الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 211195
تحميل: 3566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211195 / تحميل: 3566
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

في الأمر لما كان هؤلاء المصلحون ورجال الدين يقضون أوقاتهم في خدمة الإسلام والمسلمين ، فينبغي أن تؤمن حاجاتهم المادية بطريق صحيح ، وأن يقوم صندوق الإعانة وبيت مال المسلمين بتكفّل هذه الجماعة ، فإنّ واحدا من أغراض إنشاء بيت المال في الإسلام هو هذا الغرض ، أي ليصرف على رجال الدين المنشغلين بالإصلاح والتبليغ.

3 ـ الذنب وهلاك المجتمعات

كما نرى أيضا ـ في الآيات المتقدمة ـ أنّ القرآن يقيم رابطة بين المسائل المعنوية والماديّة ، فيعدّ الاستغفار من الذنب والتوبة إلى الله أساس العمران والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار.

هذه الحقيقة نلمسها في كثير من آيات القرآن الكريم ، من هذه الآيات ما ورد في سورة نوح على لسان هذا النّبي العظيم لقومه ، حيث تقول الآيات( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (1) .

الطريف هنا أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الربيع بن صبيح : قال : كنت عند الحسن بن عليعليهما‌السلام فجاءه رجل وشكاله من الجدب والقحط ، فقال له الحسنعليه‌السلام :استغفر الله ، فجاءه آخر فشكا له من الفقر ، فقال : استغفر الله ، فجاءه ثالث وقال له :ادع لي أن يرزقني الله ولدا ، فقال الحسنعليه‌السلام : استغفر الله ، يقول الربيع بن صبيح:فتعجبت وقلت له : ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلّا أمرته بالاستغفار والتوبة إلى الله فأجابه : «إنّ ما قلته لم يكن من نفسي ، وإنّما استفدت ذلك من كلام الله الذي يحكيه

__________________

(1) سورة نوح ، الآيات 9 ـ 12.

٥٦١

عن لسان نبيّه نوح» ، ثمّ تلا الآيات المتقدمة.(1)

بعض الأشخاص اعتادوا على المرور بهذه المسائل مرور الكرام بأن يقيمون ارتباطا معنويا وعلاقة «غير معروفة» بين هذه الأمور ويريحون أنفسهم من كل تحليل. ولكن إذا دققنا النظر أكثر نجد بين هذه الأمور علائق متقاربة تشد المسائل المادية بالمعنوية في المجتمع كالخيط الذي يربط بين قطع القماش مثلا.

فأيّ مجتمع يكون ملوّثا بالذنب والخيانة والنفاق والسرقة والظلم والكسل وأمثال ذلك، ثمّ يكون هذا المجتمع عامرا كثيرا البركات!؟

وأي مجتمع ينزع عنه روح التعاون ويلجأ إلى الحرب والنزاع وسفك الدماء ، ثمّ تكون أرضه خصبة خضراء ، ويكون مرفها في وضعه الاقتصادي أيضا؟!

وأي مجتمع يغرق أفراده في دوامة الهوى والميول النفسيّة ، ثمّ في الوقت ذاته يكون قويّا راسخ القدم ويثبت أمام عدوّه؟!

ينبغي القول بصراحة أنّه ما من مسألة أخلاقية إلّا ولها أثر مفيد ونافع في حياة الناس الماديّة ، ولا يوجد اعتقاد وإيمان صحيح إلّا وكان لهما نصيب في بناء مجتمع عامر حرّ مستقلّ وقوي الافراد الذين يفصلون المسائل الأخلاقية والإيمان بالدين والتوحيد عن المسائل الماديّة لا يعرفون المسائل المعنوية حقّا ولا المسائل الماديّة.

وإذا كان الدين عبارة عن سلسلة من التشريعات والآداب الظاهرية والخالية من المحتوى بين الناس ، فمن البديهي أن لا يكون له تأثير في النظام المادي.

ولكن حين تكون الإعتقادات المعنوية والروحانيّة نافذة في روح الإنسان إلى درجة تظهر آثارها على يده ورجله ولسانه وأذنه وعينه وجميع ذرات وجوده ، فإنّ الآثار البنّاءة لهذه الإعتقادات في المجتمع لا تخفى على أحد.

وقد لا نستطيع إدراك علاقة الاستغفار بنزول البركات المادية جيدا ، ولكن

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 1 ، ص 361.

٥٦٢

دون شك فإنّ قسما كبيرا منها يمكن أن ندركه!

لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين الثائرين مع الكفار في هذا العصر والزمن ـ جيدا ـ أنّ الإعتقادات الإسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن تنتصر على أحدث الأسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الاستعمارية ، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أثر العقائد الدينية الإيجابية والمعنوية إلى أقصى حدّ في المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة.

4 ـ ما المراد من قوله تعالى :( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) .

إنّ الظاهر من هذه الآية أنّ الله سبحانه يزيدكم من خلال الاستغفار قوة بالإضافة إلى قوتكم ، يشير بعض المفسّرين إليه أنّ المراد من هذه القوّة هي القوّة الإنسانيّة كما مرّ ذلك في سورة نوح :( وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ) ومنهم من قال : إنّها القوى المادية تضاف إلى القوّة المعنويّة. ولكنّ تعبير الآية مطلق وهو يشمل أي زيادة في القوى المادية والمعنويّة ، ولا يعارض أيّا من التفاسير ، بل يحتضنها جميعا

* * *

٥٦٣

الآيات

( قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) )

التّفسير

قوّة المنطق :

والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين ـ قوم عاد ـ مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم :( قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ) أي لم تأتنا بدليل مقنع لنا( وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) الذي تدعونا به إلى عبادة الله

٥٦٤

وترك الأوثان( وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية ، أنّك يا هود مجنون و( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) ولا شكّ أنّ هودا ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته ، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معارجه وعدوّها سحرا وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الاتفاقية التي لا يمكن أن تكون دليلا على المطلوب.

وأساسا ، فإنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إلى دليل ، ومن يكن له أقل شعور وعقل ـ ويترك المخاصمة ـ يدرك هذا الأمر جيدا ، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إلى دليل ، فهل يحتاج إلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية ..؟!

وبتعبير آخر فإنّ ما جاء في دعوة هود ـ في الآيات المتقدمة ـ هو الدعوة إلى الله الواحد الأحد ، والتوبة إليه والاستغفار من الذنوب ، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان ، كل هذه المسائل يمكن إثباتها بالدليل العقلي.

فعلى هذا ، إنّ كان المقصود من قولهم :( ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ) هو نفي الدليل العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعا. وإذا كان المقصود هو نفي المعجزة ، فإنّ هذا الادعاء لا يحتاج إلى معجزة. وعلى كل حال فإنّ قولهم :( وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) دليل على لجاجتهم ، لأنّ الإنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان.

وخصوصا هذه الجملة( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) فإنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم ، وخرافة عبادة الأصنام!

فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية من الإنسان نفسه ، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإنسان العاقل؟! أضف إلى ذلك ، ما دليلهم على جنون هود إلّا أنّه كسر طوق «السنة المتبعة

٥٦٥

عندهم» وكان معارضا للسنن والآداب الخرافية في محيطه ، فإذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.

وليس هذا جديدا ، فالتاريخ السالف والمعاصر مليء بنسبة الجنون إلى الأشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للاستعمار ، والنافضين أثواب الأسر.

على كل حال ، فإنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين ردا مقرونا بالمنطق ، من منطلق القوّة أيضا يقول القرآن في جواب هود لهم( قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

يشير بذلك إلى أنّ الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علنا فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟

ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء ، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء ، فإذا كنتم قادرين( فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) .

فأنا لا ترد عني كثرتكم ولا أعدها شيئا ، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبدا ، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات ، إلّا أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات ، و( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ) .

وهذا دليل على أنّني لا أقول إلّا الحق والصدق ، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر ، فلو فكرتم جيدا لكان هذا وحده معجزا حيث ينهض إنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب ، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم ، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثمّ يضيف : لستم وحدكم في قبضة الله ، فإنّه( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) ، فما لم يأذن به الله ، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئا.

ولكن اعلموا أيضا أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المتقدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق ، بل هو الله

٥٦٦

الذي لا يفعل إلّا الحكمة والعدل( إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظتان

الأولى : إنّ «الناصية» في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة ، وهي مشتقة من «نصا» ومعناها الاتصال والارتباط ، وأخذ بناصية فلان «كناية عن القهر والتسلط عليه» فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه :( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) إشارة إلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة ، لأنّ من أحكم الإمساك على شعر مقدم الرأس من الإنسان أو أي حيوان آخر ، فإنّه يسلب منه القدرة على المقاومة عادة.

والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لا يتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله ، فعليهم أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم.

الثّانية : إنّ جملة( رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله ، لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود ، ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لهم فهو دائما على صراط مستقيم ، وجادة صافية ونظم وحساب ودقة!.

كما ينبغي الانتباه الى هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ كلام هودعليه‌السلام للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته! فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و «أوثانهم» ، فإنّ هودا في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله

٥٦٧

القاهرة!

ثمّ أنّ هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) .

إشارة إلى أن لا يتصوروا أنّ هودا سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوته ، فإنّه أدى واجبه ووظيفته ، وأداء الواجب انتصار بحدّ ذاته حتى لو لم تقبل دعوته ، وهذا درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألّا يحسّوا أبدا بالتعب والقلق من أعمالهم ، وإن لم يقبل الناس دعوتهم.

وكما هدد القوم هودا ، فإنّه هددهم بأشد من تهديدهم ، وقال : إن لم تستجيبوا لدعوتي فإنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ) .

هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام ، إنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدّعوة والهداية والنعم الأخرى التي أنعمها عليهم فإنّه سيبعدهم ويستخلف قوما لائقين بمكانهم( إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) .

فلا تفوته الفرصة ، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.

* * *

٥٦٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) )

التّفسير

اللعن الأبدي على القوم الظّالمين :

في آخر الآيات التي تتحدث عن قصّة قوم عاد ونبيّهم هود إشارة إلى العقاب الأليم للمعاندين ، فتقول الآيات :( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) وتوكّد أيضا نجاة المؤمنين( وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ) .

الطريف هنا أنّ الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم ، بيّنت نجاة المؤمنين وخلاصهم ، لئلا يتصور أنّ العذاب الإلهي إذا نزل يحرق الأخضر واليابس معا لأنّ الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلا مؤمنا بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.

لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إلى محل آمن كما

٥٦٩

رأينا من قبل في قصّة نوح أنّه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أعدّت للمؤمنين ، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.

وفي قوله تعالى :( نَجَّيْنا ) وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسّرين، فـ «نجينا» الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و «نجّينا» الثّانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة ، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضا.

ويشير بعض المفسرين إلى مسألة لطيفة هنا ، وهي أنّ الكلام لما كان على رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة ، فأين الرحمة من العذاب؟ لذلك تكررت كلمة «نجينا» لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شيء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الالتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضا ، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب بالغليظ في أربعة موارد(1) .

وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الأخرى ، وخصوصا الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنّم وأهوالها ، وهكذا أن يكون ، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديدا فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضا ، وهو أن قوم عاد ـ كما سيأتي بيان حالهم إن شاء الله ـ ورد ذكرهم في سورة القمر. والحاقة ، وكانوا قوما ذوي أبدان طوال خشنين ، فشبّهت أجسامهم بالنخل ، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة ، بحيث نقرا في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا ينسبون البناءات الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلا : «هذا البناء عادي» لذلك كان عذابهم

__________________

(1) وهي في السور التالية : 1 ـ ابراهيم ، الآية 7 ؛ 2 ـ لقمان ، الآية 34 ؛ 3 ـ فصلت ، الآية 50 ؛ 4 ـ هود ، الآية 56.

٥٧٠

مناسبا لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشنا وعقابهم صارما ، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عاد في ثلاثة مواضيع :

الأوّل : بإنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضا لم يتركوا دليلا واضحا وسندا بيّنا على صدق نبوة نبيّهم إلّا جحدوه( وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) .

والثّاني : إنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء الله( وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) وإنّما جاءت الرسل بصيغة الجمع ، إمّا لأن جميع دعوات الأنبياء هي نحو حقيقة واحدة وهي «التوحيد: وفروعه» فإنكار دعوة نبي واحد يعدّ إنكارا لجميع الأنبياء ، أو أن هودا دعاهم للإيمان بنبوة الأنبياء السابقين أيضا ،؟ وكانوا ينكرون ذلك.

والثّالث من الذنوب : إنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) .

فأيّ ذنب أعظم من هذه الذنوب : ترك الإيمان ، ومخالفة الأنبياء ، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و «الجبار» يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل ، وبتعبير آخر هو من يجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و «العنيد» هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر ممّا ينبغي ، ولا يرضخ للحق أبدا. هاتان الصفتان تتجلّيان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان ، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبدا ويعمدون الى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

هنا يرد سؤال : إذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلما ذا ذكرت هذه الصفة لله ، كما في سورة الحشر الآية (23) وسائر المصادر الإسلامية.

والجواب هو أنّ «الجبار» ـ كما أشرنا آنفا ـ مشتق إمّا من «الجبر» بمعنى القوّة

٥٧١

والقهر والغلبة ، أو من مادة «الجبران» ومعناه : إزالة النقص من شيء.

ولكن «الجبار» سواء كان بالمعني الأوّل أو الثّاني فهو يستعمل بشكليه ، وقد يراد به الذم إذا حاول الإنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير وتكبره وبالادعاءات الخاطئة ، أو أنّه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت طاعته ورغبته ، فيكون الأخير ذليلا لأمره.

هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ، وأحيانا تقترن معه صفات ذميمة أخرى ، كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة «عنيد» وفي الآية (32) من سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) كما نقرأ على لسان بني إسرائيل في خطابهم لموسىعليه‌السلام في من سكن بيت المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية (22) من سورة المائدة( قالُوا (يا مُوسى) إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) .

ولكن قد تأتي كلمة «الجبار» من هذين الجذرين «الجبر» و «الجبران» وهي بمعنى المدح ، وتطلق على من يسدّ حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام المتكسرة ، أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعا لقدرته ، دون أن يظلم أحدا أو يستغل قدرته ليسيء الاستفادة منها ، ولذلك حين تكون كلمة الجبار بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أخرى ، كما نقرأ في سورة الحشر الآية (23)( الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) وواضح أن صفات كالقدوس والسّلام والمؤمن لا تنسجم مع «الجبار» بمعنى الظالم أو «المتكبر» بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره ، وهذا التعبير يدل على أنّ المراد هنا من «الجبار» هو المعنى الثّاني.

ولكن حيث أنّ البعض فسّروا «الجبار» ببعض معانيه دون الالتفات إلى معانيه المتعددة في اللغة ، تصوّروا أنّ استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله ، وكذلك في ما يخصّ لفظ «المتكبر» ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع

٥٧٢

الإشكال(1) .

وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصّة «هود» وقومه «عاد» بيان لنتيجة أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية :( وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ) وبعد الموت لا يبقى إلّا خزيهم والصيت السيء( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ) يقال لهم( أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ ) .

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ «عاد» ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ «قوم هود» أيضا لتؤكّد عليهم أوّلا ، ولتشير الى أنّهم القوم الذين آذوا نبيهم الناصح لهم ثانيا ، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته.

* * *

بحثان

1 ـ قوم عاد من منظار التاريخ

بالرغم من أنّ بعض المؤرّخين الغربيين كـ «أسبرينكل» أرادوا أن ينكروا قصّة «عاد» من الناحية التاريخية ، وربّما كان ذلك بسبب عدم توفر ذكر لهم في غير الآثار الإسلامية ، ولم يجدوها في كتب العهد القديم «التوراة» ولكن هناك وثائق ـ تشير إلى قصّة عاد ـ مشهورة إجمالا بين العرب في زمن الجاهلية ، وقد ذكرهم شعراء العرب قبل الإسلام ، وحتى في العصر الجاهلي كانوا يطلقون لفظ «العاديّ» على البناء العالي والقوي نسبة إلى عاد.

ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ لفظ «عاد» يطلق على قبيلتين :

إحداهما : قبيلة كانت تقطن الحجاز قبل التاريخ ثمّ زالت وزالت آثارها أيضا ،

__________________

(1) يراجع في هذا الصدد تاج العروس للزبيدي والمفردات للراغب مادة (جبر) و (كبر) ومجمع البيان وتفسير البيان ذيل الآية محل البحث وآيات سورة الحشر الأخيرة.

٥٧٣

ولم ينقل التاريخ البشري عنها إلّا أساطير لا يطمأنّ إلى صحتها. والتعبير الوارد في القرآن «عادا الأولى» إشارة إلى هذه القبيلة.

ولكن في زمن التاريخ ـ ومن المحتمل أن يكون في حدود 700 سنة قبل ميلاد المسيح ـ وجد قوم آخرون باسم «عاد» قطنوا الأحقاف أو اليمن أيضا. وكان أولئك طوالا جساما أقوياء مقتدرين ، ولذلك كانوا يعدون من مثيري الحروب.

كما أنّهم كانوا من الناحية الحضارية متمدنين ، إذ كانت لهم مدن عامرة وأراضي خصبة خضراء وغابات نضرة ، كما وصفوا في القرآن( ... الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) .

ولذلك يقول بعض المؤرّخين «المستشرقين» : إنّ «عادا» كانت تقطن في حدود «برهوت» إحدى نواحي حضر موت اليمن ، وعلى أثر البراكين وجبال النّار التي حولها دمرت الكثير من قراهم ومدنهم وتفرقت بقاياهم.

على كل حال فإنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم وترف ، ولكن كما هي طريقة أغلب المتنعمين الغافلين والسكارى من أثر النعمة استغلّوا قدرتهم لظلم الآخرين واستثمارهم واستعمارهم واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، وأقروا عبادة الأوثان.

وحين دعاهم نبيّهم هودعليه‌السلام بكلّ ما أوتي من جهد وجدّ ليضيء أفكارهم بنصحه ومواعظه ، ويتمّ الحجّة عليهم ، لم يكتفوا بإهمال هذه الدعوة فحسب ، بل نهضوا لإسكات هذا الصوت النيّر لهذا النّبي العظيم فمرّة نسبوه إلى السفاهة والجنون ، ومرّة هددوه بغضب آلهتهم ، ولكنّه وقف صامدا أمامهم كالجبل لا يخشى غضب هؤلاء القوم المغرورين الأقوياء ، حتى استطاع أن يكتسب منهم جماعة تقدّر بأربعة آلاف وطهّر قلوبهم ودعاهم إلى منهاجه وعقيدته ، لكن بقي الآخرون مصرّين على عنادهم ولجاجتهم.

٥٧٤

وأخيرا ـ كما سيأتي في سورة الذاريات والحاقة والقمر ـ غمرهم إعصار شديد لمدّة سبعة ليال وستة أيّام جسوما فأتى على قصورهم فدمّرها وعلى أجسادهم فجعلها كأوراق الخريف وفرقها تفريقا ، ولكن هود كان قد أبعد المؤمنين عن هؤلاء ونجّاهم من العذاب ، وأصبحت حياة أولئك القوم ومصيرهم درسا كبيرا وعبرة لكل الجبابرة والأنانيين(1) .

2 ـ اللعن الدائم الأبدي على «عاد» :

هذا التعبير وما شابهه ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم في شأن أمم مختلفة ، حيث يقول الله سبحانه بعد ذكر أحوالهم ، كما في سورة هود الآية 68 :( أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ) وفي آية أخرى (89) هود( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) وفي سورة المؤمنون، الآية (41)( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وفي آية أخرى (44) المؤمنون( فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) وكما قرأنا في قصّة نوح من قبل في هود الآية (44)( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

ففي جميع هذه الآيات جاء اللعن شعارا لمن أذنبوا ذنبا عظيما ، ويدور هذا اللعن مدار بعدهم عن رحمة الله.

وغالبا ما يطلق اليوم مثل هذا الشعار على المستعمرين والمستكبرين والظالمين ، غاية ما في الأمر أن هذا الشعار القرآني أخّاذ وطريف إلى درجة أنّه غير ناظر إلى بعد واحد فحسب. لأنّنا حين نقول مثلا :( بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فإنّ هذا التعبير يشمل الابتعاد عن رحمة الله ، والابتعاد عن السعادة ، وعن كل خير وبركة ونعمة ، وعن كونهم عبادا لله ، طبعا ابتعادهم عن الخير والسعادة هو انعكاس

__________________

(1) راجع تفسير الميزان ، تفسير مجمع البيان ، وكتاب أعلام القرآن.

٥٧٥

لابتعادهم في نفوسهم وأرواحهم ومحيط عملهم عن الله وخلق الله ، لأنّ كل فكرة وعمل له أثر في الدار الآخرة يشابه ذلك العمل تماما ولذلك فإنّ ابتعادهم هذا في هذه الدنيا أساس ابتعادهم في الآخرة عن رحمة الله وعفوه ومواهبه السنيّة(1) .

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة «بعدا» من الناحية النحوية مفعول مطلق للجملة المقدّرة (المحذوفة) «أبعدهم الله» وعلى القاعدة ينبغي أن يكون هذا المفعول المطلق للجملة المقدرة (إبعادا ، لا بعدا) لأنّه مصدر «أبعد» لكن قد يأتي المصدر الثّلاثي مكان الرباعي كما في قوله تعالى :( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) .

٥٧٦

الآية

( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) )

التّفسير

قصّة ثمود :

انتهت قصّة «عاد قوم هود» بجميع دروسها بشكل مضغوط ، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ، حسب ما تنقله التواريخ عنهم.

ونرى هنا أيضا أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم ، وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسما من محتواه في الآيات المتقدمة ، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلّا الخير لجماعته( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) .

ونجد أيضا أنّ منهج الأنبياء جميعا يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما

٥٧٧

لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال :( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) .

فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له ، وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة؟ ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم ، ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية.

ثمّ يذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أخرى موجودة في الأرض حيث قال :( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) .

وأصل «الاستعمار» و «الإعمار» في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه!

هذا ما قاله أرباب اللغة ، كالراغب في المفردات ، وكثير من المفسّرين في تفسير الآية المتقدمة.

ويرد احتمال آخر ، وهو أنّ الله منحكم عمرا طويلا في هذه الأرض ، وبديهي أنّ المعنى الأوّل وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو.

وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود ، حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات ، وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة ، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت ، كما يقول القرآن الكريم :( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) (1) .

الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل : إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم ،

__________________

(1) سورة الحجر ، 82.

٥٧٨

وإنّما قال : وفوّض إليكم إعمار الأرض( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها. وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.

كما يستفاد ضمنا أنّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأمّة معينة في العمل ، وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها.

فإذا كان الأمر كذلك( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) لدعواتكم.

الاستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر :

لا حظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحا» من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود» ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال :( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) .

لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجذابيتها التي تعني العمران وتفويض الإختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيأتها ، تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مسخت وأصبحت تعطي معنى معاكسا لمفهوم القرآن تماما.

وليست كلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم ، فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أخرى مسخت وحرّفت وتبدّلت وانقلبت رأسا على عقب ، مثل كلمات «الحضارة» و «الثقافة» و «الحرية» وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك.

وعلى كل حال ، فإنّ معنى «الاستعمار» في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة ، بحيث تكون نتيجة هذا «الاستيلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب

٥٧٩

خيراتهم ومصادرة حياتهم.

هذا الاستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة ، يتجسم مرّة بشكل «ثقافي» وأخرى بوجه «فكري» وثالثة بوجه «اقتصادي» ورابعة بوجه «سياسي» وقد يبدو بوجه «عسكري» أيضا ، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة ، فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء ، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الاستعمار هو السبب في الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر.

القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الاستضعاف» التي تنطبق تماما على هذا المعنى أي «جعل الشيء ضعيفا» بالمعنى الواسع والشامل للكلمة ، جعل الفكر ضعيفا ، وجعل الإقتصاد ضعيفا ، وجعل السياسة ضعيفة إلخ

وقد اتسع مجال الاستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الاستعمار «استعمارية» أيضا ، وذلك لأنّ مفهومها اللغوي قد انقلب رأسا على عقب تماما.

وعلى كل حال ، فإن الاستعمار من القصص الطويلة المثيرة للحزن والألم ، بحيث يمكن أن يقال أنّه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغيّر وجهه دائما ، ولكن من غير المعلوم أنّه متى يزول من المجتمعات الإنسانية ، وتقوم حياة البشر على أساس التعاون والاحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد الآخر في جميع المجالات ...؟!

* * *

٥٨٠