الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 207489
تحميل: 3653


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207489 / تحميل: 3653
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) )

التّفسير

الفرار من الجهاد ممنوع!

كما ذكرنا في تفسير الآيات السابقة ، فإنّ الحديث عن قصّة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتّخذ منه المسلمين العبرة والدرس في المستقبل ، لذلك فإنّ هذه الآيات توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمرا عاما بالقتال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ) .

٣٨١

و (لقيتم) من مادة (اللقاء) بمعنى الاجتماع والمواجهة ، وتأتي في أكثر أحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب.

و (الزّحف) في الأصل بمعنى الحركة إلى أمر ما بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي ، أو الإبل المرهقة التي تخط أقدامها على الأرض أثناء سيرها ، ويطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنّه يحفر الأرض أثناء مسيره.

واستخدام كلمة (زحف) ـ في الآية آنفا ـ تشير إلى أنّه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير ، وأنتم قليلون ، فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب ، وكما كان عدوكم كثيرا في ميدان بدر فثبتّم وانتصرتم.

فالفرار من الحرب يعدّ في الإسلام من كبائر الذنوب ، إلّا أنّ ذلك مرتبط ـ كما نبيّن بعض الآيات ـ بكون الأعداء ضعفي عدد المسلمين ، وسنبحث هذا الأمر بعون الله في الآيتين (65) و (66) من هذه السورة. ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإشارة لمن يستثنون منهم فتقول :( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) .

وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار ، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار ، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.

الصورة الأولى : عبّر عنها بـ «مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ » و «متحرف» من مادة (التحرّف) أي الابتعاد جانبا من الوسط نحو الأطراف والجوانب ، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء ، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء : ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والانسحاب المتتابع وكما يقول العرب : (الحرب كرّ وفرّ).

الصورة الثّانية : أن يرى المقاتل نفسه وحيدا في ساحة القتال ، فينسحب للالتحاق بإخوانه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.

٣٨٢

وعلى كل حال ، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها ، والتي هي أساس كثير من الانتصارات.

وتختتم الآية محل البحث بالقول : إنّ جزاء من يفرّ مضافا إلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إلى النّار :( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والفعل «باء» مشتق من «البواء» ومعناه الرجوع واتّخاذ المنزل ، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه ، وحيث إنّ الإنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه ، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى. وفي الآية إشارة إلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم ، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله.

وكلمة «المأوى» في الأصل معناها «الملجأ» وما نقرؤه في الآية ، محل البحث( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ ) فهو إشارة إلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة ، إلّا أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون ، إذ ستكون جهنم مأواهم ، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب ، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والانكسار والضياع.

ولذا فقد جاء في «عيون الأخبار» عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال : «وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين ، والاستخفاف بالرسل والأئمّة العادلةعليهم‌السلام ، وترك نصرتهم على الأعداء ، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين ، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين اللهعزوجل وغيره من الفساد»(1)

ومن ضمن الامتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام عليعليه‌السلام ، وربّما يشير

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 138.

٣٨٣

إلى نفسه أحيانا ليكون نبراسا للآخرين

قوله «إنّي لم أفر من الزحف قطّ ، ولم يبارزني أحد إلّا سقيت الأرض من دمه»(1)

والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر ، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب ، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص ، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين.

وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى «ولهذا الحكم شروط طبعا سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله».

ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم ، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب ، وليذكروا الله في قلوبهم دائما ، وليتعلقوا به طلبا لألطافه ، فإنّ الآية التّالية تقول :( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) .

لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي يوم بدر : أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها ، فناوله على ذلك ، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال :( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) (2)

قالوا : كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعبا.

لا شك أنّ الظاهر يشير إلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر ، لكن القرآن يقول : إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا ، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 139.

(2) راجع نور الثقلين ، ج 2 ، ص 140.

٣٨٤

بقوة الله وفي سبيل الله. وثانيا قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقا ، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة ، وانهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم ، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه.

وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إلى لطيفة في مذهب «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين ، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأمور (فتأمل بدقّة).

ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة ، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضا ، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد.

وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها.

والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأسلوب لطيف ، لأنّه إذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد ، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إليهم تارة وينفي عنهم تارة أخرى ، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد ، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىّ من المذاهب الضّالة ، بل هي تشير إلى المذهب الوسط «أمر بين أمرين» فحسب.

وهذه الإشارة لأجل هدف تربوي ، وهو إزالة الغرور وآثاره ، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الانتصارات.

وتشير الآية في ختامها إلى لطيفة مهمّة أخرى ، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان واختبار ، إذ تقول :( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) .

والبلاء معناه الاختبار في الأصل ، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاء حسنا ، وتارة بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاء سيئا ، كما تشير إلى

٣٨٥

ذلك الآية (168) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ) .

لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر ، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل ، وهذه الموهبة الإلهية كانت اختبارا لهم جميعا ، وإلّا أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإنتصار أبدا ، فتكون النتيجة سلبية ، وذلك بأن يروا عدوهم حقيرا وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الاعتماد على الله.

لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

أي أنّ الله سمع صوت استغاثة النّبي والمؤمنين ، واطلع على صدق نياتهم ، فأنزل ألطافه عليهم جميعا ونصرهم على عدوّهم ، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل ، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم ، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيرا ، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون.

وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميما لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ما سمعتم ، فيقول :( ذلِكُمْ ) (1) ثمّ يعقب القرآن مبينا العلّة( وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ) .

* * *

__________________

(1) في الحقيقة أن هذا الكلمة إشارة إلى جملة مقدرة هي «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين ...».

٣٨٦

الآية

( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) )

التّفسير

لقد جرى بحث كثير بين المفسّرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث ، فبعضهم يعتقد بأنّهم المشركين ، لأنّهم قبل خروجهم من مكّة إلى بدر اجتمعوا حول الكعبة وضربوا على ستائرها (لغرورهم واعتقادهم بأنّهم على الحق). وقالوا : «اللهم أنصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين»(1) .

وروي أنّ أبا جهل دعا فقال : (اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث ، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم)(2) ولذلك فقد نزلت هذه الآية لتقول لهم :( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ

__________________

(1) هذه الجملة في الحقيقة «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين».

(2) مجمع البيان وتفاسير أخرى.

٣٨٧

مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والذي يبعد هذا التّفسير أن الحديث في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية موجه للمؤمنين ، فيستبعد أن تكون بينها آية واحدة تتحدث مع المشركين ، ويضاف لذلك الارتباط المعنوي الموجود بين مضامين كل هذه الآيات ـ ولذلك اعتبر بعض المفسّرين أنّ المخاطبين في الآية هم المؤمنون ، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي : لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ـ كما رأينا ـ ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف شخص الرّسول كاملاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي ، بغية تربيتهم وتعليمهم ، ثمّ ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي.

وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم : إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم ، وإذ تركتم الاعتراض والجدال عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبذلك مصلحتكم ، وإذا عدتم لنفس الأسلوب من الاعتراض فسنعود نحن أيضا ، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيرا فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء ، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.

وهكذا يستفاد من الآيات وخاصّة من إلقاء اللوم على المسلمين لبعض مخالفتهم ، وكذلك سياق الآيات السابقة وما فيها من أواصر وروابط معنوية واضحة ، فإن التّفسير الثّاني يكون أقرب إلى النظر

* * *

٣٨٨

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) )

التّفسير

الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون!

تتابع هذه الآيات البحوث السابقة ، فتدعو المسلمين إلى الطاعة التامة لأوامر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السلم أو الحرب أو في أي أمر آخر ، وأسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التنفيذ والطاعة ، فتبدأ بالقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد :( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) .

لا شك في أنّ إطاعة أوامر الله تعالى واجبة على الجميع ، المؤمنين وغير المؤمنين ، ولكن بما أنّ المخاطبين والمعنيين بهذا الحديث التربوي هم المؤمنون

٣٨٩

فلهذا كان الكلام في هذه الآية الشريفة موجها إليهم.

الآية الثّانية : تؤكّد هذا المعنى أيضا فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

إنّ هذا التعبير الطريف يشير للذين يعلمون ولا يعملون ، ويسمعون ولا يتأثرون ، وفي ظاهرهم أنّهم من المؤمنين ، ولكنّهم لا يطيعون أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهؤلاء لهم آذان سامعة لكل الأحاديث ويعون مفاهيمها ، وبما أنّهم لا يعملون بها ولا يطبقونها فكأنّهم صمّ لا يسمعون ، لأنّ الكلام مقدمة للعمل فلو عدم العمل فلا فائدة من أية مقدمة.

وأمّا المراد من هؤلاء الأشخاص الذين يحذّر القرآن المسلمين لكيلا يصيروا مثلهم ، فيرى بعض أنّهم المنافقون الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع في صفوف المسلمين ، وقال آخرون : إنّما تشير إلى طائفة من اليهود ، وذهب بعض بأنّهم المشركون من العرب. ولا مانع من انطباق الآية على هذه الطوائف الثلاث ، وكل ذي قول بلا عمل.

ولما كان القول بلا عمل ، والاستماع بلا تأثر ، أحد الأمراض التي تصّاب بها المجتمعات ، وأساس الكثير من التخلفات ، فقد جاءت الآية الأخرى لتؤكّد على هذه المسألة بأسلوب آخر ، فقالت :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (1) .

ولمّا كان القرآن كتاب عمل فإنّه ينظر إلى النتائج دائما ، فيعتبر كل موجود لا فائده فيه كالمعدوم ، وكل حي عديم الحركة والتأثير كالميت ، وكل حاسّة من حواس الإنسان مفقود إذا لم تؤثر فيه تأثيرا ايجابيا في مسيرة الهداية والسعادة ، وهذه الآية اعتبرت الذين لهم آذن سالمة لكنّهم لا يستمعون لآيات الله ودعوة

__________________

(1) «... صم» جمع «الأصم» وهو الذي لا يسمع و «البكم» جمع «الأبكم» وهو فاقد النطق.

٣٩٠

الحق ونداء السعادة ، كمن لا أذن له ولا سمع لديه ، والذين لهم ألسنة سالمة لكنّها ساكتة عن الدعوة إلى الحق ومكافحة الظلم والفساد ، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ، بل يضيعون هذه النعمة في التملق والتذلل أمام الطواغيت أو تحريف الحق وتقوية الباطل ، فهؤلاء كمن هو أبكم لا يقدر على الكلام ، وكذلك الذين يتمتعون بنعمة الفكر والعقل ولكنّهم لا يصححون تفكيرهم ، فهؤلاء في عداد المجانين.

وتقول الآية بعدها إن الله لا يمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى استعداد لتقبل الحق :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) .

وقد ورد في الرّوايات أنّ بعض عبدة الأصنام جاءوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إذا أخرجت لنا جدنا الأكبر (قصي بن كلاب) حيّا من قبره ، وشهد لك بالنبوة ، فسوف نسلّم جميعا! فنزلت الآية لتقول : إنّه لو كان حديثهم صادقا لفعل الله ذلك لهم بواسطة المعجزة ، لكنّهم يكذبون ويأتون بأعذار واهية ، بهدف التخلص من الإذعان لدعوة الحق ويقول تعالى :( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) .

فالذين سمعوا دعوة الحق كثيرا ، وبلغت آذانهم آيات القرآن ، وفهموا مضامينها العالية ، لكنّهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم ، فهم غير مؤهلين للهداية لما اقترفت أيديهم ، ولا شأن بعدئذ لله ورسوله بهم ، فهم في ظلام دامس وضلال بهيم.

كما أنّ هذه الآية تعد جوابا قاطعا للقائلين بمدرسة الجبر ، لأنّها تقرر بأن يكمن في الإنسان نفسه وأنّ الله يعامل الناس بما يبدونه من أنفسهم من استعداد وقابلية في طريق الهداية.

* * *

٣٩١

ملاحظتان

1 ـ «ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم»

لقد حاول بعض الناشئة عمل قياس منطقي من هذه الآية والخروج منه بنتيجة لصالحهم ، فقالوا ، إنّ القرآن يقول في الآية :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) . وقال أيضا :( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) . فيمكن الاستنتاج من هاتين الجملتين الجملة التّالية وهي : لو علم الله فيهم خيرا فهم سيعرضون. وهذا الاستنتاج خطأ محض.

وقد أخطأ هؤلاء لأنّ معنى جملة :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) . في قسمها الأوّل هو : لو كان لهؤلاء قابلية فسيوصل الحق لأسماعهم ، ولكن القسم الثّاني معناه أن هؤلاء إذا لم تتهيأ لهم القابلية للهداية فسوف لن يستجيبوا وسوف يعرضون والنتيجة أن الجملة المذكورة آنفا وردت في الآية بمعنيين مختلفين ، وعلى هذا لا يمكن تأليف قياس منطقي منهما(1) (فتأمل).

وهذه المسألة تشبه من يقول : إنّني لو كنت أعتقد بأنّ فلانا يستجيب لدعوتي لدعوته ، لكنّه في الحال الحاضر إذا دعوته فسوف لن يستجيب ، ولذلك فسوف لن أدعوه

2 ـ لاستماع الحق مراحل

إنّ الإنسان قد يسمع أحيانا ألفاظا وعبارات دون التفكير في مضامينها ، إلّا أنّ بعضا لفرط لجاجتهم ، كانوا يرفضون حتى هذا القدر من السمع ، كما يقول

__________________

(1) وبحسب اصطلاح المنطق أنّ الحدّ الوسط غير موجود في القياس آنفا ، لأنّ الجملة الأولى هي (لأسمعهم حال كونهم يعلم فيهم خيرا). والجملة الثّانية (لأسمعهم حال كونه لا يعلم فيهم فهما) والنتيجة أنّ الحدّ الوسط المشترك غير موجود بين الجملتين لتمكين تأليف القياس منهما ، لأنّ الجملتين مختلفتان ومنفصلتان (فتأمل).

٣٩٢

عنهم القرآن( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (1) .

وتارة يقبل الإنسان باستماع الأحاديث ، لكنّه لا يقرر أبدا العمل بها ، كالمنافقين الذين ورد ذكرهم في الآية (16) من سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) .

وقد يصل وضع هؤلاء أعلى مراحل الخطر ، إذ يسلبون القدرة على معرفة الخبيث والطيب ، وحتى إذا استمعوا الحديث الحق لا يكون بإمكانهم استيعابه وهضمه.

والقرآن يقول عن هذه الطوائف الثلاث ، إنّ هؤلاء في واقعهم صم بكم ، لإنّ الذي يسمع في الحقيقة يجب عليه الإدراك والتفكير والعزم على العمل بإخلاص.

وكم من أناس في عصرنا وزمننا الحاضر عند ما يسمعون آيات القرآن يتفاعلون معها بشكل ملفت للنظر ، لكنّهم في العمل لا يتطابقون بأي شكل مع مضمون القرآن الكريم.

* * *

__________________

(1) سورة فصلت ، الآية 26.

٣٩٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) )

التّفسير

دعوة للحياة :

تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنّها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر ، فتقول ابتداء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) .

فهذه الآية تقول بصراحة : إنّ دعوة الإسلام هي دعوة للعيش والحياة ، الحياة المعنوية ، الحياة المادية ، الحياة الثقافية ، الحياة الاقتصادية ، الحياة السياسية ،

٣٩٤

الحياة الأخلاقية والاجتماعية ، وأخيرا الحياة والعيش بالمعنى الصحيح على جميع الأصعدة ، وهذه أقصر وأجمع عبارة عن الإسلام ورسالته الخالدة ، إذا سأل أحد عن أهداف الإسلام ، وما يمكن أن يقدمه ، فنقول جملة قصيرة : إنّ هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة ، هذا ما يقدمه لنا الإسلام.

ترى هل كان الناس موتى قبل بزوغ الإسلام ونزول القرآن ليدعوهم القرآن إلى الحياة ...؟

وجواب هذا التساؤل : نعم ، فقد كانوا موتى وفاقدي الحياة بمعناها القرآني ، لأنّ الحياة ذات مراحل مختلفة أشار إلى جميعها القرآن الكريم.

فتارة تأتي بمعنى (الحياة النباتية) كما يقول القرآن :( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) (1) .

وتارة تأتي بمعنى (الحياة الحيوانية) مثل :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) (2) .

وتارة بمعنى (الحياة الفكرية والعقلية) مثل :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) (3) وتارة بمعنى «الحياة الخالدة في العالم الآخر) مثل :( يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) (4) .

وتارة بمعنى (العالم والقادر بلا حد ولا نهاية) كما نقول عن الله :( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

وبالنظر إلى هذه الأقسام التي ذكرناها نعرف أنّ الناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية ، وكانوا بعيدين عن الحياة الإنسانية والمعنوية والعقلية ، فجاء القرآن ليدعوهم إلى الحياة.

__________________

(1) الحديد ، 17.

(2) فصلت ، 39.

(3) الأنعام ، 22.

(4) الفجر ، 24.

٣٩٥

ومن هنا نعلم أنّ من يضع الدين في قوالب جامدة لا روح فيها بعيدا عن مجالات الحياة ، ويختزله في مسائل فكرية واجتماعية صرفة فقد جانب الصواب كثيرا ، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة ، ويحيي الفكر والثقافة والإحساس بالمسؤولية ، ويوجد التكامل والرّقي والوحدة والتألف ، فهو إذا يبعث الحياة في البشرية بكل معنى الكلمة.

وبذلك تتّضح هذه الحقيقة أيضا وهي أن الذين فسّروا الآية بمعنى واحد هو الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة ، واعتبروا كل واحد من هذه الأمور هو العامل الوحيد للحياة في الآية المباركة ، هؤلاء في الحقيقة حددوا مفهوم الآية ، لأنّه يشتمل على كل ذلك وأكثر حيث يندرج ، ـ ضمن مفهوم الآية ـ كل شيء ، وكل فكر ، وكل قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة.

ثمّ يقول تعالى :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

إنّ المقصود بالقلب هنا ـ كما ذكرنا سابقا ـ الروح والعقل ، أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة فتارة قيل : إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده ، فكأنّ الله في داخل روح العبد وجسمه ، وكما يقول القرآن الكريم :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

وقيل : إشارة إلى أنّ تقلب القلوب والأفكار هو بيد الله ، كما نقرأ في الدعاء : (يا مقلب القلوب والأبصار).

وقيل : إنّ المقصود هو أنّ الإنسان لولا اللطف الإلهي غير قادر على معرفة الحق من الباطل.

وقيل أيضا : إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة فينبغي عليهم أداء الطاعات وأعمال الخير ، لأنّ الله قد يحول بواسطة الموت بين المرء وقلبه.

ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد ، هو أنّ اللهعزوجل حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة

٣٩٦

والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة ، كلّها بيديه وتحت قدرته ، فلا يمكن للإنسان كتمان أمر ما عنه ، أو أن يعمل أمرا بدون توفيقه ، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإنسان. وارتباط هذه الجمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس إلى الحياة ، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شي.

وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول : إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب ، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر ، فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك.

ثمّ تشير إلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إلى الحياة فتقول :( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) .

وكلمة (فتنة) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة ، فقد جاءت تارة بمعنى الإختيار والامتحان ، وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة ، وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه ، ثمّ استعملت بمعنى الإختيارات التي تكشف الصفات الباطنية للإنسان ، واستحدثت في الابتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإنسان ويطهّره من شوائب الذنوب ، وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة (فتنة) بمعنى البلاء والمصائب الاجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس.

وفي الحقيقة فشأن الحوادث الاجتماعية هو هكذا ، فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته ، وانهارت القوانين على أثر ذلك ، وانعدم الأمن ، فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار ، وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسئولين عن أداء وظائفهم ، وكذلك

٣٩٧

فهم مسئولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضا ، لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إلى انهياره ، ويتضرر بذلك الجميع ، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنّني أؤدي رسالتي الاجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم ، لأنّ آثار القضايا الاجتماعية ليست فردية ولا شخصية.

وهذا الموضوع يشبه تماما ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إلى مائة ألف مقاتل ، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو ، وهذا الانكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الاجتماعية.

ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي : أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسئولون في التصدّي للأشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (إنّ اللهعزوجل لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة)(1) .

ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإلهي في الدنيا والآخرة ، وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية(2) .

وتختتم الآية بلغة التهديد فتقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإلهية وينسوا شدّة الجزاء الإلهي ، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب ، كما أحاطت المجتمع الإسلامي ،

__________________

(1) تفسير المنار ، الجزء 9 ، ص 638.

(2) فقد جرى الحديث بين المفسّرين حول كلمة «لا تصيبنّ» في أنّها هل هي صيغة نفي أو نهي ، فالذين قالوا بالنهي وفسّروها بمعنى اتّقوا الفتن لأنّها لا تصيب الظالمين وحدهم ، وقال بعض : إنّها صيغة نفي ولكن لما يعتقده علماء العربية بأنّ نون التوكيد لا تظهر في النهي وجواب القسم ، فقد اعتبروا الجملة جوابا لقسم مقدر.

٣٩٨

وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإلهية.

فنظرة قصيرة إلى مجتمعنا الإسلامي في زماننا الحاضر والانكسارات التي أصابته أمام أعدائه ، والفتن الكثيرة ، كالاستعمار والصهيونية ، والإلحاد والمادية ، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد ، والتخلف العلمي ، كل ذلك يجسد مضمون الآية ، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير ، وكل عالم وجاهل ، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الاجتماعية للمسلمين ، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويأخذ القرآن الكريم مرّة أخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم ، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول :( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) .

وهذه عبارة لطيفة تشير إلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن ، وكأنّهم كانوا شيئا صغيرا معلقا في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أردوا ، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم :( فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

* * *

٣٩٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) )

سبب النّزول

لقد وردت عدّة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين ، منها ما ورد عن الإمامين الباقر والصّادقعليهما‌السلام من أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بمحاصرة يهود (بني قريضة) واستمرت هذه المحاصرة واحدا وعشرين يوما ، حتى أجبروا على المطالبة بالصلح ، كما جرى ذلك مع اليهود من (بني النضير) وذلك بأن يرحلوا عن أرض المدينة إلى أرض الشام ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفض ذلك العرض (لعلّه كان يشك في صدق نيّاتهم) وقال : يجب القبول بحكم (سعد بن معاذ) لكنّهم طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرسل إليهم (أبا لبابة) وهو من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، وكانت له معهم صداقة قديمة ، وكانت عائلته وأبناؤه وأمواله عندهم.

فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الطلب وأرسل (أبا لبابة) إليهم فاستشاروه : هل من مصلحتهم القبول بتحكيم (سعد بن معاذ)؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، بمعنى أنّكم

٤٠٠