الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 211175
تحميل: 3566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211175 / تحميل: 3566
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

الذنوب والعداء الدائم لطلاب الحق والقادة الصادقين كل هذه الأمور تلقي على فكر الإنسان حجابا يفقده القدرة على رؤية أقل شعاع لشمس الحقيقة والحق ، ولأنّ هذه الحالة من نتائج الأعمال التي يقوم بها الإنسان ، فلا تكون دليلا على الجبر ، بل هي عين الإختيار ، والذي يتعلق بالله تعالى أنّه جعل في مثل هذه الأعمال أثرا.

هناك آيات عديدة في القرآن تشير إلى هذه الحقيقة ، وقد أشرنا الى ذلك في ذيل الآية (7) من سورة البقرة وآيات أخرى يمكن مراجعتها

وفي آخر الآية ـ محل البحث ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكّد المواضيع التي بحثت قصّة نوح في الآيات السابقة واللاحقة ، فتبيّن الآية أن الأعداء يقولون : إنّ هذا الموضوع صاغه «محمّد» من قبل نفسه ونسبه إلى الله( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) .

ففي جواب ذلك قل يا رسول الله : إن كان ذلك من عندي ونسبته إلى الله فذنبه عليّ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ) ولكني بريء من ذنوبكم( وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ «الإجرام» مأخوذ من مادة «جرم» على وزن «جهل» وكما أشرنا إلى ذلك ـ سابقا ـ فإنّ معناه قطف الثمرة غير الناضجة ، ثمّ أطلقت على كل ما يحدث من عمل سيء ، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنّه أجرم ، وحيث أن الإنسان له ارتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء ، فإنّ الإقدام على الذنوب يفصل هذا الارتباط الإلهي منه.

2 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية الأخيرة ليست ناظرة الى نبي الإسلام ، بل ترتبط بنوحعليه‌السلام نفسه ، لأنّ جميع هذه الآيات تتحدث عن نوحعليه‌السلام ، والآيات

٥٢١

المقبلة تتحدث عنه أيضا ، فمن الأنسب أن تكون هذه الآية في نوحعليه‌السلام ، والجملة الاعتراضية خلاف الظاهر ، ولكن مع ملاحظة ما يلي :

أوّلا : إنّ شبيه هذا التعبير وارد في سورة الأحقاف الآية (8) في نبي الإسلام.

ثانيا : جميع ما جاء في نوحعليه‌السلام في هذه الآيات كان بصيغة الغائب ، ولكن الآية ـ محل البحث ـ جاءت بصيغة المخاطب ، ومسألة الالتفات ـ أي الانتقال من ضمير الغيبة إلى المخاطب ـ خلاف الظاهر ، وإذا أردنا أن تكون الآية في نوحعليه‌السلام فإنّ جملة «يقولون» بصيغة المضارع ، وجملة «قل» بصيغة الأمر ، يحتاجان كليهما إلى التقدير!

ثالثا : هناك حديث في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية عن الإمامين الصادقين الباقر والصادقعليهما‌السلام يبيّن أنّ الآية المتقدمة نزلت في كفار مكّة.

من مجموع هذه الدلائل نرى أن الآية تتعلق بنبي الإسلام ، والتهم التي وجهت إليه كان من قبل كفار مكّة ، وجوابه عليهم.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الجملة الاعتراضية ليست كلاما لا علاقة له بأصل القول ، بل غالبا ما تأتي الجمل الاعتراضية لتؤكّد بمحتواها مفاد الكلام وتؤيده ، وإنما ينقطع ارتباط الكلام أحيانا لتخف على المخاطب رتابة الإيقاع وليبعث الجدة واللطافة في روح الكلام ، وبالطبع فإنّ الجملة الاعتراضية لا يمكن أن تكون أجنبية عن الكلام بتمام المعنى ، وإلّا فتكون على خلاف البلاغة والفصاحة ، في حين أنّنا نجد دائما في الكلمات البليغة والفصيحة جملا اعتراضية.

3 ـ من الممكن أن يرد هذا الإشكال عند مطالعة الاية الأخيرة ، وهو قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نوحعليه‌السلام للكفار : إن يكن هذا الكلام افتراء فإثمه علي. ترى هل يعني قبول مسئولية الإثم «الافتراء» أنّ كلام الكفار حقا ومطابقا للواقع ، وعلى الناس أن يتابعوه ويطيعوه!؟

ولكن مع تدقيق النظر في الآيات السابقة نحصل على جواب هذا الإشكال ،

٥٢٢

وهو أنّ الأنبياء في الحقيقة أرادوا القول : إنّ كلامنا يقوم على الاستدلالات العقلية ، فعلى فرض المحال أنّنا لم نكن مبعوثين من قبل الله فإثم ذلك على أنفسنا ، وهذا بغض النظر عن الاستدلالات العقلية ، ولكنّكم أيّها الكفار ستبقون بمخالفتكم صرعى الإثم دائما ، الإثم المستمر والباقي «لا حظ كلمة تجرمون التي جاءت بصيغة المضارع والتي تدل على الاستمرار «فتأمل جيدا».

* * *

٥٢٣

الآيات

( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) )

التّفسير

بداية النّهاية :

إنّ قصّة نوحعليه‌السلام الواردة في آيات هذه السورة ، بيّنت بعدّة عبارات وجمل ، كل جملة مرتبطة بالأخرى ، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوحعليه‌السلام في قبال المستكبرين ، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوحعليه‌السلام المستمرة والتي كانت في غاية الجدية ، وبالاستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا ـ آمنت به جماعة قليلة قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والاستقامة.

٥٢٤

وفي الآيات محل البحث إشارة إلى المرحلة الثّالثة من هذه المواجهة ، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإلهية.

ففي الآية الأولى نقرأ ما معناه : يا نوح ، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء :( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) .

وهي إشارة إلى أنّ الصفوف قد امتازت بشكل تام ، والدعوة للإيمان والإصلاح غير مجدية ، فلا بدّ إذا من الاستعداد لتصفية والتحول النهائي.

وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوحعليه‌السلام أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال( فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ) ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنا ـ أنّ الله يطلع نبيّه نوحا على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي ، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لن يؤمن بدعوته في المستقبل غير أولئك الذين آمنوا به من قبل ، وعلى كل حال لا بدّ من إنزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم ، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم ، وهكذا صدر الأمر بإغراقهم ، ولكن لا بدّ لكل شيء من سبب ، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر ، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضا.

وجاء الأمر لنوح أن( ... اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

إنّ المقصود من كلمة «أعيننا» إشارة إلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرءاي ومسمع منّا ، فواصل عملك مطمئن البال.

وطبيعي أنّ هذا الإحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإنسان قوة وطاقة ، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.

كما يستفاد من كلمة «وحينا» أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم الله ، وينبغي أن يكون كذلك ، لأنّ نوحاعليه‌السلام لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه ، وإنّما هو وحي الله الذي يعينه في

٥٢٥

انتخاب أحسن الكيفيات.

وفي نهاية الآية ينذر الله نوحا أن لا يشفع في قومه الظالمين ، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإن الغرق قد كتب عليهم حتما( وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) .

هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص ، بل للشفاعة شروطها ، فإذا لم تتوفر في أحد الأشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).

أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد ـ ولو لحظة واحدة ـ في دعوة النّبي نوحعليه‌السلام ويحتملوا على الأقل أن هذا الإصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي الله» فتكون مسألة العذاب والطوفان حتمية!! إلّا أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ) .

«الملأ» والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان ، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!! ومضافا بل حتى أفكارهم وإن كانت سامية ، ومذهبهم وإن كان ثابتا وراسخا ، وأعمالهم وإن كانت عظيمة وجليلة كل ذلك في حساب «الملأ» حقير تافه ..! ولذلك لم ينفعهم الإنذار والنصيحة. فلا بدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات ، وكل جماعة تختار نوعا من السخرية والاستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الاستهزاء!

فمنهم من يقول : يا نوح ، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجارا آخر الأمر!

٥٢٦

ومنهم من يقول : حسنا تصنع السفينة ، فينبغي أن تصنع لها بحرا ، أرأيت إنسانا عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول : واها لهذه السفينة العظيمة ، كان بإمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إلى البحر.

كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عاليا ، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم ، حيث يتحدثون عن نوح وأصحابه وقلّة عقلهم : تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر ، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحا!!

ولكن نوحا كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإيمان ، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم ، وإنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوما بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهيأ لذلك اليوم العظيم ، وكان نوحعليه‌السلام أحيانا يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة( قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ) .

ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ما تصنعون ، ولا ملجأ لكم ، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.

( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) إشارة إلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة ، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا ، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل ، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانيا ، وهذان الأمران معا لا يقبلان القياس.

* * *

٥٢٧

ملاحظات

1 ـ التصفية لا الانتقام

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ عذاب الله يفتقد جنبة الانتقام ، لأنّه عبارة عن تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة ، وليبقى الصالحون من بعدهم إنّ مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإيمانهم ، ولا حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق ، وهكذا كان قوم نوح لأنّ الآيات السابقة تبيّن له أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن ، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع «الفلك»( وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

وهذا الموضوع يبدو جليا في دعاء هذا النّبي على قومه ، فنحن نقرأ في سورة نوحعليه‌السلام ( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .

وأساسا فإنّ لكل موجود هدفا في نظام الخلقة ، وحين ينحرف هذا الموجود عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإصلاح ، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى ، ولا بد من أن يزول شاء أم أبى ، وكا يقول الشاعر :

لا نضرة عندي ولا ورق ولا

ورد ولا ثمر ففيم بقائي

2 ـ علائم المستكبرين :

إنّ المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغابتهم وميولهم ومنافعهم إلى لعب واستهزاء. ولهذا السبب فإنّ الاستهزاء بالحقائق ـ ولا سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين ـ يشكل جزءا من حياتهم فكثيرا ما نجدهم من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقا وجمالا يبحثون عن مؤمن خالي اليد ليسخروا منه ويستهزءوا به.

وإذا اتفق أنّ أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحدا من

٥٢٨

المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون! إنّهم يتصورون أنفسهم بأنّهم العقل المطلق ، ويظنون أنّ الثروة العظيمة ـ والتي هي من الحرام ـ دليل على شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم! وأنّ الآخرين فاقدو الشخصية ولا قيمة لهم وغير لائقين!

ولكن القرآن المجيد يوجه أشدّ هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين المتكبرين ، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!

نقرأ في التاريخ الإسلامي ـ على سبيل المثال ـ أن «أبا عقيل الأنصاري» هذا العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار «المدينة» إلى البيوت ويستوفي أجره بتميرات ، ثمّ يأتي بهذه التميرات إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عزوة «تبوك» على أنّها مساعدة لجيش الإسلام ، فيلتفت المنافقون المستكبرون ويسخرون منه ، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

3 ـ سفينة نوح :

لا شكّ أنّ سفينة نوح لم تكن سفينة عاديّة ولم تنته بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته ، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات ، وتحمل متاعا وطعاما كثيرا يكفي للمدّة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان ، ومثل هذه السفينة بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم ، وينبغي أن تمرّ سالمة عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.

٥٢٩

لذلك تقول بعض روايات المفسّرين : إنّ طول السفينة كان ألفا ومائتي ذراع ، وعرضها كان ستمائة ذراع «كل ذراع يعادل نصف متر تقريبا».

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّا بالعقم وعدم الإنجاب ، وكان ذلك مقدمة لعذابهم وعقابهم.

* * *

٥٣٠

الآيات

( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) )

التّفسير

شروع الطّوفان :

رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوحعليه‌السلام وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين ، وهيأوا أنفسهم للطوفان ، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين

٥٣١

الكفرة.

والآيات ـ محل البحث ـ تتعرض لموضوع ثالث ، وهو كيف كانت النهاية؟ وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين ، فتبيّنه بهذا التعبير( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) .

التنّور : بتشديد النون ، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجينا.

لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟

اختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك

قال بعضهم : كان العلامة بين نوح وربّه لحلول الطوفان أن يفور التنّور ، ليلتفت نوح وأصحابه إلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.

وقال جماعة آخرون : إنّ كلمة «التنور» استعملت هنا مجازا وكناية عن غضب الله ، ويعني أن غضب الله اشتدّت شعلته وفار ، فهو إشارة الى اقتراب حلول العذاب المدمّر ، وهذا التعبير مطرّد حيث يشبّهون شدّة الغضب بالفورة والاشتعال!

ولكن يبدو أنّ احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى ، والمراد بالتنّور ليس تنّورا خاصّا ، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة ، وهي أن حين فار التنّور بالماء ـ وهو محل النّار عادة ـ التفت نوحعليه‌السلام وأصحابه إلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنّه حدثت المفاجأة ، فأين «الماء من النّار»؟!

وبتعبير آخر : حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يصنع في مكان يابس ومحفوظ ، من الرطوبة علموا أن أمرا مهمّا قد حدث وأنّه قد ظهر في التكوين أمر خطير ، وكان ذلك علامة لنوحعليه‌السلام وأصحابه أن ينهضوا ويتهيئوا.

ولعلّ قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم

٥٣٢

يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.

في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحا( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) .

لكن كم هم الذين آمنوا معه؟( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

هذه الآية تشير من جهة إلى امرأة نوح وابنه كنعان ـ اللذين ستأتي قصتهما في الآيات المقبلة ـ وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين ، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين ، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإيمان.

وتشير الآية من جهة أخرى إلى أنّ ثمرة جهاد نوحعليه‌السلام بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته ، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل!

بعض الرّوايات تقول أنّه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصا فقط، وتشير بعض الرّوايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك ، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النّبي العظيم نوحعليه‌السلام من الصبر والاستقامة «في درجة قصوى بحيث كان معدل ما يبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريبا ، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.

جمع نوحعليه‌السلام ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة ، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأو شك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) (1) .

لماذا؟! لكي يعلمهم أنّه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر الله تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من

__________________

(1) المجرى والمرسى : اسما زمان ، ويعني الأوّل وقت التحرك ، والثّاني وقت التوقف.

٥٣٣

الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.

وأخيرا حانت اللحظة الحاسمة ، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنّها قطع الليل المظلم ، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل ، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة «مهولة ومرعبة جدّا».

شرع المطر وتوالى مسرعا منهمرا أكثر فأكثر ، وكما يصفه القرآن في سورة القمر( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

ومن جهة أخرى ارتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان.

وهكذا اتصلت مياه الأرض بمياه السماء ، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلّا استوعبه الماء وصار بحرا محيطا خضمّا أمّا الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ) فإنّ مصيرك الى الفناء إذا لم تركب معنا.

لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أبا فحسب ، بل كان مربيّا لا يعرف التعب والنصب ، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب ، فناداه عسى أن يستجيب ، ولكن ـ للأسف ـ كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه.

لذلك فإنّ هذا الولد اللجوج الأحمق ، وظنّا منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحا و( قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ) ولكنّ نوحا لم ييأس مرّة أخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و( قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) ولا ينجو من هذا الغرق إلّا من شمله لطف الله( إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) .

٥٣٤

الجبل أمره سهل وهين ، وكرة الأرض أمرها هين كذلك الشمس والمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرّة إزاء قدرة الله الأزليّة.

أليس أعلى الجبال بالنسبة لكرة الأرض بمثابة نتوءات صغيرة على سطح برتقالة؟! أليست هذه الأرض التي ينبغي أن يتضاعف حجمها إلى مليون ومائتي ألف مرّة حتى تبلغ حجم الشمس ، وهذه الشمس التي تعدّ نجما متوسطا في السماء من بين ملايين الملايين من النجوم في متسع عالم الخلق ، فأيّ خيال ساذج وفكر بليد يتوقع من الجبل أن يصنع شيئا؟

وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح ابنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده( وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ هل كان طوفان نوح مستوعبا للعالم؟!

من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا أنّ الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون أخرى ، بل غطى كل سطح الأرض ، لأنّ كلمة «الأرض» ذكرت بصورة مطلقة ، كما في الآية (26) من سورة نوح( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) كما في الآية (44) المقبلة من سورة هود( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ) وهكذا ذكر كثير من المؤرخين ـ أيضا ـ أنّ طوفان نوح كان عالميا ، ولذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إلى واحد من أبناء نوح الثلاثة «حام وسام ويافث» الذين بقوا بعده مدة!

وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول ، فلو لم تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولّد الحيوانات ، فهي تنطبق على طوفان نوح.

٥٣٥

وهذه النظرية موجودة أيضا التاريخ الطبيعي للأرض ، وهي أن محور الكرة الأرضية يتغير تدريجا ، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط الإستواء ، ويحلّ خط الإستواء محلّهما ، وواضح أنّ الحرارة التي تكون في أعلى درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيرا من اليابسة ، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة ، وكل ذلك يبعث على كثرة السحب والأمطار.

كما أنّ مسألة اختيار نوحعليه‌السلام من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملها معه على السفينة يؤيد كون الطوفان عالميّا أيضا ، وإذا عرفنا أنّ نوحا كان يسكن الكوفة ـ كما تقول الرّوايات ـ وأن طرف الطوفان وحافته ـ طبقا للرّوايات الأخرى ـ كان في مكّة وبيت الله الحرام ، فهذا نفسه أيضا مؤيد «لعالميّة الطوفان».

ولكن مع هذه الحال ، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض ، لأنّ إطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات القرآن ، كما نقرأ في قصّة بني إسرائيل( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) (1) .

وحمل الحيوانات في السفينة ربّما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من الأرض ، خصوصا أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمرا هيّنا «فتدبر»

! وهناك قرائن أخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أنّ الطوفان لم يستوعب الكرة الأرضية كلّها.

وهناك مسألة تسترعي الانتباه ـ أيضا ـ وهي أنّ طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه ، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها ، وعادة فإنّ وصول دعوة نوح في مثل زمانه إلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد ولكن على كل حال

__________________

(1) الأعراف ، 127.

٥٣٦

فالهدف القرآني من بيان هذه القصّة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين ، سواء كان الطوفان عالميا أو غير عالمي.

2 ـ هل تقبل التوبة بعد نزول العذاب؟!

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ نوحاعليه‌السلام استمر يدعو ولده حتى بعد شروع الطوفان، وهذا دليل على أنّه لو آمن ابنه «كنعان» لقبل إيمانه.

ويرد هنا سؤال وهو أنّه بالنظر إلى آيات القرآن الأخرى والتي مرّت «نماذج» منها ، تنصّ على أنّ أبواب التوبة تغلق بعد نزول العذاب لأنّ المجرمين في هذه الحالة إذ يرون العذاب محدقا بهم فالغالبية منهم يتوبون عن إكراه واضطرار لرؤية العذاب بأعينهم ، فعندئذ تكون توبتهم بلا محتوى وفاقدة للاعتبار.

ولكن بالتدقيق في الآيات السابقة يمكن الجواب على هذا السؤال ، هو أنّ شروع الطوفان وما جرى في بداية الأمر ، لم يكن علامة واضحة للعذاب ، بل كان يتصور أنّه مطر شديد لا مثيل له وعلى هذا فإنّ ابن نوح حين قال لأبيه( سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ) ظنّا منه أنّ الطوفان والمطر كانا طبيعيين. ففي هذه الحالة لا يبعد أن تكون أبواب التوبة ما تزال مفتوحة ، ويمكن أن يرد سؤال آخر في شأن ابن نوح ، وهو أنّه لم نادى نوح ابنه دون سائر الناس في هذه اللحظة الحرجة؟!

ويمكن أن يكون الجواب أنّ نوحا أدّى وظيفته في الدعوة العامّة للآخرين وبضمنها دعوته لولده ، إلّا أنّه كان يتحمل وظيفة أصعب بالنسبة لولده ، وهي وظيفة «الابوّة» إلى جانب وظيفة «النّبوة» فلهذا السبب كان يؤكّد على أداء وظيفته بالنسبة لولده إلى آخر لحظة.

والاحتمال الآخر وكما يقول المفسّرون أنّ ابن نوح لم يكن في صفّ الكفار ولا في صف المؤمنين ، بل كما يقول القرآن :( كانَ فِي مَعْزِلٍ ) فلأنّه لم يكن مع

٥٣٧

المؤمنين فإنّه كان يستحق العقاب ، ولأنّه لم يكن مع الكافرين فإنّه كان يستحق أن يتوجه إليه التبليغ واللطف والمحبّة بصورة أكثر أضف إلى ذلك أن ابتعاده عن الكفار وكونه في معزل ، كان يقوي أمل نوح في أن يندم ولده على الابتعاد عنه.

وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ ابن نوح لم يكن يخالف أباه بصراحة ، بل كان منافقا وكان يوافق أباه في الظاهر أحيانا ، فلذلك طلب نوح من ربّه له النجاة.

وعلى كل حال فإنّ الآية السابقة لا تنافي مضامين الآيات الأخرى التي تشير إلى انسداد أبواب التوبة حال نزول العذاب.

3 ـ دروس تربوية من طوفان نوح :

إنّ هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل تربوية ، وفي هذا القسم من قصّة نوح مسائل مهمّة جدّا نشير إلى قسم منها :

أ ـ تطهير وجه الأرض :

صحيح أنّ الله رحيم ودود ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّه حكيم أيضا ، فبمقتضى حكمته أنّه عند ما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربيّن الإلهيين في قوم فاسدين ، فلا حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الاجتماعية أو الطبيعية وتحت وطأة التنظيم الحياتي.

وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين ، إنما هو سنة الله في خلقه وعبادة في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر ، وأي إشكال في أن تكون كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثّانية صورة من صور «تطهير الأرض».

٥٣٨

ب ـ لم كان العقاب أو الطوفان؟!

صحيح أن قوما أو أمّة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إزالتهم فالنتيجة واحدة ، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أنّ هناك تناسبا بين الذنوب وعقاب الله دائما وأبدا. «فتدبر جيدا».

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في «نهر النيل» ومياهه كثير البركات ، لكن الطريف أنّ هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.

وكان نمرود يعتمد على «جيشه» العظيم ، لكننا نعلم أنّ جيشا ـ لا يعتد به ـ من الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.

وكان قوم نوح أهل زراعة «وأنعام» وكانوا يجدون كل خيراتهم في «حبات المطر» لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضا

ومن هنا يتّضح جليا أنّ حساب الله في غاية الدقّة ، ولو لا حظنا الطغاة العتاة في عصرنا وفي الحرب العالمية الأولى والثّانية كيف أبيدوا بأسلحتهم الحديثة والمتطورة لا تضح المعنى اكثر.

فلا ينبغي أن نعجب أنّ هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم أدت إلى زوالهم.

ج ـ اسم الله على كل حال وفي كل مكان

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ نوحاعليه‌السلام يوصي أصحابه أن لا ينسوا ذكر اسم الله في بداية حركة السفينة وعند توقفها ، فكل شيء يتقوم باسمه وبذكره ، وينبغي أن نستمد العون من ذاته القدسيّة ، كل حركة وكل توقف ، حال الهدوء وحال الإعصار والطوفان ، كل هذه الحالات ينبغي أن تبدأ باسمه ، لأنّ كل عمل يبدأ دون ذكر اسمه فهو «أبتر ومقطوع» ، وكما ورد عن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الشريف

٥٣٩

«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(1) وليس ذكر الله من باب التشريف ، بل هو هدف وغاية ، فكل عمل ليس فيه هدف إلهي فهو أبتر ، لأنّ الأهداف المادية تتلاشى وتنتهي إلّا الأهداف الإلهية فهي غير قابلة للفناء ، وحين تبلغ الأهداف المادية الذروة تنطفئ وتزول ، إلّا أنّ الأهداف الإلهية خالدة وباقية كذاته المقدسة.

د ـ المرتكزات الجوفاء :

من الطبيعي أنّ كل أحد يعتمد في التغلّب على الصعاب ومواجهة المشاكل في حياته إلى أمر ما ، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال ، وجماعة على المقام والمنصب ، وجماعة يلجأون إلى القدرة الجسمية ، وآخرون إلى أفكارهم ولكن ـ كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ ـ لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أدنى مقاومة أمام أمر الله وقدرته ، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى أمام هبوب الرياح الشديدة.

فابن نوحعليه‌السلام لغروره وغفلته كان غارقا في مثل هذا الوهم ، وظن أنّ الجبل سيعصمه من طوفان غضب الله ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان المتلاطم كشفت سراب ظنّه وأنهت حياته.

من هنا نقرأ في بعض الأدعية «إنّي هارب منك إليك»(2) أي : لو كان هناك ملجأ أمام طوفان غضبك يا ربّ ، فهذا الملجأ هو ذاتك المقدسة والعودة إليك لا إلى سواك.

__________________

(1) سفينة البحار ص 663 الجزء الأول.

(2) دعاء أبي حمزة الثمالي.

٥٤٠