الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 113233
تحميل: 3669


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113233 / تحميل: 3669
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

الْقَهَّارِ ) (1) .

فيما يتعلق بماهية «الصور» وكيف ينفخ فيه إسرافيل فتموت الأحياء ، ثمّ يعيد النفخ في الصور فيعود الجميع إلى الحياة ويبدأ يوم القيامة ـ سوف نشرح ذلك إن شاء الله ـ في تفسير الآية (68) من سورة الزمر.

وفي ختام الآية إشارة إلى ثلاث من صفات الله تعالى ، فهو :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) .

ترد هذه الصفات غالبا في الآيات التي تخص يوم القيامة ، أي أنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده ، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلا بما يستحقه.

* * *

__________________

(1) غافر ، 16.

٣٤١

الآية

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(74) )

التّفسير

لما كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام ويدور فيها الكلام أكثر ما يدور على المشركين وعبدة الأصنام ، وتستخدم مختلف الأساليب لإيقاظهم ، فهي تستخدم هنا حكاية إبراهيم بطل التوحيد ، وتشير إلى منطقه القوي في تحطيم الأصنام ضمن بضع آيات.

من الجدير بالانتباه أنّ القرآن في كثير من بحوثه عن التوحيد ومحاربة عبادة الأصنام يستند إلى هذه الحقيقة ، لأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يحظى باحترام الأقوام كافة ، وعلى الأخص مشركي العرب.

يقول : إنّ إبراهيم وبخ أباه (عمّه) قائلا : أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا حياة فيها آلهة للعبادة :( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وأي ضلال أشد وأضح من أن يجعل الإنسان ما يخلقه بيده إلها يعبده ، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إحساس ملجأ يفزع إليه ويبحث عن حل مشاكله عنده.

٣٤٢

هل كان آزر أبا إبراهيم؟

تطلق كلمة «الأب» في العربية على الوالد غالبا ، ولكنّها قد تطلق أيضا على الجد من جهة الأمّ وعلى العم ، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإنسان ، ولكنّها إذا جاءت مطلقة فانّها تعني الوالد ما لم تكن هناك قرينة تدلّ على غير ذلك.

فهل الرجل الذي تشير إليه الآية (آزر) هو والد إبراهيم؟ أيجوز أن يكون عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أولي العزم؟ ألا يكون للوراثة من هذا الوالد تأثير شيء في أبنائه؟

بعض مفسّري أهل السنّة يجيب بالإيجاب على السؤال الأوّل ، ويعتبر آزر والد إبراهيم الحقيقي ، أمّا المفسّرون الشيعة فيجمعون على أن آزر ليس والد إبراهيم ، بل قال بعضهم : إنّه كان جدّه لأمّه ، وقال أكثرهم : إنّه كان عمه ، وهم في ذلك يستندون إلى القرائن التّالية :

1 ـ لم يرد في كتب التّأريخ أنّ أبا إبراهيم هو آزر ، بل يقول التّأريخ إنّ اسم أبيه هو «تارخ» وهذا ما ورد أيضا في العهدين القديم والجديد ، والذين يعتبرون آزر والد إبراهيم يستندون إلى تعليلات لا يمكن قبولها من ذلك أنّهم يقولون : إنّ اسم والد إبراهيم هو تارخ ولقبه آزر ، وهذا القول لا تسنده الوثائق التّأريخية.

أو يقولون : إنّ «آزر» اسم صنم كان أبو إبراهيم يعبده ، وهذا القول لا يأتلف مع هذه الآية التي تقول أن أباه كان آزر ، إلّا إذا قدرنا جملة أو كلمة ، وهذا أيضا خلاف الظاهر.

2 ـ يقول القرآن :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) ثمّ لكيلا يتخذ أحد من استغفار إبراهيم لآزر حجّة يقول :

( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ

٣٤٣

تَبَرَّأَ مِنْهُ ) (1) وذلك لأنّ إبراهيم كان قد وعد آزر أن يستغفر له :( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) (2) بأمل رجوعه عن عبادة الأصنام ، ولكنّه عند ما رآه مصمما على عبادة الأصنام ومعاندا ، ترك الاستغفار له.

يتّضح من هذه الآية بجلاء أن إبراهيم بعد أن يئس من آزر ، لم يعد يطلب له المغفرة ولم يكن يليق به أن يفعل.

كل القرائن تدل على أنّ هذه الحوادث وقعت عند ما كان إبراهيم شابا ، يعيش في بابل ويحارب عبدة الأصنام.

ولكن آيات أخرى في القرآن تشير إلى أن إبراهيم في أواخر عمره ، وبعد الانتهاء من بناء الكعبة ، طلب المغفرة لأبيه (في هذه الآيات ـ كما سيأتي ـ لم تستعمل كلمة «أب» بل استعملت كلمة «والد» الصريحة في المعنى) حيث يقول :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) (3) .

إذا جمعنا هذه الآية مع آية سورة التوبة التي تنهي المسلمين عن الاستغفار للمشركين وتنفي ذلك عن إبراهيم ، إلّا لفترة محدودة ولهدف مقدس ، تبيّن لنا بجلاء أنّ المقصود من «أب» في الآية المذكورة ليس «الوالد» ، بل هو العم أو الجد من جانب الأمّ أو ما إلى ذلك ، وبعبارة أخرى : إنّ «والد» تعطي معنى الأبوة المباشرة ، بينما «أب» لا تفيد ذلك.

وقد وردت في القرآن كلمة «أب» بمعنى العم ، كما في الآية (133) من سورة البقرة :( قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً ) والضمير في «قالوا» يعود على أبناء يعقوب ، وكان إسماعيل عم يعقوب ،

__________________

(1) التوبة ، 113 و 114.

(2) مريم ، 47.

(3) إبراهيم ، الآيتان 39 و 41.

٣٤٤

لا أباه.

3 ـ وهناك روايات إسلامية مختلفة تؤكّد هذا الأمر ، فقد جاء في حديث معروف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية»(1) .

ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان ، أما القائلون أنّ أقبحها هو الزنا فلا يقوم على قولهم دليل. خاصّة وانّ القرآن يقول :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (2) .

الطبري ، وهو من علماء أهل السنة ، ينقل في تفسيره «جامع البيان» عن المفسّر المعروف «مجاهد» أنّه قال : لم يكن آزر والد إبراهيم(3) .

الآلوسي في «روح المعاني» يؤكّد عند تفسير هذه الآية أنّ الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إبراهيم ، بل إن كثيرا من علماء المذاهب الأخرى يرون أن آزر اسم عم إبراهيم(4) .

والسيوطي العالم السني المعروف ، نقل في كتابه «مسالك الحنفاء» عن أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجداده لم يكونوا مشركين أبدا. مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفا ، ثمّ يستند السيوطي نفسه إلى مجموعتين من الرّوايات.

الأولى : تقول إنّ آباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الرّوايات عن «صحيح البخاري» و «دلائل النبوة» للبيهقي وغيرهما من المصادر).

__________________

(1) يورد هذا الحديث كثيرون من مفسّري الشيعة والسنة ، كالمرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» والنيسابوري في تفسير «غرائب القرآن» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والآلوسي في تفسير «روح المعاني».

(2) التوبة ، 28.

(3) «جامع البيان» ، ج 7 ، ص 158.

(4) تفسير «روح المعاني» ، ج 7 ، ص 169.

٣٤٥

والثّانية : هي التي تقول : إنّه في كل عصر وزمان كان هناك أناس من الموحدين الذين يعبدون الله ، ثمّ يجمع بين هاتين المجموعتين من الرّوايات ويستنتج أنّ أجداد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما فيهم والد إبراهيم ، كانوا حتما من الموحدين(1) .

يتبيّن من هذا أنّ التّفسير المذكور لهذه الآية مبني على وجود قرائن واضحة من القرآن نفسه ومن مختلف الرّوايات الإسلامية ، وليس تفسيرا مبنيا على الرأي الشخصي فقط ، كما يقول بعض مفسّري أهل السنة ، مثل صاحب «المنار».

* * *

__________________

(1) «مسالك الحنفاء» ، ص 17 كما جاء في هامش «بحار الأنوار» ، 15 ، 18 أو بعدها ، الطبعة الجديدة.

٣٤٦

الآيات

( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) )

التّفسير

أدلة التوحيد في السموات :

على أثر الكره الذي كان يحمله إبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام ، تشير هذه الآيات إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام ، وتبيّن كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.

٣٤٧

تبيّن أولا أنّ الله كما عرّف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرّفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السموات والأرض :( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (1) .

«الملكوت» من «ملك» بمعنى المالكية والحكم و «الواو» و «التاء» أضيفتا للتوكيد والمبالغة ، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة الله المطلقة على عالم الوجود برمته.

ولعل هذه الآية إجمال للتفصيل الوارد في الآيات التّالية بشأن الكواكب والقمر والشمس وإدراك أنّها من المخلوقات لدى مشاهدة أفولها.

أي أنّ القرآن بدأ بذكر مجمل تلك الحالات ، ثمّ أخذ يفصلها ، وبهذا يتّضح المقصود من إراءة ملكوت السموات والأرض لإبراهيمعليه‌السلام .

كما أنّه في الختام يقول إنّ الهدف من ذلك هو أن يصبح إبراهيم من أهل اليقين :( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) .

لا شك أنّ إبراهيم كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بواحدانية الله ، ولكنّه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال ، كما أنّه كان مؤمنا بالمعاد ويوم القيامة ، ولكنّه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه مرحلة «عين اليقين».

الآيات التّالية تشرح هذا المعنى ، وتبيّن استدلال إبراهيم من أفول الكواكب والشمس على عدم الوهيتها ، فعند ما غطى ستار الليل المظلم العالم كلّه ، ظهر أمام بصره كوكب لامع ، فنادى إبراهيم : هذا ربّي! ولكنّه إذ رآه يغرب ، قال : لا أحبّ الذين يغربون :( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) .

__________________

(1) وعلى هذا ، هناك محذوف مقدار في الآية يدل عليه ما في الآيات السابقة ، فيكون مضمون الآية : كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام كذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض (تأمل بدقة).

٣٤٨

ومرّة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء ، فصاح ثانية : هذا ربّي : ولكنّ مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكواكب قبله ، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق.

هنا قال إبراهيم : إذا لم يرشدني ربّي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) .

عند ذاك كان الليل قد انقضى ، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من كبد السماء ، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء ، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح : هذا ربّي فإنّه أكبر وأقوى ضوءا ، ولكنّه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلا : يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله :( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلها قادرا وحاكما على نظام الكائنات ، فإني أتجه إلى الذي خلق السموات والأرض ، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحدا ، فاني موحد ولست مشركا :( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

* * *

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التّالية بشأن ما دفع

٣٤٩

بإبراهيم الموحد العابد لله الواحد ، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول : هذا ربّي؟ ومن بين آراء المفسّرين الكثيرة نقف عند تفسيرين قد اختار كلا منهما عدد من كبار المفسّرين ، كما أنّهما مدعومان بشواهد من المصادر الحديثية :

الأوّل : يقول إنّ إبراهيم كان يريد شخصيا أن يفكر في معرفة الله وأن يعثر على المعبود الذي كان يجده بفطرته النقية في أعماق ذاته ، إنّه كان يعرف الله بنور فطرته ودليل العقل الإجمالي إذ إنّ كل تعبيراته تدل على أنّه لم يكن يشك أبدا في وجوده ، ولكنّه كان يبحث عن مصداقه الحقيقي ، بل لقد كان يعلم بمصداقه الحقيقي أيضا ، ولكنّه كان يريد أن يصل عن طريق الاستدلال العقلي الأوضح إلى مرحلة «حق اليقين».

وقد وقعت له هذه الحوادث قبل نبوته ، ويحتمل أن تكون في أوّل بلوغه أو قبيل ذلك.

نقرأ في بعض التواريخ والرّوايات أنّ هذه كانت المرّة الأولى التي يرنو فيها إبراهيم بنظره إلى السماء وإلى كواكبها الساطعة ، لأن أمّه كانت منذ طفولته قد أخفته في عار خوفا عليه من بطش نمرود الجبار وجلاوزته.

غير أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا ، إذ يصعب أن نتصور إنسانا يعيش سنوات طويلة في بطن غار ولا يخلو خارجه ، ولو مرّة ، في ليلة ظلماء ، فلعل الذي قوى هذا الاحتمال في نظر بعض المفسّرين هو تعبير( رَأى كَوْكَباً ) الذي يوحي بأنه لم يكن قد رأى كوكبا حتى ذلك الحين ، ولكن هذا التعبير لا يحمل في الواقع مثل هذا المفهوم ، بل المقصود هو أنّه ، وإن كان قد رأى الكواكب والشمس والقمر مرات حتى ذلك الوقت ، فقد ألقى الأوّل مرّة نظرة فاحصة مستطلعة إلى هذه الظواهر. وكان يفكر في مغزى بزوغها وأفولها ونفي الألوهية عنها ، في الحقيقة كان إبراهيم قد رآها مرارا ، ولكن لا بتلك النظرة.

لذلك فإنه عند ما يقول :( هذا رَبِّي ) لا يقولها قاطعا جازما ، بل يقولها من باب

٣٥٠

الفرض والاحتمال حتى يفكر في الأمر ، وهذا يشبه تماما حالنا ونحن نحاول أن نعثر على سبب حادثة ما ، فنقلب مختلف الاحتمالات والافتراضات على وجوهها واحدة واحدة ، ونستقصي لوازم كل فرضية حتى نعثر على العلة الحقيقية ، وهذا لا يكون كفرا ، بل ولا حتى دليلا على عدم الإيمان ، بل هو طريق لتحقيق أكثر ولمعرفة أفضل ، للوصول إلى مراحل أعلى من الإيمان ، كما فعل إبراهيم في مسألة «المعاد» إذ قام بمزيد من الدراسة يوصل إلى مرحلة الشهود والاطمئنان.

جاء في تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادقعليهما‌السلام أنّه قال : «إنّما كان إبراهيم طالبا لربّه ، ولم يبلغ كفرا ، وانّه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته»(1) .

وهنالك روايتان أخريان يذكرهما تفسير نور الثقلين بهذا الشأن.

أمّا التّفسير الثّاني فيقول : إن إبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته عبدة النجوم والشمس ، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل مع عبدة الأوثان وخروجه منها إلى الشام ، حيث التقى بهؤلاء الأقوام ، وإبراهيم الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم ، أراد أن يحلب إليه انتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر ، فأظهر في البداية أنّه معهم وقال لهم : إنكم تقولون : إنّ كوكب الزاهرة هذا هو ربّي ، حسنا ، فلنر ما يحصل لهذا الإعتقاد في النهاية ، ولم يمض وقت طويل حتى اختفى وجه الكواكب النير خلف ستار الأفق المظلم ، عندئذ اتّخذ إبراهيم من هذا الأفول سلاحا يواجههم به فقال : أنا لا يمكنني أن أتقبل معبودا كهذا.

وعليه ، فإنّ عبارة( هذا رَبِّي ) تعني : هذا ما تعتقدون أنّه ربّي ، أو أنّه قالها بلهجة الاستفهام : «هذا ربّي؟».

__________________

(1) تفسير نور الثقلين : ج 1 ، ص 738.

٣٥١

ويؤيد هذا التّفسير أيضا رواية في «نور الثقلين» وتفاسير أخرى عن كتاب «عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ».

كيفية استدلال إبراهيم على التوحيد :

هنا يبرز هذا السؤال : كيف استطاع إبراهيم أن يستدل من غروب الشمس والقمر والكواكب على عدم ربوبيتها؟

يمكن أن يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة :

1 ـ إنّ الله المربي ، كما يستفاد من كلمة «رب» لا بدّ أن يكون دائما قريبا من مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة ، وعليه لا يجوز لكائن يغرب ويختفي ساعات طويلة ، بنوره وبركته وتنقطع صلته كليا عن الكائنات الأخرى ، أن يكون ربّا وإلها.

2 ـ إنّ كائنا يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية ، لا يمكن أن يحكم على هذه القوانين ويملكها؟ إنّه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر على أدنى انحراف عنها

3 ـ إنّ الكائن المتحرك لا يمكن إلّا يكون كائنا حادثا ، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليل على الحدوث ، لأنّ الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث ، وأن ما يكون في معرض الحوادث ، أي يكون ذا حركة ، لا يمكن أن يكون كائنا أزليا وأبديا (تأمل بدقّة).

* * *

ملاحظات

هنا لا بدّ من الانتباه إلى النقاط التّالية :

٣٥٢

1 ـ في الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها ، كلمة «كذلك ...» تلفت النظر ، وهي تعني : إنّنا مثلما أوضحنا عقلا أضرار عبادة الأصنام لإبراهيم ، كذلك نريه مالكية الله للسماوات والأرض وحكمه عليها ، يقول بعض المفسّرين : ذلك يعني : إنّنا كما أريناك قدرة الله وحكمه على السموات ، أريناها لإبراهيم أيضا لكي يزداد معرفة بالله.

2 ـ أصل «الجن» ستر الشيء عن الحاسة ، فمعنى الآية هو : عند ما ستر الليل ملامح الكائنات عن إبراهيم وإطلاق كلمة «مجنون» على المخبول لإسدال ستار على عقله ، وإطلاق «الجن» على الكائنات غير المرئية جاء من هذا الباب ، وكذلك الجنين لاختفائه عن الأنظار في رحم أمه ، و «الجنّة» هي البستان التي اختفت أرضها تحت أغصان الأشجار ، وقيل للقلب «الجنان» لاستتاره في الصدر ، أو لأنّه يخفي أسرار الإنسان.

3 ـ وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إبراهيم ، ذهب المفسّرون مذاهب شتى ، غير أنّ معظمهم يراه «الزهرة» أو «المشتري» ويذكر التّأريخ أنّ القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم ، أمّا الحديث المنقول عن الإمام الرضاعليه‌السلام في «عيون الأخبار» فيقول : إنّ ذلك الكوكب كان «الزهرة» ، وهذا ما جاء أيضا في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام (1) .

يقول بعض المفسّرين أنّ أهالي كلدة وبابل شرعوا في محاربة عبدة الأصنام ، وراحوا يختارون السيارات باعتبار كل واحدة منها تمثل إلها لنوع من أنواع الأشياء من ذلك أنّهم اعتبروا «المريخ» إله الحرب ، و «المشتري» إله العدل والعلم ، و «عطارد» إليه الوزراء و «الشمس» ملك الآلهة جميعا(2) .

4 ـ «بازغ» من «بزغ» وبزغه : شقه وأسال دمه ، ولذلك تطلق على عمل

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 735 و 737.

(2) تفسير أبي الفتوح ، ج 4 ، ص 467 ـ الهامش.

٣٥٣

البيطار في الجراحة ، وإطلاق هذه الكلمة على طلوع الشمس أو القمر تعبير بليغ يحمل أجمل صور التشبيه ، فالشمس والقمر عند الطلوع يشقان الظلام ، ويسكبان عند الأفق إحمرار الشفق الذي ليس ببعيد الشبه عن الدم المسفوح.

5 ـ «فطر» من «الفطور» بمعنى الشق ، ولعل إطلاق هذه الكلمة على خلق السماء والأرض ناشئ ـ كما قلنا في تفسير الآية (14) من هذا السورة ـ من كون العالم كان في اليوم الأوّل حسبما يقول العلم اليوم ـ كتلة واحدة ، ثمّ تشققت وظهرت الكرات والإجرام السماوية الواحدة بعد الأخرى (انظر تفسير الآية المذكورة لمزيد من الإيضاح).

6 ـ «الحنيف» هو الخالص ، كما جاء في تفسير الآية (67) من سورة آل عمران.

* * *

٣٥٤

الآيات

( وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) )

التّفسير

تعقيبا على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إبراهيمعليه‌السلام التوحيدية ، تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام ، الذين بدأوه بالمحاجة( وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ) .

فردّ عليهم إبراهيمعليه‌السلام قائلا : لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه ، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى

٣٥٥

طريق التوحيد( قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ ) .

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إلى عبادة الأصنام ، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.

لا تشير هذه الآيات إلى المنطق الذي توسل به قوم إبراهيم لحمله على ترك عقيدته ، ولكن يبدو من جواب إبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته ، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه( وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضررا إلّا إذا شاء الله :( إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) (1) .

يظهر من هذه الآية أنّ إبراهيمعليه‌السلام سعى لاتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث محتملة ، فيؤكّد أنّه إذا أصابه في هذا الصراع شيء ـ فرضا ـ فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام ، بل يعود إلى إرادة الله ، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها ، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره.

ويضيف إلى ذلك مبينا أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء :( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) .

هذه العبارة ـ في الواقع ـ دليل على العبارة السابقة التي تقول : إنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر ، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ ، إنّ الله الذي أحاط علمه بكل شي

ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا :( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) .

__________________

(1) هذا أشبه بالاستثناء المنقطع ، فقد نفى عن الأصنام كلّ قدرة على النفع والضرر ، وأثبتها لله ، وللمفسّرين آراء أخرى في تفسير هذه الآية ، غير أن ما قلناه أقرب.

٣٥٦

في الآية التّالية ينهج إبراهيم منطقا استدلاليا آخر ، فيقول لعبدة الأصنام : كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم ، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثرا للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم ، أمّا أنتم فعلى الرغم من إيمانكم بوجود الله وإقراركم له بالعلم والقدرة ، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام ، فانّكم لا تخافون غضبه :( وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) (1) .

إنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السموات والأرض ، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده ، كونوا منصفين إذن وقولوا :( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

يستند منطق إبراهيمعليه‌السلام هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع ، إنّكم تهددونني بغضب الأصنام ، مع أن تأثيرها وهم من الأوهام ، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعا ، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمرا ثابتا ، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إلينا أمرا بعبادة الأصنام.

في الآية التّالية جواب يدلي به إبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي ، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص) ، يقول : إنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إيمانهم بظلم ، هم الآمنون وهم المهتدون( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

ثمّة رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام تؤيد كون هذه الآية استكمالا لحوار

__________________

(1) «السلطان» بمعنى التفوق والإنتصار ، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإنتصار ، فقد يوصفان بالسلطان أيضا ، كما هو الحال هنا ، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إنكاره عباد صنم ، لأنّ أمرا كهذا ينبغي أن يصدر عن طريق العقل والمنطق ، أو عن طريق الوحي والنبوة ، وعبادة الأصنام مفتقرة إلى كليهما.

٣٥٧

إبراهيم مع عبدة الأصنام(1) .

بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بيانا إلهيا ، وليست مقولة قالها إبراهيم ، إلّا أن ما ذكرناه ـ فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له ـ أكثر انسجاما مع ترتيب الآيات ووضعها ، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام ، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إبراهيم ، فأمر بعيد الاحتمال جدّا.

ما معنى «الظلم» هنا؟

يرى معظم المفسّرين أنّ معنى «الظلم» هنا هو «الشرك». وأنّ الآية (12) من سورة لقمان :( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) دليل على ذلك.

وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعا) ، فقال : رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح :( ... يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل ، وهذا الاحتمال جائز في هذه الآية أيضا ، فيحتمل أن يكون «الأمن» عاما يشمل الأمن من عقاب الله ، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة ، والأمن من الحروب والمفاسد ، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إلّا عند ما يسود المجتمع مبدءان معا : الإيمان والعدالة الاجتماعية ، فإذا ما تزلزلت قاعدة الإيمان بالله ، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله ، وحل الظلم محل العدالة الاجتماعية ، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان. لذلك فعلى الرغم من

__________________

(1) تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.

(2) المصدر السابق.

٣٥٨

المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون انعدام الأمن ، فإنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والاستقرار تتسع يوما بعد يوم إنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة : تزلزل أركان الإيمان ، وقيام الظلم مقام العدالة.

إنّ تأثير الإيمان في الاطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إنكاره ، كما لا يخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب ارتكاب المظالم.

روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال : «بما جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية ، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان»(1) .

هذا التّفسير يستهدف ـ في الحقيقة ـ بيان روح الموضوع في الآية الشريفة ، إذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره ، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بموجب( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) قبسا من ولاية الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك ، فإنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع ، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط ، بل إنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.

لذلك نجد في حديث آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان(2) .

الآية التّالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إبراهيم : فتقول :( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ) .

صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إليها إبراهيم بقوّة العقل

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 740.

(2) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 538.

٣٥٩

والإلهام الفطري غير أن قوة العقل والإلهام الفطري من الله ، لذلك فإنّ الله ينسبها إلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إبراهيمعليه‌السلام .

ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك» اسم إشارة للبعيد ، غير أنّها تستعمل أحيانا للقريب للدلالة على أهمية المشار إليه وعلو مقامه ، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

ثمّ تقول الآية :( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) (1) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء ، تقول : إن الله متصف بالحكمة وبالعلم ، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك :( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) .

* * *

__________________

(1) أنظر المجلد الثّالث ، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين «الدرجة» و «الدرك».

٣٦٠