الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 113206
تحميل: 3664


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113206 / تحميل: 3664
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

الجزء السّابع

من

القرآن الكريم

١٢١
١٢٢

الآيات

( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) )

سبب النّزول

المهاجرون الأوّل في الإسلام :

كثير من المفسّرين ـ ومنهم الطبرسي في «مجمع البيان» ، والفخر الرازي ،

١٢٣

وصاحب «المنار» ينقلون في تفاسيرهم عن المفسّرين السابقين أنّ هذه الآيات قد نزلت بحقّ «النّجاشي» صاحب الحبشة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباعه ، وفي تفسير «البرهان» حديث يشرح هذا الموضوع شرحا وافيا.

يمكن تلخيص الرّوايات الإسلامية والتواريخ وأقوال المفسّرين بهذا الخصوص في ما يلي : في السنوات الاولى من بعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته العامّة كان المسلمون أقلية ضعيفة ، وكانت قريش قد تواصت أن تضيق الخناق على مواليها وأتباعها الذين يؤمنون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا فقد أصبح كلّ مسلم واقعا تحت ضغط عشيرته وقومه يومئذ لم يكن عدد المسلمين يكفي للقيام بجهاد تحرري.

ولكي يحافظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حياة هذه الجماعة القليلة ، ويهيئ قاعدة للمسلمين خارج الحجاز ، اختار لهم الحبشة وأمرهم بالهجرة إليها قائلا : «إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل اللهعزوجل للمسلمين فرجا».

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصد النجاشي (النجاشي اسم عام لجميع سلاطين الحبشة ، مثل كسرى لملوك إيران ، أمّا النجاشي المعاصر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو (أصحمة) ، أي العطية والهبة بلغة الأحباش).

فهاجر أحد عشر رجلا وأربع نساء من المسلمين إلى الحبشة بحرا على ظهر سفينة صغيرة استأجروها ، كان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة ، وقد أطلق عليها اسم الهجرة الاولى.

ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى لحقهم جعفر بن أبي طالب وجمع من المسلمين ، فكانوا مع السابقين جمعا مؤلفا من 82 رجلا سوى النساء والصبيان ، وشكلت هذه المجموعة النواة الاولى للتجمع الإسلامي المنظم.

كان لفكرة هذا الهجرة وقع شديد على عبدة الأصنام ، لأنّهم أدركوا جيدا أنّه

١٢٤

لن يمضي زمن طويل حتى يكون عليهم أن يواجهوا جمعا قويا من المسلمين الذين اعتنفوا الإسلام ـ بالتدريج ـ دينا لهم في أرض الحبشة حيث الأمن والأمان.

فشمروا عن ساعد الجد لإحباط تلك الفكرة ، فاختاروا اثنين من فتيانهم الأذكياء المعروفين بالدهاء والمكر ، وهما (عمرو بن العاص) و (عمارة بن الوليد) وحملوهما مختلف الهدايا والتحف إلى النجاشي ليوغروا صدره على المسلمين فيطردهم من بلاده ، وعلى ظهر السفينة التي أقلت هذين إلى الحبشة سكرا وتخاصما إلّا أنّهما ـ لكي ينفذا المهمّة التي جاءا من أجلها ـ نزلا إلى البر الحبشي ، وحضرا مجلس النجاشي بكثير من الأبهة ، وخاصّة بعد أن اشتريا ضمائر حاشية النجاشي بالكثير من الهدايا والرشاوي ، فوعدهم هؤلاء بالوقوف إلى جانبهما وتأييدها.

بدأ عمرو بن العاص كلامه للنجاشي قائلا : «أيّها الملك ، إنّ قوما خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا ، وصاروا إليك فردهم إلينا».

ثمّ قدما ما حملاه من هدايا إلى النجاشي.

فوعدهم النجاشي أن يبت بالأمر بعد استجواب ممثلي اللاجئين وبعد التشاور مع حاشيته.

وفي يوم آخر عقدت جلسة حافلة حضرتها حاشية النجاشي وجمع من العلماء المسيحيين ، وممثل المسلمين جعفر بن أبي طالب ، ومبعوثا قريش ، وبعد أن استمع النجاشي إلى أقوال مبعوثي قريش ، التفت إلى جعفر وطلب منه بيان ما لديه.

قال جعفر : يا أيّها الملك سلهم ، أنحن عبيد لهم؟

فقال عمرو : لا ، بل أحرار كرام.

جعفر : سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

عمرو : لا ، ما لنا عليكم ديون.

١٢٥

جعفر : فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بذخول بها؟

عمرو : لا.

جعفر : فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم ، ثمّ قال : «نعم أيّها الملك خالفناهم بعث الله فينا نبيّا أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة ، وحرّم الظلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها ، والزنا والربا والميتة والدّم ولحم الخنزير ، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي».

فقال النّجاشي : بهذا بعث الله عيسى ، ثمّ قال النجاشي لجعفر : هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئا؟

قال جعفر : نعم ، فقرأ سورة مريم ، فلمّا بلغ قوله :( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) قال : هذا والله هو الحقّ.

فقال عمرو : إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال : اسكت ، والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك وقال : ارجعوا إلى هذا هديته ، وقال لجعفر وأصحابه : امكثوا فإنّكم آمنون.

كان لهذا الحدث أثر بالغ بعيد المدى ، ففضلا عمّا كان له من أثر إعلامي عميق في تعريف الإسلام لجمع من أهل الحبشة ، فإنّه شد من عزيمة المسلمين في مكّة وحملهم على الاطمئنان والثقة بقاعدتهم في الحبشة لإرسال المسلمين الجدد إليها ، إلى أن يشتد ساعدهم وتقوى شوكتهم.

ومضت سنوات ، وهاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، وارتفع شأن الإسلام ، وتمّ التوقيع على صلح الحديبية ، وتوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح خيبر ، وفي ذلك اليوم الذي كان فيه المسلمون يكادون يطيرون فرحا لتحطيمهم أكبر قلعة للأعداء اليهود ، فإذا بهم يشهدون من بعيد قدوم جمع من الناس صوبهم ، ثمّ ما لبثوا حتى عرفوا أن أولئك لم يكونوا سوى المهاجرين الأوائل إلى الحبشة وقد عادوا في

١٢٦

ذلك اليوم إلى أوطانهم بعد أن تحطمت قوى الأعداء الشيطانية ، وقويت جذور شجيرة الإسلام النامية.

وإذ شاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهاجري الحبشة ، قال قولته التّأريخية : «لا أدري أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر»؟!

يروي أنّ جعفر وأصحابه جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعهم سبعون رجلا ، اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب ، فقرأ عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة «يس» إلى آخرها فبكوا حتى سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

وروي عن سعيد بن جبير في سبب نزول الآية أنّ النجاشي أرسل ثلاثين شخصا من أخلص أتباعه إلى المدينة لإظهار حبّه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللإسلام ، أولئك هم الذين استمعوا إلى آيات سورة «يس» فأسلموا ، فنزلت الآيات المذكورة تقديرا لأولئك المؤمنين.

(لا يتعارض سبب النّزول هذا مع كون سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، إذ أنّ هذا القول يرجع إلى معظم آيات السورة ، وليس ثمّة ما يمنع أن تكون بعض تلك الآيات قد نزلت في حوادث سابقة ، ثمّ وضعت ـ لأسباب ـ بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه السّورة.

التّفسير

حقد اليهود ومودّة النصارى :

تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

في الآية الاولى وضع اليهود والمشركون في طرف واحد والمسيحيون في طرف آخر :( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ) .

يشهد تاريخ الإسلام ، بجلاء على هذه الحقيقة ، ففي كثير من الحروب التي

١٢٧

أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولم يتورعوا عن التوسل بأية وسيلة للتآمر ، وقليل منهم اعتنق الإسلام ، ولكننا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم ، كما أنّ الكثيرين منهم التحقوا بصفوف المسلمين.

ثمّ يعزوا القرآن هذا الاختلاف في السلوك الفردي والاجتماعي إلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن موجودة في اليهود : فأوّلا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا ـ كما فعل علماء اليهود ـ إلى إخفاء الحقائق( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ) (1) .

ثمّ كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا ، وهي النقطة المناقضة لما ـ كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.

وعلى الرغم من كلّ انحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى اليهود : «ورهبانا».

وكثير منهم كانوا يخضعون للحق ، ولم يتكبروا ، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع ، فرفضوا قبول الإسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي :( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .

ثمّ إنّ نفرا منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحقّ إذا سمعوه :( وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ ) .

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة ،( يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) .

لقد كان تأثرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث أنّهم كانوا يقولون :( وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) .

سبق أن قلنا إنّ هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول

__________________

(1) «القسيس» تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجه الديني عند المسيحيين.

١٢٨

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاليهود ـ وإن كانوا من أصحاب الكتب السماوية ـ بلغت شدة تعلقهم بالمادة وحبّهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي وجه شبه مشترك ، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجيء الإسلام ولم تكن قد دخلتهم انحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين ، غير أن حبّهم للدنيا حبّ عبادة قد أبعدهم عن الحقّ ، بينما معاصروهم المسيحيون لم يكونوا على هذه المشاكلة.

إلّا أنّ التّأريخ القديم والمعاصر يقول لنا : أنّ المسيحيين في القرون التي أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإسلام والمسلمين جرائم لا تقل عمّا فعله اليهود في هذا المجال.

إنّ الحروب الصليبية الطّويلة والدّموية في القرون الماضية ، والاستفزازات الكثيرة التي يقوم بها الاستعمار ضد الإسلام والمسلمين اليوم غير خافية على أحد ، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع المسيحيين ، بل إنّ الآية :( إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) وما بعدها دليل على إنّها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى مصير هاتين الطائفتين وإلى عقابهما وثوابهما ، أولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات الله وأظهروا إيمانهم بكل شجاعة وصراحة :( فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ) (1) .

وأمّا أولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) .

* * *

__________________

(1) «أثابهم» من الثواب ، وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.

١٢٩

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) )

سبب النّزول

لا تتجاوزوا الحدود!

ثمّة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها : في أحد الأيّام أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة الإلهية العظمى ، فهزّ الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي ، وعلى أثر ذلك عزم بعض أتباع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها ، وأن ينصرف

١٣٠

بدلا من ذلك إلى العبادة ، فأقسم أمير المؤمنينعليه‌السلام أن ينام من الليل أقلّه ويصرفه في العبادة ، وأقسم بلال أن يصوم أيّامه كلّها ، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك إتيان زوجته وأن ينقطع إلى العبادة.

جاءت زوجة عثمان بن مظعون ـ وكانت امرأة جميلة ـ يوما إلى عائشة فعجبت عائشة من حالها فقالت : ما لي أراك متعطلة؟

فقالت : لمن أتزين؟ فو الله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فانّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء إليهم وأخبرهم أن ذاك خلاف سنّته وقال : «فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال : «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا ، أمّا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتّخاذ الصوامع ، وإنّ سياحة أمّتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ...».

فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأمور وقالوا : يا رسول الله ، لقد أقسمنا على ذلك ، فما ذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جوابا لهم(1) .

لا بدّ من القول بأنّ قسم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعا لما فيه من غمط لحقوق زوجته ، ولكن فيما يتعلق بقسم الإمام عليعليه‌السلام بإحياء الليل بالعبادة ، فإنّه كان أمرا مباحا ، ولكن المستفاد من الآيات هو أنّ الاولى أن لا يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة ، ولا يتعارض مع عصمة عليعليه‌السلام ، لأننا نقرأ بما

__________________

(1) ما ذكر أعلاه في سبب النّزول ، قسم منه مأخوذ من تفسير علي بن إبراهيم ، وقسم من تفسير مجمع البيان وتفاسير أخرى.

١٣١

يشبه ذلك بالنسبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الاولى من سورة التحريم :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) .

التّفسير

القسم وكفارته :

في هذه الآية والآيات التّالية لها مجموعة من الأحكام الإسلامية المهمّة ، بعضها يشرع لأوّل مرّة ، وبعض آخر جاء توكيدا وتوضيحا لأحكام سابقة وردت في آيات اخرى من القرآن ، لأنّ هذه السورة ـ كما سبق أن قلنا ـ نزلت في أواخر عمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان لا بدّ من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.

في الآية الاولى إشارة إلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإلهية. فنهاهم الله عن ذلك قائلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (1) .

إنّ ذكر هذا الحكم ، مع أخذ سبب النّزول بنظر الإعتبار ، قد يكون إشارة إلى أنّه إذا كان في الآيات السابقة شيء من الثناء على فريق من علماء المسيحية ورهبانها لتعاطفهم مع الحقّ والتسليم له ، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات ، وليس للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك ، فبذكر هذا الحكم يعلن الإسلام صراحة استنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمّة شرح أوفى لهذا الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد :( ... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) .

ثمّ لتوكيد هذا الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود ، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .

وفي الآية التي تليها آخر للأمر ، إلّا أنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم ، وفي هذه الآية أمر بالانتفاع المشروع من الهبات الإلهية ، فيقول :( وَكُلُوا

__________________

(1) في معنى «الحلال» و «الطيب» أنظر المجلد الأول من هذا التفسير.

١٣٢

مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ) .

والشرط الوحيد لذلك هو الاعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم :( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) أي أنّ إيمانكم بالله يوجب عليكم احترام أوامره في التمتع وفي الاعتدال والتقوى.

هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، وهو أنّ الأمر بالتقوى يعني إن تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة ، فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإنسان حد الاعتدال من جميع الجهات.

والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام ، ويمكن القول أنّ القسم نوعان :

فالاولى : هو القسم اللغو ، فيقول :( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) .

في تفسير الآية (225) من سورة البقرة ـ التي تتناول موضوع عدم وجود عقاب على اللغو في الأيمان ـ قلنا : إنّ المقصود باللغوّ في الأيمان ـ كما يقول المفسّرون والفقهاء ـ الأيمان التي ليس لها هدف معين ولا تصدر عن وعي وعزم إرادي ، وإنما هي قسم يحلف به المرء من غير تمعن في الأمر فيقول : والله وبالله ، أو لا والله ولا بالله ، أو إنّه في حالة من الغضب والهياج يقسم دون وعي.

ويقول بعضهم : إنّ الإنسان إذا كان واثقا من أمر فاقسم به ، ثمّ ظهر أنّه قد أخطأ ، فقسمه ـ يعتبر أيضا ـ من نوع اللغو في الأيمان ، كأن يتيقن أحدهم من خيانة زوجته على أثر سعاية بعض الناس ووشايتهم ، فيقسم على طلاقها ، ثمّ يتّضح له أن ما سمعه بحقّها كان كذبا وافتراء ، فإنّ قسمه ذاك لا اعتبار له ، إننا نعلم أيضا أنّه بالإضافة إلى توفر القصد والإرادة والعزم في القسم الجاد ، يجب أن يكون محتواه غير مكروه وغير محرم ، وعليه إذا أقسم أحدهم مختارا أن يرتكب عملا محرما أو مكروها ، فإن قسمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به ، ويحتمل أن يكون مفهوم «اللغو» في هذه الآية مفهوما واسعا يشمل هذا النوع من الأيمان

١٣٣

أيضا.

والقسم الثّاني : هو القسم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه ، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إذا لم يف به الإنسان :( وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمان ) .

كلمة «العقد» تعني في الأصل ـ كما قلنا في بداية سورة المائدة ـ جمع أطراف الشيء جمعا محكما.

ومنه تسمية ربط طرفي الحبل بـ «العقدة» ثمّ انتقل هذا المعنى إلى الأمور المعنوية ، فأطلق على كل اتفاق وعهد اسم العقد ، فعقد الأيمان ـ كما في الآية ـ يعني التعهد بكل جد وعزم وتصميم على أمر ما بموجب القسم.

بديهي أن الجد وحده في القسم لا يكفي لصحته ، بل لا بدّ أيضا من صحة محتواه ـ كما قلنا ـ وأن يكون أمرا مباحا في الأقل ، كما لا بدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم الله لا قيمة له.

وعليه إذا أقسم إمرؤ بالله أن يعمل عملا محمودا ، أو مباحا على الأقل ، فيجب عليه أن يعمل بقسمه ، فإن لم يفعل ، فعليه كفارة التخلف.

وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة ، وهي واحدة من ثلاثة :

الأولى :( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ) ، ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إلى أي نوع من الطعام الدنيء والقليل ، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة :( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) .

ظاهر الآية يدل على النوعية المتوسطة ، ولكن يحتمل أنّه إشارة إلى الكمية والكيفية كليهما ، فقد جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه الحد الوسط من الكيفية ، وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه الحدّ الوسط من الكمية ، الأمر الذي يدل على أن المطلوب هو

١٣٤

الحد الوسط من كليهما(1) .

ولا حاجة للقول بأنّ «الحدّ الوسط» سواء في الكمية أو الكيفية ، يختلف باختلاف المدن والقرى والأزمنه.

وقد احتمل بعضهم تفسيرا آخر للأوسط ، وهو أنّه يعني الجيد الرفيع ، وهما من معاني «الأوسط» كما نقرأ في الآية (28) من سورة القلم :( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ) .

الثّانية :( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) .

من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطي الجسم حسب العادة ، لذلك ورد في بعض الرّوايات أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام بيّن أنّ المقصود بالكسوة في هذه الآية قطعتا اللباس (الثوب والسروال) ، أمّا الرواية المنقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام بأن ثوبا واحدا يكفي ، فربّما تكون إشارة إلى الثوب العربي الطويل المعروف والذي يكسو الجسم كلّه ، أمّا بشأن النسوة فلا شك أنّ ثوبا واحدا لا يكفي ، بل لا بدّ من غطاء للرأس والرقبة ، وهذا هو الحدّ الأدنى لكسوة المرأة لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضا باختلاف الفصول(2) والأمكنة والأزمنة.

أمّا من حيث الكيفية ، وهل يكفي الحد الأدنى ، أم ينبغي مراعاة الحد الأوسط؟ فإن للمفسرين رأيين في ذلك :

1 ـ إن كل كسوة تكفي إذا أخذت الآية على إطلاقها.

2 ـ إنّه ما دمنا قد راعينا الحدّ الأوسط في الإطعام ، فلا بدّ أن نراعي هذا الحد في الكساء أيضا ، غير أن الرأي الأوّل أكثر انسجاما مع إطلاق الآية.

الثّالثة :( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) .

__________________

(1) «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 666 وتفسير «البرهان» ، ج 1 ، ص 496.

(2) ثمّة حديث بهذا الشأن عن الإمام الباقرعليه‌السلام أو الإمام الصادقعليه‌السلام أنظر تفسير «البرهان» ، ج 1 ، ص 496.

١٣٥

وإن كانت الآية مطلقة في الظاهر.

وهذا ما يدل على أنّ الإسلام يتوسل بطرق مختلفة لتحرير العبيد ، أمّا في الوقت الحاضر حيث يبدو أنّه لا وجود للرق ، فإنّ على المسلمين أن يختاروا واحدة من الكفارتين المتقدمتين.

ليس ثمّة شك في أنّ هذه المواضيع الثلاثة متباينة من حيث قيمتها تباينا كبيرا ، ولعل القصد من هذا التباين هو حرية الإنسان في إختيار الكفارة التي تناسبه وتناسب إمكاناته المادية.

ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها ، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى :( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) .

إذن ، فصيام ثلاثة أيّام مقصور على الذين لا قدرة لهم على تحقيق أي من الكفارات الثلاث السابقة ، ثمّ يؤكّد القول ثانية :( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) .

ومع ذلك ، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قسم صحيح أقسمه ، يقول تعالى :( وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) .

وبعبارة أخرى : إنّ الالتزام بالقسم واجب تكليفي ، وعدم تنفيذه حرام ، والكفارة تأتي بعد الرجوع عن القسم.

في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك :( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

* * *

١٣٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) )

سبب النّزول

تذكر التفاسير الشيعية والسنّية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الاولى تكاد تكون متشابهة ، من ذلك أنّه جاء في تفسير «الدر المنثور» عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال : إنّ هذه الآية قد نزلت بشأني. كان أنصاري قد أعد طعاما دعانا إليه مع جمع من الناس ، فتناولوا الطعام وشربوا الخمر ، وكان هذا قبل تحريمها في الإسلام ، وعند ما صعدت النشوة إلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم الكلام شيئا فشيئا حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على أنفي فشجه فقمت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكيت له ما جرى ، فنزلت الآية المذكورة.

١٣٧

وفي «مسند أحمد» و «سنن أبي داود» و «النسائي» و «الترمذي» أنّ عمر (وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير «في ظلال القرآن» ج 3 ، ص 33) كان يدعو الله أن ينزل حكما واضحا في الخمر ، وعند ما نزلت الآية (219) من سورة البقرة( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) قرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّه ظل يكرر دعاءه ويطلب مزيدا من التوضيح حتى نزلت الآية (43) من سورة النساء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، غير أنّه استمر في دعاءه ، حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة الحكم بشكل كامل ، وعند ما قرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر ، فقال : انتهينا انتهينا(1) !

التّفسير

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي :

سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية (43) من سورة النساء ، إنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة انتشارا أشبه بالوباء العام ، حتى قيل : أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصورا على ثلاثة : الشعر والخمر والغزو.

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإقلاع عنها كان شاقّا على بعض المسلمين ، حتى قالوا : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر(2) ! من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الإعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم ، لذلك اتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لاقتلاع

__________________

(1) تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 50.

(2) نفس المصدر ، ج 7 ، ص 51.

١٣٨

هذه الآفة من جذورها ، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم ، وعروقهم ، ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر ، كما في الآية (67) من سورة النحل :( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) .

فهنا «سكر» وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب ، قد وضع في قبال الرزق الحسن ، فاعتبره شرابا غير طيب بخلاف الرزق الحسن ، إلّا أنّ تلك العادة الخبيثة ـ عادة معاقرة الخمرة ـ كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات ، ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانبا من دخلهم الاقتصادي لذلك ، عند ما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية ، نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الاولى ، لكي تهيئ الأذهان أكثر إلى التحريم النهائي ، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) .

فها هنا إشارة إلى منافع الخمر الاقتصادية لبعض المجتمعات ، كالمجتمع الجاهلي ، مصحوبة بإشارة إلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيرا منافعها الاقتصادية.

ثمّ في الآية (43) من سورة النساء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يأمر الله المسلمين أمرا صريحا بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى أدركوا ما يقولونه أمام الله.

واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز ، بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة ، أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئا صراحة في غير مواقع الصّلاة.

إنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإسلام واستعدادهم الفكري لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم ، أصبحا

١٣٩

سببا في نزول آية صريحة تماما في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات ، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة :

1 ـ فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

2 ـ استعمال «إنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

3 ـ وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب(1) (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضررا عن عبادة الأصنام ، ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «شارب الخمر كعابد الوثن»(2) .

4 ـ الخمر والقمار وعبادة الأصنام ، والاستقسام والأزلام (ضرب من اليانصيب)(3) لها قد اعتبرها القرآن رجسا وخبثا :( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) .

5 ـ وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان :( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

6 ـ وأخيرا يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع :( فَاجْتَنِبُوهُ ) .

لا بدّ من التنوية بأنّ لتعبير «فاجتنبوه» مفهوما أبعد ، إذ أنّ الاجتناب يعني الابتعاد والانفصال وعدم الاقتراب ، ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر.

7 ـ وفي الختام يقول تعالى أن ذلك :( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي لا فلاح لكم بغير

__________________

(1) انظر المجلد الثّالث ، من هذا التّفسير بشأن الأنصاب والنصيب.

(2) هامش تفسير الطبري ، ج 7 ، ص 31 ، وقد جاء هذا الحديث في تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 69 عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

(3) انظر شرح كيفية الأزلام في المجلد الثالث من هذا التّفسير.

١٤٠