذر ما ليس بقربة لم يلزمه بالنذر ولا يصير قربة بالإيجاب ويدل أيضا على أن ما ليس له أصل في الوجوب وإن كان قربة لا يصير واجبا بالنذر نحو عيادة المريض وإجابة الدعوة والمشي إلى المسجد والقعود فيه والله تعالى أعلم.

باب فرض الجهاد

قال الله تعالى( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) قال أبو بكر لم تختلف الأمة أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) وقوله( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) وقوله( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وقوله( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ) وقوله( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابا له كانت أموالهم بمكة فقالوا يا رسول الله كنا في عزة ونحن مشركون

٣١٩

فلما آمنا صرنا أذلاء فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم) فلما حوله إلى المدينة أمروا بالقتال فكفوا فأنزل الله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ) وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) وقوله( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) وقوله( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) وقوله( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) قال نسخ هذا كله قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وقوله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ إلى قوله ـصاغِرُونَ ) وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في القتال فروى عن الربيع بن أنس وغيره أن قوله( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) أول آية نزلت وروى عن جماعة آخرين منهم أبو بكر الصديق والزهري وسعيد بن جبير أن أول آية نزلت في القتال( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) الآية وجائز أن يكون( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم والثانية في الإذن في القتال عامة لمن قاتلهم ومن لم يقاتلهم من المشركين* وقد اختلف في معنى قوله( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) فقال الربيع بن أنس هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع* قال أبو بكر وهو عنده بمنزلة قوله( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وقال محمد بن جعفر بن الزبير أمر أبو بكر بقتال الشمامسة لأنهم يشهدون القتال وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا فأمر أبو بكر رضى الله عنه بأن لا يقاتلوا وقد قال الله تعالى( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) فكانت الآية على تأويله ثابتة الحكم ليس فيها نسخ وعلى قول الربيع بن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين كانوا مأمورين بعد نزول الآية بقتال من قاتل دون من كف سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين وروى عن عمر بن عبد العزيز في قوله( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) أنه في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم كأنه ذهب إلى أن المراد به من لم يكن من أهل القتال في الأغلب لضعفه وعجزه لأن ذلك حال النساء والذرية وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٢٠