الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 207429
تحميل: 3646


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207429 / تحميل: 3646
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

وإجابته ، وهي باختصار كالتالي :

1 ـ أن يكون الدعاء عن تضرّع وخفية.

2 ـ أن لا يتجاوز حدّ الاعتدال.

3 ـ أن لا يكون مقرونا بالإفساد والمعصية.

4 ـ أن يكون مقرونا بالخوف والأصل المعتدلين.

5 ـ أن يكون مقرونا بالبرّ والإحسان ، وفعل الخيرات.

* * *

٨١

الآيتان

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) )

التّفسير

لا بد من المربي والقابليّة :

في الآيات الماضية مرّت إشارات عديدة إلى مسألة «المبدأ» أي التوحيد ومعرفة الله ، من خلال الوقوف على أسرار الكون ، وفي هذه الآيات ضمن بيان طائفة من النعم الإلهية وردت الإشارة إلى مسألة «المعاد» والبعث ، ليكمل هذان البحثان أحدهما الآخر.

وهذه هي سيرة القرآن الكريم ودأبه في كثير من الموارد ، حيث يقرن بين «المبدأ» و «المعاد» ، والملفت للنظر أنّه يستعين لمعرفة الله ، وكذا لتوجيه الأنظار إلى أمر المعاد معا بالاستدلال بالأسرار الكامنة في خلق موجودات هذا العالم.

٨٢

فيقول تعالى أولا :( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) .

ثمّ يقول : إنّ هذه الرياح التي تهب من المحيطات تحمل معها سحبا ثقيلة مشبّعة بالماء( حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً ) .

ثمّ يسوق تلك السحب إلى الأراضي الظامئة اليابسة ، ويكلفها بأن تروي تلك العطاشي( سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) .

وبذلك ينهمر ماء الحياة في كل مكان( فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ) . وبمعونة هذا الماء نخرج للبشر أنواعا متنوعة من الثمار والفواكة( فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

نعم ، إنّ الشمس تسطع على المحيطات والبحار ، فيتبخر الماء ويتصاعد البخار إلى الأعلى ، وهناك في الطبقات العالية الباردة من الجو يتراكم البخار ويشكل كتلا ثقيلة من السحب ، ثمّ تحمل الرياح كتل السحاب العظيمة على ظهرها ، وتتوجه إلى الأراضي التي كلفت بسقيها ، فتجري بعض هذه الرياح قدام كتل السحاب ، وتكون مزيجة بشيء. من الرطوبة الخفيفة ، فتحدث نسيما مريحا تستشم منه رائحة المطر اللذيذة الباعثة للحياة والنشاط.

إنّها ـ في الحقيقة ـ المبشرات بنزول المطر ، ثمّ ترسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها ، لكنّها ليست بالكبيرة جدّا فتتلف الزروع والأراضي ، ولا بالصغيرة جدّا فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض ، ثمّ تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء ، وتنفذ في ترابها شيئا فشيئا ، فتنبت البذور والحبات. وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف ، والتي كانت أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة ، إلى مركز فعّال نابض بالحياة والحركة ، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والثمار.

ثمّ عقيب ذلك يضيف فورا( كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى ) ونلبسهم حلّة الوجود والحياة مرّة أخرى.

ولقد أتينا بهذا المثال لأجل أن نريكم أنموذجا من المعاد في هذه الدنيا ،

٨٣

الذي يتكرر أمام عيونكم كل يوم( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

وفي الآية اللاحقة ـ وحتى لا يظن أحد أن نزول المطر على نمط واحد يدل على أنّ جميع الأراضي تصير حيّة على نمط واحدا أيضا ، وحتى يتّضح أنّ القابليات والاستعدادات متفاوته تسبّبت في أن تتفاوت حالات الاستفادة والانتفاع بالمواهب الإلهية يقول :( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي أنّ الأرض الصالحة هي التي تستفيد من المطر ، وتثمر خير إثمار بإذن ربّها.

أمّا الأراضي السبخة والخبيثة فلا تثمر إلّا بعض الأعشاب غير النافعة( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) (1) .

هكذا يكون الأمر بالبعث ، وإن كان سببا لعودة الحياة إلى جميع افراد البشر ، إلّا أنّ جميع الناس لا يحشرون على نمط واحد وهيئة واحدة ، إنّهم مختلفون متفاوتون في ذلك مثل تفاوت الأرض الحلوة ، والأرض المالحة ، نعم يتفاوتون ، ويكون هذا التفاوت ناشئا من الأعمال والعقائد والنيات.

ثمّ في ختام الآية يقول تعالى : إنّ هذه الآيات نبيّنها لمن يشكرونها ، ويستفيدون من عبرها ومداليلها ، ويسلكون في ضوئها سبيل الهداية( كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) .

إن الآية الحاضرة ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى مسألة مهمّة تتجلى في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى في كل مكان ، وهي أنّ فاعلية الفاعل وحدها لا تكفي للإثمار والإنتاج الصحيح المطلوب ، بل لا بدّ من «قابلية القابل» فهي شرط للتأثير والإثمار. فإنّه ليس هناك شيء ألطف وأكثر بعثا للحياة والنشاط من حبات المطر ، ولكن هذا المطر نفسه الذي لا شك في لطافة طبعه ، يورق ويورد في مكان ، وينبت الشوك والحنظل في مكان آخر.

* * *

__________________

(1) النّكد : هو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة ، ولو أنّه أعطى لأعطى الشيء اليسير الحقير. ولقد شبهت الأراضي المالحة السبخة غير المساعدة للزرع بمثل هذا الشخص.

٨٤

الآيات

( لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) )

التّفسير

رسالة نوح أوّل الرّسل من أولي العزم :

تقدم أنّ هذه السورة ـ بعد ذكر سلسلة من القضايا الجوهرية والعامّة في صعيد معرفة الله والمعاد والهداية الإلهية للبشر ، ومسألة الشعور بالمسؤولية ـ

٨٥

تشير إلى قصص ثلة من الأنبياء الكرام والرسل العظام مثل «نوح» و «هود» و «صالح» و «شعيب» وبالتالي «موسى بن عمران»عليهم‌السلام أجمعين ، كي تقدم أمثلة حية لهذه الأبحاث وبصورة عملية في ثنايا تاريخهم الحافل بالحوادث والعبر.

فيبدأ سبحانه من قصة نوح النّبي ، ويستعرض قسما من حواراته مع قومه الوثنيين المعاندين.

وقد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة ، مثل سورة هود ، الأنبياء ، والمؤمنون ، الشعراء ، كما أنّ هناك سورة قصيرة في القرآن الكريم باسم «سورة نوح» وهي السورة الحادية والسبعون من سور الكتاب العزيز.

وسوف يأتي شرح ودراسة جهود هذا النّبي العظيم ، وكيفية صنعه للسفينة ، والطوفان الرهيب ، وغرق قومه الأنانيين الفاسدين والوثنيين بإسهاب في السور المذكورة ، وهنا أكتفي ـ فقط ـ بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي :

يقول أوّلا :( لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ) .

إنّ أوّل شيء ذكّرهم به هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد ، ونفي أي نوع من أنواع الوثنية( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

إنّ شعار التوحيد ليس شعار نوح وحده ، بل هو أوّل شعار عند جميع الأنبياء والمرسلين الإلهين ، ولهذا يشاهد في آيات متعددة من هذه السورة ـ وغيرها من السور القرآنية ـ أنّ أوّل ما يفتتح أكثر الأنبياء دعواتهم به هو هذا الشعار :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (راجع الآيات 65 ، و 73 و 85 من نفس هذه السورة).

من هذه العبارات يستفاد جيدا أنّ الوثنية كانت أسوأ مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء ، وأنّ حملة غصون التوحيد هؤلاء كانوا أوّل ما يفعلونه لغرس هذه الغصون في مزرعة الحياة البشرية وتربية أنواع الورود الزاهية والأشجار المثمرة فيها ، هو أنّهم يشمرون عن ساعد الجدّ ليطهروا الحياة البشرية بمنجل

٨٦

تعاليمهم البناءة من الأشواك ، أشواك الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.

ويستفاد من الآية (23) في سورة نوح خاصّة أنّ الناس في زمن النّبي نوحعليه‌السلام كانوا يعبدون أصناما متعددة تدعى «ودّ» و «سواع» و «يغوث» و «يعوق» و «نسر» ، التي سيأتي الحديث عنها عند تفسير تلك الآية بإذن الله.

وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية ، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال :( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

والمراد من( عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح ، الذي قلّما شوهد مثله في العقوبات في العظمة والسعة ، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة ، لأنّ هذا التعبير قد ورد في معنيين من القرآن الكريم. فإنّنا نقرأ في سورة الشعراء الآية (189) :( فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الآية وردت حول العقوبة التي نزلت بقوم شعيب في هذه الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم ، ونقرأ في سورة المطففين الآية (5) :( أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1) .

إنّ عبارة «أخاف» (أي أخشى أن تصيبكم هذه العقوبة ، بعد ذكر مسألة الشرك في الآية المبحوثة ، يمكن أن تكون لأجل أن نوحا يريد أن يقول لهم : إذا لم تتيقنوا وقوع هذه العقوبة ، فعلى الأقل ينبغي أن تخافوا منها ، ولهذا لا يجيز العقل أن تسلكوا ـ مع هذا الاحتمال ـ هذا السبيل الوعر ، وتستقبلوا عذابا عظيما أليما كهذا.

ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النّبي العظيم الإصلاحية ، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم ، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد ، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على

__________________

(1) كلمة عظيم في الآية أعلاه صفة «ليوم» لا للعذاب.

٨٧

مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم ، ويرون الدين مانعا من عبثهم ومجونهم وشهواتهم ، قالوا لنوح بكل صراحة وقحة : نحن نراك في ضلال واضح( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

و «الملأ» تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة ، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين ، لأن مادة «الملأ» أصلا من «الملء» ، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوضاد والشرور ، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم.

ولقد جابه نوحعليه‌السلام تعنتهم وخشونتهم بلحن هادئ ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة ، فقال في معرض الردّ عليهم : أنا لست بضال ، بل ليست في أية علامة للضلال ، ولكنّي مرسل من الله( قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ الأرباب التي تعبدوها وتفترضون لكل واحد منها مجالا للسيادة والحاكمية ، مثل إله البحر ، إله السماء ، إله السلام والحرب ، وما شاكل ذلك ، كله لا أساس لها من الصحة ، ورب العالمين ما هو إلّا الله الواحد الذي خلقها جميعا وأوجدها من العدم.

ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ) . ولن آلو جهدا في تقديم النصح لكم ، وقصد نفعكم ، وإيصال الخير إليكم( وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) .

«أنصح» من مادة «نصح» يعني الخلوص والغلو عن الغش وعن الشيء الدخيل ، لهذا يقال للعسل الخالص : ناصح العسل ، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية ، وبقصد الخير ، ومن دون خداع ومكر.

ثمّ أضاف تعالى( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

٨٨

إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم ومخالفتهم ، وكأنّه يريد أن يقول : أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون شيئا عنها ، أو تكون إشارة إلى لطف الله ورحمته ، وتعني أنّكم إذا أطعتم الله ، وكففتم عن تعنتكم ، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحدّ الآن على سعتها. أو تكون إشارة إلى أنّني إذا كنت قد كلفت بهدايتكم فإنّني أعلم أمورا عن الله العظيم وعن أوامره لا تعرفونها ، ولهذا يجب أن تطيعوني وتتبعوني. ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة ومجتمعة في مفهوم الجملة الحاضرة.

وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاما آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية ، إذ قال :( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ، وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

يعني : أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الاستغراب والتعجب ، لأنّ الإنسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافا إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر ، لا الملائكة ولا غيرهم.

ولكن بدل أن يقبلوا بدعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي كذبه الجميع ، فأرسل الله عليهم طوفانا فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) .

وفي خاتمة الآية بين دليل هذه العقوبة الصعبة ، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق ، وأتباعه( إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

وهذا العمى القلبي كان نتيجة أعمالهم السيئة وعنادهم المستمر ، لأنّ

__________________

(1) «عمين» جمع عمي ، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية ، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري ، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضا (وعمي حينما يدخل عليها الإعراب تتبدل إلى عم).

٨٩

التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا بقي في الظلام مدة طويلة ، أو أغمض عينيه لسبب من الأسباب وامتنع عن النظر مدة من الزمن ، فإنّه سيفقد قدرته على الرؤية تدريجا وسيصاب بالعمى في النهاية.

وهكذا سائر أعضاء البدن إذا تركت الفعالية والعمل مدّة من الزمن يبست وتعطلت عن العمل نهائيا.

وبصيرة الإنسان هي الأخرى غير مستثناة عن هذا القانون ، فالتغاضي المستمر عن الحقائق ، وعدم استخدام العقل والتفكير في فهم الحقائق والواقعيات بصورة مستمرة ، يضعف بصيرة الإنسان تدريجا إلى أن تعمى عين القلب والعقل في النهاية تماما.

هذه لمحة عن قصة نوح ، وأمّا بقية هذه القصّة وكيفية وقوع الطوفان وتفاصيلها الأخرى ، فسوف نشير إليها في السور التي أشرنا إليها في مطلع هذا البحث.

* * *

٩٠

الآيات

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) )

٩١

التّفسير

لمحة عن قصّة قوم هود :

عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها ، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصّة نبي آخر من الأنبياء العظام ، وهو النّبي هودعليه‌السلام ، وذكر ما جرى بينه وبين قومه.

وهذه القصّة ذكرت في سور أخرى من القرآن الكريم مثل سورة «الشعراء» وسورة «هود» التي تناولت هذه القصّة بشيء من التفصيل ، وأمّا في الآيات الحاضرة فقد ذكر شيء مختصر عمّا دار بين هود والمعارضين له ونهايتهم.

يقول تعالى أوّلا : ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) .

وقوم «عاد» كانوا أمّة تعيش في أرض «اليمن» وكانت أمّة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي ، ولكنّها كانت متخمة بالانحرافات الاعتقادية وبخاصّة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.

وقد كلّف «هود» الذي كان منهم ـ وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى ـ من جانب الله بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد ، ولعل التعبير بـ «أخاهم» إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.

ثمّ إنّه يحمل أيضا أن يكون التعبير بـ «الأخ» في شأن النّبي هود ، وكذا في شأن عدّة أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوحعليه‌السلام (سورة الشعراء الآية 106) وصالح (سورة الشعراء الآية 142) ولوط (سورة الشعراء الآية 161) وشعيب (سورة الأعراف الآية 85) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة ، والمحبّة مثل أخ حميم ، ولا يألون جهدا في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.

٩٢

إنّ هذه الكلمة تستعمل في من يعطف على أحد أو جماعة غاية العطف ، ويتحرق لهم غاية التحرق ، مضافا إلى أنّها تحكي عن نوع من التساوي ونفي أي رغبة في التفوق والزعامة ، يعني أن رسل الله لا يحملون في نفوسهم أية دوافع شخصية في صعيد هدايتهم ، إنما يجاهدون فقط لانقاد شعوبهم وأقوامهم من ورطة الشقاء.

وعلى كل حال ، فإنّ من الواضح والبيّن أنّ التعبير بـ «أخاهم» ليس إشارة إلى الأخوة الدينية مطلقا ، لأنّ هؤلاء الأقوام لم تستجب ـ في الأغلب ـ لدعوة أنبيائها الإصلاحية.

ثمّ يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية :( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .

ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة ، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم ، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة «الملأ» باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون ، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوحعليه‌السلام ( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

«السفاهة» وخفة العقل كانت تعني في نظرهم أن ينهض أحد ضد تقاليد بيئته مهما كانت تلكم التقاليد خاوية باطلة ، ويخاطر حتى بحياته في هذا السبيل.

لقد كانت السفاهة في نظرهم ومنطقهم هي أن لا يوافق المرء على تقاليد مجتمعه وسننه البالية ، بل يثور على تلك السنن والتقاليد ، ويستقبل برحابة صدر كل ما تخبئه له تلك الثورة والمجابهة.

ولكن هودا ـ وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون ـ من دون أن ينتابه غضب ، أو تعتريه حالة يأس( قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

ثمّ إنّ هودا أضاف : إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات الله إليهم ، وإرشادهم إلى ما

٩٣

فيه سعادتهم وخيرهم ، وانقادهم من ورطة الشرك والفساد ، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) .

ثمّ إنّ هودا أشار ـ في معرض الرّد على من تعجب من أن يبعث الله بشرا رسولا ـ إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه :( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّا ، ليحذركم من مغبة أعمالكم ، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟

ثمّ إنّه استثارة لعواطفهم الغافية ، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم ، ذكر قسما من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم ، فقال :( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) ، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.

ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة ، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة( وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ) .

إنّ جملة( زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ) يمكن أن تكون ـ كما ذكرنا ـ إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة ، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة ، وكذا من التواريخ ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظيمة قوية وكبيرة ، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة «فصلت» الآية 15( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) وفي الآية (7) من سورة الحاقة نقرأ ـ عند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم ـ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.

ويمكن أن تكون إشارة ـ أيضا ـ إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية ، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة ، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أخرى ، ولكن الاحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.

وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ

٩٤

فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره ، علّهم يفلحون( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية ، والتذكير بنعم الله ومواهبه ، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر ، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم ، انبرت إلى المعارضة ، وقالوا بصراحة ، : إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهرا طويلا ، كلّا ، لا يمكن هذا بحال( قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) ؟

لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطا جدّا ـ كما تلاحظ ـ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده ، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرة من مفاخرهم.

والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلّا التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف ، وإلّا فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!

وفي النهاية ، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماما ، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا : إذا كان حقا وواقعا ما تنذرنا به من العذاب ، فلتبادر به ، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبدا( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

وعند ما بلغ الحوار إلى هذه النقطة ، وأطلق أولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود ، وأيس هود ـ هو الآخر ـ من هدايتهم تماما ، قال : إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم( قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) .

و «الرّجس» في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر ، ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع ، فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز

٩٥

والقرف ، ولهذا يطلق على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ «الرجس» لأنّ جميع هذه الأمور توجب نفور الإنسان ، وابتعاده.

وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإلهية ، ويكون ذكرها مع جملة «قد وقع» التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتما وقطعا ، وأن العذاب سيحل بكم لا محالة.

كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح ، يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الانحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت أوزار كثيفة من النجاسات ، وبذلك استوجبتم غضب الله ، وشملكم سخطه.

ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الأوثان من دون ردّ أضاف قائلا :( أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) فهذه براء ، وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله.

وفي الحقيقة ، أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلّا أسماء من دون مسمّيات ، وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم ، وإلّا فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات.

ثمّ قال : فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعا ، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم ، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم ، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الانتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) .

وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة :( فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ ) أجل ، لقد أنجى الله هودا ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته ، وأمّا

٩٦

الذين كذبوا بآيات الله ، ورفضوا الانضواء تحت لواء دعوته ، والانصياع للحق ، فقد أبيدوا نهائيا.

و «دابر» في اللغة بمعنى آخر الشيء ومؤخرته ، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية : أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.

(وسوف نبحث بالتفصيل حول قوم عاد وبقية خصوصيات حياتهم وكيفية عقوبة الله لهم والعذاب الذي نزل وحلّ بهم عند تفسير سورة هود بإذن الله).

* * *

٩٧

الآيات

( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) )

٩٨

التّفسير

قصة قوم صالح وما فيها من عبر

في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام «صالح» النّبي الإلهي العظيم في قومه «ثمود» الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود.

وقد أشير إلى هذا القصة أيضا في سورة : «هود» و «الشعراء» و «القمر» و «الشمس» وجاءت بصورة أكثر تفصيلا في سورة «هود» أمّا هذه الآيات فقد أوردت ما دار بين صالحعليه‌السلام وقومه قوم ثمود ، وعن مصيرهم ، وعاقبة أمرهم بصورة مختصرة.

فيقول تعالى في البداية :( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) .

وقد مر بيان العلة في إطلاق لفظة «الأخ» على الأنبياء عند تفسير الآية (65) من نفس هذه السورة في قصة هود.

ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيّهم صالح في سبيل هدايتهم ، هي الدعوة إلى التوحيد ، وعبادة الله الواحد( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

ثمّ أضاف : إنّه لا يقول شيئا من دون حجة أو دليل ، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربّهم( قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ) .

و «النّاقة» أنثى الإبل ، وقد أشير إلى ناقة صالح في سبعة مواضع من القرآن الكريم(1) .

وأمّا حقيقة هذه الناقة ، وكيف كانت معجزة صالح الساطعة ، وآيته المفحمة لقومه ، فذلك ما سنبحثه في سورة هود ، في ذيل الآيات المرتبطة بقوم ثمود بإذن الله.

__________________

(1) قال الطبرسي في المجمع : الناقة أصلها من التوطئة والتذليل بعير منوق أي مذلل موطأ ، ولعل إطلاقها على أثنى الإبل لكونها أكثر ذلولا للامتطاء والركوب.

٩٩

على أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ إضافة «الناقة» إلى «الله» في الآيات الحاضرة من قبيل الإضافة التشريفية ـ كما هو المصطلح ـ فهي إشارة إلى أنّ هذه الناقة المذكورة لم تكن ناقة عادية ، بل كانت لها ميزات خاصّة.

ثمّ إنّه يقول لهم : اتركوا الناقة تأكل في أرض الله ولا تمنعوها( فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وإضافة الأرض إلى «الله» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لا تزاحم أحدا ، فهي تعلف من علف الصحراء فقط ، ولهذا يجب أن لا يزاحموها.

ثمّ يقول في الآية اللاحقة( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي من جانب لا تنسوا نعم الله الكثيرة ، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب الله بذنوبهم وهلكوا.

ثمّ ركز على بعض النعم الإلهية كالأرض فقال :( تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً ،وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً ) ، فالأرض قد خلقت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة ، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.

ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء ، ففي فصل الربيع والصيف كانوا يعمدون إلى الزراعة والرعي في السهول الواسعة والخصبة ، ولهذا كانت عندهم قصور جميلة في السهول ، وعند حلول فصل البرد والانتهاء من الحصاد يسكنون في بيوت قوية منحوتة في قلب الصخور ، وفي أماكن آمنة تحفظهم من خطر السيول والعواصف والاخطار.

وفي ختام الآية يقول تعالى :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

١٠٠