الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 113210
تحميل: 3665


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113210 / تحميل: 3665
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

تحت الماء ، وكانت مكّة أوّل نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء ، حسب الأحاديث الإسلامية.

وكون مكّة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر ، لا يتعارض أبدا مع هذا القول ، لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك الزمان ، وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كليا ، فبعض الجبال هبطت إلى أعماق البحار ، وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا ، وهذا ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية.

أمّا كلمة «أم» فتعني ـ كما سبق أن قلنا ـ الأصل والأساس والمبدأ لكل شيء.

من كل هذا يتبيّن أنه إذا أطلق مكّة اسم «أم القرى» فذلك يستند إلى أنّها كانت مبدأ ظهور اليابسة على الأرض ، «ومن حولها» أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمتها.

وهذا ما تؤيده الآيات الأخرى التي تؤكّد عالمية الإسلام ، وكذلك الرسائل الكثيرة التي بعث بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى رؤساء العالم ، مثل كسرى وقيصر ، وقد جاء شرح ذلك في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

2 ـ العلاقة بين الإيمان بالقرآن والإيمان بالآخرة

تبيّن هذه الآية : إنّ الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون أيضا بالقرآن ، أي أنّهم يعلمون أن هذه الدنيا ما هي إلّا مقدمة لعالم الآخرة ، وإنّها أشبه بالمزرعة أو المدرسة أو المتجر ، والوصول إلى ذلك الهدف الرفيع والاستعداد لذلك اليوم لا يكون إلّا عن طريق مجموعة من القوانين والمناهج والدساتير وإرسال الأنبياء.

بعبارة أخرى ، إنّ الله قد أرسل الإنسان إلى هذه الحياة ليطوي مسيرته التكاملية وليصل إلى مستقره الأصلي في العالم الآخر ، وهذا الغرض ينتقض إذا

٣٨١

لم يرسل إليه الأنبياء والكتب السماوية ، من هنا يمكن أن نستنتج من الإيمان بالله والمعاد ، الإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية (تأمل بدقّة).

3 ـ أهمية الصّلاة

نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إلى الصّلاة من بين جميع الفرائض الدينية ، ونعلم أنّ الصّلاة هي مظهر الارتباط بالله ، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة ، ويرى بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصّلاة(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 7 ، ص 622.

٣٨٢

الآية

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) )

سبب النّزول

ثمّة روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية وردت في كتب الحديث والتّفسير ، من ذلك أنّ الآية نزلت بشأن شخص يسمى «عبد الله بن سعد» من كتاب الوحي ، ثمّ خان فطرده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراح يزعم أنّه قادر على قول مثل آيات القرآن ، يقول جمع آخر من المفسّرين أنّ الآية ، أو قسما منها ، نزلت بحق «مسيلمة الكذاب» الذي ادعى النبوّة ، ولكن بالنظر لأنّ مسيلمة الكذاب ظهر في أواخر حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه السورة مكّية ، فإنّ مؤيدي هذا التّفسير يقولون : إنّ هذه الآية نزلت في المدينة ، ثمّ أدخلت ضمن هذه السورة بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٣

على كل حال هذه الآية ، مثل سائر آيات القرآن ، نزلت في ظروف خاصّة ، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من ادعى النبوة وأمثالهم.

التّفسير

في الآيات السابقة مرّت الإشارة إلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد ، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماما لأولئك ، فيزعمون كذبا أن الوحي ينزل عليهم.

وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث ، ففي البداية تقول :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) .

والجماعة الثّانية هم الذين يدعون النّبوة ونزول الوحي عليهم ، فلا هم أنبياء ، ولا نزل عليهم وحي :( أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) .

والجماعة الثّالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أنّ يأتوا بمثل آيات القرآن ، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك :( وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) .

نعم ، هؤلاء كلّهم ظالمون ، بل أظلم الظالمين ، لأنّهم يغلقون طريق الحق بوجه عبادالله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين ، ويحاربون قادة الحق ، فهم ضالون مضلون ، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.

على الرغم من أنّ الآية تخصّ أدعياء النبوة والوحي ، إلّا أنّ روحها تشمل كل من يدعي كذبا لنفسه مكانة ليس أهلا لها.

ثمّ تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول :( وَلَوْ تَرى إِذِ

٣٨٤

الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (1) أي لو أنك ـ أيّها النّبي ـ رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير ، وملائكة قبض الأرواح ما دين أيديهم نحوهم ويقولون لهم : هيا أخرجوا أرواحكم ، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.

عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذابا مذلا لأمرين : الأوّل : إنّهم كذبوا على الله ، والآخر ، إنّهم لم ينصاعوا لآياته :( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

* * *

ملاحظات :

ينبغي هنا ملاحظة النقاط التّالية :

1 ـ تعتبر الآية أدعياء النبوة والقادة المزيفين من أشد الظالمين ، بل لا ظلم أشدّ من ظلمهم ، لأنّهم يسرقون أفكار الناس ويهدمون عقائدهم ويغلقون بوجوههم أبواب السعادة ويحيلونهم إلى مستعمرين فكريا لهم.

2 ـ جملة( باسِطُوا أَيْدِيهِمْ ) قد تعني أنّ ملائكة قبض الأرواح تبسط أيديها إليهم استعدادا لقبض أرواحهم ، وقد تعني بسط أيديهم للبدء بتعذيبهم.

3 ـ( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) تعني في الواقع ضربا من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين ، وإلّا فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء ، بل هو من واجب الملائكة ، مثل ما يقال للمجرم عند إعدامه : مت! ولعل هذا التحقير يقابل تحقيرهم لآيات الله وأنبيائه وعباده.

__________________

(1) «الغمرات» جمع غمرة (على وزن ضربة) ، وأصل الغمر إزالة أثر الشيء ، ثمّ استعملت للماء الكثير الذي ليستروجه الشيء تماما ، كما تطلق على الشدائد والصعاب التي تغمر المرء.

٣٨٥

وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الآية دليلا آخر على استقلال الروح وانفصالها عن الجسد ، كما يستفاد من الآية أنّ تعذيب هؤلاء يبدأ منذ لحظة قبض أرواحهم.

* * *

٣٨٦

الآية

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان وتفسير الطبري وتفسير الآلوسي إنّ مشركا اسمه النضر بن الحارث قال : إنّ اللآت والعزى (وهما من أصنام العرب المشهورة) سوف يشفعان لي يوم القيامة ، فنزلت هذه الآية جوابا له ولأمثاله.

التّفسير

الضّالون :

أشارت الآية السابقة إلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت ، هنا في هذه الآية تعتبر عن خطاب الله لهم عند الموت أو عند الورود إلى ساحة يوم القيامة.

فيبدأ بالقول بأنّهم يأتون يوم القيامة منفردين كنا خلقوا منفردين :( وَلَقَدْ

٣٨٧

جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إليها في حياتكم ، قد خلفتموها وراءكم ، وجئتم صفر الأيدي :( وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ) (1) .

ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إنّها سوف تشفع لكم وظننتم أنّها شريكة في تعيين مصائركم( وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ) .

ولكن الواقع أنّ جمعكم قد تبدد ، وتقطعت جميع الروابط بينكم :( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) .

وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع :( وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .

كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إلى أشياء ثلاثة : القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إليها ، والأموال التي جمعوها لأنفسهم ، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإنسان وشفيعة لهم عند الله ، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إلى واحدة من هذه الأمور ، وإلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيدا فريدا.

هنا ينبغي الالتفات إلى نقطتين :

1 ـ نظرا لمجيء هذه الآية في أعقاب الآية السابقة التي تحدثت عن قيام الملائكة بقبض الأرواح عند الموت ، وكذلك بالنظر إلى عبارة :( وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ) ، نفهم أنّ هذا الكلام يقال لهم عند الموت أيضا ، ولكن من جانب الله ، غير أنّ بعض الرّوايات تقول : إنّ هذا الخطاب يوجه إليهم يوم القيامة ، على أي حال فإنّ الهدف لا يختلف في الحالين.

__________________

(1) «خولناكم» من «الخول» وهو إعطاء ما يحتاج إلى التعهد والتدبير والإدارة ، وهو النعم التي يسبغها الله تعالى على عباده.

٣٨٨

2 ـ على الرغم من نزول هذه الآية بشأن مشركي العرب ، فهي ليست بالطبع مقصورة عليهم.

ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الانشدادات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سندا لهم يستعينون به في يوم بؤسهم لا يبقى سوى الشخص وعمله ، ويزول كل ما عدا ذلك ، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن وهو تعبير جميل يوحي بأنّ الشركاء سيكونون إلى درجة من الصغر والحقارة والضياع أنّهم لا يروا بالعين.

* * *

٣٨٩

الآيتان

( إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) )

التّفسير

فالق الإصباح :

مرّة أخرى يوجه القرآن الخطاب إلى المشركين ، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.

في الآية الأولى يشير إلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض ، وفي الآية الثّانية يشير إلى ثلاثة من الظّواهر السماوية.

يقول القرآن الكريم أوّلا :( إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ) .

«الفلق» شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض(1) .

و «الحب» و «الحبة» تقال لانواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير

__________________

(1) الراغب الأصفهاني (المفردات) ، ص 385.

٣٩٠

ونحوهما من المطعومات التي تحصد ، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضا(1) .

و «النوى» من النّواة ، قيل إنّه يخص نوى التمر ، ولعل هذا يرجع إلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إلى نوى التمر إذا سمع هذه الكلمة.

ولننظر الآن إلى ما يمكن في هذا التعبير : ينبغي أن نعلم أنّ أهم لحظة في حياة الحبّة والنّوى هي لحظة الفلق ، وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ، إذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحول في حياته.

وممّا يلفت الانتباه أنّ الحبّة والنّواة غالبا ما تكونان صلبتين ، فنظرة إلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما ، وإلى بعض الحبوب الصلبة ، تكشف لنا أنّ تلك النطفة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة ، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب ، وانّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الاختراق خاصية التسليم والليونة أمام اختراق نطفة النبات ، كما منحت النطفة قوة اندفاع تمكنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة ، هذه حقّا حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.

ثمّ يقول :( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ ) .

يتكرر هذا التعبير كثيرا في القرآن مشيرا إلى نظام الموت والحياة وتبديل هذا بذاك ، فمرّة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق المحيطات ومجاهل الغابات والصحارى ، فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها سم قاتل مواد حيوية ، وأحيانا ترى العكس ، فبإجراء تغيير بسيط على كائنات حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إلى كائن لا حياة فيه.

إنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي

__________________

(1) المصدر نفسه ، ص 105.

٣٩١

لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إلى أعماق مجهولاتها ، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إلى كائنات حية.

قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يصنع كائنا حيا باستخدام التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصّة ، وبطريقة تركيب أجزاء مصنعة ، كما يفعلون بالمكائن والأجهزة ، غير أن قدرة البشر «المحتملة» في المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من المبدع القادر.

لذلك نجد القرآن ـ وفي معرض إثبات وجود الله ـ كثيرا ما يكرر هذا الموضوع ، كما يستدل أنبياء عظام كإبراهيم وموسى ـ على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.

يقول إبراهيم لنمرود :( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (1) ، ويقول موسى لفرعون :( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى ) (2) .

ينبغي ألّا ننسى أنّ ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة على الأرض فقط ، بل يحدث هذا في كل وقت بانجذاب الماء والمواد الأخرى إلى خلايا الكائنات الحية ، فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة ، وعليه فإنّ القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنّه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إلى كائن حي ، وحيثما وجد كائن حي فثمّة بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه ، (فتأمل بدقّة)!

ويستفاد من روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير هذه الآية والآيات المشابهة لها ، أنّ ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت

__________________

(1) البقرة ، 258.

(2) طه ، 53.

٣٩٢

المعنويين أيضا(1) فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين ، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار ، ناقضين قانون الوراثة بإرادتهم واختيارهم.

وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإنسان هذه القدرة والإرادة.

النقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي أنّ «يخرج» الفعل المضارع و «مخرج» اسم الفاعل ، يدلان على الاستمرار ، أي أنّ نظام ظهور الحي من الميت وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق.

وفي ختام الآية توكيد للموضوع :( ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي ، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إلى الباطل؟( ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) وفي الآية الثّانية يشير القرآن إلى ثلاث نعم سماوية : فيقول أولا :( فالِقُ الْإِصْباحِ ) وذكرنا ، أنّ «الفلق» هو شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض ، و «الإصباح» و «الصبح» بمعنى واحد.

إنّه تعبير رائع ، فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح شقا ، وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما ، لأنّ الصبح الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة عمود ، وكأنّه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة ، والصبح الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند امتداد الأفق الشرقي ، وكأنّه يشق عباب الليل الأسود من الأسفل ممتدا من الجنوب إلى الشمال ، متقدما في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلها شيئا فشيئا.

كثيرا ما يشير القرآن إلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار ، ولكنّه هنا

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 2 ، باب (طينة المؤمن الكفار) ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 543.

٣٩٣

يتناول «طلوع الصبح» كنعمة من نعم الله الكبرى ، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جو الأرض ، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض ، فلو كانت الأرض ـ مثل القمر ـ عديمة الجو ، لما كان هناك «طلوعان» ولا «فلق» ولا «إصباح» ، ولا «غسق» ولا «شفق» بل كانت الشمس تبزغ فجأة ، بدون أية مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت على ظلام الليل ولم تكد تفارقه ، وعند الغروب تختفي فجأة ، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء ، غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيئ الإنسان تدريجيا لتقبل هذين الاختلافين المتضادين والانتقال من الظلمة إلى النّور ، ومن النّور إلى الظلمة ، شيئا فشيئا ، بحيث إنّه يستطيع أن يتحمل كل منهما ، فنحن نشعر بالانزعاج إذا كنّا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعم الظلام ، ثمّ إذا استمر الظلام ساعة ، وعاد النّور مرّة أخرى فجأة ، عادت معها حالة الانزعاج بسبب سطوع الضوء المفاجئ الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية الأشياء ، وإذا ما تكرر هذا الأمر فإنّه لا شك سيؤذي العين ، غير أنّ( فالِقُ الْإِصْباحِ ) قد جنب الإنسان هذا الأذى بطريقة رائعة(1) .

ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة ، يبادر القرآن إلى القول :( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ) .

من الأمور المسلم بها أنّ الإنسان يميل خلال انتشار النّور والضياء إلى العمل وبذل الجهد ، ويتجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيأ العضلات للفعالية والنشاط ، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحا ، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلما كان الظلام أشد ، حيث يتجه الدم فيه نحو الداخل ، وتدخل الخلايا عموما

__________________

(1) يقول علماء الفلك : يبدأ طلوع الصبح عند ما تصل الشمس إلى 18 ـ درجة قبل الأفق الشرقي ، ويعم الظلام كل شيء ويختفي الشفق عند ما تصل إلى 18 ـ درجة تحت الأفق الغربي.

٣٩٤

في نوع من السكون والراحة ، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط ، بل إنّ النباتات تنام في الليل أيضا ، وعند بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها ، بعكس الإنسان في هذا العصر الآلي ، فهو يبقى مستيقظا إلى ما بعد منتصف الليل ، ثمّ يظل نائما حتى بعد ساعات من طلوع الشمس ، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.

في الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا التنظيم ، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال يوصي أحد قواده «... ولا تسر أوّل الليل فإنّ الله جعله سكنا وقدره مقاما لا ضعنا ، فارح فيه بدنك وروح ظهرك»(1) .

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «تزوج بالليل فإنّه جعل الليل سكنا»(2) .

وفي كتاب الكافي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه كان يأمر بعدم ذبح الذبائح في الليل وقبل طلوع الفجر ، وكان يقول : «إنّ الله جعل الليل سكنا لكل شيء»(3) .

ثمّ يشير الله تعالى إلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب :( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ) .

«الحسبان» بمعنى الحساب ، ولعل القصد منه أنّ الدوران المنظم لهاتين الكرتين السماويتين وسيرهما الدائب (المقصود طبعا حركتها في أنظارنا وهي الناشئة عن حركة الأرض) عون لنا على وضع مناهجنا الحياتية المختلفة وفق مواعيد محسوبة ، كما ذكرنا في التّفسير.

__________________

(1) تفسير الصافي في تفسير الآية.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السّابق.

٣٩٥

يرى بعض المفسّرين أنّ الآية تريد أن تقول إن هاتين الكرتين السماويتين تتحركان في السماء وفق حساب وبرنامج ونظام.

وعليه فهي في الحالة الأولى إشارة إلى إحدى نعم الله على الإنسان ، وفي الحالة الثّانية إشارة إلى واحد من أدلة التوحيد وإثبات وجود الخالق ، ولعلها إشارة إلى كلتيهما.

على كل حال ، إنّه لموضوع مهم جدّا أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض ، وبذلك تنتقل الشمس في أنظارنا من برج إلى برج بين الأبراج الفلكية الاثنتي عشرة ، والقمر يدور في حركته المنتظمة من الهلال حتى المحاق ، أنّ حساب هذا الدوران من الدقة والضبط بحيث إنّه لا يتقدم ولا يتأخر لحظة واحدة ، ولو لاحظنا أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار بيضوي معدل شعاعه 150 ـ مليون كيلومتر ضمن جاذبية الشمس العظيمة ، والقمر الذي يدور كل شهر حول الأرض في مدار شبه دائرة شعاعه نحو 374 ألف كيلومتر ولا يخرج من جاذبية الأرض العظيمة ، فهو دائم الانجذاب نحوها ، عندئذ يمكن أن ندرك مدى التعادل الدقيق بين قوة الجذب بين هذه الأجرام السماوية من جهة ، والقوة الطاردة عن مراكزها (القوة المركزية) من جهة أخرى ، بحيث لا يمكن أنّ تتوقف لحظة واحدة أو تختلف قيد شعرة.

وهذا ما لا يمكن أن يكون إلّا في ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقّة ، لذلك تنتهي الآية بقولها :( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

* * *

٣٩٦

الآية

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) )

التّفسير

بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة ، تشير هذه الآية إلى نعمة أخرى من نعم الله على البشر ، فجعل النجوم ليهتدي بها الإنسان في ليالي البر والبحر :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) .

وتختتم الآية بالقول بأنّ الله قد بين آياته لأهل الفكر والفهم والإدراك : و( قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

منذ آلاف السنين والإنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها ، وعلى الرغم من تقدم البشر في هذا المضمار تقدما كبيرا ، فإنّه ما يزال يتابع وضع النجوم قليلا أو كثيرا ، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الاتجاه في الأسفار البرية والبحرية ، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إمارة تشير إلى الاتجاه قبل اختراع الأسطرلاب.

إنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إلى بر السلامة.

٣٩٧

لو تطلعنا إلى السماء عدّة ليال متوالية لانكشف لنا أنّ مواضع النجوم في السماء متناسقة في كل مكان ، وكأنّها حبات لؤلؤ خيطت على قماش أسود ، وإنّ هذا القماش يسحب باستمرار من الشرق إلى الغرب ، وكلها تتحرك معه وتدور حول محور الأرض دون أن تتغير الفواصل بينها ، إنّ الاستثناء الوحيد في هذا النظام هو عدد من الكواكب التي تسمى بالكواكب السيارة لها حركات مستقلة وخاصّة ، وعددها ثمانية : خمسة منها ترى بالعين المجرّدة ، وهي (عطارد والزهرة ، وزحل ، والمريخ والمشتري) وثلاثة لا ترى إلّا بالتلسكوب وهي (أورانوس ونبتون وپلوتو) بالإضافة إلى كوكب الأرض التي تجعل المجموع تسعة.

ولعل إنسان ما قبل التّأريخ كان يعرف شيئا عن «الثوابت» و «السيارات» لأنّه لم يكن هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من السماء المرصعة بالنجوم في ليلة ظلماء ، فلا يستبعد أن يكون هو أيضا قد استخدم النجوم في الاستهداء ومعرفة الاتجاه.

يستفاد من بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام أنّ لهذه الآية تفسيرا آخر ، وهو أنّ المقصود بالنجوم القادة الإلهيين والهداة إلى طريق السعادة ، أي الأئمّة الذين يهتدي بهم الناس في ظلام الحياة فينجون من الضياع ، وسبق أن قلنا أنّ هذه التفاسير المعنوية لا تتنافى مع التفاسير الظاهرية ، ومن الممكن أن تقصد الآية كلا التفسيرين(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 750.

٣٩٨

الآيتان

( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) )

التّفسير

هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله ، والوصول إلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار الله في جسمه وروحه ، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان.

فيبدأ بالقول :( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) .

أي أنّكم ، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم ، قد خلقتم من فرد واحد ، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.

٣٩٩

وجدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإنسان بالإنشاء ، والكلمة لغويا تعني الإيجاد والإبداع مع التربية ، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم ، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئا ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة ، ولكنّه إذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها ، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة ، عندئذ يكون قد أظهر حقّا عظمته وسعة رحمته.

بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهّم من قراءة هذه الآية ، أنّ أمّنا الأولى حواء قد خلقت من آدم (كما جاء في الفصل الثّاني من سفر التكوين من التّوراة) ، ولكن آدم وحواء خلقا من تراب واحد ، وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد ، لذلك قال : إنّهما خلقا من نفس واحدة ، وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة النساء.

ثمّ يقول : إنّ فريقا من البشر «مستقر» وفريقا آخر «مستودع»( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) .

«المستقر» أصله من «القر» (بضم القاف) بمعنى البرد ، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة ، فمعنى «مستقر» هو الثابت المكين.

و «مستودع» من «ودع» بمعنى ترك ، كما تستعمل بمعنى غير المستقر والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إلى صاحبها.

يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر» أي ثابت ، وبعض «مستودع» أي غير ثابت ، أمّا المقصود من هذين التعبيرين ، فالكلام كثير بين المفسّرين ، وبعض التفاسير تبدو أقرب إلى الآية كما أنّها لا تتعارض فيما بينها.

من هذه التفاسير القول بأنّ «مستقر» صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا «مستقر الرحم» أم مستقر وجه الأرض ، و «المستودع» صفة الذين لم يكتمل خلقهم بعد وإنّما هو ما يزالون نطفا في أصلاب آبائهم.

٤٠٠