الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 207443
تحميل: 3649


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207443 / تحميل: 3649
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم ، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه :( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

ثمّ يقولون : إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك ، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل :( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة : البلايا الصعبة ، الطاعون ، الوثن والوثنية ، وسوسة الشيطان ، والثلج أو البرد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني ، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الاضطراب.

وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الانحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبة والبلاء ، لأنّها تصيب الإنسان لانحرافه عن الحق ، وارتكاب الذنب ، وكذا يكون الرجز نوعا من الانحراف عن الحق ، والاضطراب في العقيدة ، ولهذا أيضا يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل ، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة ، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أخرى ، فيقال لهذا الداء «الرجز» على وزن «المرض».

والسبب في إطلاق الرجز على الأشعار الحربيّة ، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال ، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها

١٨١

في الآيات السابقة ، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل ، الذي وردت الإشارة إليها في التوراة.

هذا ، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه ، ولكن يحتمل أيضا أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم ، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلّا ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (1) .

إنّ جملة( إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتا وعيّن أمدا ، فكان يقول لهم : في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم ، حتى يتّضح لهم أنّ ارتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمرا اتفاقيا وصدقة ، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة( إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الاستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسىعليه‌السلام ثمّ نقضهم للعهد ، حتى أصبح نقض العهد جزءا من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت ، ونقض العهد ، فتقول بصورة مجملة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) .

ثمّ تشرح هذا الانتقام وتذكر تفصيله( فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (2) .

__________________

(1) النكث على وزن مكث ، يعني فل الحبل المفتول ، ثمّ أطلق على نقض الميثاق والعهد.

(2) يستفاد من مصادر اللغة ، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر» ، وهو يطلق على نهر النيل أيضا ، أمّا أن لفظة اليم

١٨٢

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعا ، لأنّ موسىعليه‌السلام ذكّرهم مرارا وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم ، بل أنّهم تصرّفوا عمليا كما يفعل الغافلون ، فلم يعتنوا بآيات الله أبدا.

ولا شك أن المقصود من الانتقام الإلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم ، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والانتقام ، بل المقصود من الانتقام الإلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق ، ولا بدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والانتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة ، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

__________________

هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية ، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء ، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه اشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل : أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر ، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

١٨٣

الآية

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) )

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم :

بعد هلاك قوم فرعون ، وتحطّم قدرتهم ، وزوال شوكتهم ، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا.

و «يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

١٨٤

جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ، وهو : أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ، وباطنه الإبادة والتدمير ، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير ب( كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية : ضعف فكري ، وضعف أخلاقي ، وضعف اقتصادي ، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب( مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ، وبعبارة أخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا.

وجملة( بارَكْنا فِيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك ، وفي هذا الزمان أيضا ، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب : إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).

١٨٥

صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية : نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ، وأبنيتهم الجميلة الشامخة ، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة( وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ) .

و «صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة ، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و «ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و «دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو : كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ، ولماذا؟ونقول في الجواب : لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسىعليه‌السلام ، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم ، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

١٨٦

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) )

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97) ، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

١٨٧

وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسىعليه‌السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأولى :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام( فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) .

و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء( قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فانزعج موسىعليه‌السلام من هذا الافتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم :( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :

1 ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

١٨٨

أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسىعليه‌السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى

١٨٩

الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)

2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا.

3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسىعليه‌السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

__________________

(1) مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.

١٩٠

عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسىعليه‌السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له( إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسىعليه‌السلام ( قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا.

١٩١

يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق( يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) .

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسىعليه‌السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

* * *

١٩٢

الآية

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) )

التّفسير

الميعاد الكبير :

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسىعليه‌السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا :( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

١٩٣

بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة ، هو : لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين ، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر ، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك ، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاما مع أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوما ، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوما ثمّ مدّده عشرة أيّام أخرى ، اختبارا لبني إسرائيل كي يعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه قال : إنّ موسىعليه‌السلام لما خرج وافدا إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوما ، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه ، قد أخلفنا

١٩٤

موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1) .

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإسلامية ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوما ، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالبا في الليالي.

2 ـ كيف نصب موسىعليه‌السلام هارون قائدا وإماما؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا ، هو : إنّ هارون كان نبيّا ، فكيف نصبه موسىعليه‌السلام خليفة له وإماما وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الالتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر ، ولقد كان هارون نبيّا ، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني إسرائيل ، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصا بموسىعليه‌السلام ، ولكنّه عند ما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماما وقائدا.

3 ـ لماذا طلب موسىعليه‌السلام من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا ، هو : لماذا قال موسىعليه‌السلام لأخيه : أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب : إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 ـ نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 61.

١٩٥

إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة ، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه ، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قصرهم وصغرهم بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعا ومطيعا لنصائح موسىعليه‌السلام .

4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا ، هو : هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة ، وهي هذه الأربعون يوما ، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوما ، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه ، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه ، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبدا ، في هذه الأربعين يوما نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة ، أحدها لأخذ الأحكام ، وفي الأخرى اصطحب كبار قومه ، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أخرى غير هذه ، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).

وهنا أيضا وقع كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة ، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ) تناسب تماما وحدة هاتين القصّتين ، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة ، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعها في نفس هذا السفر أيضا.

١٩٦

5 ـ حديث المنزلة

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف ، بفارق واحد هو : أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار ، ثمّ نبحث في دلالته ، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة :

1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول غزوة تبوك : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء؟قال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة ، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضا ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنّة ، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(2) .

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة ، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية ، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

__________________

(1) صحيح البخاري ، الجزء السّادس ، الصفحة 3 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

(2) صحيح مسلم ، المجلد الرّابع ، الصفحة 187 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

١٩٧

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضا(1) .

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر ، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. ثمّ عدد الأمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهوقوله : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوة بعدي»(2) .

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل ، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك ، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3) .

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط ، فقالوا : يا ابن عباس ، إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلونا هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام وأضاف : «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي»(4) .

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6) ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)

__________________

(1) المجلد الأوّل ، الصفحة 43 ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

(2) المجلد الخامس ، الصفحة 638 ، طبعة المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

(3) مسند أحمد بن حنبل ، المجلد الأول ، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 369 و 438.

(4) مسند أحمد ، المجلد الأوّل ، الصفحة 231.

(5) خصائص النسائي ، ص 4 و 14.

(6) المجلد الثالث ، الصفحة 108 و 109.

(7) المجلد الأوّل ، الصفحة 65.

(8) الصفحة 177.

١٩٨

وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة ، والمصادر الأولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، بل رواه ـ أيضا ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصا منهم : «جابر بن عبد الله» و «أبو سعيد الخدري» و «أسماء بنت عميس» و «ابن عباس» و «أم سلمة» و «عبد الله بن مسعود» و «أنس بن مالك» و «زيد بن أرقم» و «أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «معاوية بن أبي سفيان» و «عمر بن الخطاب» أيضا.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال : سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

قال : بئسما قلت ، لقد كرهت رجلا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غرا ، وقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3) .

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاعليه‌السلام فقال : إنّي أظنّك منافقا ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي»(4) .

__________________

(1) السيرة النبوية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 163 طبعة مصر.

(2) السيرة الحلبية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 151 طبعة مصر.

(3) ذخائر العقبى ، الصفحة 79 ، طبعة مكتبة القدس ، الصواعق المحرقة ، ص 177 ، طبعة مكتبة القاهرة.

(4) تاريخ بغداد ، المجلد السابع ، الصفحة 452 طبعة السعادة.

١٩٩

حديث المنزلة في سبعة مواضع :

النقطة الأخرى ، إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافا لما يتصّوره البعض ـ لم يقل هذا البحث في عليعليه‌السلام في غروة تبوك فقط ، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها : 1 ـ في المؤاخاة الأولى : يعني في المرّة الأولى التي آخى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين واختار عليّاعليه‌السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(1) .

2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية : وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ، واصطفى لنفسه منهم عليّا واتخذه من دونهم أخاه ، وقال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(2) .

3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل ، وكانت تعدّ من أهل السوابق ، وهي من الدعاة إلى الإسلام ، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها ذات يوم : «إنّ عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(3) .

4 ـ قال ابن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبّ إلى ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

__________________

(1) كنز العمال ، الحديث 918 ، المجلد الخامس ، الصفحة 40 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 390.

(2) منتخب كنز العمال ، (في حاشية مسند أحمد) ، المجلد الخامس ، من مسند أحمد ، الصفحة 31.

(3) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة 164.

٢٠٠