الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 211178
تحميل: 3566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211178 / تحميل: 3566
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

ه ـ سفينة النجاة :

لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة ، وليس شرطا أن تكون هذه السفينة من الخشب والحديد ، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة دينا يقوّم السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الانحراف الفكري ، ويوصل أتباعه إلى ساحل النجاة.

وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مصادر الشيعة والسنة تعبر عن أهل بيته ـ وهم الأئمّة الطاهرون وحملة الإسلام ـ بأنّهم «سفينة النجاة».

يقول حنش بن المغيرة وأبو ذرّ آخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول : أنا أبو ذر الغفاري ، من لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا»(1) .

وفي بعض الرّوايات أضيف إليها هذا النص «ومن تخلف عنها غرق»(2) أو «من تخلف عنها هلك»(3) .

هذا الحديث الشريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن بصراحة أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، فإنّ طريق النجاة الوحيد هو الالتجاء إلى مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون المذهب التي اصطنعتها السلطات السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيتعليهم‌السلام .

* * *

__________________

(1) عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 211.

(2) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني ، صفحة 30 مخطوط.

(3) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي ، الجزء التاسع من أحقاف الحق ، ص 280 لمزيد الإيضاح جديدة.

٥٤١

الآية

( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) )

التّفسير

نهاية الحادث :

قرأنا في الآيات السابقة ـ إجمالا ـ أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجا ، أمّا المجرمون الجهلة فظنا منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات ، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شيء ، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.

وكان نوحعليه‌السلام قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه ، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب ، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب

٥٤٢

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض ، وطبقا لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية ، والآية ـ محل البحث ـ تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّا ، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة ، وقد جاءت الآية في جمل ست :

1 ـ( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

2 ـ( وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

3 ـ( وَغِيضَ الْماءُ ) ونزل الماء في جوف الأرض.

4 ـ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) انتهى حكم الله.

5 ـ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ ) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

6 ـ( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.

كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة ، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب : إن هذه الآية تعدّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقرا في روايات التاريخ الإسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته ، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوما ، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ـ لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها ، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية ـ محل البعث ـ هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر : هذا كلام لا يشبهه كلام آخر ، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين ، قالوا ذلك وانصرفوا

٥٤٣

عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين(1) .

أين يقع الجودي؟

ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة ـ كما مرّ ذكره في الآية ـ جبل معروف قرب الموصل(2) وقال آخرون : هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب «آمد»

وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة ، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).

ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد ، «فالموصل» و «الجزيرة» و «آمد» جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.

وقال آخرون : يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية ، ومعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض ، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل.

وفي كتاب «أعلام القرآن» تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي : «الجودي» اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته ، وقد ورد اسمه في الآية (44) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أمور أخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي :

1 ـ بناء على قول «الاصفهاني» فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية ، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء).

2 ـ إنّ الجودي هو سلسلة جبال «كاردين» الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عم) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم ، ويسميها

__________________

(1) راجع مجمع البيان ، ح 5 ، ص 165 ، وروح المعاني ، ج 12 ، صفحة 57.

(2) راجع مجمع البيان ، وروح المعاني ، والقرطبي ، ذيل الآية محل البحث.

٥٤٤

اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب «الجودي».

في «الترگوم» وهي الترجمة الكلدانية ل «التوراة» وكذلك الترجمة السريانية ل «التوراة» : إنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد ، أي «كاردين».

والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة ـ المشار إليها آنفا ـ ويقولون إنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها في القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوحعليه‌السلام (ملحمة گيلگامش) ويمكن ـ إضافة إلى ذلك ـ احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة ، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان.

وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة «ميسر» وقد لو حظ في هذه الكتيبة اسم «آرارتو».

3 ـ وفي الترجمة الحالية ل «التوراة» : إن محل استقرار سفينة نوح في جبال «آرارات» وهو جبل «ماسيس» الواقع في «أرمنستان» وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي ، فكان المعنى «ملعون» وقال : بناء على ما جاء في الرّوايات فإنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل ، ويسميّه العرب بـ «الجودي» ويسمّيه الإيرانيون بـ «جبل نوح» ويسميه الأتراك بـ «كرداغ» بمعنى الجبل المنحدر ، وهو واقع قرب «أرس».

وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل «الجودي» ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل «الأكراد» إلى «أرارات» ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال

٥٤٥

بحيرة «وان» وجنوبها اسم «آرارات» أو «آراتو».

يقال أنّ النّبي نوحا بنى مسجدا على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان ، ويقول الأرامنة : إنّ في سفح جبل الجادي «الجودي» قرية تدعى ثمانين أو ثمان ، وهي أوّل محل نزل فيه أصحاب نوحعليه‌السلام (1) .

* * *

__________________

(1) أعلام القرآن للغزائلي ، ص 281.

٥٤٦

الآيات

( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) )

التّفسير

حادثة ابن نوح المؤلمة :

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته ، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير ، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان.

وهذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة ، وهو أنّه حين رأى نوح ابنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا( فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ) .

٥٤٧

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (40) من هذه السورة حيث يقول سبحانه:( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

فكان أن تصوّر نوح أن قوله تعالى :( إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان ، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.

ولكنّه سمع الجواب مباشرة جواب يهزّ هزا كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة( قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) .

فهو فرد غير لائق ، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين.( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحا ، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده ممّا وعد الله به في نجاة أهله ، لذلك توجه إلى الله معتذرا مستغفرا و( قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ لم كان ابن نوح «عملا غير صالح»؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ في الآية إيجاز حذف ، وأصل الآية هكذا «إنّه ذو عمل غير صالح».

ولكن مع ملاحظة أنّ الإنسان قد يذوب في عمله إلى درجة كأنّه يصير بنفسه العمل ذاته ، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال : إنّ فلانا هو كل العدل والسخاء ، أو إنّ فلانا هو السرقة والفساد فكأنّه غاص في

٥٤٨

العمل حتى صار هو العمل بذاته.

فابن نوح كان كذلك ، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة وأفكارهم المنحرفة ، بحيث كأنّ وجوده تبدل إلى عمل غير صالح!

فعلى هذا وإن كان التعبير المقدم موجزا ومختصرا جدا ، إلّا أنّه يعبّر عن حقيقة مهمّة في ابن نوح!.

أي لو كان هذا الظلم والانحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيّا لكانت الشفاعة في حقّه ممكنة ، ولكنّه أصبح غارقا في الفساد والانحراف ، فليس للشفاعة هنا محلّ ، فدع الكلام فيه يا نوح!

وما يراه بعض المفسّرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقة ، أو أنّه كان ابنا غير شرعي ، أو أنّه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر ، بعيد عن الصواب لأنّ قوله :( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) في الواقع علة لقوله :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي إنّما نقول لك إنّه ليس من أهلك فلأنّه انفصل عنك بعمله وإن كان الرباط النسبي لا يزال قائما

2 ـ دائرة الوعد الإلهي

مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربّه وما أجابه الله به ، ينقدح هذا السؤال وهو : كيف لم يلتفت نوح إلى أنّ ابنه كنعان كان خارج دائرة الوعد الالهي؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال ـ كما أشرنا آنفا ـ أنّ هذا الابن لم تكن له طريقة واحدة معروفة ، فتارة تراه مع المؤمنين وأخرى مع الكفار ، ممّا يوهم أنّه مؤمن. بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه بالنسبة إلى ولده ، كذلك المحبّة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه ، والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون ، كل ذلك كان سببا في أن يطلب نوح من

٥٤٩

ربّه هذا الطلب

ولكن بمجرّد أن اطّلع على واقع الأمر ، أسف على طلبه فورا واعتذر إلى الله راجيا عفوه ـ وإن لم يكن صدر منه ذنب ـ لأنّ موقع النّبي يقتضي منه أن يراقب كلامه وتصرفاته، فكان الأولى عليه الترك ، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة ومن هنا يتّضح الجواب على سؤال : هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو والمغفرة؟

3 ـ هناك حيث تنقطع العلائق

تعكس الآيات الآنفة درسا من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان قصّة نوح درسا لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنّه أصل أساس في المذهب الإلهي والمعنوي.

فالعلائق المادية «النسب ، القرابة ، الصداقة ، المرافقة» تخضع دائما في المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية.

وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة المذهبية.

هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية ، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت النّبي ولا من قريش ولا من أهل مكّة ، بل لم يكن أساسا من العرب ، ولكنّه طبقا لما ورد في الحديث الشريف المعروف «سلمان منّا أهل البيت»كان يعدّ من أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ الابن الواقعي والمباشر للنّبي ـ كابن نوح ـ يطرد على أثر قطع علاقته الدينية، ويقال في شأنه لأبيه نوح :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) .

قد تكون هذه المسألة المهمّة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي لكنّها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعا.

٥٥٠

وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام تتحدث عن بعض الشيعة الذين يحملون اسم التشيّع إلّا أنّه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيتعليهم‌السلام بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن علي بن موسىعليه‌السلام أنّه سأل بعض أصحابه يوما : كيف يفسر الناس هذه الآية( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فأجابه أحد الحاضرين : إنّهم يعتقدون أن كنعان لم يكن الابن الحقيقي لنوح ، فقال الإمام : «كلّا لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله نفاه عن أبيه ، كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا»(1) .

4 ـ المسلمون المطرودون

ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين ، أو أتباع أهل البيتعليهم‌السلام في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة :

1 ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من غش مسلما فليس منّا»(2) .

2 ـ كما روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام»(3) .

3 ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي».

4 ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال : «ليس من شيعتنا من يظلم الناس».

5 ـ وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(4) .

6 ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس

__________________

(1) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة.

(2) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 318.

(3) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 53.

(4) بحار الأنوار ، الطبعة القديمة ج 15 قسم الأخلاق.

٥٥١

بمسلم»(1) .

7 ـ وقال الإمام الباقرعليه‌السلام لأحد أصحابه وكان يدعى «جابرا» : «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء ، لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله»(2) .

هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالاسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف ، أو للروابط الايمانية ، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم ، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس.

* * *

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 164.

(2) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 691.

٥٥٢

الآيتان

( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) )

التّفسير

هبوط نوح بسلام :

هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود ، وفيهما إشارة إلى هبوط نوحعليه‌السلام من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض.

يقول القرآن في الآية الأولى من هاتين الآيتين :( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) .

لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة فالأراضي العامرة والمراتع الخضر والغابات النضرة كلّها أبيدت ، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء ، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة

٥٥٣

إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأ وموفّرا لهم فلا ينبغي الحزن على شيء مضافا إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحا وأصحابه أيضا أنّه لا خطر يهددهم ، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطا سالما مليئا بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.

هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية ، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة!.

كلمة «أمم» هي جمع «أمة» وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه ، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سببا لوجود قبيلة وأمّة كبيرة ، أو أنّه فعلا كان مع نوح أفراد من قبائل وأمم متعددة فيشكل مجموعهم أمما أيضا ويرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أن الأمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة ، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأمّة عليها أيضا في مكان آخر من آياته ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (38)( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) .

فيتّضح بهذا أنّ نوحا وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة ، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض ، فإنّ لطف الله شملها جميعا كذلك.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نوحا أنّه ستعقب الأمم التي معك أمم من نسلها ، ولكن هذه الأمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

٥٥٤

فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الانتخاب وآخر الإصلاح ، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضا يصلون بها الذروة من الرشد والتكامل ، ولكن الناس قد يسيئون الاستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد ، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأخرى.

الطريف في الآية أنّها تقول( سَنُمَتِّعُهُمْ ) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي ذلك إشارة إلى أن الاستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته ، ولكن غالبا ما يزيد المتنعمين طغيانا وكفرا ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.

وينقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: «نمتعهم» إلخ : هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلّا في الدنيا وعمارتها وملذاتها.

هذا الواقع يرى جيدا في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم ، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين ـ فحسب ـ ، بل نراهم يوما بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإراقة دمائهم أكثر فأكثر ، لذلك كثيرا ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتا لعلهم يفيقون من غفلتهم.

وفي آخر آية تختم بها قصّة نوح ـ في هذه السورة ـ إشارة كلية عامّة إلى ما حدث في عهد نوح فتقول :( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ) .

فالخطاب هنا للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر واستقام نوحعليه‌السلام عند ما واجه المشاكل ، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) .

٥٥٥

الآية الأخيرة تشير إلى عدّة مسائل :

1 ـ إنّ بيان قصص الأنبياءعليهم‌السلام ـ بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف الخرافة ـ ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب ، وإلّا فإنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل ، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر.

فعلى هذا ، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخز الخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والإسلام والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

2 ـ يستفاد من هذه الآية ـ خلافا لما يتصوره البعض ـ أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم ، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم ، وإذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم ، فهو إشارة إلى أنّ علمهم ليس ذاتيا ، بل هو من الله.

3 ـ وهذه الآية توضح حقيقة أخرى ، وهي أنّ بيان قصص الأنبياء والأقوام الماضين في القرآن ليس درسا للمسلمين فحسب ، بل هو إضافة إلى ذلك تسلية لخاطر النّبي وطمأنة لقلبه ، لأنّه بشر أيضا ، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان الالهية ويتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره ، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في طريقه.

أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إلى الإيمان ، فعليك يا نبي الإسلام أن لا تدع الصبر والاستقامة على كل حال! والآن نودع قصّة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب ، ونتوجه إلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سمّيت هذه السورة باسمه.

* * *

٥٥٦

الآيات

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) )

التّفسير

محطّم الأصنام الشّجاع :

كما أشرنا آنفا ، فإنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجهوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوحعليه‌السلام وأمّا الآن فالحديث عن هودعليه‌السلام .

جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد ، وجميعهم نهضوا لإنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر ، ولدعوتهم إلى التوحيد بجميع أبعاده.

وكان شعارهم جميعا الإيمان والإخلاص والجد والمثابرة والاستقامة في سبيل الله ، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والإرهاب والضغوط

٥٥٧

يقول سبحانه في الآية الأولى من هذه القصّة( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هودا بكونه «أخاهم».

وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إلى أصل واحد

فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّا ، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعا ، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه ، بل من منطلق أنّهم إخوة لهم

معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.

كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعا ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) .

فهذه الأصنام ليست شركاءه ، ولا منشأ الخير أو الشرّ ، ولا يصدر منها أي عمل ، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إطلاقا.

ثمّ يضيف هود قائلا لقومه : لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة ، فأنا لا أريد منكم أي أجر( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء ، فهو الخالق والرازق( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) .

وأساسا فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم ، إنّما أفعل ذلك طاعة لأمره ، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم ، وإضافة إلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم ، فكل ما هو لديكم منه سبحانه( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من

٥٥٨

جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول :( وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فإذا فعلتم ذلك فإنّه( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) (1) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط ، بل تظل خضراء مثمرة دائما ، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) .

فلا تتصوروا أنّ الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبدا ، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالاستفادة من القوّة المعنوية وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل ، فعلى هذا إيّاكم والابتعاد عن طريق الحق( وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ التوحيد أساس دعوة الأنبياء :

يبين تاريخ الأنبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعا من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّا كانت ، والواقع فإنّ أي إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة ، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها أمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.

وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية وما إلى ذلك وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على

__________________

(1) «المدرار» كما وضحنا سابقا مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء ، ثمّ استعمل في انصباب المطر ، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت :( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) بمعنى أنّ المطر يهطل إلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل ، وملاحظة أنّ مدرارا صيغة مبالغة أيضا فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.

٥٥٩

أحد! الشخص الذي يدور حول نفسه ـ أو يجرّ النّار إلى قرصه ـ يرى نفسه فحسب ، ولهذا فهو مشرك ، لأنّ التوحيد يذيب «الانا» والذات الفردية في محيط اجتماعي واسع عريض ، والموحّد لا يرى شيئا سوى واحد كبير ، أي أن جميع المجتمع الإنساني عباد الله!

والأشخاص الذين يطلبون الاستعلاء مشركون من نوع آخر ، فهم في صراع مع أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصلة عن منافع الآخرين ، فهذا التجزؤ أو «هذه الازدواجية» ليس إلّا شركا في أوجه مختلفة.

من هنا بدأ الأنبياء في سبيل إصلاح المجتمع بالدعوة الى توحيد المعبود «الله» ، ثمّ توحيد الكلمة ، وتوحيد العمل ، وتوحيد المجتمع.

2 ـ قادة الحق لا يطلبون أجرا من أتباعهم.

إنّ الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادّية ، فبذلك يستطيع أن يصحح كل انحراف في أتباعه ، وإلّا فإنّ الحاجة الماديّة بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلّا تصفّد به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.

ومن هذا الطريق طريق الحاجة الماديّة يدخل المنحرفون لممارسة ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإغراء بزيادة المساعدات ، ومهما يكن الزعيم والقائد نقيا صافيا ومخلصا فهو انسان ـ أيضا ـ ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة ـ وآيات أخرى من القرآن ـ أنّ الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنّه ليست لهم حاجة مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.

وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين ، غاية ما

٥٦٠