الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 196985
تحميل: 4229


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196985 / تحميل: 4229
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

والجزاء على الأعمال ، وهذه الأحكام هي :

1 ـ أوّلا تقرّر أنّ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) حيث تعود النتيجة عليه.

2 ـ ثمّ تقرّر أيضا أنّ( وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) .

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

3 ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضا تأتي بمعنى المسؤولية ، لأنّ المسؤولية ـ أيضا ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان ، فإذا قيل للوزير وزيرا ، فإنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه من قبل الناس أو الأمير والحاكم.

طبعا هذا القانون الكلّي الذي تقرّره آية( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) من سورة النحل التي تقول :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضا ، أو يعتبرون بحكم الفاعلين له ، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم ، وبتعبير آخر : فإنّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المباشر».

كذلك مرّت علينا روايات متعدّدة حول مسألة السنّة السيئة والسنّة الحسنة ، والتي كان مؤدّاها يعني أنّ من سنّ سنة سيئة أو حسنة فإنّه سيكون له أجر من نصيب العاملين بها ، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها ، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لأنّ المؤسس للسنّة ، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّة للعمل ، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.

4 ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا ، وهل هو نوع من

٤٢١

أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة ، أم المقصود به هو عذاب «الاستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المدمّر كطوفان نوح مثلا؟

إنّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإطلاق ، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاش آخر ـ أيضا ـ بين المفسّرين حول قاعدة( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) وهل أنّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط ، أو أنّه يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟

في الواقع ، إذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يفيد الإطلاق ، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية ، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين.

ومفهوم هذا الكلام أنّه حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقبحها مثل حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّه ما لم يأت الأنبياء ، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل ، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يجازي أحدا بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الاحتمال ، لأنّه يصطدم مع قاعدة أنّ المستقلات العقلية لا تحتاج إلى بيان الشرع ، وحكم العقل في إتمام الحجة في هذه الموارد يعتبر كافيا ومجزيا ، لذلك فلا طريق أمامنا إلّا أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الاستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ الله سبحانه وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يهلك الظالمين والمنحرفين إلّا بعد أن يبعث الأنبياء ، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية ، حتى تطابق حجّة الشرع حجّة العقل المستقل ، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمّل ذلك).

* * *

٤٢٢

بحوث

1 ـ التفؤل والتطير

التفؤل والتطيّر كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أنّ مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق ، والغفلة عن علل الحوادث. وعلى أية حال ، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لهذين الأمرين ، ولكن لهما آثارا نفسية ، إذ (التفاؤل) يبعث على الأمل بينما «التطيّر» يؤدي إلى اليأس والعجز.

ولأنّ الإسلام يؤكّد دائما على الأمور الإيجابية ، ويدفعها مشجعا إيّاها ، لذا فإنّه لم ينه عن (التفاؤل) ولكنّه أدان وبشدّة «التطيّر» حتى أنّه في بعض الرّوايات اعتبر ذلك من الشرك ، إذ جاء الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الطيرة شرك» وقد بحثنا هذا الموضوع بشكل مفصّل في نهاية الآية (131) من سورة الأعراف(1) .

الظريف في الأمر أنّ الإسلام يقوم دائما بتوجيه مثل هذه الأمور الوهمية ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبنّاء ، حتى يمكن الاستفادة منها.

فمثلا ممّا هو شائع بين الناس أنّ الزوجة الفلانية قدمها خير ، بينما الأخرى قدمها في بيت زوجها شرّ ونحس ، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومنذ أن دخلت بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيرا أم شرا) بينما واقع الحال إنّ هذه الأمور خرافية وهمية ، لكن الإسلام أعطى بعضها ـ من خلال توجيهه ـ شكلا بناء ومضمونا تربويا ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ : «من شؤم المرأة غلاء مهرها وشدّة مؤنتها»(2) . وفي حديث آخر عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ : «أمّا الدار فشؤمها ضيقها وخبث جيرانها»(3) .

__________________

(1) يراجع التّفسير «الأمثل» عند تفسير قوله تعالى :( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، (الأعراف 131).

(2) راجع وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 104.

(3) راجع سفينة البحار ، ج 1 ، ص 680.

٤٢٣

لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإسلام نفس الألفاظ التي كان الناس يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية ، يوظفها في مفاهيم واقعية وبأسلوب تربوي بنّاء ، ولاحظوا أيضا ، كيف أنّ الأفكار التي كانت تنتهي إلى طريق مغلق ، جاء الإسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإصلاح.

أخيرا وقبل أن ننتقل إلى الملاحظة الثّانية نختم حديثنا بكلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطابق ما قلناه آنفا؟ إذا روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «اللهمّ لا خير إلّا خيرك ، ولا طير إلّا طيرك ولا ربّ غيرك».

2 ـ صحيفة أعمال الإنسان العجيبة :

لقد تحدّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإنسان. وكلّ هذه الآيات والرّوايات تؤكّد على أنّ جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون مدوّنة في صحيفة الأعمال ، وفي يوم البعث والقيامة ، يستلم الإنسان صحيفة عمله بيمينه إذا كان محسنا ويتناولها بشماله إذا كان مسيئا. ففي الآية (19) من سورة الحاقة نقرأ!( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) وفي الآية (25) من نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإنسان الخاسر :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) . وفي الآية (49) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى :( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها،وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يتعلق بالآية ـ مورد البحث ـ( اقْرَأْ كِتابَك ) قال : «يذكر العبد جميع ما عمل ، وما كتب عليه ، حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا

٤٢٤

أحصاها»(1) .

وهنا يطرح هذا السؤال ؛ عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

ممّا لا شك فيه أنّها ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية ، لذا فإنّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوى «روح الإنسان» والتي تكون جميع الأعمال مثبتة فيها(2) لأنّ أي عمل نعمله سيكون له أثر في روحنا شئنا أم أبينا.

وقد تكون صحيفة الأعمال ، هي أعضاء جسمنا وجلودنا ، والأعظم من ذلك هو أنّ الصحيفة قد تكون متضمّنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه ، لأنّ هذه المفردات هي ووعاء أعمالنا ، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء والوجود الذي حولنا ، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلى الأقل.

وإذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم ، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه ، إلّا أنّ ذلك ـ بدون شك ـ لا يعني عدم وجودها ؛ فعند ما نرزق بصرا جديدا آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه الأمور ، ونقرؤها.

على أنّ استخدام الآية الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يغيّر من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا ، لأنّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوما واسعا ، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا ، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول : قرأت في عيني فلان ما الذي يريد أن يفعله ، كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى ، هذا بالرغم من أنّ الأشعة ، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة ، وهذا المثال والأمثلة التي سبقته

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 144.

(2) يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.

٤٢٥

تؤكد ما ذهبنا إليه أنّ المشاهدة تدخل في إطار المعنى الواسع للقراءة.

وقد تقدم في الآيات السابقة أنّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه ، لا يمكن إنكارها بأي وجه ، لأنّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيرا الصوت المسجّل للإنسان ، أو الصورة المأخوذة له ، أو بصمات أصابعه ، وأيّا من هذه الآثار لا يجد الإنسان إلى نكرانها سبيلا!

3 ـ البريء لا يؤخذ بجريرة المذنب :

في منطق العقل وتوجيهات الأنبياءعليهم‌السلام لا يمكن معاقبة البريء بسبب جريمة المذنب ، وهذا تماما عكس ما هو شائع بين عامّة الناس من خلال المثل الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معا) ، وكمثل على ذلك ، نرى أنّ في كل المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوّة النّبي لوطعليه‌السلام ، لم تكن هناك سوى عائلة مؤمنة واحدة ، ولكن عند ما نزل العذاب على قوم لوطعليه‌السلام أنجى الله تلك العائلة ، وكتب لها سبيل الخلاص من العذاب العام ، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.

وتتحدث الآية ، من مجموع الآيات التي نحن بصددها ، بصراحة عن هذه القاعدة ، فتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) . وإذا صادف أن وجدنا من بين الأحاديث غير المعتبرة ، أمورا تعارض هذا القانون الإسلامي العام. فيجب ترك تلك الأحاديث أو توجيهها.

وفي هذه الاتجاه ، أمامنا رواية تقول : إنّ الشخص الميت يتعذب ببكاء الحىّ ، (وهنا يحتمل ، ومن باب توجيه الحديث ، أن يكون الغرض من العذاب ، هو ليس العذاب الإلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عند ما تطّلع روحه على جزع الأهل والأقرباء).

ويتّضح هنا ـ أيضا ـ مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون : إنّ أبناء الكفّار

٤٢٦

يحشرون مع آبائهم في نار جهنّم لبطلانه إسلاميا ولمنافاته لقاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ، وإنّ الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء ، وهي بالتالي لا تعاقب بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات ، فقد قلنا بأنّ الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) ليست لهم من جريرة غيرهم عليهم شيء ، وأنّهم بمنأى عن الذنب وأنّ أبواب السعادة أمامهم مفتوحة ، إذا أرادوهم ذلك ، بالرغم من اعترافنا بصعوبة تربيتهم!

4 ـ قاعدة «أصل البراءة» وآية!( ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) :

في علم الأصول ، وفي بحث «البراءة» استدلوا بقوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى ) على أن فهم الآية يوضّح أنّ المسائل التي لا يمكن للعقل إدراكها أو القطع بها ، لا يعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في الأمور التي لم تقم الحجة عليها ، وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئا غير هذا ؛ أي لا عقاب بدون حجة من العقل أو النقل.

أمّا قول البعض : إنّ مفاد «العذاب» في الآية أعلاه ، هو «عذاب الاستئصال» مثل طوفان نوح ، فلا دليل على ذلك ، بل ـ كما قلنا ـ إنّ اطلاق الآية ينفي ذلك ، وهي تشمل بالتالي كلّ عذاب وعقاب.

* * *

٤٢٧

الآيتان

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) )

التّفسير

مراحل العقاب الإلهي :

إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أخرى ، إذ تقول الآية الكريمة :( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) (1) . إنّ الآيات التي كنّا قبل قليل بصدد بحثها ، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أمّة ، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياءعليهم‌السلام ، والآية التي نحن بصددها الآن ، تتحدث عن نفس هذا الأصل ، ولكن بطريقة أخرى.

صحيح أنّ المفسّرين وضعوا احتمالات متعددة لتفسير هذه الآية ، إلّا أنّنا

__________________

(1) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ، ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

٤٢٨

نعتقد بأنّه لا يوجد سوى تفسير واحد واضح لهذه الآية ، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها ، وهذا التّفسير هو : إنّ الله لا يعاقب أو يؤاخذ أحدا بالعذاب ، قبل أن يتمّ الحجّة عليه ، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه ، ففي البداية يضع الله تعليماته وأوامره أمام الناس ، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية ، فسيحيق بهم العذاب ، ويؤدي إلى هلاكهم.

وإذا تأملنا الآية ، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح ، فسنرى أنّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني ، هي :

1 ـ مرحلة الأوامر والنواهي.

2 ـ مرحلة الفسق والمخالفة.

3 ـ مرحلة استحقاق المجازاة.

4 ـ مرحلة الهلاك.

والملاحظ هنا ، أنّ المراحل الأربع هذه ، معطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع.

هنا يطرح هذا السؤال : لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(1) .

في الإجابة على السؤال المثار ، لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى ، وهي أنّ المترفين هم وجهاء القوم ، ورؤساء المجتمع ـ طبعا هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة ـ والآخرون تبع لهم.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمّة ، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين ، أصحاب الأموال ، البعيدين عن

__________________

(1) مترفون ، من مادة رفاه ، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.

٤٢٩

الله تعالى ، والذين يعيشون حياة مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد ، وهم بذلك لا يفقهون شيئا عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإنسانية والإصلاح. ولهذا السبب بالذات ، وبحكم موقعهم ، كان المترفون دائما في الصفوف الأولى ، في مواجهة دعوات الأنبياء والرسل ، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء ـ القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين ـ ضدّهم.

لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد. على أية حال ، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا ، ولا يسلموا زمام أمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات ، وألّا يتبعونهم ، لأنّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص ، على أنّها أصل عام ، وقاعدة سارية، إذ تقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ) وفقا لهذه القاعدة والسنّة ، ثمّ تضيف بعد ذلك :( وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) أي إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربّ العالمين.

«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد ، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.

أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد ، فهناك آراء مختلفة ، فقسم أعتبر القرن (40) سنة ، وآخرون قالوا : ثمانين ، والبعض الثالث ، قال : إنّ القرن مائة عام ، أخيرا فقد اعتبر البعض أنّ القرن هو مائة وعشرون عاما. وفي كلّ الأحوال لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الاتفاق العرفي الذي ينعقد حولها. ومن هنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنّ كل مائة سنة تعتبر قرنا

٤٣٠

واحدا(1) .

أمّا لماذا أكدت الآية على القرون من بعد نوحعليه‌السلام فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوحعليه‌السلام كانت حياة بسيطة ، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مترف ومستضعف ، كانت بسيطة وضئيلة ، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و «بصير» معا ، فإنّ ذلك يعود إلى المعنى المراد ، إذ «الخبير» تعني العلم والإحاطة بالنية والعقيدة ، أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإنّ الله تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات ، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحدا ، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.

* * *

__________________

(1) في نهاية الآية (13) من سورة يونس أشرنا إلى هذا الموضوع.

٤٣١

الآيات

( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) )

التّفسير

طلاب الدنيا والآخرة :

لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى ، وكيفية هلاكهم ، لذا فإنّ هذه الآيات ـ التي نحن بصددها الآن ـ تشير إلى سبب التمرّد على شريعة الله،والعصيان لأوامره ، وهذا السبب هو حب الدنيا ، إذ يقول تعالى :( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) .

٤٣٢

«العاجلة» تعني النعم الزائلة ، أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية ، أنّها لا تقول : إنّ من يسعى وراء الدنيا ، ويجعلها كلّ همه ، يحصل على كلّ ما يريد ، بل هي قيّدت ذلك بشرطين هما :

أوّلا : سيحصل على جزء ممّا يريده ، وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن ، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيّد رغبة الساعي إلى الدنيا ، فهو : إنّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار ، وإنما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله :( لِمَنْ نُرِيدُ ) .

وبناء على ذلك ، فلا كلّ طلّاب الدنيا يحصلون عليها ، ولا أولئك الذين يحصلون على شيء منها ، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هذين الشرطين ، إذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهارا ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة ، ولكن لا يحصلون إلّا على القليل منها.

وفي هذا تحذير الدنيا إنّكم إذا تصورتم بأنّكم ستصلون إلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا ، فهذا خطاء واشتباه كبير ، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تحققون أي هدف ، وفي أحيان أخرى قد تحققون بعض أهدافكم.

وعادة ما تكون للإنسان آمال كبيرة ومتعدّدة ، لا يمكن إشباعها في هذه الدنيا المادية المحدودة ، فلو أعطيت الدنيا كلّها إلى شخص واحد ، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّون ولا يصلون إلى شيء ، فلذلك أسباب مختلفة ، إذ قد يكون هناك أمل في إنقاذهم ، والله بذلك يحبهم وييسر سبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إذا وصلوا إلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم ، فسيطغون ويؤذون خلق الله ، ويضيقون عليهم الخناق.

٤٣٣

«يصلى» مشتقة من «صلى» وهي تعني إشعال النّار ، وأيضا تعني الحرق بالنّار ، والمقصود منها هنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالانتباه هنا ، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس ، والتي هي نار جهنّم ، قد تمّ تأكيدها في الآية ، بكلمتي( مَذْمُوماً ) و( مَدْحُوراً ) إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم ، بينما الثّاني يعني الابتعاد عن رحمة الخالق ، وفي الحقيقة إنّ نار جهنّم تمثل العقاب الجسدي لهم ، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح ، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد ، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معا.

بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها ، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

بناء على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية ، هي:

أوّلا : إرادة الإنسان : وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة ، والأهداف المادية ، فالإرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإنسان حرّا طليقا غير مرتبط بالدنيا.

ثانيا : هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان ، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني ، وتدفعه للحركة ، ويبذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة ، بأنّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنّ على الإنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع من السعي في سبيل الآخرة).

ثالثا : إنّ كل ما سبق من حيث عن الإرادة في النقطتين السابقتين ، ينبغي أن يقترن بالإيمان ، الإيمان الثابت القوي ، لأنّ أي تصميم وجهد ، إذا أريد له أن يثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة ، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان بالله لا غير.

صحيح أنّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إيمان ، حيث

٤٣٤

أنّ مفهوم الإيمان داخل ضمنه ، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الدلالة الالتزامية للإيمان ، بل وينبغي التوسع في شرط الإيمان ، بحكم أنّ (الإيمان) يعتبر أمرا أساسيا ، وركنا مهمّا في هذا الطريق.

والملاحظ هنا ، أنّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول :( جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ) بينما عند ما تنتقل إلى طلّاب الآخرة وعشّاقها ومريدها ، فهي تخاطبهم بالقول :( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) . إنّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل من استخدام أي تعبير آخر ، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمّ ، لذا فإنّ شكر الله لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية ، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكورا» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(1) . أو بمعنى «قبول العمل»(2) ، إلّا أنّه من الواضح أن كلمة «مشكورا» لها معنى أوسع من هذه المعاني جميعا.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر ، ظنا أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط ، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها. لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس ، وتمنع هذا الظن ، عند ما تقول :( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) لتضيف بعدها بقليل :( وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

نمدّ هنا من «الإمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول : كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت ، وتتفاوت معه الأجور ، فكذلك الأمر في الآخرة : ولكن التفاوت الدنيوي محدود ، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة ، وأمّا الآخرة ـ ولكونها

__________________

(1) يراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3852.

(2) راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

٤٣٥

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود ، إذ يقول تعالى :( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) .

قد يقول قائل هنا : إنّنا نرى في هذه الدنيا أفرادا يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب : إنّ وجود هؤلاء يعبّر عن حالات استثنائية لا يمكن اعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي ، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإنسان وتوفيقه. وبذلك فإنّ هذه الاستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيرا ، وقبل أن ننتقل إلى الملاحظات ، ينبغي أن ننّبه إلى أنّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط ، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثرا من السعي الكثير والكيفية الدانية.

* * *

بحوث

أوّلا : هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحا وتمجيدا للدنيا وبإمكانها المادية ، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيرا (سورة البقرة آية 180). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل الله( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (1) . وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) . وفي آيات كثيرة أخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا( سَخَّرَ لَكُمُ ) .

وإذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإمكانات المادية وتؤكد عليها ،

__________________

(1) الجمعة ، 10.

(2) البقرة. 29.

٤٣٦

وتجعلها في سياق واحد ، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة منها.

ولكن ، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية ، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير أخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة ، إذ نقرأ في سورة النساء ، آية (94) ، قوله تعالى :( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) (1) . وفي سورة العنكبوت آية (64) ، نقرأ( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) أمّا في الآية (37) من سورة النّور ، فإنا نلتقي مع قوله تعالى :( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) .

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية ، يمكن ملاحظتها أيضا في الأحاديث والرّوايات الإسلامية ، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام هي «مسجد أحباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله»(2) .

وفي جانب آخر ، نرى أنّ الأحاديث والرّوايات الإسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور ، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا : هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع ، عند ما تلام الدنيا ، فإنّ اللوم ينصب على أولئك الناس الذين لا هدف لهم ولا همّ سواها. من هنا نقرأ في الآية (29) من سورة النجم قوله تعالى :( وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) . وبعبارة أخرى : فإنّ الذم الذي يرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إلى أهدافهم المادية ، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

ثمّ إنّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول ، إذ أنّ قوله تعالى :( مَنْ كانَ

__________________

(1) الحديد ، 20.

(2) نهج البلاغة ، باب الكلمات القصار ، جملة رقم 131.

٤٣٧

يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) هو خطاب لأولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة ، ويقفون عندها.

وعادة فإن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها ، يعتبر دليلا حيا على هذا الموضوع.

وخلاصة القول : إنّه إذا تمت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تعتبر من النعم الإلهية ، ويعتبر وجودها ضروريا في نظام الخلق والوجود ، وتمت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي ، فإنّ ذلك يعتبر أمرا جيدا ، وتمتدح معه الدنيا. أمّا إذا اعتبرناها هدفا لا وسيلة ، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية ، عندها سيصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإمام عليعليه‌السلام للدنيا حينما يقول : «من أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته»(1) . وفي أنّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة ، هو نفس الفرق الذي نستفيده ، بين «إليها» و «بها» ، إذ تعني الأولى أنّ الدنيا هدف ، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانيا : دور السعي في تحقيق المكاسب :

هذه ليست المرّة الأولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب ، وبعكسه يحذّر الأشخاص العاطلين والكسالى بأنّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد ، والتظاهر بالإيمان ، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضح مفادها في الكثير من الآيات القرآنية. ففي سورة

__________________

(1) يراجع نهج البلاغة ، الخطبة رقم (82).

٤٣٨

المدثر. آية (38) نقرأ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وآية أخرى تقول :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) . وفي آيات كثيرة أخرى ، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإيمان حتى لا يتوهم أحد ويظنّ بأنّه يستطيع الوصول إلى مرحلة ما بدون سعي وجهد ، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد ، فكيف إذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثا : الإمدادات الإلهية :

«نمدّ» مشتقّة من كلمة «إمداد» وهي تعني إيصال المعونة ، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن : كلمة «إمداد» غالبا ما تستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثّرة. أما كلمة «مدّ» فإنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أية حال ، نقرأ في الآيات التي نبحثها ، أنّ الله سبحانه وتعالى يضع جزءا من نعمه في خدمة الجميع ، إذ يستفيد منها المحسنون والمسيئون ، وهذه النعم غالبا ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر : هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس ، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *

٤٣٩

الآيات

( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) )

التّفسير

أحكام إسلامية مهمّة :

الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية ، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان ، التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية ، والأعمال الحسنة والبناءة. والآيات عند ما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة ، التي كانت تتحدث عن الناس السعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي :

٤٤٠