الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 211251
تحميل: 3570


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211251 / تحميل: 3570
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

بقاء وحياة الأمّة الإسلامية ، وإن تركه وحيدا لا يعرض حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخطر فحسب ، بل يعرّض دين الله ، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضا أمام الخطر الجدي.

إنّ القرآن ـ في الواقع ـ يرغّب كل المؤمنين بملازمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير العاطفي ، فهو يقول : إنّ أرواحكم ليست بأعزّ من روح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياتكم ليست بأفضل من حياته ، فهل يسمح لكم إيمانكم أن تدعو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه الخطر وهو أفضل وأعز موجود إنساني ، وقد بعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون التضحية في سبيله حفاظا على أرواحكم وسلامتكم؟!

من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإسلام يومئذ ومركزه المشع ، وإلّا فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها ، وغير مختص بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ واجب كل المسلمين ، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم ، بل أكثر ، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم ، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم ، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأمّة جميعا.

ثمّ تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) ، ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله

٢٦١

سبحانه ، واحدة بواحدة ، ف( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) . وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئا في امر الجهاد :

( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) ولا يقطعون أرضا في ذهابهم للوصول إلى ميدان القتال ، أو عند رجوعهم منه إلّا ثبت كل ذلك في كتبهم :

( وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ) وإنّما يثبت ذلك( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهنا يجب الانتباه لمسائل :

1 ـ إنّ جملة( لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ) قد فسّرها أغلب المفسّرين كما ذكر أعلاه، وقالوا : إنّ المقصود هو أن المجاهدين في سبيل الله لا يتلقون ضربة من قبل العدو ، سواء جرحوا بها أو قتلوا أو أسروا وأمثال ذلك ، إلّا وتسجّل في صحائف أعمالهم ليجزوا عليها ، ومقابل كل تعب وصعوبة ما يناسبها من الأجر ، ومن الطبيعي أننا إذا لا حظنا أنّ الآية في مقام ذكر المصاعب وحسابها ، فإن ذلك ممّا يناسب هذا المعنى.

إلّا أنّنا إذا أردنا أن نفسر هذه العبارة بملاحظة ترتيب الفقرات وموقع هذه الجملة منها ، وما يناسبها لغويا ، فإنّ معنى الجملة يكون : إنّهم لا ينزلون بالعدو ضربة إلّا كتبت لهم ، لأنّ معنى نال من عدوه في اللغة : ضربه ، إلّا أن النظر إلى مجموع الآية يرجح التّفسير الأوّل.

2 ـ ذكر المفسّرون تفسيرين لجملة :( أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) : أحدهما على أساس أن كلمة (أحسن) وصف لأفعالهم ، والآخر على أنّها وصف لجزائهم.

فعلى التّفسير الأوّل وهو ما اخترناه ، وهو الأوفق لظاهر الآية ـ فأنّ أعمال المجاهدين هذه قد اعتبرت وعرّفت بأنّها أحسن أعمالهم في حياتهم ، وأنّ الله سبحانه سيعطيهم من الجزاء ما يناسب أعمالهم.

وعلى التّفسير الثّاني الذي يحتاج إلى تقدير كلمة (من) بعد كلمة (أحسن) فإنّها

٢٦٢

تعني إن جزاء الله أفضل وأثمن من أعمالهم ، وتقدير الجملة : ليجزيهم الله أحسن ممّا كانوا يعملون ، أي سيعطيهم الله أفضل ممّا أعطوا.

3 ـ إنّ الآيات المذكورة لا تختص بمسلمي الأمس ، بل هي للأمس واليوم ولكل القرون والأزمنة.

ولا شك أنّ الاشتراك في أي نوع من الجهاد ، صغيرا كان أم كبيرا ، يستبطن مواجهة المصاعب والمشاكل المختلفة ، الجسمية منها والروحية والمالية وأمثالها ، إلّا أن المجاهدين أناروا قلوبهم وأرواحهم بالإيمان بالله ووعوده الكبيرة. وعلموا أن كل نفس وكلمة وخطوة يخطونها في هذا السبيل لا تذهب سدى ، بل إنّها محفوظة بكل دقة دون زيادة أو نقصان ، وإنّ الله سبحانه سيعطيهم في مقابل هذه الأعمال ـ باعتبارها أفضل الأعمال ـ من بحر لطفه اللامتناهي أنسب المكافئات وأليقها ...إنّهم إذا عاشوا هذا الإحساس فسوف لا يمتنعون مطلقا من تحمل هذه المصاعب مهما عظمت وثقلت ، وسوف لا يدعون للضعف طريقا إلى أنفسهم مهما كان الجهاد مريرا ومليئا بالحوادث والعقبات.

* * *

٢٦٣

الآية

( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) )

سبب النّزول

روي الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سار إلى ميدان القتال ، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين ، إلّا أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين ، وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إلى ميادين الحرب ، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد ، ويدعون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسلمين إلى الجهاد ، بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإسلامية وأحكام الدين من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال.

وقد نقل هذا المفسّر الكبير سببا آخر للنّزول بهذا المضمون أيضا ، وهو أنّ

٢٦٤

جماعة من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتشروا بين القبائل يدعونهم إلى الإسلام ، فرحبّوا بهم وأحسنوا إليهم ، إلّا أنّ بعضهم قد لا مهم على تركهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوجه إليهم ، وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إلى الإسلام، وأزالت قلقهم.

وروي سبب ثالث للنزول في تفسير «التبيان» ، وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعا نحو المدينة لتعلم الأحكام الإسلامية ، فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية، وإيجاد مشاكل ومشاغل أخرى لمسلمي المدينة ، فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لا يجب توجههم جميعا إلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها ، بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم.

التّفسير

محاربة الجهل وجهاد العدو :

إنّ لهذه الآية ارتباطا بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد ، وتشير إلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين ، وهي : أنّ الجهاد وإن كان عظيم الأهمية ، والتخلف عنه ذنب وعار ، إلّا أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إلى ساحات الجهاد ، خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد :( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) .

فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإسلامية ، ويحذرونهم من مخالفتها :( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بإنذارهم( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

* * *

٢٦٥

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها :

1 ـ إنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إضافة إلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف ، فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر ، إلّا أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة «لتبقى طائفة» بعد «من كل طائفة» أي : لتذهب طائفة من كل فرقة ، وتبقى طائفة أخرى ، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إشكالا. (فتأمل بدقة).

إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية ، والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي ، ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإسلام وتعاليمه ، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء ، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين ، وإذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإخوانهم ما جرى(1) .

والاحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين. وهو أنّ الآية تبيّن حكما مستقلا عن مباحث الجهاد ، وهو أنّه يجب على المسلمين واجبا كفائيا أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإسلامية ، ويذهبوا إلى معاهد العلم الإسلامية الكبيرة ، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين(2) .

ولكن التّفسير الأوّل كما تقدم ـ أقرب إلى مفهوم الآية ، وإن كانت إرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد(3) .

2 ـ لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة ، إذ

__________________

(1) اختار الطبري هذا الرأي ، نقل ذلك القرطبي في تفسيره ، وذكره جماعة من المفسّرين في ذيل الآية كاحتمال.

(2) هذا التّفسير يناسب سبب النزول الذي أورده المرحوم الشيخ الطوسي في التبيان.

(3) نلفت انتباهكم إلى أنّنا نعتبر استعمال كلمة واحدة في عدّة معان أمرا جائزا.

٢٦٦

الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إلى ساحات الجهاد ، ووبخت المتخلفين بشدة ، أمّا هذه الآية فتقول. أنّه لا ينبغي للجميع ان يتوجهوا إلى ميدان الحرب.

ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة ، فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إمبراطورية الروم لمحاربة الإسلام والقضاء عليه. أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إلى الحرب ، خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّه يجب عليهم أن لا يخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة ، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإسلامية.

وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات ، وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض.

3 ـ لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإسلامية ، وهي أعم من الأصول والفروع ، لأنّ كل هذه الأمور قد جمعت في مفهوم التفقه ، وعلى هذا ، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوبا كفائيا على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإسلامية ، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إلى مختلف البلدان ، وخصوصا بلدانهم وأقوامهم ، ويعلمونهم مختلف المسائل الإسلامية.

وبناء على ذلك ، فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإسلامية ، وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معا ، وإذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإجباري ، فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرنا هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين.

4 ـ استدل جماعة من علماء الإسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد ، لأنّ التقليد إنّما هو تعلم العلوم الإسلامية وإيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين ،

٢٦٧

ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين ، بل تشمل حتى المسائل الأصولية ، وتتضمن الفروع أيضا على كل حال.

الإشكال الوحيد الذي يثار هنا ، هو أنّ الاجتهاد والتقليد لم يكن موجودا في ذلك اليوم ، والأشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإرسال في يومنا هذا ، لا حكم المجتهدين ، أي إنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إبداء أي رأي أو وجهة نظر.

ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للاجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإشكال.

وتوضيح ذلك : إن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم ، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط ، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء ، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل ما لم يسمعوا حكمها بالذات من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّها كانت موجودة في عمومات وإطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعا يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات ـ وفي الاصطلاح العلمي : رد الفروع إلى الأصول ورد الأصول على الفروع ـ لمعرفة حكم هذه المسائل ، وكان هذا بحد ذاته نوعا من الاجتهاد البسيط.

إنّ هذا العمل وأمثاله كان موجودا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للاجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعا بهذه الدرجة.

ولما كان لهذه الآية مفهوما عاما ، فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي

٢٦٨

الأحكام ، كما تشمل قبول قول المجتهدين ، وعلى هذا ، فيمكن الاستدلال بعموم الآية على جواز التقليد.

5 ـ المسألة المهمّة الأخرى التي يمكن استخلاصها من الآية ، هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم ، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعا إلى ميدان الحرب ، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.

إنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء ، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إن المسلمين ما لم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع ، فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء ، (لأنّ الأمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائما).

أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثا جميلا ، وقال : كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ـ فقال لي مرّة : لماذا تستثنى الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ يعرّض بي ـ أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة : بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم ، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعا(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 11 ، ص 78.

٢٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) )

التّفسير

قتال الأقرب فالأقرب :

أشارت الآية في سياق احكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة ـ إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم ، فوجهت الخطاب أوّلا إلى المؤمنين وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) .

صحيح أنّه تجب محاربة الكفار جميعا ، ولا فرق بينهم في ذلك ، إلّا أنّه من الوجهة التكتيكية وطريقة القتال يجب البدء بالعدو الأقرب ، لأنّ خطر العدوّ القريب أكبر ، كما أنّ الدعوة للإسلام وهداية الناس إلى دين الحق يجب أن تبدأ من الأقرب ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بدأ بأمر الله سبحانه بدعوة أقاربه وعشيرته ، ثمّ دعا أهل مكّة. ثمّ جزيرة العرب وقام بإرسال الرسل إليها ، وبعدها كتب الرسائل إلى ملوك العالم ، ولا شك أن هذا الأسلوب هو الأقرب للنجاح والوصول إلى الهدف.

ومن الطبيعي أن لكل قانون استثناء ، فقد يكون العدو الأبعد ـ في بعض الأحيان ـ أشد خطرا من العدو القريب ، وعندها تجب المبادرة إلى دفعه أوّلا ، لكن ، كما قلنا ، فإن هذا استثناء لا قانون ثابت ودائم.

٢٧٠

وأمّا ما قلناه من أنّ المبادرة إلى مجابهة العدو الأقرب هي الأهم والأوجب.

فإنّ أسبابه واضحة ، وذلك :

أوّلا : إنّ خطر العدو القريب أكبر وأشد من العدو البعيد.

ثانيا : إنّ اطلاعنا وعلمنا بالعدو القريب أكثر ، وهذا من العوامل المساعدة والمقربة للنصر.

ثالثا : إنّ التوجه لمحاربة العدو البعيد لا يخلو من خطورة اضافية ، فالعدو القريب قد يستغل الفرصة ويحمل على الجيش من الخلف ، أو يستغل خلو المقر الأصلي للإسلام فيهجم عليه.

رابعا : إنّ الوسائل اللازمة ونفقات محاربة العدوّ القريب أقل وأبسط ، والتسلط على ساحة الحرب في ظل ذلك أسهل.

لهذه الأسباب وأسباب أخرى ، فإنّ دفع العدو الأقرب هو الأوجب والأهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الآية لما نزلت كان الإسلام قد استولى على كل جزيرة العرب تقريبا ، وعلى هذا فإن أقرب عدو في ذلك اليوم ربّما كان أمبراطورية الروم الشرقية التي توجه المسلمون إلى تبوك لمحاربتها.

وكذلك يجب أن لا ننسى أنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني ، إلّا أنّه ليس من المستبعد أن روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية ، أي إنّ المسلمين عند ما يعزمون على المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى المجتمع الإسلامي وأشدّ خطرا عليه ، فمثلا في عصرنا الحاضر نرى أن خطر الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات ، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الأخرى ، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء ، بل يجب إعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر ، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الأولى من الأهمية.

٢٧١

والأمر الثّاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية ، هو أسلوب الحزم والشدّة ، فهي تقول : إن العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعا من الخشونة والشدّة :( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) وهي تشير إلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والاستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها ، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات ، وهذا بنفسه سيؤدي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.

وبعبارة أخرى فإنّ امتلاك القدرة ليس كافيا ، بل يجب استعراض هذه القوّة أمام العدو. ولهذا نقرأ في تأريخ الإسلام أنّ المسلمين عند ما أتوا إلى مكّة لزيارة بيت الله ، أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسرعوا في طوافهم ، بل أن يعدوا ويركضوا ليرى العدو ـ الذي كان يراقبهم عن كتب ـ قوتهم وسرعتهم ولياقتهم البدنية.

وكذلك نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين في الليل أن يشعلوا نيرانا في الصحراء ليعرف أهل مكّة عظمة جيش الإسلام ، وقد أثر هذا العمل في معنوياتهم. وكذلك أمر أن يجعل أبو سفيان كبير مكّة في زاوية ويستعرض جيش الإسلام العظيم قواته أمامه.

وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ويمكن أن يشير هذا التعبير ـ إضافة لما قيل ـ إلى أن استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى ، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي حال.

* * *

٢٧٢

الآيتان

( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) )

التّفسير

تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب :

تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة ، تكملة لما مرّ من البحوث حولهما.

فتقول أوّلا :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) (1) وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم ، وعدم اعتنائهم بها ، ويقولون : إنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشيء المهم والمحتوى الغني ، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

__________________

(1) إنّ (ما) في جملة( إِذا ما أُنْزِلَتْ ) زائدة في الحقيقة ، وهي للتأكيد. وقال البعض أنّها صلة وهي تسلط أداة الشرط ـ إي (إذا) على جزائها ، وتؤكّد الجملة.

٢٧٣

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة ، ويقول ضمن تقسيم الناس الى طائفتين :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) .

وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

وفي النهاية ، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر :( وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها :

1 ـ إنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة ، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة ، بل يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي كشرط أساسي.

إنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة ، فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق ، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درسا يزيد في إيمانهم ، ويفعّل سمات الإنسانية لديهم.

أمّا الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق ، فإنّهم لا يستفيدون منها ، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم ، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه ، ويصرون على رفض كل حقيقة ، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم ، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم ، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.

٢٧٤

وبتعبير آخر فإنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها ، بل إنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط اساسي أيضا.

2 ـ «الرجس» في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيء ، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات ، فإنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع : فتارة ينظر إليه من جهة الغريزة والطبع ، وأخرى من جهة الفكر والعقل ، وثالثة من جهة الشرع ، ورابعة من كل الجهات.

ولا شك أنّ السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعا من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإنسان وكلامه وسلوكه.

3 ـ إنّ جملة( وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإنسان ، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين ، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فورا على وجوههم.

4 ـ لقد اعتبرت هذه الآيات «المرض القلبي» نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقا فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل ، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والانحرافات النفسية ، وهذا التعبير يوضح أنّ الإنسان إذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة ، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإنسان ، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الانحراف عن المسير الأصلي والطبيعي ، ودليل على المرض الروحي والنفسي(1) .

5 ـ إنّ هذه الآيات تعطي درسا كبيرا لكل المسلمين ، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من

__________________

(1) كان لنا بحث آخر عن مرض القلب ومفهومه في القرآن راجع الآية (16) من سورة البقرة.

٢٧٥

القرآن ، ويتربون تربية جديدة تصل إلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم ، بينما نرى اليوم أشخاصا ، ظاهرهم أنّهم مسلمون ، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرءوها ، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!

هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار ، ومرض القلوب ، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إلى خلق حالة عدم الاهتمام ، وجعلت على القلوب أكنة لا يمكن اختراقها؟

يجب علينا أن نلتجئ إلى الله من حالنا هذا ، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) )

التّفسير

يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين ، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول :( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) والعجيب أنّهم رغم هذه الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون( ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو المراد من هذا الاختبار السنوي الذي يجري مرّة أو مرّتين؟

فالبعض يقول : إنّه الأمراض ، والبعض الآخر يقول : إنّه الجوع والشدائد الأخرى ، وثالث يقول : إنّه مشاهدة آثار عظمة الإسلام وأحقية النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساحات الجهاد التي كان يحضرها هؤلاء المنافقون بحكم الضغط الاجتماعي وظروف البيئة التي يعيشونها ، ورابع يعتقد أنّه رفع الستار عن أسرارهم ،

٢٧٧

وفضيحتهم.

غير أنا إذا قرأنا آخر الآية حيث تذكر أنّ هؤلاء لم يتذكروا رغم كل ذلك ، سيتّضح أنّ هذا الاختبار من الاختبارات التي ينبغي أن تكون سببا في توعية هذه المجموعة.

ويظهر أيضا من تعبير الآية أنّ هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم. وإذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الإعتبار فسيظهر أن التّفسير الرّابع ـ أي إزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم ـ أقرب إلى مفهوم الآية.

ويحتمل أيضا أن يكون للامتحان والابتلاء في هذه الآية مفهوم جامع بحيث يشمل كل هذه المواضيع.

ثمّ تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية ، فتقول :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) .

إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي ، من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم ، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئا لعمى قلوبهم ، والإنسان عدو ما يجهل.

وعلى كل حال ، فإنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإلهية، إلّا أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم ، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله :( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ؟ وإذا ما اطمأنوا إلى أن الناس منشغلون بسماع كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ملتفتين إليهم خرجوا :( ثُمَّ انْصَرَفُوا ) .

إنّ جملة( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ، كانوا يقولونها إمّا بألسنتهم ، أو بإشارة العيون ، في حين أن الجملة الثّانية( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) تبيّن أمرا واحدا هو نفس ما عينته الجملة الأولى ، وفي الحقيقة فإنّ هل يراكم أحد تفسير لنظر بعضهم إلى البعض الآخر.

٢٧٨

وتطرقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت : إنّ هؤلاء إنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق ، وأصبحوا أعداء للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) .

وقد ذكر المفسّرون لقوله تعالى :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) احتمالين :

الأوّل : إنّها جملة خبرية. كما فسرناها قبل قليل.

الثّاني : إنّها جملة إنشائية ، ويكون معناها اللعنة ، أي إنّ الله سبحانه يصرف قلوب هؤلاء عن الحق. إلّا أن الاحتمال الأوّل هو الأقرب كما يبدو.

* * *

٢٧٩

الآيتان

( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) )

التّفسير

آخر آيات القرآن المجيد :

إنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين ، هي آخر الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبها تنتهي سورة براءة ، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة ، لأنّها تبيّن من جهة لجميع الناس ، سواء المؤمنون منهم أم الكافرون والمنافقون ، أنّ جميع الضغوط والتكاليف التي فرضها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن الكريم ، والتي ذكرت نماذج منها في هذه السورة ، كانت كلها بسبب عشق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية الناس وتربيتهم وتكاملهم.

ومن جهة أخرى فإنّها تخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يقلق ولا يتحرق لعصيان وتمرد الناس ، والذي ذكرت منه ـ أيضا ـ نماذج كثيرة في هذه السورة ، وليعلم أنّ الله سبحانه حافظه ومعينه على كل حال.

٢٨٠