الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 113130
تحميل: 3661


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113130 / تحميل: 3661
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

قال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد المناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا (أي أعطوا الناس ما يركبونه) فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنّا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس وتركه.

وروي أنّه التقى أخنس بن شريق ، وأبو جهل بن هشام فقال له : يا أبا الحكم ، اخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب ، فإنّه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك والله إنّ محمّدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنّبوة فما ذا يكون لسائر قريش؟!(1) .

يتبيّن من هذه الرّوايات وأمثالها أنّ كثيرا من أعداء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الألداء كانوا في باطنهم يعترفون بصدق ما يقول ، إلّا أنّ التنافس القبلي وما إلى ذلك ، لم يكن يسمح لهم بإعلان ما يعتقدون ، أو لم تكن لديهم الشجاعة على ذلك.

إنّنا نعلم أنّ مثل هذا الإعتقاد الباطني ما لم يصاحبه التسليم ، لن يكون له أي أثر ، ولا يدخل الإنسان في زمرة المؤمنين الصادقين.

الآية الثّانية تستأنف مواساة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبيّن له حال من سبقه من الأنبياء ، وتؤكّد له أنّ هذا ليس مقتصرا عليه وحده ، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم مثل ذلك أيضا :( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) .

ولكنّهم صبروا وتحملوا حتى انتصروا بعون الله :( فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) وهذه سنة إلهية لا قدرة لأحد على تغييرها :( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ) .

وعليه ، فلا تجزع ولا تبتئس إذا ما كذبك قومك وآذوك ، بل اصبر على

__________________

(1) الرّوايات المذكورة مستفادة من تفسير «المنار» و «مجمع البيان» في ذيل الآية المذكورة.

٢٦١

معاندة الأعداء وتحمل أذاهم ، واعلم أنّ الإمدادات والألطاف الإلهية ستنزل بساحتك بموجب هذه السنة ، فتنتصر في النهاية عليهم جميعا ، وإنّ ما وصلك من أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم وانتصارهم في النهاية ، لهو شهادة بيّنة لك :( وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) .

تشير هذه الآية ـ في الواقع ـ إلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إلى مبادئ وتعاليم بناءة ، وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع ، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الانتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادئ البناءة خطرا يتهدد مصالحهم ، فلا يتركون وسيلة إلّا استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة ، ولا يتورعون حتى عن التوسل بالتكذيب والاتهام ، والحصار الاجتماعي ، والإيذاء والتعذيب ، والسلب والنهب ، والقتل ، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أولئك المصلحين.

إلّا أنّ الحقيقة ، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق ، وبموجب السنة الإلهية ، تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك ، إلّا أنّ شرط هذا الإنتصار هو الصبر والمقاومة والثبات.

تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة «كلمات الله» ، لأنّ الكلم والكلام في الأصل التأثير المدرك بإحدى الحاستين ، السمع أو البصر ، فالكلام مدرك بحاسة السمع ، والكلم بحاسة البصر ، وكلمته : جرحته جراحة بان تأثيرها ، ثمّ كان توسع في إطلاق «الكلمة» على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة والتعاليم.

* * *

٢٦٢

الآيتان

( وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) )

التّفسير

الأموات المتحركون :

هاتان الآيتان استمرار لمواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي بدأت في الآيات السابقة لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم ، وكان يود لو أنّه استطاع أن يهديهم جميعا إلى طريق الإيمان بأية وسيلة كانت.

فيقول الله تعالى :( وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) (1) . أي إذا كان إعراض هؤلاء المشركين يصعب ويثقل عليك ، فشق أعماق الأرض أو ضع سلّما يوصلك إلى السماء للبحث عن آية ـ إن استطعت ـ ولكن اعلم أنّهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.

__________________

(1) جملة( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ ) جملة شرطية جوابها محذوف ، تقديره «إن استطعت فافعل ولكنّهم لا يؤمنون».

٢٦٣

«النفق» في الأصل «النقب» وهو الطريق النافذ ، والسرب في الأرض النافذ فيها ، ومنه النفاق ، وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب ، أي أنّ للمنافق سلوكا ظاهرا وآخر خفيا.

في هذه الآية يخبر الله نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص ، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحقّ ، لذلك فانّ أي مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.

ولكن لكيلا يظن أحد أنّ الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ) أي لو أراد حملهم على الاستسلام والرضوخ لدعوتك والإيمان بالله لكان على ذلك قديرا.

غير أنّ الإيمان الإجباري لا طائل تحته ، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الإختيار والإرادة ، ففي حالة حرية الإختيار وحدها يمكن تمييز «المؤمن» من «الكافر» ، و «الصالح» من «غير الصالح» و «المخلص» من «الخائن» و «الصادق» من «الكاذب». أمّا في الإيمان الإجباري فلن يكن ثمّة اختلاف بين الطيب والخبيث ، وعلى صعيد الإجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها تماما.

ثمّ يقول سبحانه لنبيّه :( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ ) ، أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين ، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع ، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم.

وما من شك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع ، تماما كالذي نقوله نحن لمن فقد ابنه : لا تحزن فالدنيا فانية ، سنموت جميعا ، وأنت ما تزال شابا ولسوف ترزق بابن آخر ، فلا تجزع كثيرا.

فلا ريب أنّ فناء دار الدنيا ، أو كون المصاب شابا ليسا مجهولين عنده ،

٢٦٤

ولكنها أمور تقال للتذكير.

على الرّغم من أنّ هذه الآية من الآيات التي تنفي الإجبار والإكراه ، فإنّ بعض المفسّرين كالرّازي ، يعتبرها من الأدلة على «الجبر» ويستند إلى( وَلَوْ شاءَ ) ويقول : يتّضح من هذه الآية أنّ الله لا يريد للكفار أن يؤمنوا! ولكنّه غفل عن أنّ الإرادة والمشيئة في هذه الآية هما الإجباريتان ، أي أنّ الله لا يريد الناس أن يؤمنوا بالإجبار والإكراه ، بل يريدهم أن يؤمنوا باختيارهم وإرادتهم ، وعليه فانّ هذه الآية دليل قاطع يدحض مقوله «الجبريين».

في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول الآية( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) .

أمّا الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فأنّهم لا يؤمنون حتى يبعثهم الله يوم القيامة :( وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (1) .

يومئذ ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون ، إلّا أنّ إيمانهم ذاك لا ينفعهم شيئا ، لأنّ رؤية مناظر يوم القيامة العظيمة تحمّل كل مشاهد على الإيمان فيكون نوعا من الإيمان الاضطراري.

ومن نافلة القول أنّ «الموتى» في هذه الآية لا تشير إلى الموت الجسماني في الأفراد ، بل الموت المعنوي ، فالحياة والموت نوعان : حياة وموت عضويان ، وحياة وموت معنويان ، كذلك أيضا السمع والبصر ، عضويان ومعنويان فكثير ما نصف المبصرين السامعين الأحياء الذين لا يدركون الحقائق بأنّهم عمي أو صم أو حتى أموات ، إذ إنّ رد الفعل الذي يصدر عادة من الإنسان الحي البصير السامع إزاء الحقائق لا يصدر من هؤلاء.

أمثال هذه التعبيرات كثيرة في القرآن ، ولها عذوبة ، وجاذبية خاصّة ، بل إنّ

__________________

(1) من حيث الاعراب «الموتى» مبتدأ ، و «يبعثهم الله» خبر ، ومعنى ذلك هو أنّ هؤلاء لا يطرأ على حالهم أي تغيير حتى يبعثهم الله يوم القيامة فيرون الحقائق.

٢٦٥

القرآن لا يعير أهمية كبيرة للحياة المادية البايلوجية التي تتمثل في «الأكل والنوم والتنفس» وإنّما يعني أشد العناية بالحياة الإنسانية المعنوية التي تتمثل في تحمل التكاليف والمسؤولية والإحساس واليقظة والوعي.

لا بدّ من القول أيضا : إنّ المعنوي من العمى والصمم والموت ينشأ من ذات الأفراد ، لأنّهم ـ لاستمرارهم في الإثم وإصرارهم عليه وعنادهم ـ يصلون إلى تلك الحالة.

إنّ من يغمض عينيه طويلا يصل إلى حالة يفقد فيها تدريجيا قوة البصر ، وقد يبلغ به الأمر إلى العمى التام ، كذلك الذي يغمض عين روحه عن رؤية الحقائق طويلا يفقد بصيرته المعنوية شيئا فشيئا.

* * *

٢٦٦

الآية

( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) )

التّفسير

تشير هذه الآية إلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون ، فقد جاء في بعض الرّوايات أنّه عند ما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته ، قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه ، إذا كنت صادقا فيما تقول : فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح ، يقول القرآن بهذا الشأن :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

من الواضح أنّ أولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة ، لأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي ، وحتى لو لم يأت بمعجز سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إلى أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك ، لكان فيه الكفاية لإثبات نبوته ، غير أنّ هؤلاء المزيفين كانوا يبحثون عن عذر يتيح لهم إهانة القرآن من جهة ، والتملص من قبول دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أخرى ، لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات ، ولو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استجاب لمطاليبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ،

٢٦٧

كما جاء في آيات أخرى من القرآن ، لذلك يأمر الله رسوله أنّ :( قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ) إلّا أنّ في ذلك أمرا أنتم عنه غافلون ، وهو أنّه إذا حقق الله مطاليبكم التي يدفعكم إليها عنادكم ، ثمّ بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز ، فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعا ، وتفنون عن آخركم ، لأنّ ذلك سيكون منتهى الاستهتار بمقام الألوهية المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته ، ولهذا تنتهي الآية بالقول :( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

إشكال :

يتبيّن من تفسير «مجمع البيان» أنّ بعض مناوئي الإسلام قد اتّخذوا من هذه الآية ـ منذ قرون عديدة ـ دليلا يستندون إليه في الزعم بأنّه لم تكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أية معجزة ، لأنّه كلما طلبوا منه معجزة كان يكتفي بالقول : إنّ الله قادر على ذلك ، ولكن أكثركم لا تعلمون ، وهذا ما نهجه بعض الكتاب المتأخرين فأحيوا هذه الفكرة البالية مرّة أخرى.

الجواب :

أوّلا : يبدو أنّ هؤلاء لم يمعنوا النظر في الآيات السابقة والتّالية لهذه الآية ، وإلّا لأدركوا أنّ الكلام يدور مع المعاندين الذين لا يستسلمون للحق مطلقا ، وإنّ موقف هؤلاء هو الذي منع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إجابة طلبهم ، فهل نجد في القرآن أنّ طلاب الحقيقة سألوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحقق لهم معجزة فامتنع؟ الآية (111) من هذه السورة نفسها تتحدث عن أمثال هؤلاء فتقول :( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) .

ثانيا : تفيد الرّوايات أنّ هذا الطلب تقدم به بعض رؤساء قريش ، وكان هدفهم من ذلك إهانة القرآن والإعراض عنه ، فمن الطبيعي أن لا يستجيب

٢٦٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطلب يكون دافعه بهذا الشكل.

ثالثا : إنّ أصحاب هذا الإشكال قد أغفلوا سائر آيات القرآن الأخرى التي تصرّح بأنّ القرآن نفسه معجزة خالدة ، وكثيرا ما دعت المخالفين إلى معارضته ، وأثبتت ضعفهم وعجزهم عن ذلك ، كما أنّهم نسوا الآية الأولى من سورة الإسراء التي تقول بكل وضوح : إنّ الله أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.

رابعا : ليس من المعقول أن يكون القرآن مليئا بذكر معاجز الأنبياء وخوارق عاداتهم ويدّعي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه خاتم الأنبياء وأرفعهم منزلة ، وأنّ دينه أكمل من أديانهم ثمّ ينكص عن إظهار معجزة استجابة لطلب الباحثين عن الحقّ والحقيقة ، أفلا يكون هذا نقطة غامضة في دعوته في نظر المحايدين وطلاب الحقيقة؟

فلو لم تكن له أية معجزة ، لكان عليه أن يسكت عن ذكر معاجز الأنبياء الآخرين لكي يتمكن من تمرير خطّته ويغلق طريق الاعتراض والانتقاد عليه ، ولكنّه لا يفتأ يتحدث عن إعجاز الآخرين ويعدد خوارق العادات عند موسى بن عمران وعيسى بن مريم وإبراهيم وصالح ونوحعليهم‌السلام ، وهذا دليل بيّن على ثقته التامّة بمعاجزه ، إنّ كتب التّأريخ الإسلامي والرّوايات المعتبرة ونهج البلاغة تشير بما يشبه التواتر إلى خوارق عادات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

٢٦٩

الآية

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) )

التّفسير

لاتساع البحث حول هذه الآية ، سنبدأ بشرح ألفاظها ، ثمّ نفسّرها بصورة إجمالية ، ثمّ نتناول سائر جوانبها بالبحث.

«الدّابة» من «دبّ» والدبيب المشي الخفيف ، ويستعمل ذلك في الحيوان والحشرات أكثر ، وقد ورد في الحديث «لا يدخل الجنّة ديبوب» وهو النمام الذي يمشي بين الناس بالنميمة.

«الطائر» كل ذي جناح يسبح في الهواء ، وقد يوصف بها بعض الأمور المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع ، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه.

«أمم» جمع أمّة ، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما ، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد.

«يحشرون» من «حشر» بمعنى «الجمع» ، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة ، وخاصة لأنّه يقول :( إِلى رَبِّهِمْ ) .

٢٧٠

هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة ، فتتحدث عن «الحشر» وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحية والحيوانات ، فتقول أولا :( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُم ) .

يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور أمم مثل البشر ، غير أنّ للمفسّرين أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل.

بعض يقول : إنّ التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه.

وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك الحاجات وإشباعها.

ومنهم من يعتقد أنّ التشابه كائن في تشابه الإدراك والفهم والمشاعر ، أي أنّ للحيوان والطير أيضا ـ إدراكه ومشاعره في عالمه الخاص ، ويعرف الله ويسبح له ويقدسه بحسب طاقته ، وإن تكن قوّة إدراكه أدنى ممّا في الإنسان ، ثمّ إنّ ذيل هذه الآية ـ كما سيأتي بيانه ـ يؤيد هذا الرأي الأخير.

ثمّ تقول الآية :( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) .

لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شيء (ممّا يتعلق بتربية الإنسان وهدايته وتكامله) يبيّنه مرّة بيانا عاما ، كالحث على طلب العلم مطلقا ، ومرّة بيانا تفصيليا كالكثير من الأحكام الإسلامية والقضايا الأخلاقية.

ثمّة احتمال آخر يقول : إنّ المقصود بالكتاب هو «عالم الوجود» إذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم ، يضم كلّ شيء ولا ينسى شيئا.

ليس ثمّة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التّفسيرين ، فالقرآن لم يترك شيئا تربويا إلّا وذكره بين دفتيه ، كما أنّ عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز.

وتختم الآية بالقول :( ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) .

٢٧١

يظهر أنّ ضمير (هم) يعود إلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها وأصنافها ، أي أنّ لها ـ أيضا بعثا ونشورا ، وثوابا وعقابا ، وهذا ما يقول به معظم المفسّرين ، إلّا أنّ بعض المفسّرين ينكرون هذا ، ويفسّرون هذه الآية والآيات المشابهة تفسيرا آخر ، كقولهم : إنّ معنى «الحشر إلى الله» هو الموت والرجوع إلى نهاية الحياة(1) .

ظاهر الآية يشير ـ كما قلنا ـ إلى البعث والحشر يوم القيامة.

من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم : إنّ الله الذي خلق جميع الحيوانات ووفر لها ما تحتاجه ، ورعى كل أفعالها ، وجعل لها حشرا ونشورا ، قد أوجد لكم دون شك بعثا وقيامة ، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شيء سوى الحياة الدنيا والممات.

* * *

ملاحظات :

1 ـ هل هناك بعث للحيوانات؟

ما من شك أنّ الشّرط الاوّل للمحاسبة والجزاء هو «العقل والإدراك» ويستتبعهما (التكليف والمسؤولية).

يقول أصحاب هذا الرأي : إنّ لديهم ما يثبت أن للحيوانات إدراكا وفهما بمقدار ما تطيق ، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب ، ويدلّ على ارتفاع مستوى إدراكها وفهمها ، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها ، ولم يستحسن فهمها وإدراكها؟ فعلى الرغم من أنّ بعضهم يعزوا ذلك كله إلى نوع من

__________________

(1) نقل هذا الاحتمال صاحب المنار عن ابن عباس.

٢٧٢

الإلهام الغريزي ، فليس ثمّة دليل على أنّ هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا عقلية.

ما الدليل على أنّ هذه الأعمال ـ حسبما يدل ظاهرها ـ ليست ناشئة عن تعقل وإدراك؟ كثيرا ما يحدث أنّ الحيوان يبتكر ـ استجابة لظرف من الظروف ـ شيئا لم يسبق له أن مرّ به وجربه ، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئبا في حياتها تفرغ منه أوّل ما تراه وتدرك خطره عليها ، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.

إن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجيا دليل آخر على هذا الأمر ، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها ـ بل وحتى أطفالهم ـ كما يعاملهم الخادم العطوف.

ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيرا من الخدمات الإنسانية ولا شك أنّ هذه أمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة ، إذ إنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار ، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصّة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة ، فهذه تكون إلى التعقل والإدراك أقرب منها إلى الغريزة.

نشاهد اليوم أنّ حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة ، فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين ، والحمام الزاجل لنقل الرسائل ، وحيوانات أخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق ، وحيوانات أخرى للصيد ، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإتقان (حتى أنّهم افتتحوا مؤخرا مدارس خاصّة لتعليم مختلف الحيوانات)!

فضلا عن ذلك كلّه ، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل ـ بوضوح ـ على أنّ للحيوانات فهما وإدراكا ، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان ، وحكاية ذهاب الهدهد إلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.

ثمّة أحاديث إسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات ، من ذلك ما روي عن

٢٧٣

أبي ذر قال : بيّنا أنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ انتطحت عنزان ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أتدرون فيما انتطحتا؟» فقالوا : لا ندري ، قال : «ولكن الله يدري وسيقضي بينهما»(1 .

وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال : «إنّه يحشر هذه الأمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء من القرناء»(2) .

وفي الآية (5) من سورة التكوير يقول سبحانه :( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) وهي دليل آخر على ذلك.

* * *

2 ـ الحشر والتكليف :

تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها ، وهي هل أن مقولة تكليف الحيوانات معقولة ، مع أنّ من شروط التكليف العقل ، ولهذا لا يكون الطفل والمجنون مكلّفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإدراكا من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإذا لم يكن له مثل هذا العقل والإدراك ، فكيف يجوز أن يكلّف ، وبأي تكليف؟

للجواب على هذه السؤال نقول : إنّ للتكليف مراحل ودرجات ، وكل مرحلة تناسب درجة معينة من العقل والإدراك ، وانّ التكاليف الكثيرة المفروضة في القوانين الإسلامية على الإنسان تتطلب مستوى رفيعا من العقل والإدراك لإنجازها ، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعا ، لأنّ الشرط المطلوب لإنجازها غير متوفر في الحيوانات ، إلّا أنّ مرحلة من التكاليف

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، ونور الثقلين في تفسير الآية المذكورة.

(2) تفسير المنار ، ذيل الآية ، والجماء عكس القرناء : الحيوان الفاقد للقرن.

٢٧٤

البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإدراك يمكن تصورها وقبولها في الحيوان ولا يمكن إنكارها ، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل ، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد ـ كأن يكون عمره 14 ـ سنة مثلا ـ لو ارتكب جريمة قتل ، وهو عالم بكل أضرار هذا العمل ، فلا يمكن اعتباره بريئا ، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على بعض جرائم الأطفال غير البالغين ، وإن كانت العقوبات أخف طبعا.

وعليه ، فإنّ البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا المتكاملة ، أمّا في المراحل الأدنى ، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى على من هم أدنى مرتبة ، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطا لازما.

فإذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار ، يمكن حل قضية الحيوانات أيضا بهذا الشأن.

* * *

3 ـ هل تدل هذه الآية على التناسخ؟

من العجيب أن بعض مؤيدي فكرة «التناسخ» الخرافية يتخذون من هذه الآية دليلا على صحة فكرتهم ، ويقولون : يفهم من الآية أنّ الحيوانات أمم مثلكم ، مع أنّنا نعلم أنّها ذاتيا ليست مثلنا ، فيمكن إذن القول بأن أرواح البشر التي تفارق أبدانها تحل في أبدان الحيوانات ، وبهذا الشكل تنال الأرواح المذنبة العقاب.

ولكن على الرغم من أنّ فكرة التناسخ تناقض «قانون التكامل» ولا تتفق مع منطق العقل ، وتستوجب إنكار «المعاد» (كما سبق شرحه في موضعه) ، فإنّ هذه الآية لا تدل على التناسخ مطلقا ، إذ إنّ المجتمعات الحيوانية ـ كما قلنا ـ تشبه المجتمعات البشرية ، وهو شبه بالفعل لا بالقوّة ، لأن للحيوانات نصيبها من الفهم

٢٧٥

والإدراك ، ونصيبها من المسؤولية أيضا ، ومن ثمّ نصيبها من البعث والحساب ، أنّها تشبه الإنسان في هذه الحالات.

ينبغي أن نعرف أنّ التكاليف والمسؤوليات الملقاة على الحيوانات في مرحلة خاصّة لا تعني أنّ لها إماما وقائدا وشريعة ودينا كما ذهب إليه بعض أصحاب التصوف ، فهي لا يقودها سوى إدراكها الباطني ، أي أنّها تدرك بعض الأمور ، فتكون مسئولة عنها بقدر إدراكها لها.

* * *

٢٧٦

الآية

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) )

التّفسير

الصّم والبكم :

مرّة أخرى يعود القرآن ليتطرق إلى المنكرين المعاندين ، فيقول :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ ) فهم لا يملكون آذانا صاغية لكي يستمعوا إلى الحقائق ، ولا ألسنا ناطقة بالحقّ توصل إلى الآخرين ما يدركه الإنسان من الحقائق ، ولمّا كانت ظلمات الأنانية وعباده الذات والمعاندة والجهل تحيط بهم من كل جانب ، فهم لا يستطيعون رؤية وجه الحقيقة ، ولذلك فهم محرومون من النعم الثلاث التي تربط الإنسان بالعالم الخارجي أي السمع والبصر والنطق).

يرى بعض المفسّرين أنّ المقصود بالصمّ هم المقلّدون الذين يتبعون قادتهم الضالين دون اعتراض ، ويصمون آذانهم عن سماع دعوات الهداة الإلهيين ، وإنّ المقصود بالبكم هم أولئك القادة الضالون الذين يدركون الحقائق جيدا ، ولكنّهم حفاظا على مصالحهم ومراكزهم الدنيوية ـ يكمون أفواههم ، ولا ينطقون بالحقّ ،

٢٧٧

فكلا الفريقين غريقان في ظلمات الجهل وعبادة الذات(1) .

وبعد ذلك يقول القرآن الكريم :( مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

سبق أن قلنا إنّ نسبة الهداية والضلالة إلى مشيئة الله وإرادته نسبة تفسرها آيات أخرى في القرآن يقول سبحانه :( يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) ويقول :( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) وفي موضع آخر يقول :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) يتّضح من هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية أنّ الهداية والضلالة اللتين تنسبان في هذه الحالات إلى مشيئة الله إنّما هما في الحقيقة ثواب الله وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السيئة.

وبعبارة أخرى : قد يرتكب الإنسان أحيانا إثما كبيرا يؤدي به إلى أن يحيط بروحه ظلام مخيف ، فتفقد عينه القدرة على رؤية الحقّ ، وتفقد أذنه القدرة على سماع صوت الحقّ ، ويفقد لسانه القدرة على قول الحقّ.

وقد يكون الأمر على عكس ذلك ، أي قد يعمل الإنسان أعمالا صالحات كثيرة بحيث أن عالما من النّور والضوء يشع في روحه ، فيتسع بصره وبصيرته ، وتزداد أفكاره إشعاعا ، ويكون لسانه ابلغ في إعلان الحقّ ، ذلكم هو مفهوم الهداية والضلالة اللتين تنسبان إلى إرادة الله ومشيئته.

* * *

__________________

(1) «الميزان» ج 7 ، ص 84.

٢٧٨

الآيتان

( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) )

التّفسير

التّوحيد الفطري :

يعود الكلام مرّة أخرى إلى المشركين ، ويدور الاستدلال حول وحدانيّة الله وعبادة الواحد الأحد عن طريق تذكيرهم باللحظات الحرجة والمؤلمة التي تمر بهم في الحياة ، ويستشهد بضمائرهم ، فهم في مثل تلك المواقف ينسون كل شيء ، ولا يجدون غير الله ملجأ لهم.

يأمر الله سبحانه نبيّه أن :( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1) .

__________________

(1) يقول علماء العربية : إنّ «ك» في «أرأيتك» و «كم» في «أرأيتكم» ليستا اسما ولا ضميرا ، ولكنّهما حرفا خطاب يفيدان التوكيد ، والفعل في مثل هذه الحالات يكون مفردا إنّما الافراد والتثنية والجمع تظهر على حرف الخطاب هذا ، ففي «أرأيتكم» المخاطبون جماعة ولكن الفعل «رأيت» مفرد ، و «كم» هو الذي يدل على أنّ المخاطبين جماعة ، وقيل : أنّ هذا التعبير من حيث

٢٧٩

الحالة النفسية التي تصوّرها هذه الآية لا تنحصر في المشركين ، بل في كل إنسان حين يتعرّض إلى الشدة وحوادث الخطر وقد لا يلجأ الإنسان في الحوادث الصغيرة والمألوفة إلى الله ، إلّا أنّه في الحوادث الرهيبة والمخيفة ينسى كل شيء وإن ظل في أعماقه يحس بأمل في النجاة ينبع من الإيمان بوجود قوة غامضة خفية ، وهذا هو التوجه إلى الله وحقيقة التوحيد.

حتى المشركون وعبدة الأصنام لا يخطر لهم التوسل بأصنامهم ، بل ينسونها في مثل هذه الظروف تماما ، فتقول الآية :( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) .

* * *

بحوث

هنا يحسن الالتفات إلى النقاط التّالية :

1 ـ إنّ الاستدلال المطروح في هاتين الآيتين هو الاستدلال على التوحيد الفطري الذي يمكن الاستفادة منه في مبحثين : الأوّل : في إثبات وجود الله ، والثّاني : في إثبات وحدانيته ، لذلك استشهدت الرّوايات الإسلامية والعلماء المسلمون بهاتين الآيتين للرد على منكري وجود الله ، وكذلك للردّ على المشركين.

2 ـ من الملاحظ أنّ الاستدلال المذكور تطرق إلى (قيام الساعة) ، وقد يقال : إنّ المخاطبين لا يؤمنون بالقيامة أصلا ، فكيف يمكن طرح مثل هذا الاستدلال أمام هؤلاء؟

__________________

المعنى يساوي قولك : (أخبرني) أو (أخبروني) ، ولكن الحقّ أنّ الجملة تحتفظ بمعناها الاستفهامي ، و (أخبروني) ملازم للمعنى ، لا المعنى نفسه ، والمعنى يساوي «أعلمتم»؟

٢٨٠