الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 196973
تحميل: 4229


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196973 / تحميل: 4229
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط ـ المتقدمة قصّتهم ـ على طريقكم( وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) فانظروا إليها وإلى عاقبة أمرهم ، واعتبروا يا أولي الألباب.

من هم أصحاب الأيكة؟

قال جمع من المفسّرين ، بالإضافة إلى أرباب اللغة : «الأيكة» : هي الأشجار المتشابكة مع بعضها ، و «أصحاب الأيكة» : هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأصيبوا بالغرور والغفلة ، فأدى ذلك إلى الاحتكار والفساد في الأرض.

وقد دعاهم شعيبعليه‌السلام إلى التوحيد ونهج طريق الحق ، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هي عليها.

ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود ، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب الله المهلك.

فبعد أن يئس من إصلاحهم أصابهم حرّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة ، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها ، ليتفيئوا من حر ذلك اليوم ، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.

ولعل استعمال القرآن لعبارة «أصحاب الأيكة» في تسميتهم ، إشارة إلى النعم التي أعطاها الله لهم ، ولكنّهم استبدلوا الشكر بالكفر ، فأقاموا صرح الظلم والاستبداد ، فحقّت عليهم كلمة الله فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.

وورد ذكرهم مفصلا ـ مع التصريح باسم شعيب ـ في الآيات (176) حتى (190) من سورة الشعراء.

وينبغي الالتفات إلى أنّ عبارة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) يمكن أن تشمل قوم لوط وأصحاب الأيكة معا ، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة( وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) .

والمشهور عند المفسّرين أنّ الآية تشير إلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب

١٠١

الأيكة.

وكلمة «إمام» بمعنى طريق وجادة ، لأنّها من مادة. «أمّ» ، بمعنى القصد ، حيث أنّ الإنسان حينما يسير في طريق ما إنّما يسير لأجل الوصول إلى غاية معينة أو قصد معين.

واحتمل البعض أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، بدلالة الآية (12) من سورة يس.

ولكن هذا الاحتمال مستبعد ، لأنّ القرآن هنا في صدد إعطاء درس العبرة للاعتبار ، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيدا عن التأثير في اعتبار الناس وتذكيرهم ، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.

فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء العاقبة ، ربّما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرّة ، وعند أرض أصحاب الأيكة مرّة أخرى فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار ، بعد ما عرفوا أو استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وظلالهم.

* * *

أمّا «أصحاب الحجر» فهم قوم عصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث الله إليهم نبيّه صالحعليه‌السلام لهدايتهم.

ويقول القرآن عنهم :( وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ) !

ولكن أين تقع هذه البلدة؟

يذكر بعض المفسّرين والمؤرخين : أنّها كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم ـ تقريبا.

١٠٢

ويذكرون أنّها كانت إحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية ، ولها من الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراتها لكنها إحدى المدن التجارية.

وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجري).

ونستشف من بعض الرّوايات أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قاد جيشا لدفع جيش الروم في السنة التاسعة للهجرة ، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان ، فمنعهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هنا نزل عذاب الله على قوم ثمود(1) .

ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (105 و 123 و 160) من سورة الشعراء) بالإضافة إلى أقوام أخر كذبت الأنبياءعليهم‌السلام ، والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبيّ واحد لا أكثر.

ولعل مجيء هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين) ، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد ، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.

واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأمّة الواحدة ، وذكر اسم أحدهم لأنّه أكثر شهرة.

وكما يبدو فإنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى الصواب منه إلى الثّاني.

ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر» :( وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) وموقف الأعراض المشار إليه ـ كما يبدو ـ هو عدم استعدادهم لسماع الآيات والتفكر بها.

وتشير الآية إلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) .

__________________

(1) أعلام القرآن ، الخزائلي ، الصفحة 292.

١٠٣

وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية ، بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من مدنية متقدمة ، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.

والعجيب من أمر الإنسان ، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية ، ولا يعير أيّ اهتمام لحياته الباقية ، حتى يصل به المال لأن لا يكلف نفسه بسماع آيات الله والتفكر بها!!.

وأيّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أن يطبق عليهم القانون الإلهي الموعدين به (البقاء للإصلاح) وعدم إعطاء حق إدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك ، ولهذا يقول القرآن :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) .

وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من القّوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.

والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثّالثة عشر من سورة فصلت :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) .

فالعذاب الإلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة ، ولا البيوت المحصنة ، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة ، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وجاءت الآيات (141 إلى 158) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر ، وهو ما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

* * *

١٠٤

الآيات

( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) )

التّفسير

يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة ـ كقوم لوط وقوم شعيب وصالح ـ إلى مسألة التوحيد والمعاد ، لأنّ سبب ضلال الإنسان يعود إلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة ، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد ، فيشير إليهما معا في آية واحدة( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) .

فنظامها محسوب ومحكم وهو حق ، وكذا هدف خلقها حقّ.

فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحا على الخالق

١٠٥

العالم القادر جلّ وعلا ، وهو حق أيضا ، بل هو حقيقة الحق ، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق ، وكل شيء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل وهذا ما يخصّ التوحيد أمّا في المعاد فيقول :( وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) وإن تأخرت فإنّها آتية بالنتيجة.

ولا يبعد أن تكون الفقرة الأولى بمنزلة الدال على الفقرة الثّانية ، لأنّ هذا العالم إنّما يكون حقا عند ما يكون لهذه الأيّام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير ـ فليست الدنيا لنحياها وتنتهي ـ ولهذا فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حقّ يدل على وجود يوم القيامة والحساب ، وإلّا لكان الخلق عبثا وليس حقّا ـ فتأمل.

وبعد ذلك يأمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصبهم وعداءهم بالمحبّة والعفو وغض النظر عن الذنوب ، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أي غير مصحوب بملامة( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

لأنّك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إليه ، فلا تحتاج وإيّاهم إلى الخشونة لتثبيت عقيدة المبدأ والمعاد في قلوب الناس ، فالعقل والمنطق السليم معك.

بالإضافة إلى أنّ الخشونة مع الجهلة غالبا ما تؤدي بهم إلى الرد بالمثل ، بل وبأشد من ذلك.

الصفح : هو وجه كل شيء ، كوجه الصورة(1) ، ولهذا فقد جاءت كلمة «فاصف» بمعنى أدر وجهك وغض النظر عنهم.

وبما أنّ إدارة الوجه وصرفه عن الشيء قد تعطي معنى عدم الاهتمام والنفرة وما شابه ذلك بالإضافة لمعنى العفو والصفح ، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة

__________________

(1) يقول الفيروزآبادي ، في القاموس ، ج 1 ، ص 242 : الصفح : الجانب ، ومن الجبل مضطجعه ، ومنك جنبك ، ومن الوجه والسيف عرضه.

١٠٦

«الجميل» بعد «الصفح» لكي تحدد المعنى الثّاني.

وفي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : العفو من غير عتاب(1) .

وروي مثل ذلك عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام (2) .

الآية التالية ـ كما يقول جمع من المفسّرين ـ بمنزلة الدليل على وجوب العفو والصفح الجميل ، حيث يقول :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) .

فالله يعلم بأنّ الناس ليسوا سواسية من جهة الطبائع والمستويات الفكرية والعاطفية وهو سبحانه مطلع على ما تخفيه صدورهم ، وينبغي معاملتهم بروحية العفو والمسامحة ليهتدوا إلى طريق الحق بأسلوب الإصلاح المرحلي أو التدريجي.

ولا يرمز ذلك إلى الجبر في أعمال الناس وسلوكهم ، بقدر ما هو إشارة إلى أمر تربوي يأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الناس في القابليات.

وممّا يجدر ذكره تصور البعض أنّ الأمر الإلهي مختص بفترة حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل الهجرة ، وعند ما هاجرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة أصبح للمسلمين القدرة والقوّة فنسخ هذا الأمر وجاء الجهاد بدله.

ولكننا نجد ورود هذا الأمر في السور المدنية أيضا (كسورة البقرة وسورة النّور والتغابن والمائدة) ، فبعض منها يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعفو والصفح ، والبعض الآخر يأمر المؤمنين بذلك.

فيتّضح لنا أنّ أمر الصفح عام ودائم ، وهو لا يعارض أمر الجهاد أبدا ، فلكلّ محله الخاص به.

فإذا كان الموقف يستدعي العفو والتسامح ، فلم لا يؤخذ به! وإذا كان مدعاة

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 27.

(2) المصدر السّابق.

١٠٧

للتجرؤ والجسارة من قبل الأعداء ولا ينفع معهم إلّا الشدة ، فلا مناص حينئذ من الأخذ بأمر الجهاد.

ثمّ يواسي الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تقلق من وحشية الأعداء وكثرتهم وما يملكون من إمكانات مادية واسعة ، لأنّ الله أعطاك ما لا يقف أمامه شيء( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) .

وكما هو معلوم ، فإنّ «السبع» هم العدد سبعة ، و «المثاني» هو العدد اثنان ، ولهذا اعتبر أكثر المفسّرون أنّ «سبعا من المثاني» كناية عن سورة الحمد ، والرّوايات كذلك تشير لهذا المعنى.

والداعي لذلك كونها تتألف من سبع آيات ، لأهميتها وعظمة محتواها فقد نزلت مرتين على النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لأنّها تتكون من قسمين (فنصفها حمد وثناء للهعزوجل والنصف الآخر دعاء عبادة) ، أو لأنّها تقرأ مرّتين في كل صلاة(1) .

واحتمل بعض المفسّرين أن «السبع» إشارة إلى السور السبع الطول التي ابتدأ بها القرآن ، و «المثاني» كناية عن نفس القرآن ، لأنّه نزل مرتين على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة بصورة كاملة ، وأخرى نزل نزولا تدريجيا حسب الاحتياج إليه في أزمنة مختلفة.

وعلى هذا يكون معنى( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) سبع سور مهمات من القرآن.

ودليلهم في ذلك الآية الثّالثة والعشرون من سورة الزمر ، حيث يقول تعالى :( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) ، أي مرتين على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، خصوصا وأنّ روايات أهل البيتعليهم‌السلام تشير إلى أنّ «السبع المثاني» هي سورة الحمد.

واعتبر الراغب في مفرداته أنّ كلمة «المثاني» أطلقت على القرآن لما يتكرر

__________________

(1) وفي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزوجل قال : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي» مجمع البيان ، ج 1 ، ص 17 ، وراجع كذلك تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 28 و 29.

١٠٨

من قراءة آياته ، وهذا التكرار هو الذي يحفظه من التلاعب والتحريف (إضافة إلى أنّ حقائق القرآن تتجلى في كل زمان بشكل جديد ينبغي له أن يوصف بالمثاني).

وعلى أية حال ، فذكر عبارة «القرآن العظيم» بعد ذكر سورة الحمد ، بالرغم من أنّها جزء منه ، دليل آخر على شرف وأهمية هذه السورة المباركة ، وكثيرا ما يذكر الجزء مقابل الكل لأهميته ، وهو كثير الاستعمال في الأدب العربي وغيره.

وخلاصة المطاف أنّ الله تعالى قد صرّح لنبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك قد ملكت سندا عظيما (القرآن) ، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود أن تصرعه.

سندا كلّه نور ، بركة ، دروس تربوية ، برامج عملية ، هداية وتسديد ، وبالذات سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو ارتبط العبد بربّه ولو للحظة واحدة لحلّقت روحه لساحة قدس الربّ ، وهي تعيش حال التعظيم والتسليم والمناجاة والدّعاء.

وبعد هذه الهبة العظيمة بأمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأربعة أوامر فيقول له أوّلا :( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) (1) .

فمتع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات ، والحفاظ عليها أمر صعب في أحسن الحالات.

ولهذا ، لا تستحق الاهتمام بها مقابل ما أعطاك اللهعزوجل من العطاء المعنوي الجزيل (أي القرآن).

ثمّ يقول في الأمر الثّاني :( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) لما عندهم من أموال ونعم مادية.

فالأمر الأوّل في الحقيقة يتعلق بعدم الاهتمام والتوجه نحو النعم المادية ، والأمر الثّاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.

__________________

(1) أزواجا : مفعول (متعنا). ومنهم : جار ومجرور متعلق بفعل مقدر. فيكون المعنى إجمالا : مجموعات مختلفة من الكفار.

١٠٩

وقد جاء ما يشبه هذا المضمون في الآية (131) من سورة طه حيث يقول جل وعلا بتفصيل أكثر :( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ) .

والأمر الثّالث : جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث يقول :( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ هذا التعبير ، كناية جميلة عن التواضع والمحبّة والملاطفة ، فالطيور حينما تريد إظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفظها ، فتجسّم بذلك أعلى صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء ، وتحميهم من التشتت.

والتعبير المذكور عبارة عن كناية مختصرة بليغة ذات مغزى ومعان كثيرة جدّا.

ويمكن أن يحمل ذكر هذه الجملة بعد الأوامر الثلاثة المتقدمة إشارة تحذير بعدم إظهار التواضع والانكسار أمام الكفار المتنعمين بزهو الحياة الدنيا ، بل لا بدّ للتواضع والحب والعاطفة الفياضة لمن آمن وإن كان محروما من مال الدنيا.

ونصل إلى الأمر الرّابع : وقل لهؤلاء الكفرة المنعمين بكل حزم( إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) .

قل : أنذركم من أمر الله بنزول عذابه عليكم( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (1) ، أي الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافا ، فما كان ينفعهم أخذوه ، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.

فبدل أن يتخذوا كتاب الله هاديا وقائدا لهم ، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة للوصول لأهدافهم الشريرة ، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها ، ولو وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!

* * *

__________________

(1) عضين : (جمع عضة) أي التفريق ، ويقال لكل جزء ممّا قسم عضين أيضا.

١١٠

بحوث

1 ـ القرآن عطاء إلهي عظيم

يخبر الله تعالى في الآيات المذكورة نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعنوان تنبيه لجميع مسلمي العالم ، أن هذا القرآن جعل في اختياركم ، وفيه من العطاء ما لا يعد ، وليكن رأس مالكم الذي تتعاملون فيه في حياتكم ، ولو عملتم به لجعلتم دنياكم كلها سعادة ورفاه وأمن وصلاح.

وهذه حقيقة يعترف بها حتى غير المسلمين ، فهم يعتقدون بأنّ المسلمين إذا أخذوا القرآن وجعلوه أساس حياتهم ، وعملوا بأحكامه وهديه ، فسيكونون من القوّة والتقدم بحيث لا يسبقهم في ذلك أحد.

فنرى مثلا ، سورة الحمد «سبعا من المثاني» والتي تسمّى «خاتمة الكتاب» لوحدها تمثل مدرسة كاملة للحياة :

فأوّلها يشير إلى خالق الوجود الذي يربي جميع أهل العالم في مسيرة تكاملية شاملة، هذا الخالق الذي وسعت رحمته «خاصّة» وعامّة كل شيء ثمّ تشير إلى محكمة العدل الإلهية التي يكفل الإيمان بها خلق رقابة دقيقة على جميع سلوكيات الإنسان ونواياه.

ثمّ الإشارة إلى عدم الاتكال على غير الله ، وعدم الخضوع والتسليم لغيره لتتهيأ الأرضية الصالحة للسير على صراطه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل له إلى شرق ولا إلى غرب ، كما أنّه ليس فيه إفراط ولا تفريط ، وكذلك ليس فيه ضلال ولا غضب من اللهعزوجل .

إنّها جملة أمور ، لو تمثلها الإنسان وبنى عليها كيانه ، لكانت كفيلة بأن تجعل له شخصية سامية متكاملة.

وللأسف الشديد فقد وقع هذا العطاء الإلهي بأيدي أناس لم يعرفوا جلالة قدره ، ولم يغور والعمق معناه ، بل إنّهم من الجهل بمكان حتى وصل بهم الأمر أن

١١١

تركوا تلك الآيات الرّبانية المنجية من التيه والضلال والجهل ، وركضوا لاهثين وراء من ملكته شهواته ومن لم يصل إلى أدنى درجات النضج الفكري ، ليستجدوا منهم القوانين والبرامج التربوية التي صنعها جهلهم المتلبس بلباس العلم والتقدم! فهؤلاء المساكين يبيعون أغلى ما عندهم بثمن بخس ، ويشترون به ما يبعدهم عن بناء أخراهم!

ولا يعني هذا بأنّا ضد التقدم التقني ، بل علينا أن لا نحصر كل أنفسنا في هذا الجانب من الحياة الإنسانية ففي الوقت الذي نجد في القرآن تلك العيون الفياضة بالمعنويات ، نراه كذلك صاحب برامج حيوية في مجالات التقدم والرفاه الماديين ، وهذا ما أوضحناه في الآيات المتقدمة وما سنزيد فيه في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

2 ـ الطمع بما عند الغير مصدر الانحطاط

هناك الكثير من أصحاب العيون الضيقة الذين يلاحظون هذا وذاك باستمرار بعيون ملؤها الطمع والجشع!

لقد دأب هؤلاء على قياس حالهم وحال الآخرين ويغتمون غما شديدا فيما لو وجدوا أن شيئا من الحاجات المادية الحياتية ناقصا عندهم ، فيبذلون كل شيء في سبيل الحصول عليها حتى وإن كلفهم ذلك خسارة القيم الإنسانية وبيع كرامتهم!

هذا نمط من التفكير ينم عن حالة التخلف ، ويكشف عن الشعور بعقدة الحقارة ونقص الهمة. وهو من العوامل الفاعلة في تخلف الإنسان في حياته ، وعلى كافّة الأصعدة.

والشخص المستقل لا يتعامل مع مجريات الحياة بذلك النمط من التفكير المتخلف ، وإنّما يستعمل قواه الفكرية والجسمانية في طريق رشده وتكامله ، فهو

١١٢

كمن يحدث نفسه قائلا : بما أنّه لا ينقصني عن الآخرين شيء ، ولا يوجد دليل على عدم استطاعتي التقدم أكثر منهم أو الوصول لمصافهم فلما ذا أمد عيني لما متع به الآخرين من مال وجاه وما شاكل

فصاحب الشخصية المستقلة لا يربط هدفه ومقصده من الحياة بالجوانب المادية البحتة فقط ، بل يطلبها لإشباع ما يحتاجه روحيا وتربويا ، ويطلبها لكي يحفظ بها استقلاله وحريته ، ولكي لا يكون عالة على الآخرين ، فهو لا يطلبها بحرص ، ولا يطلبها بكل ما يملك ، لأنّ ذلك ليس بيع الأحرار ، ولا هو بيع عباد الله الصالحين.

ونختم الحديث بالحديث النّبوي الشريف : «من رمى ببصره ما في يد غيره كثر همّه ولم يشف غيظه»(1) .

3 ـ تواضع القائد

لقد أوصي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا من خلال القرآن أن يكون مع المؤمنين متواضعا ، محبّا، سهلا ورحيما ، والوصايا ليست منحصرة بخصوص نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي عامّة لكل قائد وموجّه ، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة ، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإدارة والقيادة الصحيحة.

إنّ حبّ وتعلق الأفراد بقائدهم من الأسس الفاعلية لنجاح القائد ، وهذا ما لا يتحقق من دون تواضعه وطلاقه وجهه وحبّه لخير أفراده.

أمّا خشونة وقساوة القائد فلا تؤدي إلّا إلى فصم رابطة الالتحام بينه وبين الأفراد ممّا يؤدي إلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر : «فاخفض لهم

__________________

(1) تفسير الصافي ، في تفسير الآيات مورد البحث.

١١٣

جناحك وأن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة»(1) .

4 ـ من هم المقتسمون؟

إنّ التوجيهات الإلهية بلا شك تراعى فيها المصلحة العامّة ومصلحة الأفراد بصورة عامة ، ولكن البعض منها قد يوافق مصالحنا الشخصية بحسب الظاهر والبعض الآخر على خلافها. ومن خلال قبول أو رفض ما يدعونا إليه الله يمحص المؤمن الخالص من المدعي للإيمان ، فالذي يقبل كل شيء نازل من الله ويسلم له ، حتى وإنّ ظاهرة لا يتوافق مع مصلحته ، ويقول «كل من عند ربّنا» ولا يجرأ على تجزئه أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإلهية فذلك هو المؤمن حقّا.

أمّا الذين استفحل المرض في قلوبهم فيحاولون تسخير دين الله وأحكامه لخدمة مصالحهم الشخصية ، فيقبلون ما يدعم منافعهم ويتركون غيره ، فتراهم يجزؤون الآيات القرآنية ، بل وتراهم في بعض الأحيان يجزؤون الآية الواحدة ، فما يوافق ميولهم احتذوا به ويتركون القسم الباقي من الآية! ولكن من القبح أن نردد ما قاله بعض الأقوام السابقة( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) فهذا شأن عبيد الدنيا.

أمّا معيار تشخيص أتباع الحق من أتباع الباطل فمن خلال التسليم للأوامر والتوجيهات الإلهية التي لا تنسجم مع الميول والأهواء والمنافع الدنيوية ، فمن هنا يعرف الصادق من الكذاب والمؤمن من المنافق.

وتجدر الإشارة هنا إلى وجود تفاسير أخرى لمعنى المقتسمين (غير ما ذكرناه) ، حتى أنّ القرطبي قد ذكر في تفسيره سبعة آراء في معنى هذه الكلمة ، إلّا أنّ أكثرها خال من القرينة ، والبعض الآخر لا يخلو من مناسبة وهو ما سنذكره

__________________

(1) نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، الرسالة 27.

١١٤

أدناه :

فمنها أنّ جمعا من رؤوس المشركين كانوا يقفون في أيّام الحج على رؤوس طرق وأزقة مكّة ، ويشرع كل واحد منهم بالسخرية والاستهزاء بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن لينفروا الناس عنه.

فبعض يقول : إنّه «مجنون» فإنّ ما يقوله ليس بموزون

وبعض يقول : إنّه «ساحر» وقرآنه نوع من السحر

وبعض يقول : إنّه «شاعر» والنغمة البلاغية للآيات السماوية هي شعر

وبعض يقول : إنّه «كاهن» وإنّ أخبار القرآن الغيبية هي نوع من الكهانة.

وقد سمي هؤلاء بالمقتسمين لتقسيمهم شوارع وأزقة مكّة ومعابرها بينهم ضمن خطة دقيقة ومحسوبة.

ولا مانع من دخول هذا التّفسير وما ذكرناه معا ضمن مفهوم الآية المبحوثة.

* * *

١١٥

الآيات

( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) )

التّفسير

إصدع بما تؤمر!

يبيّن القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذكروا في الآيات السابقة فيقول :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ عالم السر والعلن ومن لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك) ، وإنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله ، أو كون السؤال نوعا من العقاب الروحي ، لأنّ الجواب سيكون عن أمور قبيحة ومصحوبا باللوم والتوبيخ ، وذلك ما يكون له بالغ الأثر في ذلك المقام ، حيث أنّ الإنسان عندها أقرب ما يكون إلى الحقائق وإدراكها.

١١٦

وعلى هذا الأساس فالسؤال قسم من العقاب الروحي.

وعموم قوله تعالى :( عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يرشدنا إلى أنّ السؤال سيكون عن جميع أفعال الإنسان بلا استثناء ، وهو درس بليغ كي لا نغفل عن أفعالنا.

أمّا ما اعتبره بعض المفسّرين من اختصاص السؤال عن التوحيد والإيمان بالأنبياء ، أو هو مرتبط بما يعبد المشركون فهو كلام بلا دليل ، ومفهوم الآية عام.

وقد يشكل البعض من كون الآية المتقدمة تؤكّد على أنّ الله تعالى سيسأل عباده ، في حين نقرأ في الآية التاسعة والثلاثين من سورة الرحمن( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

وقد أجبنا عن ذلك سابقا ، وخلاصته : في القيامة مراحل ، يسأل في بعضها ولا يسأل في البعض الآخر حيث تكون الأمور من الوضوح بحيث لا تستوجب السؤال ، أو أن لا يكون السؤال باللسان ، وهذا ما نستنتجه من الآية الخامسة والستين من سورة يس حيث تشير إلى غلق الأفواه وبدأ أعضاء البدن ـ حتى الجلد ـ بالسؤال.(1)

ثمّ يأمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) ، أي لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين ، ولا تضعف أو تتردد أو تسكت ، بل أدعهم إلى رسالتك جهارا.

( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ، ولا تعتن بهم.

«فاصدع» ، من مادة (صدع) وهي لغة بمعنى «الشق» بشكل مطلق ، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها ، ويقال أيضا لألم الرأس الشديد (صداع) وكأنّه من شدته يريد أن يشق الرأس!

وهي هنا بمعنى : الإظهار والإعلان والإفشاء.

__________________

(1) لمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل تفسير الآية (7) من سورة الأعراف.

١١٧

وعلى أية حال فالإعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال ، أو ترك مجاهدتهم وحربهم ، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم ـ بعد ـ لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.

ثمّ يطمئن الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوية لقلبه :( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) .

أنّ مجيء الفعل بصيغة الماضي في هذه الآية مع أنّ المراد المستقبل يشير إلى حتمية الحماية الرّبانية ، أيّ : سندفع عنك شهر المستهزئين ، حتما مقضيا.

وقد ذكر المفسّرون رواية تتحدث عن ست جماعات (أو أقل) كان منهم يمارس نوعا من الاستهزاء تجاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكلما صدع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة قاموا بالاستهزاء تفريقا للناس من حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنّ الله تعالى ابتلى كلا منهم بنوع من البلاء ، حتى شغلهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وقد ورد تفصيل تلك الابتلاءات في بعض التفاسير).

ثمّ يصف المستهزئين :( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

كأن القرآن يريد أن يقول : إنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث سخف حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب ، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع الله ما صنعوا بأيديهم آلهة! ومع ذلك يستهزءون بك!

ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يضيف تعالى قائلا :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) . فروحك اللطيفة وقلبك الطيب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك ، ولذلك يضيق صدرك.

ولكن لا تحزن من قبح أقوالهم( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

لأنّ تسبيح الله يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحباء الله ، هذا أوّلا

وثانيا ، يعطيك قدرة وقوّة ونورا وصفاء ، ويخلق فيك تجليا وانفتاحا ، ويقوي ارتباطك مع الله ، ويقوي إرادتك ويثبت فيك قدرة أكبر للتحمل والثبات والمجاهدة في قبال أعداء الله.

١١٨

ولهذا نقرأ في رواية نقلا عن ابن عبّاس أنّه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.

ثمّ يعطي الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر أمر في هذا الشأن :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

المعروف والمشهور بين المفسّرين أنّ المقصود من «اليقين» هنا الموت ، وسمّي باليقين لحتميته ، فربما يشك الإنسان في كل شيء ، إلّا الموت فلا يشك فيه أحد قط.

أو لأنّ الحجب تزال عن عين الإنسان عند الموت فتتّضح الحقائق أمامه ويحصل له اليقين.

وفي الآيتين السادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة المدّثر نقرأ عن لسان أهل جهنم :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) أي الموت.

ومن هنا يتّضح خطأ ما نقل عن بعض الصوفية من أنّ الآية أعلاه دليل على ترك العبادة. فقالوا : أعبد الله حتى تحصل على درجة اليقين ، فإذا حصلت عليها فلا حاجة للعبادة بعدها!

ونقول :

أوّلا : اليقين هنا بمعنى الموت بشهادة الآيات القرآنية المشار إليها ، وهو ما يحصل للمؤمن والكافر سواء.

ثانيا : المخاطب بهذه الاية هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقام اليقين للنّبي من المسلمات ، وهل يجرأ أحد أن يدّعي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل لدرجة اليقين ، حتى يخاطب بالآية المذكورة؟!!

ثانيا : المقطوع به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك العبادة حتى آخر لحظات عمره الشريف ، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام وهو المستشهد في المحراب ، وهو ما سار عليه بقية الأئمّةعليهم‌السلام .

* * *

١١٩

بحوث

1 ـ بداية الدعوة العلنية للإسلام

المستفاد من بعض الرّوايات أنّ الآيتين :( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) نزلتا في مكّة بعد أن قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث سنوات في الدعوة السرية لرسالته ، ولم يؤمن به إلّا القليل من المقربين إليه ، وأول من آمن من النساء خديجةعليها‌السلام ومن الرجال عليعليه‌السلام .

من البديهي ، أنّ الدعوة إلى التوحيد الخالص المصاحبة لتحطيم نظام الشرك وعبادة الأصنام في تلك البيئة وفترتها كانت في الواقع عملا عجيبا ومخيفا ، واستهزاء المشركين وسخريتهم كان معلوما عند الله من قبل أن يمارس ، ولهذا أراد الله تعالى تقوية قلب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي لا يخشى المستهزئين ، ويعلن رسالته بكل قوّة على الملأ ويشرع بجهاد منطقي معهم(1) .

2 ـ الأثر الرّوحي لذكر الله

إنّ حياة الإنسان (كانت وما زالت) زاخرة بالمشاكل بحسب ما تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا ، وكلما علا الإنسان درجة كثرت مشاكله وتعددت ، ومن هنا نفهم شدة ما واجهه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مشاكل وصعاب في طريق دعوته الكبيرة.

ويكون العلاج الرّباني لتجاوز العقبات عبارة عن محاولة تحصيل القوة من مصدرها الحق مع التحلي بسعة الصدر ، فيأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسبيح والذكر والدعاء والسجود ، لما للعبادة من أثر عميق في تقوية روح الإنسان وإيمانه وإرادته.

ونستفيد من روايات مختلفة أنّ الأئمّةعليهم‌السلام إذا واجهتهم المصاعب الشداد والبلاء ، لجؤوا إلى الله وشرعوا بالعبادة والدعاء ، كي يستمدوا القوة من معينها الأصيل.

__________________

(1) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 32.

١٢٠