أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 54028
تحميل: 3832


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54028 / تحميل: 3832
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

ليس في العرايا صدقة فلم يوجب فيها صدقة لأن العارية نفسها صدقة وإنما فائدة الخبر أن ما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ولا يضمنها.

ذكر الخلاف في اعتبار ما يجب فيه الحق

فقال أبو حنيفة وزفر يجب العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره إلا ما قدمنا ذكره وقال أبو يوسف ومحمد ومالك وابن أبى ليلى والليث والشافعى لا يجب حتى يبلغ ما يجب فيه الحق خمسة أوسق وذلك إذا كان ما يجب فيه الحق مكيلا فإن لم يكن مكيلا فإن أبا يوسف اعتبر أن يكون فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء التي تدخل في الوسق مما يجب فيه العشر إلا في العسل فإنه روى عنه أنه اعتبر عشرة أرطال وروى أنه اعتبر عشر قرب وروى أنه اعتبر قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل في الوسق وأما محمد فإنه ينظر إلى أعلى ما يقدر به ذلك الشيء فيعتبر منه أن يبلغ خمسة أمثاله وذلك نحو الزعفران فإن أعلى مقاديره منا فيعتبر بلوغه خمسة أمناء لأن ما زاد على المن فإنه يضاعف أو ينسب إليه فيقال منوان وثلاثة ونصف من وربع من ويعتبر في القطن خمسة أحمال لأن الحمل أعلى مقاديره وما زاد فتضعيف له وفي العسل خمسة أفراق لأن الفرق أعلى ما يقدر به ويحتج لأبى حنيفة في ذلك بقوله تعالى( وآتوا حقه يوم حصاده ) وذلك عائد إلى جميع المذكور فهو عموم فيه وإن كان مجملا في المقدار الواجب لأن قوله( حقه ) مجمل مفتقر إلى البيان وقد ورد البيان في مقدار الواجب وهو العشر أو نصف العشر ويحتج فيه بقوله تعالى( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) وذلك عام في جميع الخارج ويدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما سقت السماء العشر ولم يفصل بين القليل والكثير ومن جهة النظر اتفاق الجميع على سقوط اعتبار الحول فيه فوجب أن يسقط اعتبار المقدار كالركاز والغنائم واحتج معتبرو المقدار بما روى محمد بن مسلم الطائفي قال أخبرنا عمرو ابن دينار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم أو النخل حتى يبلغ خمسة أوسق وروى ليث بن أبى سليم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ورواه أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر موقوفا عليه وروى ابن المبارك عن معمر عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله* والجواب عن هذا لأبى حنيفة من وجوه أحدها

١٨١

أنه إذا روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خبران أحدهما عام والآخر خاص واتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلف في استعمال الآخر فالمتفق على استعماله قاض على المختلف فيه فلما كان خبر العشر متفقا على استعماله واختلفوا في خبر المقدار كان استعمال خبر العشر على عمومه أولى وكان قاضيا على المختلف فيه فإما أن يكون الآخر منسوخا أو يكون تأويله محمولا على معنى لا ينافي شيئا من خبر العشر وأيضا فإن قوله فيما سقت السماء العشر عام في إيجابه في الموسوق وغيره وخبر الخمسة أوسق خاص في الموسوق دون غيره فغير جائز أن يكون بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر لأن حكم البيان أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان فلما كان خبر الأوساق مقصورا على ذكر مقدار الوسق دون غيره وكان خبر العشر عموما في الموسق وغيره علمنا أنه لم يرد مورد البيان لمقدار ما يجب فيه العشر وأيضا فإن ذلك يقتضى أن يكون ما يوسق يعتبر في إيجاب الحق بلوغ مقداره خمسة أوسق وما ليس بموسوق يجب في قليله وكثيره ولقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وفقد ما يوجب تخصيص مقدار ما لا يدخل في الأوساق وهذا قول مطروح والقائل به ساقط مرزول لاتفاق السلف والخلف على خلافه وليس ذلك كقوله صلّى الله عليه وسلّم في الرقة ربع العشر وقوله ليس فيما دون خمس أواق زكاة وذلك لأنه لا شيء من الرقة إلا وهو داخل في الوزن والأواقى مذكورة للوزن فجاز أن يكون بيانا لمقدار جميع الرقة المذكورة في الخبر الآخر وأيضا فقد ذكرنا أن لله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة كما روى عن أبى جعفر محمد بن على والضحاك قالا نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت نحو قوله تعالى( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) ونحو ما روى عن مجاهد إذا حصدت طرحت للمساكين وإذا كدست وإذا نقيت وإذا علمت كيله عزلت زكاته وهذه الحقوق غير واجبة اليوم فجائز أن يكون ما روى من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبرا في تلك الحقوق وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق على نقله به وأيضا فقد روى ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة فأخبر أن لا زكاة فيه لقصور قيمته عن النصاب في ذلك الوقت فنقل الراوي كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وترك ذكر السبب

١٨٢

كما يوجد ذلك في كثير من الأخبار.

ذكر الخلاف في اجتماع العشر والخراج

فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يجتمعان وقال مالك والثوري والحسن بن صالح وشريك والشافعى إذا كانت أرض خراج فعليه العشر في الخارج والخراج في الأرض والدليل على أنهما لا يجتمعان أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد وضع على الأرض الخراج ولم يأخذ العشر من الخارج وذلك بمشاورة الصحابة وبموافقتهم إياه عليه فصار ذلك إجماعا من السلف وعليه مضى الخلف ولو جاز اجتماعهما لجمعهما عمر بن الخطاب رضى الله عنه ويدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالناضح نصف العشر وذلك إخبار بجميع الواجب في كل واحد منهما فلو وجب الخراج معه لكان ذلك بعض الواجب لأن الخراج قد يكون الثلث أو الربع وقد يكون قفيزا ودرهما وأيضا فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قدر العشر إلى النصف لأجل المؤنة التي لزمت صاحبها فلو لزم الخراج في الأرض لزم سقوط نصف العشر الباقي للزوم مؤنة الخراج ولكان يجب أن يختلف حكم ما تغلظ فيه المؤنة وما تخلف فيه كما خالف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين ما سقته السماء وبين ما سقى بالناضح لأجل المؤنة ويدل عليه حديث سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال منعت العراق قفيزها ودرهمها ومعناه ستمنع ولو كان العشر واجبا لاستحال أن يكون الخراج ممنوعا منه والعشر غير ممنوع لأن من منع الخراج كان للعشر أمنع وفي تركه ذكر العشر دلالة على أن لا عشر في أرض الخراج وروى أن دهقانة نهر الملك أسلمت فكتب عمر أن يؤخذ منها الخراج إن اختارت أرضها وروى أيضا أن رفيلا أسلم فقال له على إن أقمت على أرضك أخذنا منك الخراج ولو كان العشر واجبا مع ذلك لا خبرا بوجوبه ولم يخالفهما في ذلك أحد من الصحابة وأيضا لما كان العشر والخراج حقين لله تعالى لم يجز اجتماعهما عليه في وقت واحد والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع وجوب زكاة السائمة وزكاة التجارة فإن قيل إن الخراج كذلك يجوز اجتماع الخراج والعشر وذلك لأن أرض الخراج مبقاة على حكم الفيء وإنما أبيح لزارعها الانتفاع بها بالخراج وهو أجرة الأرض فلا يمنع ذلك وجوب العشر مع الخراج قيل

١٨٣

له هذا غلط من وجوه أحدها أن عند أبى حنيفة لا يجتمع العشر والأجرة على المستأجر ومتى لزمته الأجرة سقط عنه العشر فكان العشر على رب الأرض الآخذ للأجرة فهذا الإلزام ساقط عنه وقول القائل إن أرض الخراج غير مملوكة لأهلها وأنها مبقاة على حكم الفيء خطأ لأنها عندنا مملوكة لأهلها والكلام فيها في غير هذا الموضع وقوله إن الخراج أجرة خطأ أيضا من وجوه أحدها أنه لا خلاف أنه لا يجوز استيحار النخل والشجر ومعلوم أن الخراج يؤدى عنهما فثبت أنه ليس بأجرة وأيضا فأن الإجارة لا تصح إلا على مدة معلومة ولم يعتقد أحد من الأئمة على أرباب أراضى الخراج مدة معلومة وأيضا فإن كانت أرض الخراج وأهلها مقرون على حكم الفيء فغير جائز أن يؤخذ منهم جزية رؤسهم لأن العبد لا جزية عليه ومما يدل على انتفاء اجتماع الخراج والعشر تنافى سببهما وذلك لأن الخراج سببه الكفر لأنه يوضع موضع الجزية وسائر أموال الفيء والعشر سببه الإسلام فلما تنافى سبباهما تنافى مسبباهما قوله تعالى( ومن الأنعام حمولة وفرشا ) روى عن ابن عباس رواية والحسن وابن مسعود رواية أخرى ومجاهد قالوا الحمولة كبار الإبل والفرش الصغار وقال قتادة والربيع بن أنس والضحاك والسدى والحسن رواية الحمولة ما حمل من الإبل والفرش الغنم وروى عن ابن عباس رواية أخرى قال الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم فأدخل في الأنعام الحافر على الاتباع لأن اسم الأنعام لا يقع على الحافر وكان قول السلف في الفرش أحد معنيين إما صغار الإبل وإما الغنم وقال بعض أهل العلم أراد بالفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها ولو لا قول السلف على ما ذكرنا لكان هذا الظاهر يستدل به على جواز الانتفاع بأصواف الأنعام وأوبارها في سائر الأحوال سواء أخذت منها بعد الموت أو في حال الحياة ويستدل به أيضا على جواز الانتفاع بجلودها بعد الموت لاقتضاء العموم له إلا أنهم قد اتفقوا أنه لا ينتفع بالجلود قبل الدباغ فهو مخصوص وحكم الآية ثابت في الانتفاع بها بعد الدباغ وقوله تعالى( ومن الأنعام حمولة وفرشا ) فيه إضمار وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا* قوله تعالى( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) إلى الظالمين قوله ثمانية أزواج بدل من قوله( حمولة وفرشا ) لدخوله في الإنشاء كأنه قال أنشأ ثمانية أزواج فكل واحد من

١٨٤

الأصناف الأربعة من ذكورها وإناثها يسمى زوجا ويقال للإثنين زوج أيضا كما يقال للواحد خصم وللإثنين خصم فأخبر الله تعالى أنه أحل لعباده هذه الأزواج الثمانية وأن المشركين حرموا منها ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى وما جعلوه لشركائهم على ما بينه قبل ذلك بغير حجة ولا برهان ليضلوا الناس بغير علم فقال( نبئونى بعلم إن كنتم صادقين ) ثم قال( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) لأن طريق العلم إما المشاهدة أو الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به فبان بعجزهم عن إقامة الدلالة من أحد هذين الوجهين بطلان قولهم في تحريم ما حرموا من ذلك قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) الآية روى عن طاوس أن أهل الجاهلية كانوا يستحلون أشياء ويحرمون أشياء فقال الله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما ) مما تستحلون إلا أن يكون ميتة الآية وسياقة المخاطبة تدل على ما قال طاوس وذلك لأن الله قد قدم ذكر ما كانوا يحرمون من الأنعام وذمهم على تحريم ما أحله وعنفهم وأبان به عن جهلهم لأنهم حرموا بغير حجة ثم عطف قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما ) يعنى مما تحرمونه إلا ما ذكر وإذا كان ذلك تقدير الآية لم يجز الاستدلال بها على إباحة ما خرج عن الآية فإن قيل قد ذكر في أول المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة وما ذكر معها قد دخلت في الميتة وإنما ذكر الله تعالى تحريم الميتة في قوله( حرمت عليكم الميتة ) ثم فسر وجوهها والأسباب الموجبة لكونها ميتة فقد اشتمل اسم الميتة على الوقت إلا ما قد ذكر في هذه الآية والمائدة مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وفي هذه الآية دليل على أن أو إذا دخلت على النفي ثبت كل واحد مما دخلت عليه على حيالها وأنها لا تقتضي تخييرا لأن قوله تعالى( إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) قد أوجب تحريم كل واحد من ذلك على حياله* وقد احتج كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكورة في هذه الآية بها فمنها لحوم الحمر الأهلية وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية قال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم

١٨٥

ولكن أبى ذلك البحر يعنى عبد الله بن عباس وقرأ( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) الآية وروى حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة أنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم الذي يكون في أعلى العروق بأسا وقرأت هذه الآية( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) الآية فأما لحوم الحمر الأهلية فإن أصحابنا ومالكا والثوري والشافعى ينهون عنه وروى عن ابن عباس ما ذكرنا من إباحته وتابعه على ذلك قوم* وقد وردت أخبار مستفيضة في النهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية منها حديث الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن الحنيفة عن أبيهما أنه سمع على بن أبى طالب يقول لابن عباس نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن متعة النساء يوم خيبر وقد روى ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن ابن الحارث المخزومي عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية وهذا يدل على أنه لما سمع عليا يروى النهى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رجع عما كان يذهب إليه من الإباحة وروى أبو حنيفة وعبد الله عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن على عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية ورواه حماد بن زيد عن عمرو ابن دينار عن محمد بن على عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الأهلية وروى شعبة عن أبى إسحاق عن البراء بن عازب سمعه منه قال أصبنا حمرا يوم خيبر فطبخناها فنادى منادى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن اكفئوا القدور وروى النهى عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ابن أبى أوفى وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة وأبو ثعلبة الخشني في آخرين في بعضها ابتداء نهى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبعضها ذكر قصة خيبر والسبب الذي من أجله نهى عنها فقال قائلون إنما نهى عنها لأنها كانت نهبة انتهبوها وقال آخرون لأنه قيل له إن الحمر قد قلت وقال آخرون لأنها كانت جلالة فتأول من أباحها نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على أحد هذه الوجوه ومن حظرها أبطل هذه التأويلات بأشياء أحدها ما رواه جماعة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا يحل الحمار الأهلى منهم المقدام بن معدى كرب وأبو ثعلبة الخشني وغيرهما والثاني ما رواه سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر أصابوا حمرا فطبخوها منها فنادى منادى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ألا إن الله ورسوله

١٨٦

ينهاكم عنها فإنها نجس فاكفئوا القدور وروى عبد الوهاب الثقفي عن أيوب بإسناد مثله قال فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مناديا فنادى إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس قال فأكفئت القدور وإنها لتفور وهذا يبطل تأويل من تأول النهى على النهبة وتأويل من تأوله على خوف فناء الحمر الأهلية بالذبح لأنه أخبر أنها نجس وذلك يقتضى تحريم عينها لا لسبب غيرها ويدل عليه أنه أمر بالقدور فأكفئت ولو كان النهى لأجل ما ذكروا لأمر بأن يطعم المساكين كما أمر بذلك في الشاة المذبوحة بغير أمر أصحابها بأن يطعم الأسرى وفي حديث أبى ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عما يحرم عليه فقال لا تأكل الحمار الأهلى ولا كل ذي ناب من السباع فهذا أيضا يبطل سائر التأويلات التي ذكرناها عن مبيحيها وقد روى عن سعيد بن جبير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحوم الحمر الأهلية يوم خيبر لأنها كانت تأكل العذرة فإن صح هذا التأويل للنهى الذي كان منه يوم خيبر فإن خبر أبى ثعلبة وغيره في سؤالهم عنها في غير يوم خيبر يوجب إيهام تحريمها لا لعلة غير أعيانها وقد روى في حديث يروى عن عبد الرحمن بن مغفل عن رجال من مزينة فقال بعضهم غالب بن الأبحر وقال بعضهم الحر بن غالب أنه قال يا رسول الله إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم فيه أهلى غير حمرات لي قال فأطعم أهلك من سمين مالك فإنما كرهت لكم جوال القرية فاحتج من أباح الحمر الأهلية بهذا الخبر وهذا الخبر يدل على النهى عنها لأنه قال كرهت لكم جوال القرية والحمر الأهلية كلها جوال القرى والإباحة عندنا في هذا الحديث إنما انصرفت إلى الحمر الوحشية وقد اختلف في الحمار الوحشي إذا دجن فقال أصحابنا والحسن بن صالح والشافعى في الحمار الوحشي إذا دجن وألف أنه جائز أكله وقال ابن القاسم عن مالك إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلى فإنه لا يؤكل وقد اتفقوا على أن الوحش الأهلى لا يخرجه عن حكم جنسه في تحريم الأكل كذلك ما أنس من الوحش قال أبو بكر وقد اختلف في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وقال مالك لا يؤكل سباع الوحش ولا الهر الوحشي ولا الأهلى ولا الثعلب ولا الضبع ولا شيء من السباع ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقبان والنسور وغيرها ما أكل الجيف منها وما لا يأكل وقال

١٨٧

الأوزاعى الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم وقال الليث لا بأس بأكل الهر وأكره الضبع وقال الشافعى لا يؤكل ذو ناب من السباع التي تعدو على الناس الأسد والنمر والذئب ويؤكل الضبع والثعلب ولا يؤكل النسر والبازي ونحوه لأنها تعدو على طيور الناس وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد قال حدثنا عمران بن جبير أن عكرمة سئل عن الغراب قال دجاجة سمينة وسئل عن الضبع فقال نعجة سمينة.

قال أبو بكر حدثنا محمد بن قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبى إدريس الخولاني عن أبيس ثعلبة الخشني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبوعوانة عن أبى بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عياض قال نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير ورواه على بن أبى طالب والمقدام بن معد يكرب وأبو هريرة وغيرهما فهذه آثار مستفيضة في تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير والثعلب والهر والنسر والرخم داخلة في ذلك فلا معنى لاستثناء شيء منها إلا بدليل يوجب تخصيصه وليس في قبولها ما يوجب نسخ قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) لأنه إنما فيه إخبار بأنه لم يكن المحرم غير المذكور وأن ما عداه كان باقيا على أصل الإباحة وكذلك الأخبار الواردة في لحوم الحمر الأهلية هذا حكمها ومع ذلك فإن هذه الآية خاصة باتفاق أهل العلم على تحريم أشياء كثيرة غير مذكورة في الآية فجاز قبول أخبار الآحاد في تخصيصها وكره أصحابنا الغراب الأبقع لأنه يأكل الجيف ولم يكرهوا الغراب الزرعى لما روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال خمس فواسق يقتلهن المحرم في في الحل والحرم وذكر أحدها الغراب الأبقع فضح الأبقع بذلك لأنه يأكل الجيف فصار أصلا في كراهة أشباهه مما يأكل الجيف قوله عليه السلام خمس يقتلهن المحرم يدل على تحريم أكل هذه الخمس وأنها لا تكون إلا مقتولة غير مذكاة ولو كانت مما يؤكل لأمر بذبحها وذكاتها لئلا تحرم بالقتل فإن قيل بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا يحيى بن مسلم قال حدثني إسماعيل

١٨٨

ابن أمية عن أبى الزبير قال سألت جابر أهل يؤكل الضبع قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قلت أسمعت هذا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال نعم قيل له ما روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير قاض على ذلك لاتفاق الفقهاء على استعماله اختلافهم في استعمال ذلك واختلف في أكل الضب فكرهه أصحابنا وقال مالك والشافعى لا بأس به والدليل على صحة قولنا ما روى الأعمش عن زيد بن وهب الجهني عن عبد الرحمن بن حسنة قال نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها فإن القدور لتغلى بها فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال ما هذا فقلنا ضباب أصبناها فقال إن أمة من بنى إسرائيل مسخت دواب الأرض وإنى أخشى أن تكون هذه فاكفئوها وهذا يقتضى حظره لأنه لو كان مباح الأكل لما أمر بإكفاء القدور لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن إضاعة المال وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عون الطائي أن الحكم بن نافع حدثهم قال حدثنا ابن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبى راشد الحبرانى عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل لحم الضب وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عائشة أنه أهدى لها ضب فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فسألته عن أكله فنهاها عنه فجاء سائل فقامت تناوله إياها فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أتطعمينه ما لا تأكلين فهذه الأخبار توجب النهى عن أكل الضب وقد روى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يأكل من الضب وأكل على مائدة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولو كان حراما ما أكل على مائدته وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنما ترك أكله تقذرا وفي بعض الأخبار أنه قال لم يكن بأرض قومي فأجدنى أعافه وأن خالد بن الوليد أكله بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم ينهه وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عمر بن سهل قال حدثنا إسحاق بن الربيع عن الحسن قال قال عمر إن هذه الضباب طعام عامة هذه الرعاء وإن الله ليمنع غير واحد ولو كان عندي منها شيء لأكلته أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يحرمه ولكنه قذره وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عمر بن سهل قال حدثنا بحر عن أبى هارون عن أبى سعيد الخدري قال إن كان أحدنا لتهدى إليه الضبة المكنونة أحب إليه من الدجاجة السمينة فاحتج مبيحوه بهذه الأخبار وفيها دلالة على حظره لأن فيها أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تركه تقذرا وأنه قذره وما قذره النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو نجس ولا يكون نجسا إلا وهو

١٨٩

محرم الأكل ولو ثبت الإباحة بهذه الأخبار لعارضتها أخبار الحظر ومتى ورد الخبران في شيء وأحدهما مبيح والآخر حاظر فخبر الحظر أولى وذلك لأن الحظر وارد لا محالة بعد الإباحة لأن الأصل كانت الإباحة والحظر طارئ عليها ولم يثبت ورود الإباحة على الحظر فحكم الحظر ثابت لا محالة واختلف في هوام الأرض فكره أصحابنا أكل هوام الأرض اليربوع والقنفذ والفأر والعقارب وجميع هوام الأرض وقال ابن أبى ليلى لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت وهو قول مالك والأوزاعى إلا أنه لم يشترط منه الذكاة وقال الليث لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه وقال ابن القاسم عن مالك لا بأس بأكل الضفدع قال ابن القاسم وقياس قول مالك أنه لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها لأنه قال موته في الماء لا يفسده وقال الشافعى كل ما كانت العرب تستقذره فهو من الخبائث فالذئب والأسد والغراب والحية والحدأة والعقرب والفأرة لأنها تقصد بالأذى فهي محرمة من الخبائث وكانت تأكل الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس بأنيابهما فهما حلال قال بكر قال الله تعالى ( ويحرم عليهم الخبائث ) قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن خالد أبو ثور قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن كان قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذا فهو كما قال فسماه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خبيثة من الخبائث فشمله حكم التحريم بقوله تعالى( ويحرم عليهم الخبائث ) والقنفذ من حشرات الأرض فكل ما كان من حشراتها فهو محرم قياسا على القنفذ وروى عبد الله بن وهب قال أخبرنى ابن أبى ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن قال ذكر طبيب الدواء عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وذكر الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن قتله وهذا يدل على تحريمه لأنه نهاه أن يقتله فيجعله في الدواء ولو جاز الانتفاع به لما كان منهيا عن قتله للانتفاع به وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار مستفيضة رواها ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة وغيرهم أنه قال يقتل المحرم في الحل والحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب وفي بعض الأخبار والحية ففي أمره بقتلهن

١٩٠

دلالة على تحريم أكلهن لأنها لو كانت مما تؤكل لأمر بالتوصل إلى ذكاتها فيما تتأتى فيه الذكاة منها فلما أمر بقتلها والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة ثبت أنها غير مأكولة ولما ثبت ذلك في الغراب والحدأة كان سائر ما يأكل الجيف مثلها ودل على أن ما كان من حشرات الأرض فهو محرم كالعقرب والحية وكذلك اليربوع لأنه جنس من الفأر* وأما قول الشافعى في اعتباره ما كانت العرب تستقذره وإن ما كان كذلك فهو من الخبائث فلا معنى له من وجوه أحدها أن نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير قاض بتحريم جميعه وغير جائز أن يزيد فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما قد تناوله العموم ولم يعتبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما ذكره الشافعى وإنما جعل كونه ذا تاب من السباع وذا مخلب من الطير علما للتحريم فلا يجوز الاعتراض عليه بما لم تثبت به الدلالة ومن جهة أخرى أن خطاب الله تعالى للناس بتحريم الخبائث عليهم لم يختص بالعرب دون العجم بل الناس كلهم من كان منهم من أهل التكليف داخلون في الخطاب فاعتبار ما يستقذره العرب دون غيرهم قول لا دليل عليه خارج عن مقتضى الآية ومع ذلك فليس يخلو من أن يعتبر ما كانت العرب يستقذره جميعهم أو بعضهم فإن كان اعتبر الجميع فإن جميع العرب لم يكن يستقذر الحيات والعقارب ولا الأسد والذئاب والفأر وسائر ما ذكر بل عامة الأعراب تستطيب أكل هذه الأشياء فلا يجوز أن يكون المراد ما كان جميع العرب يستقذره وإن أراد ما كان بعض العرب يستقذره فهو فاسد من وجهين أحدهما أن الخطاب إذا كان لجميع العرب فكيف يجوز اعتبار بعضهم عن بعض والثاني أنه لما صار البعض المستقذر كذلك كان أولى بالاعتبار من البعض الذي يستطيبه فهذا قول منتقض من جميع وجوهه وزعم أنه أباح الضبع والثعلب لأن العرب كانت تأكله وقد كانت العرب تأكل الغراب والحدأة والأسد لم يكن منهم لم يمتنع من أكل ذلك وأما اعتباره ما يعدو على الناس فإن أراد به يعدو على الناس في سائر الأحوال فإن ذلك لا يوجد في الحدأة والحية والغراب وقد حرمها وإن أراد به العدو عليهم في حال إذا لم يكن جائعا والجمل الهائج قد يعدو على الإنسان وكذلك الثور في بعض الأحوال ولم يعتبر ذلك هو ولا غيره في هذه الأشياء في تحريم الأكل وإباحته والكلب السنور لا يعدوان على الناس وهما محرمان وقد اختلف في لحوم الإبل الجلالة

١٩١

فكرها أصحابنا والشافعى إذا لم يكن يأكل غير العذرة وقال مالك والليث لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أكل الجلالة وألبانها وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن لبن الجلالة قال أبو بكر فكل من خالف في هذه المسائل التي ذكرنا من ابتدائنا بأحكام قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) وأباح أكل ما ذهب أصحابنا فيه إلى حظره فإنهم يحتجون فيه بقوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما ) الآية وقد بينا أن ذلك خرج على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم قبل هذه الآية مما كانوا يحرمونه من الأنعام ولو لم يكن نزوله على السبب الذي ذكرنا وكان خبرا مبتدأ لم يمتنع بذلك قبول أخبار الآحاد في تحريم أشياء لم تنتظمها الآية ولا استعمال القياس في حظر كثير منه لأن ما فيه الأخبار بأنه لم يكن المحرم من طريق الشرع إلا المذكور في الآية وقد علمنا أن هذه الأشياء قد كانت مباحة قبل ورود السمع وقد كان قبول أخبار الآحاد جائزا واستعمال القياس سائغا في تحريم ما هذا وصفه وكذلك إخبار الله بأنه لم يحرم بالشرع إلا المذكور في الآية غير مانع تحريم غيره من طريق خبر الواحد والقياس* وقوله تعالى( على طاعم يطعمه ) يدل على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها فلم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن والعظم والظلف والريش ونحوها ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في شاة ميمونة إنها حرم أكلها وفي بعض الألفاظ إنما حرم لحمها وقوله تعالى( أو دما مسفوحا ) يدل على أن المحرم من الدم ما كان مسفوحا وأن ما يبقى في العروق من أجزاء الدم غير محرم وكذلك روى عن عائشة وغيرها في الدم الذي في المذبح أو في أعلى القدر أنه ليس بمحرم لأنه ليس بمسفوح وهذا يدل على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس إذ ليس بمسفوح فإن قيل قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) وإن كان إخبارا بأنه ليس المحرم في شريعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من المأكولات على المذكور في الآية فإنه قد نسخ به كثيرا من المحظورات على ألسنة الأنبياء المتقدمين فلا يكون سبيله سبيل بقاء الشيء على

١٩٢

حكم الإباحة الأصلية بل يكون في حكم ما قد نص على إباحته شرعا فلا يجوز الاعتراض عليه بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل على أنه قد نسخ بذلك كثيرا من المحظورات على لسان غيره من الأنبياء قوله تعالى( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ) وشحومهما مباحة لنا وكذلك كثير من الحيوانات ذوات الأظفار قيل له ما ذكرت لا يخرج ما عدا المذكور في الآية من أن يكون في حكم المباح على الأصل وذلك لأن ما حرم على أولئك من ذلك وأبيح لنا لم يصر شريعة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن حكم ذلك التحريم إنما كان موقتا إلى هذا الوقت وإن مضى الوقت أعاده إلى ما كان عليه من حكم الإباحة فلا فرق بينه في هذا الوجه وبين ما لم يحظر قط وأيضا فلو سلمنا لك ما ادعيت كان ما ذكرنا من قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيما وصفنا سائغا لأن ذلك مخصوص بالاتفاق أعنى قوله تعالى( قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ) لاتفاق الجميع من الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في الآية كالخمر ولحم القردة والنجاسات وغيرها فلما ثبت خصوصه بالاتفاق ساغ قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيه قوله تعالى( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ) الآية قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدى ومجاهد هو كل ما ليس بمفتوح الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط وقال بعض أهل العلم يدخل في جميع أنواع السباع والكلاب والسنانير وسائر ما يصطاد بظفره من الطير قال أبو بكر قد ثبت تحريم الله تعالى ذلك على لسان بعض الأنبياء فحكم ذلك التحريم عندنا ثابت بأن يكون شريعة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم إلا أن يثبت نسخه ولم يثبت نسخ تحريم الكلاب والسباع ونحوها فوجب أن تكون محرمة بتحريم الله بديا وكونه شريعة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى( حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ) يستدل به من أحنث الحالف أن لا يأكل شحما فأكل من شحم الطير لاستثناء الله ما على ظهورهما من جملة التحريم وهو قول أبى يوسف ومحمد وعند أبى حنيفة ما على الظهر إنما يسمى لحما سمينا في العادة ولا يتناوله اسم الشحم على الإطلاق وتسمية الله إياه شحما لا توجب دخوله في اليمين إذ لم يكن الاسم له متعارفا ألا ترى أن الله تعالى قد سمى السمك لحما والشمس سراجا ولا يدخل في اليمين والحوايا روى عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والسدى

١٩٣

أنها المباعر وقال غيرهم هي بنات اللبن ويقال إنها الأمعاء التي عليها الشحم وأما قوله تعالى( أو ما اختلط بعظم ) فإنه روى عن السدى وابن جريج أنه شحم الجنب والألية لأنهما على عظم وهذا يدل أيضا ما ذكرنا من أن دخول أو على النفي يقتضى نفى كل واحد مما دخل عليه على حياله لأن قوله تعالى( إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) تحريم للجميع ونظيره قوله تعالى( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) نهى عن طاعة كل واحد منهما وكذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا أنه أيهما كلم حنث لأنه نفى كلام كل واحد منهما على حدة قوله تعالى( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ـ إلى قوله ـكذلك كذب الذين من قبلهم ) فيه أكذب للمشركين بقولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا لأنه قال تعالى( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ومن كذب بالحق فهو كاذب في تكذيبه فأخبر تعالى عن كذب الكفار بقولهم لو شاء الله ما أشركنا ولو كان الله قد شاء الشرك لما كانوا كاذبين في قولهم لو شاء الله ما أشركنا وفيه بيان أن الله تعالى لا يشاء الشرك وقد أكد ذلك أيضا بقوله( إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) يعنى تكذبون فثبت أن الله تعالى غير شاء لشركهم وأنه قد شاء منهم الإيمان اختيارا ولو شاء الله الإيمان منهم قسرا لكان عليه قادرا ولكنهم كانوا لا يستحقون به الثواب والمدح وقد دلت العقول على مثل ما نص الله عليه في القرآن إن مريد الشرك والقبائح سفيه كما أن الآمر به سفيه وذلك لأن الإرادة للشرك استدعاء إليه كما أن الأمر به استدعاء إليه فكل ما شاء الله من العباد فقد دعاهم إليه ورغبهم فيه ولذلك كان طاعة كما أن كل ما أمر الله به فقد دعاهم إليه ويكون طاعة منهم إذا فعلوه وليس كذلك العلم بالشرك لأن العلم بالشيء لا يوجب أن يكون العالم به مستدعيا إليه ولا أن يكون المعلوم من فعل غيره طاعة إذا لم يرده فإن قيل إنما أنكر الله المشركين باحتجاجهم لشركهم بأن الله تعالى قد شاءه وليس ذلك بحجة ولو كان مراده تكذيبهم في قولهم لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف قيل له لو كان الله قد شاء الكفر منهم لكان احتجاجهم صحيحا ولكان فعلهم طاعة لله فلما أبطل الله احتجاجهم بذلك علم أنه إنما كان كذلك لأن الله تعالى لم يشأ وأيضا فقد أكذبهم الله تعالى في هذا القول من وجهين أحدهما أنه أخبر بتكذيبهم بالحق والمكذب بالحق لا يكون إلا كاذبا والثاني قوله

١٩٤

( وإن أنتم إلا تخرصون ) يعنى تكذبون قوله تعالى( قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) الآية يعنى أبطل لعجزهم عن إقامة الدلالة إلا أن الله حرم هذا إذ لم يمكنهم إثبات ما ادعوه من جهة عقل ولا سمع وما لم يثبت من أحد هذين الوجهين وليس بمحسوس مشاهد فطريق العلم به منسد والحكم ببطلانه واجب فإن قيل فلم دعوا للشهادة حتى إذا شهدوا لم تقبل منهم قيل لأنهم لم يشهدوا على هذا الوجه الذي يرجع من قولهم فيه إلى ثقة وقيل إنهم كلفوا شهداء من غيرهم ممن تثبت بشهادته صحة ونهى عن اتباع الأهواء المضلة واعتقاد المذاهب بالهوى يكون من وجوه أحدها هوى من سيق إليه وقد يكون لشبهة حلت في نفسه مع زواجر عقله عنها ومنها هوى ترك الاستقصاء للمشقة ومنها هوى ما جرت به عادته لألفة له وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله* قوله تعالى( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) كانت العرب تدفن أولادها أحياء البنات منهن خوف الإملاق وهو الإفلاس ومنه حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن تأكل معك وأن تزنى بحليلة جارك وهي الموؤدة التي ذكرها الله تعالى في قوله( وإذا الموؤدة سئلت بأى ذنب قتلت ) فنهاهم الله عن ذلك مع ذكر السبب الذي كانوا من أجله يقتلونهم وأخبر أنه رازقهم ورازق أولادهم* قوله تعالى( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) قال ابن عباس ما ظهر منها نكاح حلائل الأبناء والجمع بين الأختين ونحو ذلك وما بطن الزنا وقوله تعالى( ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ) قال أبو بكر روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولما أراد أبو بكر قتال مانعي الزكاة قالوا له إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر هذا من حقها لو منعونى عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقتالهم عليه وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس وهذا عندنا ممن يستحق القتل ويتقرر عليه حكمه وقد يجب قتل غير هؤلاء على وجه الدفع مثل قتل الخوارج ومن قصد قتل رجل وأخذ ماله فيجوز قتله على جهة المنع من ذلك لأنه لو كف عن ذلك لم يستحق القتل قوله

١٩٥

تعالى( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن ) إنما خص اليتيم بالذكر فيما أمرنا به من ذلك لعجزه عن الإنتصار لنفسه ومنع غيره عن ماله ولما كانت الأطماع تقوى في أخذ ماله أكد النهى عن أخذ ماله بتخصيصه بالذكر وقوله تعالى( إلا بالتى هى أحسن ) يدل على أن من له ولاية على اليتيم يجوز له دفع مال اليتيم مضاربة وأن يعمل به هو مضاربة فيستحق ربحه إذا رأى ذلك أحسن وأن يبضع ويستأجر من يتصرف ويتجر في ماله وأن يشترى ماله من نفسه إذا كان خيرا لليتيم وهو أن يكون ما يعطى اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه منه وأجاز أبو حنيفة شراه مال اليتيم لنفسه إذا كان خيرا لليتيم بهذه الآية وقال تعالى( حتى يبلغ أشده ) ولم يشرط البلوغ فدل على أنه بعد البلوغ يجوز أن يحفظ عليه ماله إذا لم يكن مأنوس الرشد ولا يدفعه إليه ويدل على أنه إذا بلغ أشده لا يجوز له أن يفوت ماله سواء آنس منه الرشد أو لم يؤنس رشده بعد أن يكون عاقلا لأنه جعل بلوغ الأشد نهاية لإباحة قرب ماله ويدل على أن الوصي لا يجوز له أن يأكل من مال اليتيم فقيرا كان أو غنيا ولا يستقرض منه لأن ذلك ليس بأحسن ولا خيرا لليتيم وجعل أبو حنيفة بلوغ الأشد خمسا وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوها وذلك لأن طريق ذلك اجتهاد الرأى وغالب الظن فكان عنده أن هذا السن متى بلغها كان بالغا أشده وقد اختلف في بلوغ الأشد فقال عامر بن ربيعة وزيد بن أسلم وهو بلوغ الحلم وقال السدى هو ثلاثون سنة وقيل ثماني عشرة سنة وجعله أبو حنيفة خمسا وعشرين سنة على النحو الذي ذكرنا وقيل إن الأشد واحدها شد وهو قوة الشباب عند ارتفاعه وأصله من شد النهار وهو قوة الضياء عند ارتفاعه قال الشاعر :

تطيف به شد النهار ظعينة

طويلة انقاء اليدين سحوق

قوله تعالى( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ) فيه أمر بإيفاء الحقوق على الكمال ولما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل علمنا أنه لم يكلفنا ذلك وإنما كلفنا الاجتهاد في التحري دون حقيقة الكيل والوزن وهذا أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام وأن كل مجتهد مصيب وإن كانت الحقيقة المطلوبة بالاجتهاد واحدة لأنا قد علمنا أن للمقدار المطلوب من الكيل حقيقة معلومة عند الله تعالى قد أمرنا بتحريها والاجتهاد فيها ولم يكلفنا إصابتها إذا لم يجعل لنا دليلا عليها فكان كل

١٩٦

ما أدانا إليه اجتهادنا من ذلك فهو الحكم الذي تعبدنا به وقد يجوز أن يكون ذلك قاصرا عن تلك الحقيقة أو زائدا عليها ولكنه لما لم يجعل لنا سبيلا إليها أسقط حكمها عنا ويدلك على أن تلك الحقيقة المطلوبة غير مدركة يقينا أنه قد يكال أو يوزن ثم يعاد عليه الكيل أو الوزن فيزيد أو ينقص لا سيما فيما كثر مقداره ولذلك قال الله تعالى( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) في هذا الموضوع يعنى أنه ليس عليه أكثر مما يتحراه باجتهاده وقد استدل عيسى بن أبان بأمر الكيل والوزن على حكم المجتهدين في الأحكام وشبهه به قوله تعالى( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) قد انتظم ذلك تحرى الصدق وعدل القول في الشهادات والأخبار والحكم بين الناس والتسوية بين القريب والبعيد فيه وهو نظير قوله تعالى( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا ) وقد بينا حكم ذلك فيما تقدم في موضعه وقد انتظم قوله( وإذا قلتم فاعدلوا ) مصالح الدنيا والآخرة لأن من تحرى صدق القول في العدل فهو بتحرى العدل في الفعل أحرى ومن كان بهذه الصفة فقد حاز خير الدنيا والآخرة نسئل الله التوفيق لذلك قوله تعالى( وبعهد الله أوفوا ) عهد يشتمل على أوامره وزواجره كقوله تعالى( ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ) وقد يتناول المنذور وما يوجبه العبد على نفسه من القرب ألا ترى إلى قوله( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) قوله تعالى( وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ) الآية فإن المراد بالصراط الشريعة التي تعبد الله بها عباده والصراط هو الطريق وإنما قيل للشرع الطريق لأنه يؤدى إلى الثواب في الجنة فهو طريق إليها وإلى النعيم وأما السبيل الشيطان فطريق إلى النار أعاذنا الله منها وإنما جاز الأمر باتباع الشرع بما يشتمل عليه من الوجوب والنفل والمباح كما جاز الأمر باتباعه مع ما فيه من التحليل والتحريم وذلك اتباعه إنما هو اعتقاد صحته على ترتيبه من قبح المحظور ووجوب الفرض والرغبة في النفل واستباحة المباح والعمل بكل شيء من ذلك على حسب مقتضى الشرع له من إيجاب أو نفل أو إباحة قوله تعالى( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) قيل في قوله( ثم ) إن معناه ثم قل آتينا موسى الكتاب تماما لأنه عطف على قوله( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) وقيل معناه وآتينا موسى الكتاب كقوله( ثم الله شهيد )

١٩٧

ومعناه والله شهيد وكقوله( ثم كان من الذين آمنوا ) ومعناه وكان من الذين آمنوا ويحتمل أن يكون صلة الكلام ويكون معناه ثم بعد ما ذكرت لكم أخبرتكم أنا آتينا موسى الكتاب ونحوه من الكلام قوله تعالى( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا ) هو أمر باتباع الكتاب على حسب ما تضمنه من فرض أو نفل أو إباحة واعتقاد كل منه على مقتضاه* والبركة ثبوت الخير ونموه وتبارك الله صفة ثبات لا أول له ولا آخر هذا تعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى وحده لا شريك له قوله تعالى( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدى وابن جريج أراد بهما اليهود والنصارى وفي ذلك دليل على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى وأن المجوس ليسوا أهل الكتاب لأنهم لو كانوا أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف وقد أخبر الله تعالى أنهم طائفتان* فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين قيل له هذا احتجاج عليهم بأنه أنزل الكتاب عليكم لئلا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن وأبطل أن يحتجوا بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلنا ولم ينزل علينا* قوله تعالى( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك ) قيل في قوله تعالى( أو يأتى ربك ) أو يأتى أمر ربك بالعذاب ذكر ذلك عن الحسن وحذف كما حذف في قوله( إن الذين يؤذون الله ) ومعناه أولياء الله وقيل أو يأتى ربك بحلائل آياته وقيل تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم أو يأتى ربك أمر ربك يوم القيامة أو يأتى بعض آيات ربك طلوع الشمس من مغربها وروى ذلك عن مجاهد وقتادة والسدى* قوله تعالى( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) قال مجاهد هم اليهود لأنهم كانوا يمالئون عبدة الأوثان على المسلمين وقال قتادة اليهود والنصارى لأن بعض النصارى يكفر بعضا وكذلك اليهود وقال أبو هريرة أهل الضلال من هذه الأمة فهو تحذير من تفرق الكلمة ودعاء إلى الاجتماع والألفة على الدين وقال الحسن هم جميع المشركين لأنهم كلهم بهذه الصفة وأما دينهم فقد قيل الذي أمرهم الله به وجعله دينا لهم وقيل الدين الذي هم عليه لإكفار بعضهم لبعض لجهالة فيه وشيع الفرق الذين يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره وقيل أصله الظهور من قولهم شاع الخير إذا ظهر وقيل أصله الاتباع من قولك شايعه على المراد إذا اتبعه وقوله( لست

١٩٨

منهم في شىء ) المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة وليس كذلك بعضهم على بعض لأنهم يجتمعون في معنى من الباطل وإن افترقوا في غيره فليس منهم في شيء لأنه برىء من جميعه قوله تعالى( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) الحسنة اسم للأعلى في الحسن لأن الهاء دخلت للمبالغة فتدخل الفروض والنوافل ولا يدخل المباح وإن كان حسنا لأن المباح لا يستحق عليه حمد ولا ثواب ولذلك رغب الله في الحسنة وكانت طاعة وكذلك الإحسان يستحق عليه الحمد فأما الحسن فإنه يدخل فيه المباح لأن كل مباح حسن ولكنه لا ثواب فيه فإذا دخلت عليه الهاء صارت اسما لا على الحسن وهي الطاعات قوله تعالى( فله عشر أمثالها ) معناه في النعيم واللذة ولم يرد به أمثالها في عظم المنزلة وذلك لأن منزلة التعظيم لا يجوز أن يبلغها إلا بالطاعة وهذه المضاعفة إنما هي بفضل الله غير مستحق عليها كما قال تعالى( ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) وغير جائز أن تساوى منزلة التفضيل منزلة الثواب في التعظيم لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يبتدئهم بها في الجنة من غير عمل ولجاز أن يساوى بين المنعم بأعظم النعم وبين من لم ينعم قوله تعالى( قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) قوله( دينا قيما ) يعنى مستقيما ووصفه بأنه ملة إبراهيم والحنيف المخلص لعبادة الله تعالى يروى ذلك عن الحسن وقيل أصله الميل من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم بإقبال كل واحدة منهما على الأخرى خلقة لا من عارض فسمى المائل إلى الإسلام حنيفا لأنه لا رجوع معه وقيل أصله الاستقامة وإنما جاء أحنف للمائل القدم على التفاؤل كما قيل للديغ سليم وفي ذلك دليل على أن ما لم ينسخ من ملة إبراهيم عليه السلام فقد صارت شريعة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم لأخباره بأن دينه ملة إبراهيم قوله تعالى( قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين ) قال سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدى نسكي ديني في الحج والعمرة وقال الحسن نسكي ديني وقال غيرهم عبادتي إلا أن الأغلب عليه هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى وقولهم فلان ناسك معناه عابد لله وقد روى عبد الله بن أبى رافع عن على قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا افتتح الصلاة قال وجهت وجهى للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين إلى قوله من المسلمين وروى أبو سعيد

١٩٩

الخدري وعائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه وقال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك أسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك والأول كان يقوله عند قبل أن ينزل( وسبح بحمد ربك حين تقوم ) فلما نزل ذلك وأمر بالتسبيح عند القيام إلى الصلاة ترك الأول وهذا قول أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يجمع بينهما لأنهما قد روى جميعا قوله تعالى( إن صلاتى ) يجوز أن يريد بها صلاة العيد ونسكي الأضحية لأنها تسمى نسكا وكذلك كل ذبيحة على وجه القربة إلى الله تعالى فهي نسك قال الله تعالى( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم النسك شاة وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في يوم النحر إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فسمى الصلاة والذبح جميعا نسكا ولما قرن النسك إلى الصلاة دل على أن المراد صلاة العيد والأضحية وهذا يدل على وجوب الأضحية لقوله تعالى( وبذلك أمرت ) والأمر يقتضى الوجوب قوله تعالى( وأنا أول المسلمين ) قال الحسن وقتادة أول المسلمين من هذه الأمة قوله عز وجل( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) يحتج به في امتناع جواز تصرف أحد على غيره إلا ما قامت دلالته لإخبار الله تعالى أن أحكام أفعال كل نفس متعلقة بها دون غيرها فيحتج بعمومه في امتناع جواز تزويج البكر الكبيرة بغير إذنها وفي بطلان الحجر على امتناع جواز بيع أملاكه عليه وفي جواز تصرف البالغ العاقل على نفسه وإن كان سفيها لإخبار الله تعالى باكتساب كل نفس على نفسه وفي نظائرها ذلك من المسائل* وقوله تعالى( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) إخبار بأن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره وأنه لا يعذب الأبناء بذنب الآباء وقد احتجت عائشة في رد قول من تأول ما روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فقالت قال الله تعالى( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وإنما مر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بيهودي يبكى عليه فقال إنه ليعذب وهم يبكون عليه وقد بينا وجه ذلك في غير هذا الموضع وقيل أن أصله الوزر والملجأ من قوله( كلا لا وزر ) ولكنه جرى في الأغلب على الإثم وشبه بمن التجأ إلى غير ملجأ ويقال وزر يزر ووزر يوزر ووزر يوزر فهو موزور وكله بمعنى الإثم والوزير بمعنى الملجأ لأن الملك يلجأ إليه في الأمور والله أعلم بالصواب.

٢٠٠