الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 113211
تحميل: 3665


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113211 / تحميل: 3665
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) (1) .

وأمّا الإنجيل فقد أطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النّور.

والقرآن ـ أيضا ـ حيث نقرأ قوله تعالى :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) (2) .

فكما أنّ النّور يعتبر ـ في الحقيقة ـ ضرورة حتمية لجميع الموجودات من أجل أن تواصل حياتها ، كذلك تكون الأديان الإلهية والشرائع والكتب السماوية ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإنسان.

وقد ثبت من حيث المبدأ أنّ مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل أنواع الجمال هو النّور ، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وارشاداتهم ، فلولاها لساد الظلام كل القيم الإنسانية سواء الفردية منها أو الاجتماعية ، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المادية بكل وضوح.

لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أنّ التّوراة والإنجيل هما كتابان سماويان ، ومع أن هذين الكتابين ـ دون شك ـ منزلان في الأصل من قبل الله سبحانه وتعالى ، لكنّهما ـ بالتأكيد ـ قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إلى التحريف ، فحذفت منهما حقائق وأضيفت إليهما خرافات ، وأدى ذلك إلى أن يفقدا قيمتهما الحقيقية ، أو أنّ الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب أخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية(3) .

وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة النّور التي أطلقت في القرآن الكريم على هذين الكتابين ، إنما عنت التّوراة والإنجيل الأصليين الحقيقيين.

بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسىعليه‌السلام لم يكن وحده الذي أيد

__________________

(1) المائدة ، 44.

(2) المائدة ، 15.

(3) راجع كتابي «الهدى إلى دين المصطفى» و «أنيس الأعلام» لمعرفة تفاصيل التحريف الوارد في الإنجيل والدلائل التأريخية على ذلك.

٢١

وصدق التّوراة ، بل أن الإنجيل ـ الكتاب السماوي الذي نزل عليه ـ هو الآخر شهد بصدق التّوراة حيث تقول الآية :( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) .

وفي الختام تؤكّد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين ، حيث تقول :( وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وتشبه هذه العبارة ، عبارة أخرى وردت في بداية سورة البقرة ، حين كان الحديث يدور عن القرآن الكريم ، حيث جاء قوله تعالى :( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

إن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده ، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين ، والمراد بالمتقين هم أولئك الذين يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق ، وبديهي أن الذين يغلقون أبواب قلوبهم إصرارا وعنادا بوجه الحق ، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبدا.

والملفت للنظر في هذه الآية أيضا ، أنّها ذكرت أوّلا أنّ الإنجيل (فيه هدى) ثمّ كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة ، وقد يكون المراد من هذا الاختلاف في التعبير هو بيان أنّ الإنجيل والكتب السماوية الأخرى تشتمل على دلائل الهداية للناس ـ جميعا ـ بصورة عامّة ، ولكنّها بصورة خاصّة ـ تكون باعثا لهداية وتربية وتكامل الأتقياء من النّاس الذي يتفكرون فيها بعمق وتدبر.

* * *

٢٢

الآية

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) )

التّفسير

الامتناع عن الحكم بالقانون الإلهي :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإنجيل ، أكّدت الآية الأخيرة أنّ حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام ، فتقول الآية :( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ) .

وبديهي أنّ القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام الإنجيل في عصر الإسلام ، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية الأخرى ، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين القديم ، لذلك فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم(1) .

وتؤكّد هذه الآية ـ في النهاية ـ فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله

__________________

(1) إنّ الحقيقة التي أكّدها الكثير من المفسّرين هي أنّ جملة «قلنا» تكون مقدرة هنا في هذه الآية حيث يصبح مفهوم الآية كما يلي : «قلنا ليحكم أهل الإنجيل ...».

٢٣

من أحكام وقوانين فتقول :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و «الظّالم» أخرى و «الفاسق» ثالثة ، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله ، ولعل هذا التنوع في اطلاق صفات مختلفة إنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة :

أحدها : ينتهي بالمشرع الذي هو الله.

والثّاني : يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).

الثّالث : يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.

أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إشارة إلى واحد من الجوانب الثلاثة ، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإلهي وتجاهله ، فيكون قد كفر بغفلته هذه ، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله ـ على انسان برىء مظلوم ، وثالثا : يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسئوليته ، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ «الفسق» كما أوضحنا ، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).

* * *

٢٤

الآية

( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) )

التّفسير

تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه ، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافا كاملا ، ويكمل تلك الكتب ، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً

٢٥

لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) .

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة ، اشتمل ـ أيضا ـ على دلائل تتطابق ، مع ما ورد في تلك الكتب ، فكان بذلك حافظا وصائنا لها.

إنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي ، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإنسان ، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإنساني ، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطورا ، والإتيان بعبارة :( مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) بعد جملة( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) يدل على هذه الحقيقة ، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة ، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.

ثمّ تؤكّد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انطلاقا من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس ، حيث تقول( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) .

وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية ، فتدلّ على شمولية أحكام الإسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأخرى ، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم ، لأنّ هذه الآية ترشد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.

ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب ، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم ، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق ، حيث تقول الآية :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) .

ولأجل إكمال البحث تشير الآية إلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام

٢٦

للحياة يهديها إلى السبيل الواضح ، حيث تقول :( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) .

وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إلى الماء وينتهي به ، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية ، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.

نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و «المنهاج» هو أنّ الاولى تطلق على كل ما ورد في القرآن ، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سنّة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهذا الفرق مع كونه جميلا ، إلّا أنّنا لا نملك دليلا جازما لتأييده)(1) .

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أمّة واحدة ، تتبع دينا وشرعة واحدة لقدر على ذلك ، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي ، وحركة مراحل التربية المختلفة ، فتقول :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) .

وجملة( لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) إشارة إلى ما قلناه سابقا من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الاختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء ، فعند ما يطوي بنو الإنسان مرحلة معينة ، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أخرى على يد نبي آخر ، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.

__________________

(1) يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و «الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمبادئ الأخرى المشتركة بين جميع الديانات ، لذلك يكون الدين واحدا في كل الأحوال والأزمنة ، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحيانا بين ديانة وأخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضا ـ دليلا واضحا يؤيد هذا القول ، لأن هاتين الكلمتين استخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.

٢٧

بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل ، وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر ، حيث تقول :( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

* * *

٢٨

الآيتان

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) )

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله : أنّ رهطا من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إلى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية حرفه عن الإسلام ، فذهبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود ، وأنّهم إن اتبعوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود ، وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أخرى نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم ، ووعدوه أنّه إن استجاب لأمرهم يؤمنوا به ، فامتنع النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إصدار حكم غير عادل ، فنزلت الآية المذكورة(1) .

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 6 ، ص 421.

٢٩

التّفسير

تكرر هذه الآية تأكيد الباريعزوجل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقا لأحكام الله ، وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم ، فتقول :( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية ، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة ، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة ، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.

ثمّ تحذر الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن شرعة الحقّ والعدل ، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم ، حيث تقول :( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) .

وأكّدت هذه الآية استمرارا لخطابها لنبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء الكتابيين إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق ، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم ، حيث تقول الآية :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) .

وسبب ذكر «بعض الذنوب» لا كلّها ، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها ، والباقي منها يوكّل أمرها إلى العالم الثّاني ، أي بعد الموت.

ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة ، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها ، ممّا اضطرهم إلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة ، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعا من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة ، لأنّ

٣٠

الحرمان من التوفيق يعتبر ـ بحد ذاته ـ نوعا من العقاب ، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإصرار على الذنب ، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة ، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.

وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثا للقلق عند النّبي ، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق ، أي أنّهم فاسقون ، حيث تقول الآية :( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ ) .

سؤال :

يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الانحراف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعياذ بالله ، وأن الله يحذره من ذلك ، فهل أنّ هذا الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

الجواب :

إنّ العصمة لا تعني مطلقا استحالة صدور الخطأ من المعصوم ، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل ، ومعنى العصمة هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إلّا أنّهم لا يرتكبون الذنب أبدا وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشئ عن التنبيه والتحذير والتذكير الإلهي للمعصوم ، أي أن التنبيه الإلهي يعتبر جزءا من عامل العصمة لدى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يحول دون ارتكاب الخطأ ، وسنبادر إلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء ـ بتفصيل أكثر ـ عند تفسير آية التطهير (الآية 33 من سورة الأحزاب بإذن الله).

أمّا الآية الأخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري ، هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية :( أفَحُكْمَ

٣١

الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

لكنّ أهل الإيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله ، حيث تتابع الآية قولها :( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

ولقد بيّنا ـ عند تفسير الآيات السابقة ـ أن نوعا من التمايز الغريب كان يسود الأوساط اليهودية بحيث لو أن فردا من يهود بني قريظة قتل فردا من يهود بني النضير لتعرض للقصاص ، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في القاتل ، وقد شمل هذا التمايز المقيت ـ أيضا ـ حكم الغرامة والدية عند هؤلاء ، فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة ، ولا يأخذونها من جماعة أخرى ، أو يأخذون أقل من الحدّ المقرر ، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره من أحكام الجاهلية ، في حين أنّ الأحكام الإلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق دون أي تمايز.

وجاء في كتاب «الكافي» عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «الحكم حكمان : حكم الله ، وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية»(1) .

وهكذا يتّضح أنّ أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام والقوانين الإلهية السماوية إنّما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 640.

٣٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد غزوة بدر وذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة وعدد ، وأكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم ومن عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب ، وقال بأنّه يريد أن يكون حليفا لله ولنبيه دون سواهما ، أمّا عبد الله بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود ، واعتذر بأنّه يخشى المشاكل وادعى أنّه يحتاج إلى اليهود.

٣٣

وأظهر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشيته على عبادة وعبد الله من صداقة اليهود مشيرا إلى أنّ خطر صداقة اليهود على عبد الله أكبر من خطرها على عبادة بن صامت ، فقال عبد الله بأنّه ما دام الأمر كذلك فإنّه سيتخلى عن صداقته وعهده مع اليهود ، فنزلت الآيات الأخيرة وهي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى.

التّفسير

لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين ـ بشدّة ـ من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى ، فالآية الاولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياء ) .

وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين ، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و «التحالف» و «الإشراف».

لكن بالنظر إلى سبب النّزول والقرائن الأخرى الموجودة ، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى ، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب ، وكان يطلق على ذلك «الولاء».

والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين ، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إشارة إلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون

٣٤

بكتابيهم السماويين ، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين ، لكنّهم اتّحدوا معا ـ لا بأمر من كتابيهم ـ بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك.

بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة ، وتقول بأن هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول :( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط ، ولا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين ، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءا منهم ، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) .

وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم وإخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات ، ويعتمدون على أعداء الإسلام تقول الآية :( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

وتشير الآية التّالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء ، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم ، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم الغرباء ، فتقول الآية :( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) (1) .

ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا على تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء ، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوما بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا ـ أيضا ـ أن ينصر الله

__________________

(1) إنّ كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشيء الذي يكون في حالة دوران ، وبما أن القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّأريخ ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة ـ أيضا ـ على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

٣٥

المسلمين فتقع القدرة بأيديهم ، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم ، كما تقول الآية :( فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) .

ويشتمل هذا الجواب القرآني ـ في الحقيقة على جانبين :

أوّلهما : أنّ أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم وأصبحوا يسيئون الظن بالله ، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.

أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك ، إذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله ـ بالضرورة ـ احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأمور ، وبهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.

وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسى) التي لها مفهوم الاحتمال والأمل ، تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين ، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى) البتة.

أمّا المراد من جملة( أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين ـ في المستقبل ـ إمّا أن يتغلبوا وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلى درجة يضطر بعدها الأعداء إلى الخضوع والاستسلام للمسلمين دون الحاجة إلى الدخول في حرب.

وبتعبير آخر : كلمة (الفتح) تشير إلى الإنتصار العسكري للمسلمين ، وأنّ جملة( أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) إشارة إلى الانتصارات الاجتماعية والاقتصادية وما شابه ذلك.

٣٦

إنّ بيان هذا الاحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى ، مع كونه ـعزوجل ـ عالما بجميع ما سيحصل في المستقبل ، يدل على أنّ الآية تشير إلى الانتصارات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.

وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين ، وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون ـ بدهشة ـ : هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى ويجلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا ، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ) (1) .

إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح ، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة ، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين ـ سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معا ـ حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها :( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ) .

والجملة الأخيرة تشبه ـ في الحقيقة ـ جوابا لسؤال مقدر ، وكأن شخصا يسأل : ماذا سيكون مصير هؤلاء؟

فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح ، وستطوقهم الخسارة من كل جانب ، أي أنّ هؤلاء ـ حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم بإخلاص ونية صادقة ـ فهم لا يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق والشّرك بعد ذلك : وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (217) من سورة البقرة.

__________________

(1) في هذه الآية تكون كلمة «هؤلاء» مبتدأ وخبرها جملة «الذين أقسموا بالله» أمّا جملة «جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.

٣٧

الاعتماد على الغرباء :

على الرّغم من أنّ الواقعة ـ التي ذكرت سببا لنزول الآيات الأخيرة ـ تحدثت عن شخصين هما «عبادة بن الصامت» و «عبد الله بن أبي» إلّا أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين ـ فحسب ـ بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين. يدعو أحدهما إلى التخلي عن التعاون والتحالف مع الغرباء ، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم ، وعدم الثقة بتعاونهم.

والمذهب الآخر يرى أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل والأهوال يحتاج إلى من يتكئ ويعتمد عليه ، وأن الحاجة تدعو أحيانا إلى انتخاب الدّعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة وفائدة ، ولا بدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.

وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة ، وحذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير ، لكن البعض من المسلمين ـ ومع الأسف ـ قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم ، فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم ، وقد أثبت التّأريخ أن كثيرا من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ!

وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّا وبارزا على هذا الأمر ، وتظهر كيف أن المسلمين بالاعتماد على قواهم الذاتية ـ استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهارا في الأندلس ـ أسبانيا اليوم ـ لكنّهم نتيجة لاعتمادهم على قوى غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.

والإمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف ، تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى.

كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب

٣٨

كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأمور على الأجانب الغرباء ، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإسلامي ، ولم توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية.

على أي حال فإن الأجنبي أجنبي ، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة ، وكثيرا ما تنالنا منه ـ أيضا ـ ضربات مؤثرة.

وما على المسلمين اليوم إلّا أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النداء القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم.

لقد اهتمّ نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا بهذا الأمر ، حتى أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة «أحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين ، فأعادهم النّبي إلى حيث كانوا ولما يصلوا إلى منتصف الطريق ، وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دورا مؤثرا في واقعة أحد ، فلما ذا رفضهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب ، ويتحولوا إلى التعاون مع العدوّ ويقضوا على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.

* * *

٣٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) )

التّفسير

بعد الانتهاء من موضوع المنافقين ، يأتي الكلام ـ في هذه الآية الكريمة ـ عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف ، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل إنذارا لجميع المسلمين ، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر الله بارتداده هذا أبدا ، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدمه السريع ، لأنّ الله كفيل بإرسال من لديهم الاستعداد في حماية هذا الدين ، حيث تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ ) .

ثمّ تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسئولية الدفاع العظيمة ، وتبيّنها على الوجه التّالي :

٤٠