الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 207428
تحميل: 3646


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207428 / تحميل: 3646
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

قائم على الباب ، فقلنا : أردنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يخرج إليكم ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسرنا إليه ، فاتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال : «أنت (يا علي) أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(1) .

5 ـ روى النسائي في كتاب «الخصائص» أن عليا وزيدا وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة ، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلى : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(2) .

6 ـ روى جابر بن عبد الله أنّه عند ما أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلّا باب بيت عليعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي ، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»(3) .

هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك ، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وإلّا فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أخرى قال فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العبارة في شأن عليعليه‌السلام أيضا.

من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصا بغزوة تبوك ، بل هو أمر عام ودائم في شأن عليعليه‌السلام .

ومن هنا يتّضح أيضا ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل «الآمدي» من أن هذا الحديث يتكفل حكما خاصا في مجال خلافة عليعليه‌السلام وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة ، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات ، تصوّر باطل أساسا ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكما عاما.

__________________

(1) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة 395.

(2) خصائص النسائي ، الصفحة 19.

(3) ينابيع المودة ، آخر باب 17 ، الصفحة 88 الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.

٢٠١

محتوى حديث المنزلة :

لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث ، وتجنّبنا الأحكام المسبّقة والتحججات الناشئة من العصبية ، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاعليه‌السلام كان له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلّا النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام ، والاستثناء (إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة ، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأمور التالية :

1 ـ إنّ الإمام علياعليه‌السلام أفضل الأئمّة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان لهارون مثل هذا المقام.

2 ـ إنّ عليا وزير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاونه الخاص وعضده ، وشريكه في قيادته ، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عند ما يقول حاكيا عن موسى قوله :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) .

3 ـ إنّه كان لعليعليه‌السلام ـ مضافا إلى الأخوة الإسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

4 ـ إنّ عليّاعليه‌السلام كان خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.

أسئلة حول حديث المنزلة :

لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات واعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

__________________

(1) سورة طه ، 29 الى 32.

٢٠٢

بعض الإشكالات والاعتراضات واهية جدا إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة ، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلّا إن يتأسف على حال البعض كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟

أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة : الإشكال الأوّل : إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكما خاصا محدودا ، لأنّه ورد في غزوة تبوك ، وذلك عند ما انزعج عليعليه‌السلام من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان ، فسلّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه العبارة : وعلى هذا الأساس كان المقصود هو : إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.

وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة ، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط ، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكما كليّا ، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.

هذا مضافا إلى أنّ بقاء عليّعليه‌السلام في المدينة لم يكن أمرا بسيطا يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط ، بل لو كان الهدف هو هذا ، لتيّسر للآخرين القيام به ، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير ، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).

إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة ، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لاجتياح المدينة قاعدة الإسلام ، ولهذا عمد رسول

٢٠٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخلف في غيبته شخصيّة قويّة يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس ، ولم تكن هذه الشخصية سوى عليعليه‌السلام .

الإشكال الثّاني : نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضا ـ أنّ هارون توفي في عصر موسىعليه‌السلام نفسه ، ولهذا لا يثبت التشبيه بهارون أن عليّاعليه‌السلام خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به ، ولكن جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» تجيب على هذا الإشكال بوضوح ، لأنّه إذا كان كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، خاصا بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كانت هناك ضرورة إلى جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبدا (إذ يكون لهذا الاستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الاستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).

وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الاستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته ، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر ، ولا يعتبر أحد عليّاعليه‌السلام نبيّا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّا بعدي.

فيكون مفهوم كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل ، لا في حياتي فقط ، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلّا مقام النّبوة.

وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبيه عليعليه‌السلام بهارون ، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب ، لا من حيث مدّة استمرار هذه المنازل والمناصب ، ولو أنّ هارون كان يبقى حيا لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معا.

ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة

٢٠٤

والمعاونة لموسى ، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّا ، تثبت جميع هذه المنازل لعليعليه‌السلام إلّا النّبوة ، حتى بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة عبارة (إلّا أنّه لا نبي بعدي).

الإشكال الثّالث : إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعليعليه‌السلام منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.

ولكن مع الالتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضا ، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسىعليه‌السلام ، ولكن لا بقيادة مستقلة ، بل كان قائدا يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان عليعليه‌السلام في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاونا للنّبي في قيادة الأمّة أيضا ، وعلى هذا الأساس يصير قائدا مستقلا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى كل حال ، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا استثناء ، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإنصاف من حيث الدلالة أفضلية عليعليه‌السلام على الأمّة جمعاء ، وأيضا خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة ، بل قال : إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّعليه‌السلام وهذا حقّا أمر محيّر.

* * *

٢٠٥

الآية

( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) )

التّفسير

المطالبة برؤية الله :

في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل ، وذلك عند ما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسىعليه‌السلام ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يروا الله سبحانه ، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه ، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه ، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه ، فسمع جوابا أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.

وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56) ، وقسم آخر

٢٠٦

منه في سورة النساء الآية (153) ، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.

ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) .

ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي : كلا ، لن تراني أبدا( قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) .(1)

فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمى عليه( وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ) .

وعند ما أفاق قال : ربّاه سبحانك ، أنبت إليك ، وأنا أوّل من آمن بك( فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

* * *

بحوث

وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ لماذا طلب موسى رؤية الله؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو : كيف طلب موسىعليه‌السلام ـ وهو النّبي العظيم ومن أولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيدا أن الله ليس بجسم ، وليس له مكان ، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية ، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟

__________________

(1) «دك» في الأصل بمعنى سوّى الأرض ، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّا» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض وجاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساما ، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائيا.

٢٠٧

صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال ، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسىعليه‌السلام طرح مطلب قومه ، لأنّ جماعة من جهلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسىعليه‌السلام من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي ، وقد صرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب عيون أخبار الرضا أيضا(1) .

ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة ، من أنّ موسىعليه‌السلام قال بعد ما حدث ما حدث :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) .

فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسىعليه‌السلام لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب إطلاقا ، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضا لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغير المنطقي ، إنّهم كانوا مجرّد علماء ، ومندوبين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسىعليه‌السلام لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.

2 ـ هل يمكن رؤية الله أساسا؟

نقرأ في الآية الحاضرة أنّ الله سبحانه قال لموسىعليه‌السلام :( انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) فهل مفهوم هذا الكلام هو أنّ الله قابل للرؤية أساسا؟

الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع ، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له ، لهذا ذكر هذا التعبير.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 65.

٢٠٨

3 ـ ما هو المراد من تجلّي الله؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد ، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظيمة التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن ، أو أنّه نموذج من قوة الذرّة العظيمة ، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع ، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقا خاطفا للأبصار وصوتا مهيبا رهيبا وقوّة عظيمة جدا ، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّا(1) ؟!

وكأنّ الله تعالى أراد أن يرى ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسىعليه‌السلام وبني إسرائيل : الأوّل : أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة ، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.

الثاني : كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر ، ليست قابله للرؤية بذاتها ، بل المرئي هو آثارها ، أي الرجة العظيمة ، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامضة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعين ، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأخرى ، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية ، ويقول : حيث أنّنا لا نرى ذاتها ، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.

فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات ، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى : بما أنّه غير قابل للرؤية ، إذن لا يمكننا الإيمان به ، مع أنّه ملأت

__________________

(1) الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية ، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عند ما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية ، وهي خطرة مدمرة في الغالب ، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب ، والآخر سلبي ، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطرا في العادة إلّا للطائرات. والسفن الفضائية.

٢٠٩

آثاره كل مكان؟

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسىعليه‌السلام طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة ، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى ، وتنافي نبوة موسىعليه‌السلام ، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية ، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري ، لأنّه كثيرا ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول : «أنا أرى في نفسي قدرة على القيام بهذا العمل» في حين أنّ القدرة ليست شيئا قابلا للرؤية ، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.

كان موسىعليه‌السلام يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة ، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكنا في الدنيا ، وإن كان ممكنا في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.

ولكن الله تعالى أجاب موسىعليه‌السلام قائلا : إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك ، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل ، فتحطّم الجبل وتلاشى ، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب(1) .

ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا ، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(2) هذا مضافا إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضا ، فالحق هو التّفسير الأول.

__________________

(1) ملخص من تفسير الميزان ، المجلد الثامن ، الصفحة 249 إلى 254.

(2) فهو مخالف لمفهوم الرؤية ، ولإطلاق جملة «لن تراني» وجملة «أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا» هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمرا سيئا ليتوب منه موسى ، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضا ولبى الله طلبه.

ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.

٢١٠

4 ـ مم تاب موسىعليه‌السلام ؟

إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو : أن موسىعليه‌السلام بعد أن أفاق قال :( تُبْتُ إِلَيْكَ ) في حين أنّه لم يرتكب إثما أو معصية ، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل ، وكان طرحه بتكليف من الله ، فهو أدى واجبه إذن ، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يحسب هذا العمل إثما؟؟

ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين :

الأوّل : أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل ، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه ، وأظهر الإيمان.

الآخر : أنّ موسىعليه‌السلام وإن كان مكلّفا بأن يطرح طلب بني إسرائيل ، ولكنّه عند ما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر ، انتهت مدّة هذا التكليف ، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف ، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد ، وقد بيّن ذلك بجملة ، إني( تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

5 ـ الله غير قابل للرؤية مطلقا

إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقا ، لأنّ كلمة «لن» حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي ، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة( لَنْ تَرانِي ) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.

ولو أنّ أحدا شكّك ـ افتراضا ـ في أن يكون «لن» للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية ، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.

إنّ الأدلة العقلية هي الأخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة ، لأنّ الرؤية تختص

٢١١

بالأجسام.

وعلى هذا الأساس ، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء الله» فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل ، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.

* * *

٢١٢

الآيتان

( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) )

التّفسير

ألواح التوراة :

وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسىعليه‌السلام .

ففي البداية :( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ) .

فإذا كان الأمر كذلك( فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .

فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من امتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء ، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟

الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر ، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين

٢١٣

لموسى على الناس : أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها ، والآخر التكلّم مع الله ، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.

ثمّ أضاف تعالى واصفا محتويات الألواح التي أنزلها على موسىعليه‌السلام بقوله :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) .

ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد ، ويحرص عليها بقوة( فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) .

وأن يأمر قومه أيضا بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) .

كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة ، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

بحوث

ثمّ إن هاهنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ نزول الألواح على موسى

إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحا على موسىعليه‌السلام قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها ، لا أنّه كانت في يدي موسىعليه‌السلام ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.

ولكن ماذا كانت تلك الألواح ، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر ، وإنما أشار إليها بصورة الإجمال وبلفظة «الألواح» فقط ، وهذه الكلمة جمع «لوح» ، وهي مشتّقة من مادة «لاح يلوح» بمعنى الظهور والسطوع ، وحيث

٢١٤

أنّ المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة ، تسمى الصفحة لوحا(1) .

ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح ، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.

2 ـ كيف كلّم الله موسى؟

يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسىعليه‌السلام ، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام ، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جمودا على الألفاظ تصوّر خاطئ بعيد عن الصواب.

على أنّه لا شك في أن ذلك التكلّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسىعليه‌السلام كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله ، وكان هذا العلم حاصلا لموسى ، إمّا عن طريق الوحي والإلهام أو من قرائن أخرى.

3 ـ عدم وجوب جميع تعاليم الألواح

يستفاد من عبارة( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسىعليه‌السلام لأنّ الله يقول :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) وهذا لأجل أن دين موسىعليه‌السلام لم يكن آخر دين ، ولم يكن موسىعليه‌السلام خاتم الأنبياء ، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان ، ولكن عند ما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات

__________________

(1) تفسير التبيان ، المجلد الرّابع ، الصفحة 539.

٢١٥

الناس المادية والمعنوية.

وتتّضح من هذا أيضا علة تفضيل مقام عليعليه‌السلام على مقام موسىعليه‌السلام في بعض الرّوايات(1) ، وهي أن علياعليه‌السلام كان عارفا بجميع القرآن ، الذي فيه تبيان كل شيء( نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلّا بعض المسائل.

4 ـ هل في الألواح تعاليم حسنة وأخرى غير حسنة؟

إنّ ما نقرؤه في الآية( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم «حسنة» وأخرى «سيئة» وأنّهم كانوا مكلّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة ، أو كان فيها الحسن والأحسن ، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط ، بل ربّما تأتي كلمة «أفعل التفضيل» بمعنى الصفة المشبهة ، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهرا ، يعني أن «الأحسن» هنا بمعنى «الحسن» وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضا ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل ، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أمور مباحة (مثل القصاص) وأمور أخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني : قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا ، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلّا في موارد خاصّة)(2) .

5 ـ في مجال قوله :( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم ، وهي مستقرّ كل أولئك الذين يخرجون من طاعة الله ، ولا يقومون

__________________

(1) للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 68.

(2) ويحتمل أيضا أن الضمير في «أحسنها» يرجع إلى «القوة» أو «الأخذ بقوة» وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.

٢١٦

بوظائفهم الإلهية.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضا أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون ، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة 193.

٢١٧

الآيتان

( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) )

التّفسير

مصير المتكبرين :

البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئه والعصاة من بني إسرائيل ، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي : إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات ، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية ، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.

٢١٨

وبعبارة أخرى : إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثرا عجيبا ، بحيث خلق منهم أفرادا متصلبين منغلقين دون الحق ، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.

ولهذا يقول أوّلا :( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبدا الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم ، ونظرا لانتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.

وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر ، ولا مستلزم لأي محذور آخر ، حتى نعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.

هذا ، ولا بدّ من الالتفات ـ ضمنيا ـ إلى أنّ ذكر عبارة( بِغَيْرِ الْحَقِ ) بعد لفظة :

التكبر إنّما هو لأجل التأكيد ، لأنّ التكبر والشعور بالاستعلاء على الآخرين واحتقار عباد الله يكون دائما بغير حق ، وهذا التعبير يشبه الآية (61) من سورة البقرة ، عند ما يقول سبحانه :( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي ، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائما بغير حق.

خاصّة أنّها أردفت بكلمة «في الأرض» الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائما بغير حق.

ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.

الأولى قوله تعالى :( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية ،( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ

٢١٩

سَبِيلاً ) والثّالثة إنّهم على العكس( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) .

بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق ، أشار إلى عللها وأسبابها ، فقال :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) .

ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة ، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان ، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح ، والمستقيم والمعوج ، أي يسلب القدرة على التمييز بين «الرشد» و «الغي».

ثمّ تبيّن الآية اللاحقة عقوبة مثل هؤلاء الأشخاص وتقول :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

و «الحبط» يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصية ، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيرا فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة).

وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الانتقام منهم ، إنما هو نتيجة أعمالهم هم ، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ؟!

إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال ، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.

* * *

٢٢٠