أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 54023
تحميل: 3830


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54023 / تحميل: 3830
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

أحوالهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الإمام فلو لا أن خبره مقبول لما كان لنصبه وجه* فإن قيل إنما يدل ذلك على قبول الإثنى عشر دون الواحد قيل له إن الإثنى عشر لم يكونوا نقباء على جميع بنى إسرائيل بجملتهم وإنما كان كل واحد منهم نقيبا على قومه خاصة دون الآخرين قوله تعالى( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) قال ابن عباس هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم نقمات الله فقالوا لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه قال السدى تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكرى من الولد وقال الحسن إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل في قول المسيح عليه السلام إنى ذاهب إلى أبى وأبيكم وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم جرى ذلك على قول العرب هذيل شعراء أى منهم شعراء وعلى قولهم في رهط مسيلمة قالوا نحن أبناء الله أى قال قائل منهم وتابعوه عليه فكان معنى قولهم على هذا الوجه نحن أبناء الله أى منا ابن الله وقال تعالى( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم لأنهم كانوا مقرين بأنهم يعذبون بالذنوب ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده قوله تعالى( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) قال عبد الله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن الملك من له دار وامرأة وخادم وقال غيرهم هو الذي له ما يستغنى به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش وقال ابن عباس ومجاهد جعلوا ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام وقال غيرهم بالأموال أيضا وقال الحسن إنما سماهم ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم وقال السدى ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله وقال قتادة كانوا أول من ملك الخادم* قوله( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) تحريفهم إياه يكون بوجهين أحدهما بسوء التأويل والآخر بالتغيير والتبديل وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدى الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع الطواطؤ على مثلهم وما لم يستفض في الكافة وإنما كان علمه عند قوم من الخاصة يجوز على مثلهم التواطؤ فإنه جائز وقوع تغيير ألفاظه ومعانيه إلى غيرها وإثبات ألفاظ أخر سواها وأما المستفيض الشائع في أيدى الكافة فإنما تحريفهم على تأويلات فاسدة كما تأولت المشبهة والمجبرة كثيرا من الآي المتشابهة على ما تعتقده من مذهبها وتدعى من معانيها ما يوافق اعتقادها دون حملها على معاني المحكمة وإنما قلنا إنه

٤١

غير جائز وقوع التحريف من جهة تغيير الألفاظ فيما استفاض وانتشر عند الكافة من قبل أن ذلك لا يقع إلا بالتواطؤ عليه ومثلهم مع اختلاف هممهم وتباعد أوطانهم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم على مثله كما لا يجوز وقوع التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره ولو جاز ذلك لجاز تواطؤهم على اختراع أخبار لا أصل لها ولو جاز ذلك لما صح أن يعلم بالأخبار شيء وقد علم بطلان هذا القول اضطرار قوله تعالى( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ) عن الحسن قال إنما قال( قالُوا إِنَّا نَصارى ) ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة نسبوا إلى قرية الشام تسمى ناصرة فانتسب هؤلاء إليهم وإن لم يكونوا منهم لأن أولئك كانوا موحدة مؤمنين وهؤلاء مثلثة مشركون وقد أطلق الله تعالى في مواضع غيره اسم النصارى لا على وجه الحكاية عنهم في قوله تعالى( وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) وفي مواضع أخر لأنهم قد عرفوا بذلك وصار ذلك سمة لهم وعلامة قوله تعالى( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) إنما لحقتهم سمة الكفر لأنهم قالوا ذلك على جهة التدين به واعتقادهم إياه والإقرار بصحته لأنهم لو قالوا على جهة الحكاية عن غيرهم منكرين له لما كفروا والكفر هو التغطية ويرجع معنى ما ذكر عنهم إلى التغطية من وجهين أحدهما كفران النعمة يجحدها أن يكون المنعم بها هو الله تعالى وإضافتها إلى غيره ممن ادعوا له الإلهية والآخر كفر من جهة الجهل بالله تعالى وكل جاهل بالله كافر لتضييعه حق نعم الله تعالى فكان بمنزلة مضيفها إلى غيره وقوله تعالى( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) معناه من يقدر على دفع أمر الله تعالى إن أراد هلاك المسيح وأمه وهذا من أظهر الاحتجاج وأوضحه لأنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد الله تعالى إهلاكه وإهلاك غيره فلما كان المسيح وسائر المخلوقين سواء في جواز ورود الموت والهلاك عليهم صح أنه ليس بإله إذا لم يكن سائر الناس آلهة وهو مثلهم في جواز الفناء والموت والهلاك عليهم قوله تعالى( يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) قال ابن عباس والسدى أرض بيت المقدس وقال مجاهد أرض الطور وقال قتادة أرض الشام

٤٢

وقيل دمشق وفلسطين وبعض الأردن والمقدسة هي المطهرة لأن التقديس التطهير وإنما سماها الله المقدسة لأنها طهرت من كثير من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء والمؤمنين* فإن قيل لم قال( كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) وقد قال( فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) قيل له روى عن ابن إسحاق أنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرمهم إياها قال أبو بكر ينبغي أن يكون الله قد جعلها على شريطة القيام بطاعته واتباع أمره فلما عصوا حرمهم إياها وقد قيل إنها على الخصوص وإن كان مخرجه مخرج العموم قوله تعالى( إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) فإنه قد قيل أن الجبار هو من الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه وجبر العظم لأنه كالإكراه على الصلاح والجبار هدر الأرش لأن فيه معنى الكره والجبار من النخل ما فات اليد طولا لأنه كالجبار من الناس والجبار من الناس الذي يجبرهم على ما يريد والجبار صفة مدح لله تعالى وهو ذم في صفة غيره يتعظم بما ليس له والعظمة لله عز وجل وحده الجبار المتعظم بالاقتدار ولم يزل الله جبارا والمعنى أن ذاته يدعو العارف به إلى تعظيمه والفرق بين الجبار والقهار أن في القهار معنى الغالب لمن ناوأه أو كان في حكم المناوى بعصيانه إياه قوله تعالى( قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ ) روى عن قتادة في قوله( يَخافُونَ ) أنهم يخافون الله تعالى وقال غيره من أهل العلم يخافون الجبارين ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثنى الله عليهما بذلك فدل على فضيلة قول الحق عند الخوف وشرف منزلته وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه وعلمه فإنه لا يبعد من رزق ولا يدنى من أجل وقال لأبى ذر رضوان الله عليه وأن لا يأخذك في الله لومة لائم وقال حين سئل عن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر قوله تعالى( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) قوله( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ) يحتمل معنيين أحدهما أنهم قالوه على وجه المجاز بمعنى وربك معين لك والثاني الذهاب الذي هو النقلة وهذا تشبيه وكفر من قائله وهو أولى بمعنى الكلام لأن الكلام خرج مخرج الإنكار عليهم والتعجب من جهلهم وقد يقال على المجاز قاتله الله بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلى عليهم بالاقتدار وعظم السلطان قوله تعالى( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ) هذا مجاز لأن الإنسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحر على الحقيقة وذلك لأن أصل الملك القدرة

٤٣

ومحال أن يقدر الإنسان على نفسه أو على أخيه ثم أطلق اسم الملك على التصرف فجعل المملوك في حكم المقدور عليه إذ كان له أن يصرفه تصرف المقدور عليه وإنما معناه هاهنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله وأطلقه على أخيه أيضا إذ كان يتصرف بأمره وينتهى إلى قوله وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أحدا من على بنفسه وذات يده من أبى بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعنى أنى متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل أنت ومالك لأبيك ولم يرد به حقيقة الملك قوله تعالى( فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ) قال أكثر أهل العلم هو تحريم منع لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ وقال بعض أهل العلم يجوز أن يكون تحريم التعبد لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) يعنى به المنع قال الشاعر يصف فرسا :

حالت لتصرعنى فقلت لها اقصرى

إنى امرؤ صرعى عليك حرام

يعنى إنى فارس لا يمكنك صرعى فهذا هو أصل التحريم ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه وقوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شيء واحد لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا قوله تعالى( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ) قال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة كان ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل وكان هابيل مؤمنا وقابيل كافرا وقيل بل كان رجل سوء وقال الحسن هما من بنى إسرائيل لأن علامة تقبل القربان لم يكن قبل ذلك والقربان ما يقصد به القرب من رحمة الله تعالى من أعمال البر وهو فعلان من القرب كالفرقان من الفرق والعدوان من العدو والكفران من الكفر وقيل إذا لم يتقبل من أحدهما لأنه قرب شر ماله قرب الآخر خير ماله فتقبل منه وقيل بل رد قربانه لأنه كان فاجرا وإنما يتقبل الله من المتقين وقيل كانت علامة القبول أن تجيء نار فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود ومنه قوله تعالى( حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ـ إلى قوله تعالى

٤٤

وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ) قوله تعالى( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ) قال ابن عباس معناه لئن بدأتنى بقتل لم أبدأك به ولم يرد أنى لا أدفعك على نفسي إذا قصدت قتلى فروى أنه قتل غيلة بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها وروى عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه قال أبو بكر وجائز في العقل ورود العبادة بمثله فإن كان التأويل هو الأول فلا دلالة فيه على جواز ترك الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان قوله تعالى( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) فأمر الله بقتال الفئة الباغية ولا بغى أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق وقال تعالى( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل وقال الله تعالى( وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) فأمر بالقتال لنفى الفتنة ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا حسين بن حريث قال حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أخبار مستفيضة من قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد وروى عبد الله بن الحسين عن عبد الرحمن الأعرج عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه ويدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبى سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يسطع فبقلبه وذاك ضعف الإيمان فأمر بتغير المنكر

٤٥

باليد وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله وقد قتل على بن أبى طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم معه موافقون عليه وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم آثار في وجوب قتلهم منها حديث أبى سعيد الخدري وأنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سيكون في أمتى اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه في آثار كثيرة مشهورة وقد تلقتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم وروى أبو بكر بن عياش قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبى المخارق عن أبيه قال قال رجل يا رسول الله الرجل يأتينى يريد مالي قال ذكره الله قال فإن لم يذكر قال استعن عليه من حولك من المسلمين قال فإن لم يكن حولي منهم قال فاستعن عليه السلطان قال فإن نأى عنى السلطان قال قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله وتأولوا فيه هذه الآية وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روى عن ابن عباس ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث رويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منها حديث أبى موسى الأشعرى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه وروى على بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة وروى الحسن عن الأحنف بن قيس قال سمعت أبا بكر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وروى معمر عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما وروى معمر

٤٦

عن أبى عمران الجونى عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل قال قلت ألبس سلاحي قال شاركت القوم إذ قال قلت فكيف أصنع يا رسول الله قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه فاحتجوا بهذه الآثار ولا دلالة لهم فيها فأما قول النبي صلى الله عليه وسلّم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة فإنما عنى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم ينفه بذلك وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم كن كخير ابني آدم فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه فإن احتجوا بما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فلا يجوز قتله قبل أن يقتل بقضية نفى النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل قيل له هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر لأنه أراد قتل غيره فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة وما علم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه قوله تعالى( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) فكان في

٤٧

مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه قال أبو بكر ذكر ابن رستم عن محمد عن أبى حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت يسعك قتله لقوله صلّى الله عليه وسلّم من قتل دون ماله فهو شهيد ولا يكون شهيدا إلا هو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه وقال أيضا في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعنيك الناس عليه قال أبو بكر وذلك لأن قلع السن أعظم من أخذ المال فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها قوله تعالى( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) فإنه روى عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك إثم قتلى وإثمك الذي كان منك قبل قتلى وقال غيرهم إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك والمراد إنى أريد أن تبوء بعقاب إثمى وإثمك لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها ومعنى تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزلة وباءوا بغضب الله رجعوا والبواء الرجوع بالقود وهم في هذه الأمر بواء أى سواء لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد قوله تعالى( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) قال مجاهد شجعته نفسه على قتل أخيه وقال قتادة زينت له نفسه قتل أخيه وقيل ساعدته نفسه على قتل أخيه والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره له ويقال إن العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول الشجر وطاع فلان كذا أى أتاه طوعا ويقال انطاع بمعنى انقاد ويقال طوعت له نفسه ولا يقال أطاعته نفسه على هذا المعنى لأن قولهم أطاع يقتضى قصد أمنه لموافقة معنى الأمر وذلك غير موجود في نفسه وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضى أمرا ولا يجوز أن يكون آمر لنفسه ولا ناهيا لها إذ كان موضوع الأمر والنهى ممن هو أعلى لمن دونه وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقولك حرك غيره وقتل نفسه كما يقال حرك غيره وقتل غيره قوله تعالى( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) يعنى خسر نفسه بإهلاكه إياها لقوله تعالى( إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ولا دلالة في قوله( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) على أن القتل كان ليلا وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا وهو كقول الشاعر :

٤٨

أصبحت عاذلتى معتلة

وليس المراد النهار دون الليل وكقول الآخر :

بكرت على عواذلى

يلحيننى والومهته

ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم.

باب دفن الموتى

قال الله تعالى( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدى وقتادة والضحاك لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا وفي هذا دليل على فساد ما روى عن الحسن أنهما رجلان من بنى إسرائيل لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك وهو الأصل في سنة دفن الموتى وقال تعالى( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) وقال تعالى( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) وقيل في معنى( سَوْأَةَ أَخِيهِ ) وجهان أحدهما جيفة أخيه لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفة سوأة والثاني عورة أخيه وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما وأصل السوأة التكره ومنه ساءه يسوءه سوء إذا أتاه بما يتكره وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قبح ما فعله القاتل منهما وروى عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما * وقال الله تعالى( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنوبه قوله تعالى( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) الآية فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بنى إسرائيل ما ذكر في الآية وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني للتي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها وقوله تعالى( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ) يدل على أن من قتل نفسا بنفس فلا لوم عليه وعلى أن من قتل

٤٩

نفسا بغير نفس فهو مستحق للقتل ويدل أيضا على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل* وقوله تعالى( فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) قد قيل فيه وجوه أحدها تعظيم الوزر والثاني أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ما من قاتل ظلما إلا وعلى ابن آدم كفل من الإثم لأنه سن القتل وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة والثالث أن على الناس كلهم معونة ولى المقتول حتى يقيدوه منه فيكون كلهم خصومة في ذلك حتى يقاد منه كأنه قتل أولياءهم جميعا وهذا يدل على وجوب القود على الجماعة إذا قتلت واحدا إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعا وقوله تعالى( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) قال مجاهد من أحياها نجاها من الهلاك وقال الحسن إذا عفا عن دمها وقد وجب القود وقال غيرهم من أهل العلم زجر عن قتلها بما فيه حياتها قال أبو بكر يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الولي على قتل القاتل واستيفاء القصاص منه حياة كما قال تعالى( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلما فيكون محييا لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعا لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به فتضمنت هذه الآية ضروبا من الدلائل على الأحكام منها دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعان يجب اعتبارها بوجودها وهذا يدل على صحة القول بالقياس والثاني إباحة قتل النفس بالنفس والثالث أن من قتل نفسا فهو مستحق للقتل والرابع من قصد قتل مسلم ظلما فهو مستحق القتل لأن قوله تعالى( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدل على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها والخامس الفساد في الأرض يستحق به القتل والسادس احتمال قوله تعالى( فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) أن عليه مأثم كل قاتل بعده لأنه سن القتل وسهله لغيره والسابع أن على الناس كلهم معونة ولى المقتول حتى يقيدوه منه والثامن دلالتها على وجوب قتل الجماعة إذا قتلوا واحدا والتاسع قوله تعالى( فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) على معونة الولي على قتل القاتل والعاشر دلالته أيضا على قتل من قصد قتل غيره ظلما والله أعلم بالصواب.

٥٠

بياب حد المحاربين

قال الله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) الآية قال أبو بكر قوله تعالى( يُحارِبُونَ اللهَ ) هو مجاز ليس بحقيقة لأن الله يستحيل أن يحارب وهو يحتمل وجهين أحدهما أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس كما قال تعالى( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) وقوله( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يباين صاحبه ومعنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى إذ ليس بذي مكان فيشاق أو يحاد أو تجوز عليه المباينة والمفارقة ولكنه تشبيه بالمعادين إذ صار كل واحد منهما في شق وناحية على وجه المباينة وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة فكذلك قوله تعالى( يُحارِبُونَ اللهَ ) يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهرى الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المبالغة في أخذ الأموال وقطع الطريق ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله كما قال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ) والمعنى يؤذون أولياء الله ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد يصح إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عظمت جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رأى معاذا يبكى فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول اليسير من الربا شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحابة فأطلق عليهم اسم المحاربة ولم يذكر الردة ومن حارب مسلما على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى بذلك وروى أسباط عن السدى عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلى وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ولرسوله وإن لم يكن مشركا فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز وجل ولرسوله

٥١

ويدل عليه أيضا ما روى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وتاب من قبل أن يقدر عليه فكتب على رضى الله عنه إلى عامله بالبصرة أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه فلا تعرضن إلا بخير فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتد وإنما قطع الطريق فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليل على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة وحكى عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف ويدل على أن المراد به قطع الطريق من أهل الملة قوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم وأيضا فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفى من لم يتب قبل القدرة عليه والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل ولا تقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب منه شيئا آخر ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة ويدل عليه أيضا قوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) وقال في المحاربين( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها فلما علم أنه لم يرد

٥٢

بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين فإن قال قائل قد روى قتادة وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم أناس من عرينة فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحو قاموا إلى راعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل في طلبهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا * قيل له إن خبر العرنيين مختلف فيه فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية وروى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبى برزة الأسلمى وكان موادعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام فنزلت فيهم وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين فلم يذكر مثل قصة العرنيين وروى عن ابن عمر أنها نزلت في العرنيين ولم يذكر ردة ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول الآية شيئا وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قد قتل لأن ذلك غير ممكن فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير مقصور الحكم على المرتدين وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال كان أمر العرنيين قبل أن ينزل الحدود فأخبر أنه كان قبل نزول الآية ويدل عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمل أعينهم وذلك منسوخ بنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة وأيضا لما كان نزول الآية بعد قصة العرنيين واقتصر فيها على ما ذكر ولم يذكر سمل الأعين فصار سمل الأعين منسوخا بالآية لأنه لو كان حدا معه لذكره وهو مثل ما روى في خبر عبادة في البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم ثم أنزل الله تعالى( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فصار الحد هو ما في الآية دون غيره وصار النفي منسوخا بها ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب وليس فيها ذكر

٥٣

سمل الأعين وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي صلّى الله عليه وسلّم حكمها عليهم فلما لم يصلبوا وسملهم دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عام في سائر المحاربين.

ذكر الاختلاف في ذلك

واختلف السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق فروى الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفى عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) الآية قال إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب فإن قتل ولم يأخذ المال قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفى وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل إن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله وإن شاء قتله ولم يصلبه فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر ونفى من الأرض ونفيه حبسه وفي رواية أخرى أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب وقال الآخرون الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجرى عليهم أى هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبى رباح وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لا خلاف بين أصحابنا في ذلك فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال للإمام أربع خيارات إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قتلهم وترك القطع وقال أبو يوسف ومحمد إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون وروى عن أبى يوسف في الإملاء أنه قال إن شاء قطع يده ورجله وصلبه فأما

٥٤

الصلب فلا أعفيه منه* وقال الشافعى في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا خافوا السبيل نفوا وإذا هربوا طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود إلا من تاب قبل أن نقدر عليه سقط عنه الحد ولا يسقط حقوق الآدميين ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا* وقال مالك إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أى الحدود التي أمر الله تعالى بها قتل المحارب أو لم يقتل أخذ مالا أو لم يأخذ الإمام مخير في ذلك إن شاء قتله وإن شاء قطعه خلافا وإن شاء نفاه ونفيه حبسه حتى يظهر توبة فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي وأخذ بحقوق الناس* وقال الليث ابن سعد الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف وقال أبو الزناد في المحاربين ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب من قتل أو صلب أو قطع أو نفى.

قال أبو بكر الدليل على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فنفى صلّى الله عليه وسلّم قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة ولم يخصص فيه قاطع الطريق فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال وهذا لا خلاف فيه* فإن قيل روى إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان ورجل قتل رجلا فقتل به ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض* قيل له قد روى هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر فيه قتل المحارب ورواه عثمان وعبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكر فيه قتل المحارب والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه لأن المرتد لا محالة مستحق للقتل بالاتفاق وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء فلم يبق من الثلاثة غيرهم ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم وإن صح ذكر المحارب فيه فالمعنى فيه إذا قتل حتى يكون موافقا للأخبار الآخر وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب* فإن قيل فقد ذكر فيه أو

٥٥

ينفى من الأرض قبل له لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه إن لم يقتل فإن قيل فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر قيل له ظاهر الخبر ينفى قتله وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفى قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه كالزانى المحصن والمرتد والقاتل والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه وإنما يقتل على وجه الدفع ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقتل وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها اتفاق الجميع على أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيه ويترك قطع يده ورجله وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل أو الصلب ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخيير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا وهو أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا أو ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم* واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية وبقوله تعالى( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) فدل على أن الفساد في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال* فإن قال قائل إنما أوجب قتلهم إذا قتلوا وقطعهم إذا أخذوا المال ولم يجز العدول عنه إلى النفي لأن القتل على الانفراد يستحق به القتل وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع* قيل له قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه

٥٦

القود ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد لأنه قتل على وجه المحاربة ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي وكذلك القطع كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي إذ كان وجوب ذلك على وجه الحد وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل ولا القطع إلا إذا أخذ المال ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره وكذلك القطع كالزانى والسارق فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل* وأما قوله تعالى( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ) وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد فيقتل على وجه الدفع ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى( أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ) على هذا الوجه لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل وليس قتلهم هذا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله حدا على أنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن

٥٧

عاد فسرق قطعت رجله إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه فكان عند أبى حنفية له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع فإن قال قائل هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع قيل له ما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسبب واحد وهو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين وليس في مسألتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا إسقاط بعضه وإيجاب بعض وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا وبين الاقتصار على القتل دون الصلب لقوله تعالى( أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ) وذكر أبو جعفر الطحاوي أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبى حنيفة وكان أبو الحسن الكرخي يحكى عن أبى يوسف أنه يصلب ثم يقتل يبعج بطنه برمح أو غيره فيقتل وقال أبو الحسن هذا هو الصحيح وصلبه بعد القتل لا معنى له لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت فقيل له لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره فقال لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة* فإن قال قائل إذا كان الله تعالى إنما* أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه* قيل له أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال وروى مغيرة عن إبراهيم قال يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام* واختلف في النفي فقال أصحابنا هو حبسه حيث يرى الإمام وروى مثله عن إبراهيم وروى عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن ينفيه طلبه وقال مالك ينفى إلى بلد آخر غير

٥٨

البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك وقال مجاهد وغيره هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام* قال أبو بكر فأما من قال إنه ينفى عن كل بلد يدخل فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره فلا معنى لذلك ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره فالصحيح إذا حبسه في بلده وأيضا فلا يخلو قوله تعالى( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام وذلك ممتنع أيضا لأنه لا يجوز نفى المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع حبسه الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد وقوله تعالى( ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم قوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها كقوله تعالى( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ ) فأخرج آل لوط من جملة المهلكين وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين وكقوله تعالى( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ) فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم وقد أكد ذلك بقوله تعالى( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كقوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم فإن قال قائل قد قال في السرقة( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ

٥٩

وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه قيل له لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) مفتقر في صحته إلى ما قبله فمن أجل ذلك كان مضمنا به* ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة وكالزانى إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا درئ عنه الذي يكون به محاربا وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا درئ عنه الذي يكون به محاربا فقال أبو حنيفة من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحارى وحكى أصحاب الإملاء عن أبى يوسف أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون يقام حدهم وروى عن أبى يوسف في اللصوص الذين يكسبون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجرى عليهم أحكامهم وحكى عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية وذكر عنه أيضا قال المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة ولم يفرق هاهنا بين المصر وغيره وقال الشافعى قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال والصحارى والمصر واحد وقال الثوري لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها* قال أبو بكر روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا قطع على خائن ولا مختلس فنفى صلّى الله عليه وسلّم القطع عن المختلس والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمنتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجرى عليه أحكام قطاع الطريق وإذا كانت جماعة ممتنعة

٦٠