الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 244242
تحميل: 3698


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244242 / تحميل: 3698
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الغضب وقال مخاطبا ايّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا ان يشرحوا له خديعتهم مع يوسف( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) اي انّ أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هو انّ يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده استنادا الى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد ، مع انّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم ، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه ، كما انّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحا ليعقوب.

او كان يعقوب يقصد بقوله : ( بل سّولت لكم . الى آخر) الاشارة الى امور اخرى ، منها :

1 ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم امام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم ، مع انّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّا على السرقة.

2 ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من انّ عقوبة السارق عندهم هو استعباده مع انّ هذه السنّة السائرة في اهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانونا سماويا (هذا ان قلنا انّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب اليه بعض المفسّرين).

3 ـ وأخيرا لعلّه عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين الى كنعان دون الاقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(1) .

__________________

(1) احتمل بعض المفسّرين انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى قصّة يوسف ، لكنّه بعيد عن الواقع ، لانّ الآيات السابقة لا

٢٨١

لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والاسى رجع يعقوب الى قرارة نفسه وقال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) اي انّني سوف امسك بزمام نفسي ، ولا اسمح لها بأن تطغى عليّ بل اصبر صبرا جميلا على امل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي اولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر)( عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فإنّه هو العالم بواقع الأمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي ، ولا يفعل الّا عن حكمة وتدبير( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده ، استولى عليه الحزن والألم ، وحينما رأى مكان بنيامين خاليا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه ، وتذكّر تلك الايّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه ، امّا اليوم فلم يبق منه اثر ولا عن حياته خبر ، كما أنّ خليفته (بنيامين) ايضا قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب الى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.

حينما تذكّر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده واستعبر ليوسف( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) امّا الاخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف ، ظهر على جبينهم عرق الندامة وازداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير اخويهم بنيامين ويوسف ، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد اعزّ أولاده( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطرا على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وان لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى( فَهُوَ كَظِيمٌ ) .

يفهم من هذه الآيات انّ يعقوب لم يكن فاقدا لبصره ، لكنّ المصائب الاخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه افقده بصره ، وكما أشرنا سابقا فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجا عن قدرته واختياره ، فإذا لا يتنافى مع الصبر الجميل.

__________________

تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.

٢٨٢

امّا الاخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم ، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف ، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد ، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم ان يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار ، توجّهوا الى أبيهم وخاطبوه معاتبين( قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) (1) اي انّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.

لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله :( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (2) لا إليكم ، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لانّني( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) فهو اللطيف الكريم الذي لا اطلب سواه.

* * *

__________________

(1) (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم ، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفا على الموت.

(2) (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن إخفاؤه ، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على احد.

٢٨٣

الآيات

( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) )

التّفسير

اليأس علامة الكفر!

كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوما بعد آخر في مصر وما حولها

٢٨٤

ومنها كنعان ، ومرّة اخرى امر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام ، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الاولى ان يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين ، حيث قال لهم :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) .

لكن بما انّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين الى هلاك يوسف وعدم بقاءه ، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك ، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتّكال عليه بقوله :( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) .

(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس ، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس انّ التحسّس هو البحث عن الخير ، والتجسّس هو البحث عن الشرّ ، لكن ذهب آخرون الى انّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.

وهنا رأي ثالث في انّهما متّحدان في المعنى ، الّا انّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله : «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا انّهما مختلفان وانّ ما ذهب اليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة ، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف : لا تبحثوا عن امور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّا ام خيرا.

قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته «الرّوح والرّوح في الأصل واحد

٢٨٥

وجعل الروح اسما للنّفس والرّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).

وأخيرا جمع الاخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر ، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها ارض مصر ، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.

لكن في هذه السفرة ـ خلافا للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند اهل مصر او العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة ، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة اخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، اضافة الى هذه الأمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي المّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت الى العظم ، كما يقول المثل الّا انّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم( لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) .

وأخيرا استطاعوا ان يقابلوا يوسف ، فخاطبوه ـ وهم في غاية الشدّة والألم ـ بقولهم :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) اي انّ القحط والغلاء والشدّة قد المّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلّا متاعا رخيصا( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (1) لا قيمة لها ولكن ـ في كلّ الأحوال ـ نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ) ولا تطلب منّا الأجر ، بل اطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث( إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

__________________

(1) (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء ، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم ، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمنا لشيء (مزجاة) من (الإزجاء) بمعنى الدفع ، وبما انّ الشيء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه ، اطلق عليه (مزجاة).

٢٨٦

والطريف انّ اخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم اوّلا ، بل حاولوا الحصول على الطعام ، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب ، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف ، او لعلّهم أرادوا ان يظهروا أنفسهم امام العزيز والمصريين وكأنّهم أناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط ، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم امام العزيز ويطلبوا منه المساعدة ، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه اكثر.

قال بعض المفسّرين : انّ مقصود الاخوة من قولهم :( تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) كان طلب الإفراج عن أخيهم لانّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّانا دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم ، فإنّهم يدفعون ثمنه.

ونقرا في روايات وردت في هذا المقام ، انّ الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم الى عزيز مصر ، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من اهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده اعزّ أولاده واحبّهم الى نفسه يوسف وأخيه بنيامين ، وما أصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز ان يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكّره انّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وانّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم الى العزيز شاهدوا انّه فضّ الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدا يبكي بحيث انّ الدموع بلّت ثيابه(1) (وهذا ما حيّر الاخوة ، وبداوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقا وشغفا حينما فتحها ، ولعلّ فعل العزيز اثار عندهم احتمال ان يكون يوسف هو العزيز ، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبرا

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية الشريفة.

٢٨٧

وعجز عن ان يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايّام الامتحان الصعب ـ وكان قد اشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ ، أراد ان يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله :( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .

لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم اوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول :( ما فَعَلْتُمْ ) وثانيا يبيّن لهم طريقة الاعتذار وانّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم انّما صدر عن جهلهم وغرورهم ، وانّه قد مضى ايّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!

كما انّه يفهم من الآية الشريفة انّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة ، بل انّ بنيامين ايضا كان يقاسي منهم ألوان العذاب ، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر ، جانبا ممّا عاناه تحت أيديهم ، ويستفاد من بعض الرّوايات انّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال انّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(1) .

امّا هم ، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأمور مجتمعة ، وشاهدوا انّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها احد غيرهم الّا يوسف.

ومن جهة اخرى ادهشهم يوسف وما اصابه من الوجد والهياج حينما استلم كتاب يعقوب ، واحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثا كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم

__________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.

٢٨٨

يتصوّروا انّه يمكن ان يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار عزيزا لمصر ، اين يوسف واين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيرا وسألوه مستفسرين منه( قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) .

كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الاخوة ، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى اجابة العزيز! وانّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته ، ام انّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.

كانت اللحظات تمرّ بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم ، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم حقيقة نفسه و( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم اخوته درسا آخر من دروس المعرفة قال : إنّه( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

لا يعرف احد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الاخوة كما لا يعرف احد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه ، فترقّبوا اجابة يوسف وانّه هل يغفر لهم إساءتهم اليه ويعفو عن جريمتهم ام لا؟ فابتدءوا مستفسرين بقولهم :( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) (1) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة( وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) (2) .

__________________

(1) (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن اثر الشيء ، وبما انّه يقال للفضل والخير : اثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو ، فبناء على هذا يكون معنى قوله( آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.

(2) يرى الفخر الرازي في تفسيره انّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو انّ الخاطئ يقال لمن تعمّد الخطأ ، والمخطئ لمن

٢٨٩

امّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى ان يرى اخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد انتصاره عليهم ـ او لعلّه أراد ان يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من احتمال ان ينتقم منهم ، فخاطبهم بقوله :( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (1) اي انّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم ، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذا الى نفوسكم ، ثمّ لكي يبيّن لهم انّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ايضا عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم :( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانّه ارحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث انّه لم يعف عن سيّئات اخوته فحسب ، بل رفض حتّى ان يوبّخ ويعاتب اخوته ـ فضلا عن ان يجازيهم ويعاقبهم ـ اضافة الى هذا فإنّه طمأنهم على انّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وانّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم ، واستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو ارحم الراحمين.

وهنا تذكر الاخوة مصيبة اخرى قد المّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما اقترفوه في حقّ أخيهم الا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزنا وفراقا على يوسف ، امّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله :( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) ثمّ طلب منهم ان يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعا( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

__________________

اخطأ عن سهو.

(1) «تثريب» أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء ، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء ، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).

٢٩٠

بحوث

1 ـ من الذي حمل قميص يوسف؟

ورد في بعض الرّوايات انّ يوسف قال : انّ الذي يحمل قميصي المشافي الى أبي لا بدّ وان يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء اليه ، لكي يدخل السرور على قلبه بعد ان ملا قلبه حزنا وألما من قبل! فأعطى ل (يهودا) قميصه بعد ان اعترف له انّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء الى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف ، وهذا التصرّف من يوسف ان لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على انّه برغم اعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة ، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأمور المتعلّقة بالسلوك الاخلاقي(1) .

2 ـ يوسف وجلالة شأنه :

ورد في بعض الرّوايات انّ اخوة يوسف ـ بعد هذه القضايا ـ كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا اليه من يقول له : يا يوسف انّك تستضيفنا كلّ يوم صباحا ومساء ـ على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر الى وجهك بعد ان نتذكّر اساءتنا إليك ، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم ، وانّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وانّ الشعب المصري كانوا ينظرون اليّ نظرة الحرّ الى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ!!) اي انظروا الى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهما وهو الآن وصل الى هذه المرتبة السامية ، لكنّهم الآن ينظرون الى مائدتي وأنتم جلوس حولها ، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وانّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهما ، وانّما انا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله ابراهيم الخليل ، وهذا ما أباهي

__________________

(1) مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

٢٩١

وافتخر به امام الآخرين(1) .

3 ـ الشكر على الانتصار :

انّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درسا من دروس الأخلاق الاسلامية ، وهو انّه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لا بدّ ان لا ننسى العفو والرحمة ، وان لا نعامله بقساوة ، فإنّ اخوة يوسف قد عاملوه اشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته الى أبواب الموت ، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى ، لعجز عن الخلاص ممّا اوقعوه فيه ، هذا اضافة الى المصائب والآلام التي تحملها أبوه ، لكنّهم الآن جميعا واقفون امّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة ، لكنّه عاملهم بلطف واحسان.

كما انّه يفهم من خلال حديثه معهم انّه لم يحقد عليهم قطّ ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الاخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهدا ان يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم ، بل اكثر من هذا فإنّه حاول ان يفهمهم انّ لهم عليه فضلا في مجيئهم الى مصر والتعرّف عليهم ، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته امام الشعب في هذا البلد ، حيث عرف اهل مصر انّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبدا بيع في السوق بدراهم معدودات ، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!

ومن حسن الصدف انّنا نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة ، فمثلا حينما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة واذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم ، جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما رواه ابن عبّاس) الى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجأوا إليها هم ينتظرون حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وقال كلمته المشهورة : «الحمد لله الذي صدق وعده

__________________

(1) تفسير فخر الرازي ، ج 18 ، ص 206.

٢٩٢

ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ توجّه الى قريش وخاطبهم بقوله : «ماذا تظنّون يا معشر قريش؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت! قال : وانا أقول كما قال اخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

اي انّ اليوم ليس يوم ملامة وانتقام واظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فقال عمر بن الخطاب : ففضت عرقا من الحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك انّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة : اليوم ننتقم منكم ونفعل(1) .

كما انّه وردت في كثير من الرّوايات الاسلامية انّ «زكاة النصر هو العفو».

يقول عليعليه‌السلام : «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»(2) .

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ج 9 ، ص 258.

(2) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ جملة 11.

٢٩٣

الآيات

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قال ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) )

التّفسير

وأخيرا شملتهم رعاية الله ولطفه :

امّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد ان واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، وفيما كان الاخوة يقضون اسعد لحظات حياتهم ، كان هناك بيت في بلاد الشام وارض كنعان ـ الا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته احرج اللحظات واشدّها حزنا وبؤسا.

٢٩٤

لكن ـ مقارنا مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث اذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي الى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم :( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) فإنّي احسّ بأنّ ايّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وارى انّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) (1) .

والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) انّه بمجرّد ان تحرّكت القافلة من مصر احسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.

امّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادة أحفاده وازواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين :( قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم انّه حي ، وأخيرا تقول : انّك تشمّ رائحته من مصر؟! اين مصر واين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، الم تقل لاولادك قبل فترة اذهبوا الى مصر وتحسّسوا عن احوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة انّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير انّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ

__________________

(1) (تفنّدون) من مادّة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة ، ومضى بعض اللغويين الى انّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإنّ جملة (لو لا ان تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.

٢٩٥

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة :( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وهنا قالوا له :( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه ، ويتصوّرون انّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وانّه لا يطّلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.

وتمضي الليالي والايّام ويعقوب في حالة الانتظار الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان ، الّا انّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة والى الأبد.

وبعد عدّة ايّام من الانتظار ـ والتي لا يعلم الّا الله كيف قضاها يعقوب ـ ارتفع صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافا للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين الى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف والقى قميص يوسف على وجهه.

امّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص فبمجرّد ان احسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نورا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وانّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم ، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه ، واحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأة راى النّور في عينيه واحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى راى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله :( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب اسالت دموع الفرح من عيون الاخوة والأهل ، وعند ذلك خاطبهم بقوله :( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون الى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالاخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من

٢٩٦

الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الانسانية ، لكن ما أجمل التوبة والعودة الى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها وما احلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب ان يطلب العفو ممّن جنى عليه ، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والانحراف ، وهذا ما قام به الاخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) .

امّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون ان يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم أجابهم بقوله :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) واملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ كيف احسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟!

هذا سؤال اثاره كثير من المفسّرين ، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب او يوسف. الّا انّه ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ـ ولم يتناوله على انّه امر اعجازي او غير اعجازي فمن الهيّن ان نجد له توجيها علميّا ايضا. إذ انّ حقيقة «التليبائي» او انتقال الفكر من النقاط او الأماكن البعيدة تعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّما بها وانّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض ، او تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.

ولعلّ كثيرا منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة ، وذلك ان يشعر شخص «من أب ، او امّ ، او أخ» مثلا بالكآبة وانقباض النفس دون سبب ، ثمّ لا يمضي وقت ـ او فترة ـ حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه او ولده قد حدث له حادث ما

٢٩٧

في نقطة بعيدة عنه.

فالعلماء يوجّهون هذا الاحساس على انّه جرى عن طريق انتقال الفكر.

وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل ايضا ، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه ، كلّ ذلك كان سببا لان يشعر بالحالة الحاصلة للاخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.

ومن الممكن ان يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء ايضا.

وقد وردت اشارة طريفة ـ في بعض الرّوايات ـ الى مسألة انتقال الفكر ، وهي انّ بعضهم سأل الامام أبا جعفر الباقرعليه‌السلام : فقال : جعلت فداك ، ربّما حزنت من دون مصيبة تصيبني او امر ينزل بي ، حتّى يعرف ذلك اهلي في وجهي وصديقي.

فقالعليه‌السلام : «نعم يا جابر ، انّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان واجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامّه ، فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لانّها منها»(1) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ايضا انّ هذا القميص لم يكن قميصا مألوفا ، بل كان ثوبا من ثياب الجنّة ، وقد خلّفه ابراهيم الخليلعليه‌السلام في آل يعقوب وأسرته ليكون ذكرى له ، وانّ رجلا كيعقوبعليه‌السلام الذي كانت لديه شامّة من «الجنّة» احسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(2) .

2 ـ اختلاف حالات الأنبياء :

الاشكال المعروف الآخر هنا هو ما اثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو :

__________________

(1) اصول الكافي ، ج 2 ، ص 123 «والسائل هو جابر الجعفي».

(2) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين ، ص 464.

٢٩٨

كيف يمكن ان يكون هذا النّبي العظيم قد احسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخا ، وقال بعضهم : من مسافة عشرة ايّام ، مع انّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عند ما القي في الجبّ في ارض كنعان؟

والجواب على هذا السؤال ـ مع الالتفات الى ما ذكرناه آنفا في شأن علم الغيب ، وحدود علم الأنبياء والائمّة ـ يسير لا غبار عليه ، لانّ علمهم بالأمور الغيبيّة يستند الى علم الله وارادته ، وما يشاؤه الله لهم من العلم «او عدمه» حتّى ولو كان ذلك في اقرب نقطة من نقاط العالم.

فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء الى منتهى أطرافها ، فترى القافلة بأمّ أعينها كلّ شيء امامها ، الّا انّ البرق ينطفئ ثانية ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى احد شيئا.

ولعلّ الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام في شأن علم الامامعليه‌السلام اشارة الى هذا المعنى ، إذ جاء عنهعليه‌السلام انّه قال : «جعل الله بينه وبين الامام عمودا من نور ، ينظر الله به الى الامام ، وينظر الامام به اليه ، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه»(1) .

ومع الالتفات الى هذه الحقيقة ، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ـ لابتلاء يعقوب وتمحيصه ان لا يعرف يوما شيئا عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريبا منه ، وان يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عند ما قدّر له ان تنتهي محنته وبلواه.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ، للخوئي ، ج 5 ، ص 200.

٢٩٩

3 ـ كيف ردّ على يعقوب بصره؟!

احتمل بعض المفسّرين انّ يعقوبعليه‌السلام لم يفقد بصره بصورة كليّة ، وانّما ضعف بصره ، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر الى حالته الطبيعيّة الاولى ، الّا انّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على انّه فقد بصره تماما وابيضّت عيناه من الحزن ، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد اليه عن طريق الاعجاز ، حيث يقول القرآن الكريم :( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

4 ـ الوعد بالاستغفار :

نقرا في الآيات ـ محل البحث ـ انّ يوسفعليه‌السلام قال لإخوته عند ما أظهروا له ندامتهم:( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) الّا انّ يعقوبعليه‌السلام قال لهم عند ما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ ان يؤخّر استجابة طلبهم الاستغفار الى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لاستجابة الدعاء وقبول التوبة(1) .

والآن ينقدح هذا السؤال وهو : كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة ، وأوكل أبوهم ذلك الى المستقبل؟!

ولعلّ هذا الاختلاف ناشئ عن انّ يوسفعليه‌السلام كان يتحدّث عن «إمكان المغفرة» وانّ هذا الذنب من الممكن ان يعفو الله عنه ، ويعقوب كان يتحدّث عن «فعليّة المغفرة» وانّه ما الذي ينبغي ان يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة «فلاحظوا بدقّة».

__________________

(1) نقرا في تفسير القرطبي انّ هدفه كان الاستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء «لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3491».

٣٠٠