الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 244041
تحميل: 3693


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244041 / تحميل: 3693
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

امام اربع حالات مختلفة.

الاولى : ان يتمنّى ان ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره ، وهذه الحالة تدعى «الغبطة» وهي جديرة بالثناء والمدح ، وليس لها اثر سيء ، لانّها تدعو صاحبها للسعي والجدّ والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.

الثّانية : ان يتمنّى ان تسلب هذه النعمة عن الآخرين ، ويسعى من اجل تحقيق هذا التمني ، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة «بالحسد» التي تدعو صاحبها الى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين ، دون ان تدعوه لانّ يطلب من الله مثل ما اعطي غيره من النعم.

الثّالثة : ان يتمنّى ان تكون هذه النعمة له فقط ويحرم الآخرون منها وهذه الحالة تسمّى «البخل» والانانية التي تدعو الإنسان ان يطلب شيئا لنفسه ، ويلتذّ من حرمان الآخرين.

الرّابعة : ان يتمنّى ويحب تنعّم الآخرين بهذه النعمة وان كان محروما منها ، وهو مستعدّ ان يقدّم ما عنده من أجلهم وبغض النظر عن منافعه الشخصية ، وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمّى بـ «الإيثار» التي هي من أهم الصفات الانسانية الحميدة.

وعلى كل حال فإنّ الحسد لا يقتصر على قتل اخوة يوسف لأخيهم فحسب ، بل قد يوصل الإنسان الى قتل نفسه.

ولهذا نجد في الأحاديث الاسلامية تعابير مؤثرة تدعو الى مكافحة هذه الرّذيلة ، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي :

1 ـ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «انّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له : انّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي»(1) .

__________________

(1) اصول الكافي ، ج 2 ، ص 307.

١٤١

2 ـ ونقرا حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة» كما نقرا له حديثا يقول : «انّ المؤمن يغبط ولا يحسد ، والمنافق يحسد ولا يغبط»(1) .

6 ـ كما نستنتج درسا آخر من هذا المقطع في القصّة ، وهو انّ الوالدين ينبغي ان يلاحظا أبناءها الآخرين عند إبراز عنايتهما ومحبّتهما لواحد منهم ، فبالرغم من ان يعقوب لم يرتكب خطأ ـ دون ايّ شك ـ بالنسبة لإبراز علاقته لولديه يوسف وبنيامين ، وانّما كان كل ذلك وفق حسابات خاصّة. ولكن هذه الحادثة تكشف لنا انّه ينبغي ان يكون الإنسان اكثر إحساسا ، في هذه المسألة ـ من القدر اللازم. لانّ إبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدة في نفوس الآخرين ، الى درجة انّها تجرّهم الى كل عمل مخرّب ، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولا بدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة ، فيكون الاقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.

وإذا لم يستطع الإنسان ان يقوم بعمل معاكس ، فإنّه يظل يلوم نفسه ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.

وما زلت اذكر انّه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير ، فأوصى ولده الكبير برعايته ، وأخذ الأب يولي ولده الصغير محبة وشفقة فائضة «لانّه مريض».

فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول ، قلت لذلك الصديق العزيز : الا تفكّر انّ أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك لكنّه لم يصدّق ، وأخيرا راجع الطبيب النّفساني المختصّ فقال : ان ابنك ليس مريضا بمرض خاصّ ، وانّما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به ، وهو يحس بأنّ شخصيته متعطشة للحنان والحبّ ، في حين انّ أخاه لم يحرم منهما.

__________________

(1) المصدر نفسه.

١٤٢

وفي هذا الصدد نقرا في الرّوايات الاسلامية ان الامام الباقرعليه‌السلام قال يوما : «والله انّي لأصانع بعض ولدي ، وأجلسه على فخذي ، وانكز له المخّ ، واكسر له الكسر ، وان الحقّ لغيره من ولدي ، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره ، لا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوته ، وما انزل الله سورة الّا أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضا كما حسد يوسف اخوته ، وبغوا عليه ، فجعلها رحمة على من تولّانا ، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة»(1) .

* * *

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 78.

١٤٣

الآيات

( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) )

التّفسير

المؤامرة المشؤومة!

بعد ان صوّب اخوة يوسف اقتراح أخيهم في عدم قتل يوسف ، والقائه في الجبّ ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك اقدموا على تخطيط آخر ، فجاءوا الى أبيهم بلسان ليّن يدعو الى الترحم ، وفي شكل يتظاهرون به انهم مخلصون له وحدثوا أباهم و( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) .

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا ، فإنّه أخونا وما يزال صبيا وبحاجة الى اللهو واللعب ، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت ، فخلّ سبيله( أَرْسِلْهُ

١٤٤

مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) (1) .

وإذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة ، ولعلّهم قالوا هذا الكلام امام يوسف ليطلب من أبيه إرساله معهم.

وهذه الخطة تركت الأب ـ من جانب ـ امام طريق مسدود ، فإذا لم يرسل يوسف مع اخوته فهو تأكيد على اتهامه ايّاهم ، وحرضت ـ من جانب آخر ـ يوسف على ان يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزّه كما يتنزه اخوته ، ويستفيد من هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.

اجل ، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة ، وغفلة الطرف الآخر ، فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسيّة ، ولكن المؤمنين ينبغي الّا ينخدعوا بحكم الحديث المأثور «المؤمن كيّس» اي فطن ذكي فلا يركنوا للمظهر المنمّق حتى لو كان ذلك من أخيهم.

ولكن يعقوب ـ دون ان يتهم اخوة يوسف بسوء القصد ـ اظهر تردّده في إرسال يوسف لامرين : الاوّل : انه سيبتعد عنه فيحزن عليه ، والثاني : ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله ، فاعتذر إليهم و( قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) .

وهذه المسألة طبيعية ، حيث قد يبتعد اخوة يوسف عنه فيغفلون عن امره ، فيأتي إليه الذئب فيأكله.

وبديهي انّ الاخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الاوّل الذي أشار اليه أبوهم يعقوب ، لانّ الحزن والاغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئا عاديّا حتى

__________________

(1) «يرتع» من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والانعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها ، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع ، يرتع) ويراد به تنزّه الإنسان وكثرة الاكل والشرب ايضا.

١٤٥

يعوّض عنه ، وربّما كان هذا التعبير مثيرا لنار الحسد في اخوة يوسف اكثر.

ومن جهة اخرى فإنّ هذا الموضوع الذي أشار اليه يعقوب ، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه ، وهو لا يحتاج الى بيان ، لانّ الولد لا بدّ له من الابتعاد عن أبيه من اجل ان ينمو ويرشد ، وإذا أريد له ان يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلا بدّ من هذا الابتعاد والانفصال حتى يتكامل ولده ، فاليوم تنزّه وغدا اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم ، وبعد غد عمل وسعي للحياة ، وأخيرا فإنّ الانفصال لا بدّ منه.

لذلك فإنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الاوّل من كلامه ، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لانّه كان مهما واساسيا بالنسبة لهم إذ( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

اي : أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا ، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ اضافة الى علاقة الاخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا ، ما عسى ان نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا : انّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!

لقد أجابوا أباهم بما تضمن قوله :( أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) ومشغولون بلعبكم ، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة انّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي إذ كيف يمكن لواحد منّا ان يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف ، لانّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لاي عمل.

ويبرز هنا سؤال مهم وهو : لماذا أشار يعقوب الى خطر الذئب من دون الاخطار الاخرى؟!

قال البعض : ان صحراء كنعان ـ كانت ـ «صحراء مذئبة» ومن هنا كان

١٤٦

الخوف من الذئب اكثر من غيره.

وقال البعض : كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي ان ذئابا هجمت على ولده يوسف.

وهناك احتمال آخر هو ان يعقوب أجابهم بلسان الكناية ، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب اخوة يوسف.

وعلى كل حال فقد استطاع اخوة يوسف بما أوتوا من الحيل ، وبتحريك احاسيس يوسف النقيّة وترغيبه الى التنزه خارج المدينة ، وربّما كان الاوّل مرّة يتاح ليوسف ان يحصل على مثل هذه الفرصة استطاعوا ان يأخذوا يوسف معهم وان يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

* * *

بحوث

وينبغي هنا الالتفات الى عدة دروس حيّة تستلهم من هذه القصّة :

1 ـ مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء

من الطبيعي انّ الأعداء لا يدخلون الميادين ـ عند الهجوم ـ بصراحة ودون استتار ابدا.

بل انّهم من اجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل وسائل الدفاع يسعون الى إخفاء عملهم تحت قناع جذاب انّ اخوة يوسف اخفوا خطة هلاكه او ابعاده تحت غطاء اسمى الاحاسيس والعواطف الاخوية ، هذه الاحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لانّ يمضي معهم ، وكانت عند أبيهم موضع قبول من جهة اخرى ايضا.

وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليوميّة على المدى الواسع ، وما

١٤٧

تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار غير قليل ، ولها مظاهر متعددة ، فمرة بمظهر المساعدات الاقتصادية ، واخرى تحت ستار التبادل الثقافي ، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر ، ورابعة بأسلوب المعاهدات الدفاعية كل تلك الأمور كانت نتيجة اسوا القرارات الاستعمارية المذلّة للأمم المستضعفة والتي من ضمنها أمتنا الاسلاميّة.

ولكن ومع هذه التجارب التاريخيّة ينبغي ان نكون حذرين للغاية وان نعرف أعداءنا جيدا ، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد ان تمتص دماءنا بما تظهره من عواطف واحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما زلنا نتذكر ما فعلته الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار المساعدات الطبيّة الى بعض الدول الافريقية المتضررة بالحرب اسلحة وعتاد أرسلت الى عملائها ، كما بعثت اخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية والسفارات والممثلين لها الى مختلف مناطق العالم.

وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدّول المستضعفة على الاسلحة الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الأسرار العسكرية لتلك الدولة.

وبإرسال خبراء فنيين!! الى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج تكرس التبعية ترى ، أليست كل هذه التجارب التأريخيّة كافية لئلّا ننخدع بهذه الزخارف البرّاقة الكاذبة وان نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالانسانيّة.

2 ـ حاجة الإنسان الفطرية والطبيعية الى التنزّه والارتياح

من الطريف ان يعقوبعليه‌السلام لم يردّ على كلام اخوة يوسف واستدلالهم على انّه بحاجة الى التنزه والارتياح ، بل وافق على ذلك عمليّا ، وهذا دليل كاف على ان ايّ عقل سليم لا يستطيع ان ينكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعيّة فالإنسان

١٤٨

ليس آلة تستعمل في اي وقت كان وكيف كان ، بل له روح ونفس ينالهما التعب والنصب كما ينالان الجسم. فكما ان الجسم يحتاج الى الراحة والنوم ، كذلك الرّوح والنّفس بحاجة الى التنزّه والارتياح السليم.

التجربة ـ ايضا ـ تدل على ان الإنسان كلّما واصل عمله بشكل رتيب ، فإنّ مردود هذا العمل سيقلّ تدريجيا نتيجة ضعف النشاط ، وعلى العكس من ذلك فإنّ الاستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطا جديدا بحيث تزداد كمية العمل وكيفيته معا ، ولذلك فإنّ الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون عونا على العمل ايضا.

وفي الرّوايات الاسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة «القانون» حيث يقول الامام عليعليه‌السلام : «للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يرمّ معاشه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل»(1) .

وممّا يستجلب النظر انّ في بعض الرّوايات الاسلامية أضيفت هذه الجملة الى النص المتقدم «وذلك عون على سائر الساعات».

وعلى حدّ تعبير البعض فإنّ التنزّه والارتياح بمثابة تدهين وتنظيف اجهزة السيّارة ، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة اجهزتها وتنظيفها ، فإنها ستغدو اكثر قوة نشاطا يعوّض عن زمن توقفها اضعاف المرات ، كما انه سيزيد من عمر السيارة ايضا.

لكن المهم ان يكون هذا التنزّه صحيحا ، والّا فإنه لا يحل المشكلة ، بل سيزيدها ، فإنّ كثيرا من حالات التنزّه هذه تدمر الإنسان وتسلب منه نشاطه وقدرته على العمل لفترة ما ، او على الأقل تخفف من نشاط عمله.

وهناك نقطة تدعو للالتفات ايضا ، وهي ان الإسلام اهتم بمسألة الترويض والاستراحة النفسية بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار ويحدثنا التاريخ

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار : رقم الكلمة 390.

١٤٩

انّ قسما من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحيانا كانت تناط اليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة ، وربّما اعطى ناقته الخاصّة ـ لبعض الصحابة للتسابق عليها.

ففي رواية الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «ان النّبي اجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها اسامة ، فجعل الناس يقولون : سبق رسول الله ورسول الله يقول : سبق اسامة(1) » (اشارة الى ان المهم في السبق هو الراكب لا المركب ، حتى وان كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق).

النقطة الاخرى هي انّه كما ان اخوة يوسف استغلّوا علاقة الإنسان ـ ولا سيما الشاب ـ بالتنزّه واللعب من اجل الوصول الى هدفهم الغادر ففي حياتنا المعاصرة ـ ايضا ـ نجد اعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب ، فينبغي ان نحذر المستكبرين «الذئاب» الذين يخططون لإضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية.

ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاه) ، فإنّهم وبهدف تنفيذ بعض المؤامرات ونهب ثروات البلاد وتحويلها الى الأجانب لقاء ثمن بخس ، كانوا يرتّبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لالهاء الناس لئلّا يطلعوا على المسائل السياسيّة.

3 ـ الولد في ظلّ الوالد

إذا كانت محبّة الأب الشديدة او الام بالنسبة للولد تستوجب ان يحفظ الى جانبهما ، الّا ان من الواضح ان فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إليها ، وعلى هذا الأساس ينبغي ان تقل

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 596.

١٥٠

هذه المحافظة كلّما تقدّمت به السن ، ويمنح الولد الاجازة ليخطو في حياته نحو الاستقلال ، والّا فسيكون كمثل غرسة النّورس تحت ظل الشجرة القوية دائما لا تنمو كما يلزم.

وربّما وافق يعقوبعليه‌السلام ـ لهذا السبب ـ على اقتراح ابنائه رغم علاقته الشديدة بيوسف ، وأرسله معهم الى خارج المدينة ، ومع انّ هذا الأمر كان صعبا على يعقوب ، ولكن مصلحة يوسف وحاجته الى الرشد والنموّ كانت تستوجب ان يجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وايّاما!

وهذه مسألة تربوية مهمّة غفل عنها كثير من الآباء والأمهات ، حيث يربّون أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون ان يعيشوا خارج «خيمة الأبوين» ومحافظتهما عليهم ، وبالتالي يسقطون امام تيارات الحوادث وضغوطها ، كما ان هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة ، ولكنّهم صنعوا أنفسهم بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها.

فالمهم ان يلتفت الوالدان الى هذه المسألة التربوية ، والّا فستكون محبتهما «الكاذبة» مانعا من استقلال أولادهم.

من الطريف ان هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي ، فنحن نرى أفراخ الدجاج «الفروج» ـ مثلا ـ يبدأ حياته تحت جناحي امه ، وتحافظ الدجاجة الام عليها كما تحافظ على روحها «العزيزة».

ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الافراخ فإنّ الام لا تترك المحافظة على هذه الافراخ فحسب ، بل تنقر ايّا منها يصل إليها. ومعنى هذا انّها تريد ان تعوّدهم على ان يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟!

ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة والمحبّة ، بل هي محبّة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين.

١٥١

4 ـ لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية

نشاهد في هذا الفصل من القصّة انّ يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه اخوة يوسف وتحذيره ولده يوسف ألّا يقصص رؤياه على اخوته ، وان يكتم الأمر ، الّا انّه لم يكن مستعدا لانّ يتّهمهم بقصد الاساءة الى يوسف ، بل كان عذره إليهم انّه يحزنه فراقه ، ويخاف ان يأكله الذئب في الصحراء.

والأخلاق والمعايير الانسانية والاسس القضائية العادلة توجب ذلك ايضا ، فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه ، فالأصل البراءة والصحّة والطهارة الّا ان يثبت خلافه.

5 ـ تلقين العدوّ

المسألة الاخرى اننا نقرا ـ في ذيل الآيات المتقدمة ـ رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «لا تلقّنوا الكذّاب فيكذب فإنّ بني يعقوبعليه‌السلام لم يعلموا ان الذئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم»(1) . اشارة الى انه قد يحدث أحيانا ان لا يلتفت الطرف الآخر الى الحيلة والى طريق الاعتذار وانتخاب طريق الانحراف ، فعليكم ان تحذروا من ذكر الاحتمالات المختلفة التي تبيّن له طرق الانحراف.

ومثل هذا يشبه تماما ما لو قال الإنسان لطفله : لا ترم الكرة باتّجاه المصباح ، ولم يكن الطفل يعلم ان الكرة يمكن ان ترمى نحو المصباح ، فيلتفت الى ان مثل هذا العمل ممكن ، وتتحرك فيه نوازع الفحص ماذا سيكون لو رميت الكرة باتجاه المصباح؟ ثمّ يبدأ «لعبته» لتنتهي بتكسّر المصباح!

وليس هذا موضوعا هينا ولا خاصا بالأطفال ، فقد يتفق أحيانا ان الأوامر والنواهي الخاطئة ، تسبب ان يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل ، فتوسوس لهم أنفسهم ان يقدموا عليها ، فينبغي في مثل هذه الموارد ـ قدر المستطاع ـ ان

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 415.

١٥٢

تثار المسائل بشكل لا يبعث على اي تعلّم سيئ! وبالطبع فإنّ يعقوب النّبيعليه‌السلام قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب ، الّا انّ أبناءه الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيئ.

وشبيه هذا الموضوع الأسلوب الذي نجده في كثير من المقالات ، فمثلا قد يكتب أحدهم مقالة ـ او يقوم بإخراج فيلما او غيرها ـ عن ضرر الموادّ المخدرة او الاستمناء ، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غير المطلعين وينسون المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها ، ولذلك فغالبا ما يكون ضرر هذه المقالات والافلام وخسارتها اكثر من فائدتها بمراتب.

6 ـ وآخر نقطة نشير إليها هنا انّ اخوة يوسف( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) وهي اشارة الى انّ الإنسان إذا تحمّل مسئولية ما ـ ووافق عليها ـ فإنّ من الواجب عليه ان يوقف نفسه من أجلها والّا فإنّه سيفقد كل قيمه ـ قيمة شخصيته ، وماء وجهه ، والموقع الاجتماعي ، ووجدانه.

فكيف يعقل ان يكون الشخص ضمير حيّ ووجدان يقظ وشخصية كريمة يعتز بحيثيته وماء وجهه ، ومع كل ذلك يتنصل عن مسئولياته ويقف موقفا سلبيا ازاءها؟!

* * *

١٥٣

الآيات

( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) )

التّفسير

الكذب المفضوح :

وأخيرا انتصر اخوة يوسف واقنعوا أباهم ان يرسل معهم أخاهم يوسف ، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وازاحة أخاهم الذي يقف عائقا في طريقهم وكان قلقهم الوحيد ان يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإرسال يوسف معهم.

فجاءوا صباحا الى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف ، وكرر توصياته

١٥٤

في شأنه ، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة.

يقال : انّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه ، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم ، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته ، وكان اخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف واظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم ، ولكن ما ان غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى انّه لا يراهم ، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على راس يوسف ، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجئ من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيره احد منهم.

نقرا في رواية انّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة ، ولكن حين أرادوا ان يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة فتعجب اخوته كثيرا وحسبوا ان أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحا ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درسا كبيرا إذ قال : ـ لا انسى انني نظرت ـ ايها الاخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة ، فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن وقد أصبحت أسيرا بين أيديكم واستجير بكم من واحد للآخر فلا أجار ، وقد سلطكم الله عليّ لا تعلم هذا الدرس ، وهو الّا اعتمد واتوكّل على احد سواه حتى ولو كانوا اخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ ) (1) .

__________________

(1) في العبارة المتقدمة حذف جواب «لما» والتقدير كما يلي : فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة ان يسكت عنه المتكلم ، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

١٥٥

جملة «اجمعوا» تدلّ على انّ جميع الاخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة ، وان لم يتفقوا جميعا على قتله.

وأساسا فإنّ كلمة «اجمعوا» مأخوذة من مادة «جمع» وهي في هذه الموارد اشارة الى جمع الآراء والأفكار.

ثمّ تبيّن الآية انّ الله اوحى الى يوسف وهدا روعه وألهمه الّا يحزن فالعاقبة له ، إذ تقول :( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين ، فيأتي إخوتك ليمدّوا ايدي الحاجة إليك ، ويكونوا كالظامئين الى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إليك في منتهى التواضع ، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون انك أخوهم ، وستقول لهم في ذلك اليوم : ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم! وهذا الوحي الالهي لم يكن وحي النبوة ، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها ، بل كان إلهاما لقلب يوسف ليعلم انه ليس وحيدا ، بل له حافظ ورقيب ، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ اخوة يوسف خطتهم كما أرادوا ، ولكن ينبغي ان يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم ان يوسف انتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم الى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه ، فأقنعوه ـ ظاهرا ـ عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا اليه بدلائل مزيّفة!!

يقول القرآن الكريم :( وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ) بكاء كاذبا ، وهذا يدلّ على انّ البكاء الكاذب ممكن ولا يمكن ان يخدع ببكاء العين وحدها.

امّا الأب الذي كان ينتظر مجيء ولده (يوسف) بفارغ الصبر ، فقد اهتز

١٥٦

وارتجف حين راى الجمع وليس بينهم يوسف ، وسأل عنه مستفسرا فأجابوه و( قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) لصغر سنه ولانّه لا يعرف التسابق ، وانشغلنا عنه( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) .

لأنك أخبرتنا من قبل بهذا الاحتمال ، وستظن ان ادّعاءنا مجرّد احتيال.

لقد كان كلام اخوة يوسف مدروسا بشكل دقيق ، وذلك ـ اوّلا ـ لانّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة «يا أَبانا » وفيها ما فيها من الاستعطاف.

وثانيا : لانّ من الطبيعي ان ينشغل هؤلاء الاخوة الأقوياء بالتسابق ، ويتركوا أخاهم الصغير رقيبا على متاعهم ، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم ، وقالوا له :( وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) .

ومن اجل ان يبرهنوا على صحة كلامهم فقد( جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) إذ لطخوا الثوب بدم الغزال او الخروف او التيس ولكن حيث انّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة ، وحيث ان اية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل ان تجتمع منظّمة في الكذب ، فقد غفل اخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة وهي ـ على الأقل ـ ان يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب فقد قدّموا القميص سالما غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم ، فما ان وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) .

جاء في بعض الرّوايات انّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول : «ما أرى اثر ناب ولا ظفر انّ هذا السبع رحيم» ، وفي رواية انّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا احلم من هذا أكل ابني ولم يمزق على قميصه ، وجاء انّه بكى وصاح وحرّ مغشيّا عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق ، فقال : ويل لنا من

١٥٧

ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق الّا ببرد السحر(1) .

وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر او اليأس او الفزع او الجزع ، بل قال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (2) ثمّ قال :( وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) واسأله ان يبدل مرارة الصبر في فمي الى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل اكثر امام هذا الطوفان العظيم ، لئلا افقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.

ولم يقل : اسأله ان يعطيني الصبر على موت يوسف ، لانّه كان يعلم ان يوسف لم يقتل بل قال : اطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف وعلى ما تصفون.

ملاحظات

* * *

1 ـ حول الترك «الاولى»

ينقل ابو حمزة الثمالي عن الامام السجاد فيقول : كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الامام السجادعليه‌السلام فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض الى منزله وانا معه ، فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها : «لا يعبر على بابي سائل الّا أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة».

يقول ابو حمزة : فقلت له : ليس كل من يطلب العون مستحقا له ، فقال : يا أبا ثابت ، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه ونردّه فينزل بنا ـ اهل البيت ـ ما نزل بيعقوب وآله. أطعموهم ان يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه ، وان سائلا مؤمنا صوّاما محقّا له عند الله منزلة ، وكان مجتازا غريبا اعترّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره

__________________

(1) تفسير الآلوسي : ذيل الآية.

(2) صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدإ محذوف ، وتقدير الكلام : صبري صبر جميل.

١٥٨

يهتف على بابه : أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم ، يهتف بذلك على بابه مرارا وهم يسمعونه ، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله : فلما ايس ان يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه الى الله باب وطاويا ، وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله ، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.

قال : فأوحى اللهعزوجل الى يعقوب في صبيحة تلك الليلة : لقد أذللت ـ يا يعقوب ـ عبدي ذلة استجررت بها غضبي ، واستوجبت بها أدبي ، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب ، ان احبّ انبيائي اليّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب ، ما رحمت «ذميال» عبدي المجتهد في عبادته ، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان إفطاره ويهتف بكم : أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع ، فلم تطعموه شيئا. فاسترجع واستعبر وشكا ما به اليّ وبات جائعا وطاويا حامدا ، أصبح لي صائما ، وأنت ـ يا يعقوب ـ وولدك شباع ، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

او علمت ـ يا يعقوب ـ انّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها الى اعدائي ...إلخ(1) .

ومن الطريف انّ أبا حمزة يقول : سألت الامام زين العابدينعليه‌السلام متى راى يوسف رؤياه؟ فقال الامام : في تلك الليلة»(2) .

يستفاد من هذا الحديث ان زلّة بسيطة او بعبارة أدق : «ترك الاولى» وهو لا يعدّ خطيئة او إثما ، لانّ يعقوب له يتّضح له حال السائل هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سببا لانّ يبتليهم الله بلاء شديدا وما ذلك الّا لمقامهم

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 243 ونور الثقلين ، ج 2 ، ص 411.

(2) المصدر السّابق.

١٥٩

الكبير الذي يوجب عليهم ان يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم ، لانّ «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

فإذا كان يعقوبعليه‌السلام قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لانّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه ، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع ، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلمون من عذاب الله!

2 ـ دعاء يوسف البليغ الجذّاب

ترد في روايات اهل البيتعليهم‌السلام وروايات اهل السنة ، ان يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء ، وصرف كلّ توجهه الى ذات الله المقدسة يناجي ربّه ، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إياه ففي رواية انّه دعا ربّه بهذه المناجاة «اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، يا ملجأ كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملا ، يا حيّ يا قيّوم ، اسألك ان تقذف رجاءك في قلبي ، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك ، وان تجعل لي من امري فرجا ومخرجا ، انّك على كل شيء قدير».

ومن الطريف انّنا نقرا في ذيل هذه الرواية ، انّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت : «الهنا نسمع صوتا ودعاء ، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ»(1) .

وهناك نقطة تدعو للالتفات وهي : حين رمى يوسف اخوته في الجبّ خلعوا عنه قميصه وتركوه عاريا ، فنادى : اتركوا لي قميصي ـ على الأقل ـ لاغطي به بدني إذا بقيت حيا ، ويكون كفني إذا متّ. فقال له اخوته : اطلبه من الشمس

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 337.

١٦٠