الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 174623
تحميل: 3702


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174623 / تحميل: 3702
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

في اليوم ، وتتلاشي في الفضاء الخارجي ، فإنّها كانت تصل إلى الأرض دائما وتصيبها.

إنّ هذه الأجرام الفلكيّة تتحرّك بسرعة 6 ـ 40 ميل في الثّانية! وهي تنفجر وتحترق عند اصطدامها بأي شيء ، ولو كانت سرعة هذه الأجرام أقل ممّا هي عليه ـ مثلا بسرعة الطلقة ـ فإنّها كانت تسقط على الأرض جميعا ، ويتّضح مقدار تدميرها فيما لو أنّ إنسانا تعرّض لسقوط أصغر جرم من هذه الأجرام السماوية عليه ، فإنّها كانت ستمزّقه إربا إربا وتفنيه لشدّة حرارتها ، لأنّها تتحرّك بسرعة تعادل سرعة الطلقة (90) مرّة!

إنّ سمك الهواء المحيط بالأرض يبلغ مقدارا يسمح أن يمرّ من خلاله إلى الأرض المقدار اللازم من الأشعّة الكونية لنمو النباتات ، ويقتل كلّ الجراثيم المضرّة في ذلك الفضاء ، ويوجد الفيتامينات المفيدة(1) .

* * *

__________________

(1) من كتاب «سرّ خلق الإنسان» ، ص 34 ـ 35.

١٦١

الآيتان

( وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) )

التّفسير

الموت يتربّص بالجميع :

قرأنا في الآيات السابقة أنّ المشركين قد تشبّثوا بمسألة كون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا من أجل التشكيك بنبوّته ، وكانوا يعتقدون أنّ النّبي يجيب أن يكون ملكا وخاليا من كلّ العوارض البشريّة.

إنّ الآيات ـ محلّ البحث ـ أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء ، فهم يشيعون تارة أنّ انتفاضة النّبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها ، وسينتهي بموته كلّ شيء ، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور ،( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

وكانوا يظنّون تارة أخرى أنّ هذا الرجل لمّا كان يعتقد أنّه خاتم النبيّين ، فيجب أن لا يموت أبدا ليحفظ دينه ، وبناء على هذا فإنّ موته في المستقبل

١٦٢

سيكون دليلا على بطلان ادّعائه. فيجيبهم القرآن في أوّل آية بجملة قصيرة فيقول :( وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) .

إنّ قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير ، أي أنّه لا يكتب لأحد الخلود ، وإذا كان هؤلاء يفرحون بموتك :( أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ) .

ربّما لا نحتاج إلى توضيح أنّ بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء الرسول. فإنّ شرائع إبراهيم وموسى وعيسىعليه‌السلام وإن لم تكن خالدة ، إلّا أنّها بقيت بعد وفاة هؤلاء الأنبياء العظام (وبالنسبة لعيسى فإنّ شريعته استمرت بعد صعوده إلى السّماء) لقرون طويلة. وبناء على هذا فإنّ خلود المذهب لا يحتاج إلى حراسة النّبي الدائمة له ، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.

وأمّا ما تصوّره أولئك من أنّ كلّ شيء سينتهي بموت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّهم أخطأوا في ظنّهم ، لأنّ هذا الكلام يصحّ في المسائل التي تقوم بالشخص.

والإسلام لم يكن قائما بالنّبي ولا بأصحابه. فقد كان دينا حيّا ـ ينطلق متقدّما بحركة الذاتية الداخلية ويخترق حدود الزمان والمكان ويواصل طريقه!

ثمّ يذكر قانون الموت العامّ الذي يصيب كلّ النفوس بدون استثناء فيقول :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

ويجب أن نذكّر بأنّ لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة ، فأوّل معنى للنفس هو الذات ، وهذا المعنى واسع يطلق حتّى على ذات الله المقدّسة ، كما نقرأ :( كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (1) .

ثمّ استعملت هذه الكلمة في الإنسان ، أي مجموع جسمه وروحه ، مثل :( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) (2) .

__________________

(1) الأنعام ، 12.

(2) المائدة ، 32

١٦٣

واستعملت أحيانا في خصوص روح الإنسان كما في( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (1) .

ومن الواضح أنّ المراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثّاني ، وبناء على هذا فإنّ المراد هو بيان قانون الموت العام في حقّ البشر ، وبذلك لا يبقى مجال للإشكال على الآية بأنّ التعبير بالنفس يشمل الله أو الملائكة أيضا فكيف نخصّص الآية ونخرج الله والملائكة منها؟(2) .

وبعد ذكر قانون الموت الكلّي يطرح هذا السؤال ، وهو : ما هو الهدف من هذه الحياة الزائلة؟ وأي فائدة منها؟

فيقول القرآن حول هذا الكلام :( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) أي إنّ مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا ، بل هو مكان آخر ، وإنّما تأتون هنا لتؤدّوا الاختبار و «الامتحان» ، وبعد اكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى مكانكم الأصلي وهو الدار الآخرة.

وممّا يسترعي النظر أنّ «الشرّ» مقدّم على «الخير» من بين المواد الامتحانية ، وينبغي أن يكون كذلك ، لأنّ الامتحان الإلهي وإن كان تارة بالنعمة وأخرى بالبلاء ، إلّا أنّ من المسلّم أنّ الامتحان بالبلاء أشدّ وأصعب.

وأمّا «الشرّ» فإنّه لا يعني مطلق الشرّ ، لأنّ الفرض أنّ هذا الشرّ عبارة عن وسيلة للاختبار والتكامل ، وبناء على هذا فإنّ المراد هو الشرّ النسبي ، وأساسا لا يوجد شرّ مطلق في مجموع عالم الوجود بالنظرة التوحيديّة الصحيحة!

ولذلك نقرأ في حديث أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام مرض يوما فجاء جمع من أصحابه لعيادته ، فقالوا : كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال : «بشرّ»! قالوا : ما هذا كلام مثلك؟! قال : «إنّ الله تعالى يقول : ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ، فالخير الصحّة والغنى ، والشرّ المرض والفقر».

__________________

(1) الأنعام ، 93.

(2) الميزان ، الجزء 14 ، ص 312.

١٦٤

ويبقى هنا سؤال مهمّ ، وهو : لماذا يختبر الله عباده؟ وماذا يعني الاختبار من قبل الله؟ وقد ذكرنا جواب هذا السؤال في ذيل الآية (155) من سورة البقرة ، وقلنا : إنّ الامتحان من الله تعالى لعباده يعني تربيتهم. طالعوا التّفصيل الكامل لهذا الموضوع هناك.

* * *

١٦٥

الآيات

( وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) )

التّفسير

خلق الإنسان من عجل!

نواجه في هذه الآيات مرّة أخرى ، بحوثا أخرى حول موقف المشركين من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يتّضح نمط تفكيرهم المنحرف في المسائل الأصولية ، فتقول أوّلا :( وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) فهؤلاء لا عمل لهم إلّا السخرية والاستهزاء ، ويشيرون إليك بعدم اكتراث ويقولون :( أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ

١٦٦

آلِهَتَكُمْ (1) وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ) .

ممّا يثير العجب هو إنّه لو ازدرى أحد هذه الأصنام الخشبية والحجرية (وما هو بمزدر لها ، بل يفصح عن حقيقتها) فيقول : إنّ هذه موجودات لا روح فيها ولا شعور ولا قيمة لها ، لتعجبوا منه ، أمّا إذا جحد أحدهم ربّه الرحمن الرحيم الذي عمّت آثار رحمته وعظمته الأرض والسّماء وما من شيء إلّا وفيه دليل على عظمته ورحمته ، لما أثار إعجابهم!!

نعم ، إنّ الإنسان إذا إعتاد أمرا وتطبّع عليه وتعصّب له فإنّه سيتقدّس في نظره وإن كان أسوء الأمور ، وإذا عادى شيئا فسيبدو سيّئا في نظره تدريجيّا وإن كان أجمل الأمور وأحبّها.

ثمّ تشير إلى أمر آخر من الأمور القبيحة لدى هذا الإنسان المتحلّل ، فتقول :( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) . وبالرغم من اختلاف المفسّرين في تفسير كلمتي (إنسان) و (عجل) ، ولكن من المعلوم أنّ المراد من الإنسان هنا نوع الإنسان ـ طبعا الإنسان المتحلّل والخارج عن هداية القادة الإلهيين وحكومتهم ـ والمراد من «عجل» هي العجلة والتعجيل ، كما تشهد الآيات التالية على هذا المعنى ، وكما نقرأ في مكان آخر من القرآن :( وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) (2) .

إنّ تعبير( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) في الحقيقة نوع من التأكيد ، أي إنّ الإنسان عجول إلى درجة كأنّه خلق من العجلة ، وتشكّلت أنسجته ووجوده منها! وفي الواقع ، فإنّ كثيرا من البشر العاديين هم على هذه الشاكلة ، فهم عجولون في الخير وفي الشرّ ، وحتّى حين يقال لهم : إذا ارتكبتم المعاصي وكفرتم سيأخذكم العذاب الإلهي ، فإنّهم يقولون : فلما ذا لا يأتي هذا العذاب أسرع؟!

__________________

(1) العجيب هنا أنّ هؤلاء كانوا يقولون( أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ولم يرضوا أن يذكروا في عبارتهم كلمة (سوء) فيقولون : يذكر آلهتكم بسوء!

(2) الإسراء ، 11.

١٦٧

وتضيف الآية في النهاية :( سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) .

التعبير بـ (آياتي) هنا يمكن أن يكون إشارة إلى آيات العذاب وعلاماته والبلاء الذي كان يهدّد به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالفيه ، ولكن هؤلاء الحمقى كانوا يقولون مرارا : فأين تلك الابتلاءات والمصائب التي تخوّفنا بها؟ فالقرآن الكريم يقول : لا تعجلوا فلا يمضي زمن طويل حتّى تحيط بكم.

وقد يكون إشارة إلى المعجزات التي تؤيّد صدق نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي أنّكم لو صبرتم قليلا فستظهر لكم معجزات كافية.

ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ، لأنّ المشركين كانوا عجولين في كليهما ، وقد أراهم الله كليهما ، وإن كان التّفسير بالأوّل يبدو هو الأقرب والأنسب مع الآيات التالية.

ثمّ يشير القرآن إلى إحدى مطالب أولئك المستعجلين فيقول :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فهؤلاء كانوا ينتظرون قيام القيامة بفارغ الصبر ، وهم غافلون عن أنّ قيام القيامة يعني تعاستهم وشقاءهم المرير ، ولكن ماذا يمكن فعله؟ فإنّ الإنسان العجول يعجّل حتّى في قضيّة تعاسته وفنائه؟

والتعبير بـ( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) بصيغة الجمع مع أنّ المخاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أجل أنّهم أشركوا أنصاره وأتباعه الحقيقيّين في الخطاب ، فكأنّهم أرادوا أن يقولوا: إنّ عدم قيام القيامة دليل على أنّكم كاذبون جميعا.

وتجيبهم الآية التالية فتقول :( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «الوجوه» و «الظهور» في الآية محلّ البحث إشارة إلى أنّ جهنّم ليست نارا تحرقهم من جهة واحدة ، بل إنّ وجوه هؤلاء وظهورهم في النّار ، فكأنّهم غرقوا ودفنوا في وسط النّار!

وجملة( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) إشارة إلى أنّ هذه الأصنام التي يظنّون أنّها

١٦٨

ستكون شفيعة لهم وناصرة ، لا تقدر على أي شيء.

ممّا يلفت النظر أنّ العقوبة الإلهيّة لا يعيّن وقتها دائما( بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ) وحتّى إذا استمهلوا ، وطلبوا التأخير على خلاف ما كانوا يستعجلون به إلى الآن ، فلا يجابون( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ بملاحظة الآيات آنفات الذكر يثار هذا السؤال ، وهو : إذا كان الإنسان عجولا بطبيعته ، فلما ذا ينهى الله ـ سبحانه عن العجلة ويقول :( فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) ؟

أليس هذا تناقضا بين الإثنين؟

ونقول في الجواب : إنّنا إذا لا حظنا أصل إختيار وحرية إرادة الإنسان ، وكون صفاته ومعنوياته وخصائصه الأخلاقيّة قابلة للتغيير ، فسيتّضح أن لا تضادّ في الأمر ، حيث يمكن تغيير هذه الحالة بالتربية وتزكية النفس.

2 ـ جملة( بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ) قد تشير إلى أنّ عذاب القيامة وعقوباتها تختلف جميعها عن عذاب الدنيا ، فنقرأ مثلا حول النّار :( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) (1) ، أو نقرأ في شأن وقود النّار :( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (2) .

ومثل هذه التعبيرات توحي بأنّ نار جهنّم تأتي على حين غفلة فتبهت الناس.

* * *

__________________

(1) سورة الهمزة ، 7.

(2) البقرة ، 24.

١٦٩

الآيات

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) )

التّفسير

لا حظنا في الآيات السابقة أنّ المشركين والكفّار كانوا يستهزءون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا دأب كلّ الجهّال المغرورين ، إنّهم يأخذون الحقائق المهمّة الجديّة مأخذ الهزل والاستهزاء.

فتقول الآية الأولى تسلية للنّبي : لست الوحيد الذي يستهزأ به( وَلَقَدِ

١٧٠

اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزؤن به( فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) وبناء على هذا فلا تدع للغمّ والحزن إلى نفسك طريقا ، وينبغي أن لا تترك مثل أعمال الجاهلين هذه أدنى أثر في روحك الكبيرة ، أو تخلّ بإرادتك الحديديّة الصلبة.

وتقول الآية التالية : قل لهم إنّ أحدا لا يدافع عنكم أمام عذاب الله في القيامة ، بل وفي هذه الدنيا :( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ ) أي من عذابه ، فلو أنّ الله سبحانه لم يجعل السّماء ـ أي الجوّ المحيط بالأرض سقفا محفوظا كما مرّ في الآيات السابقة ـ لكان هذا وحده كافيا أن تتهاوى النيازك وتمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.

إنّ الله الرحمن قد أولاكم من محبّته أن جعل جنودا متعدّدين لحفظكم وحراستكم ، بحيث لو غفلوا عنكم لحظة واحدة لصبّ عليكم سيل البلاء.

ممّا يستحقّ الانتباه أنّ كلمة «الرحمن» قد استعملت مكان (الله) في هذه الآية ، أي انظروا إلى أنفسكم كم اقترفتم من الذنوب حتّى أغضبتم الله الذي هو مصدر الرحمة العامّة؟!

ثمّ تضيف :( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) فلا هم يصغون إلى مواعظ الأنبياء ونصحهم ، ولا تهزّ قلوبهم نعم الله وذكره ، ولا يستعملون عقولهم لحظة في هذا السبيل.

ثمّ يسأل القرآن الكريم : أي شيء يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين والمجرمين في مقابل العقوبات الإلهيّة؟( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) (1) فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ نفسها من

__________________

(1) «يصحبون» من باب الأفعال ، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئا تحت تصرّفهم بعنوان المساعدة والحماية ، وهو هنا يعني أنّ هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتيا ، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوّة من قبل الله تعالى ، ونحن نعلم أنّ أيّة قوّة دفاعية في عالم الوجود إمّا أن تنبع من ذات الشيء ، أو تمنح له من قبل الله تعالى. أي أنّها إمّا ذاتية أو عرضية.

١٧١

العذاب ، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمّة ، فتقول :( بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) إلّا أنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حسّ الشكر والحمد ، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية الله ، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.

ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) ؟ فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الاخرى وتذهب ، وليس للأفراد الصغار والكبار عمر خالد ، والجميع سيصيبهم الفناء ، والأقوام الذين كانوا أشدّ منهم وأقوى وأكثر تمرّدا وعصيانا أودعوا تحت التراب ، وفي ظلام القبور ، وحتّى العلماء والعظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال( أَفَهُمُ الْغالِبُونَ ) ؟

وقد اختلف المفسّرون في المراد من جملة( أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) :

1 ـ فقال بعضهم : إنّ المراد هو أنّ الله ينقص تدريجيّا من أراضي المشركين ويضيفها على بلاد المسلمين. إلّا أنّه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكّة ، ولم يكن للمسلمين تلك الفتوحات ، فإنّ هذا التّفسير يبدو غير مناسب.

2 ـ وقال بعض آخر : إنّ المقصود هو خراب وانهدام الأراضي بصورة تدريجيّة.

3 ـ وبعض يعتبرونها إشارة إلى سكّان الأرض.

4 ـ وذكر بعض أنّ المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصّة.

إلّا أنّ الأنسب من كلّ ذلك ، أنّ المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم المختلفة ، والأقوام والأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجيّة ودائمة ، ويودعون الحياة الدنيا ، وبهذا فإنّه ينقص دائما من أطراف الأرض.

١٧٢

وقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات التي رويت عن أهل البيتعليهم‌السلام بموت العلماء ، فيقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «نقصانها ذهاب عالمها».

ومن المعلوم أنّ هذه الرّوايات ـ عادة ـ تبيّن مصاديق واضحة ، لا أنّها تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين. وبهذا فإنّ الآية تريد أن تبيّن أنّ موت الكبار والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أنّ محاربة الله تعالى لا تنتج سوى الاندحار.

ثمّ تقرّر الآية حقيقة أنّ وظيفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي ، فتوجّه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية ، فلا عجب من ذلك ، وليس ذلك دليلا على نقص الوحي الإلهي ، بل السبب هو( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ ) .

إنّ الاذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام الله ، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقا.

* * *

١٧٣

الآيتان

( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) )

التّفسير

موازين العدل في القيامة :

بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين ، تقول الآية الأولى أعلاه : إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا الله يوما في الرخاء ، ولكن :( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) .

كلمة (نفحة) تعني برأي المفسّرين وأرباب اللغة : الشيء القليل ، أو النسيم اللطيف ، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالبا في نسمات الرحمة والنعمة غالبا ، إلّا أنّها تستعمل في مورد العذاب أيضا(1) .

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، تفسير في ظلال القرآن ، ومفردات الراغب ذيل الآية مادّة (نفحة).

١٧٤

وعلى قول تفسير الكشّاف فإنّ جملة( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ ) تتضمّن ثلاثة تعابير كلّها تشير إلى القلّة : التعبير بالمسّ ، والتعبير بالنفحة ، من ناحية اللغة ، ومن ناحية الوزن والصيغة أيضا(1) .

والخلاصة : إنّ ما يريد أن يقوله القرآن الكريم هو : إنّ هؤلاء الذين عميت قلوبهم يسمعون كلام النّبي ومنطق الوحي سنين طويلة ، ولا يؤثّر فيهم أدنى تأثير ، إلّا أنّهم عند ما تلهب ظهورهم سياط العذاب ـ وإن كانت خفيفة يسيرة ـ سيصرخون( إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) ألا ينبغي لهؤلاء أن ينتبهوا قبل أن تصيبهم سياط العذاب؟

ولو انتبهوا حينئذ ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الاضطرارية لا تنفعهم ، وإذا ما هدأت فورة العذاب واطمأنّوا فإنّهم سيعودون إلى ما كانوا عليه!

أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق ، وجزائها العادل ، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا ، فإنّ عذاب الآخرة حتمي ، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقّة ، فتقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

«القسط» يعني أحيانا عدم التبعيض ، وأحيانا يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة ، وما يناسب المقام هو المعنى الثّاني.

وممّا يلفت النظر أنّ «القسط» هنا ذكر كصفة للموازين ، وهذه الموازين دقيقة ومنظّمة إلى الحدّ الذي تبدو وكأنّها عين العدالة(2) .

ولهذا تضيف مباشرة :( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) فلا ينقص من ثواب المحسنين شيء ، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شيء.

إلّا أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقّة في الحساب ، بل( وَإِنْ كانَ

__________________

(1) المصدر السابق.

(2) مع أن «موازين» جمع ، و «قسط» مفرد ، إلا أن (القسط) مصدر ، والمصدر لا يجمع ، فليس هنا إشكال.

١٧٥

مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ) .

«الخردل» نبات له حبّة صغيرة جدّا يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.

وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (1) .

وممّا يستحقّ الانتباه أنّه قد عبّر في ستّ مواضع من القرآن بـ( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) وفي موضعين بـ( مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) . وفي الحقيقة فإنّ الآية آنفة الذكر مع التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.

إنّ كلمة «موازين» ، وبصيغة الجمع ، وبعدها ذكر وصف «القسط» ، وبعده التأكيد على نفي الظلم( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) وبعد ذلك ذكر كلمة «شيئا» ثمّ التمثيل بحبّة الخردل ، وأخيرا جملة( وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ) كلّ هذه أدلّة على أنّ حساب يوم القيامة دقيق جدّا ، وخال من أي نوع من الظلم والجور.

أمّا ما المراد من الموازين؟

بعض المفسّرين ظنّوا أنّ هناك موازين كموازين هذه الدنيا تنصب ، ثمّ فرضوا بعد ذلك أنّ لأعمال الإنسان هناك وزنا وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.

إلّا أنّ الصحيح هو أنّ الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن ، ومن المعلوم أنّ لكلّ شيء مقياس وزن متناسب معه ، كميزان الحرارة ، وميزان الهواء ، والموازين الاخرى الذي يتناسب كلّ منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمّة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم(2) . فنقرأ : «السلام على ميزان الأعمال»! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا الموضوع ذيل الآية (8) من سورة الأعراف.

إنّ ذكر الموازين بصيغة الجمع لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، لأنّ رجال

__________________

(1) الزلزال ، 7.

(2) بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 252.

١٧٦

الحقّ كلّ منهم ميزان لأعمال البشر ، فمضافا إلى أنّ جميعهم ممتازون ، فإنّ لكلّ منهم امتيازا خاصّا بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياسا ومثلا. وبتعبير آخر : فإنّ كلّ من يشبه هؤلاء إلى حدّ ما ، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء ، فإنّ وزنه سيثقل بذلك المقدار ، وكلّما ابتعدت واختلفت فسيخفّ وزنه.

* * *

١٧٧

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) )

التّفسير

لمحة من قصص الأنبياء :

ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة بأمور تربوية بالغة الأثر ، وتوضّح البحوث السابقة حول نبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الأصول المشتركة الحاكمة عليها.

تقول الآية الأولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) .

«الفرقان» يعني في الأصل الشيء الذي يميّز الحقّ عن الباطل ، وهو وسيلة لمعرفة الإثنين. وقد ذكروا هنا تفاسير متعدّدة في المراد من الفرقان في هذه الآية.

فقال بعضهم : إنّ المراد التوراة.

والبعض اعتبره انشقاق البحر لبني إسرائيل ، والذي كان علامة واضحة على

١٧٨

عظمة الحقّ وأحقيّة موسى. في حين أنّ البعض اعتبره إشارة إلى سائر المعجزات والدلائل التي كانت بيد موسى وهارونعليهما‌السلام .

غير أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها مطلقا ، لأنّ من الممكن أن يكون الفرقان إشارة إلى التوراة ، وإلى سائر معجزات ودلائل موسىعليه‌السلام .

وقد أطلق الفرقان في سائر الآيات على نفس القرآن أيضا ، مثل :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (1)

وأحيانا يعبّر عن الإنتصار الإعجازي الذي ناله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال في شأن معركة بدر :( يَوْمَ الْفُرْقانِ ) (2)

أمّا كلمة «الضياء» فتعني النور الذي ينبع من ذات الشيء ، ومن المسلّم أنّ القرآن والتوراة ومعجزات الأنبياء كانت كذلك(3) .

«الذكر» هو كلّ موضوع يبعد الإنسان عن الغفلة ، وهذا أيضا من آثار الكتب السماوية والمعجزات الإلهيّة الواضحة.

إنّ ذكر هذه التعابير الثلاثة متعاقبة ربّما كان إشارة إلى أنّ الإنسان من أجل أن يصل إلى هدفه يحتاج أوّلا إلى الفرقان ، أي أن يشخّص الطريق الأصلي عند مفترق الطرق ، فإذا شخّص طريقه يحتاج إلى ضياء ونور ليتحرّك في ذلك الطريق ويستمرّ فيه ، وقد تعترضه موانع أهمّها الغفلة ، فيحتاج إلى ما يذكره ويحذّره دائما.

وممّا ينبغي الالتفات إليه ورود لفظ «الفرقان» معرفة ، وورود كلمتي [ضياء وذكرا] نكرتين في الآية محلّ البحث ، وعدّ أثرهما خاصّا بالمتّقين ، ولعلّ هذا التفاوت إشارة إلى أنّ المعجزات والخطابات السماوية تضيء الطريق للجميع ، إلّا أنّ من ينتفع من الضياء والذكر ليس جميع الناس ، بل الذين يحسّون بالمسؤولية ،

__________________

(1) الفرقان ، 1.

(2) الأنفال ، 41.

(3) لقد أوضحنا الفرق بين «الضياء» و «النور» بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (5) من سورة يونس.

١٧٩

وعلى جانب من التقوى.

ثمّ تعرف الآية التالية المتّقين بأنّهم( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) .

ولكلمة «الغيب» هنا تفسيران : الأوّل : إنّه إشارة إلى ذات الله المقدّسة ، أي مع أنّ الله سبحانه غائب عن الأنظار ، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل ، ويحسّون بالمسؤولية أمام ذاته المقدّسة.

والآخر : إنّ المتّقين لا يخافون الله في العلانية وبين المجتمع فقط ، بل يعلمون أنّه حاضر وناظر إليهم حتّى في خلواتهم.

وممّا يلفت النظر ، أنّه عبّر عن الخوف أمام الله بالخشية ، وفي شأن القيامة بالإشفاق ، إنّ هذين اللفظين وإن كان كلاهما بمعنى الخوف ، إلّا أنّ «الخشية» ـ على قول الراغب في المفردات ـ تقال في موضع يمتزج فيه الخوف بالاحترام والتعظيم ، كخوف الابن من أبيه الموقّر ، وبناء على هذا فإنّ خوف المتّقين ممتزج بالمعرفة.

وأمّا «الإشفاق» فيعني الاهتمام والحبّ المقترن بالخوف ، وهذا التعبير يستعمل أحيانا في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبّهم الإنسان ، إلّا أنّه يخاف عليهم في الوقت نفسه من تعرّضهم للبلايا والأمراض مثلا. وفي الواقع فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة ، لأنّه مكان الثواب والرحمة ، إلّا أنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب الله فيه.

ويمكن أن تستعمل هاتان الكلمتان أيضا في معنى واحد.

وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ؟ ولماذا الإنكار؟ لأنّه ذكر لكم ومصدر وعيكم ويقظتكم وتذكيرهم؟ ألأنّه مصدر البركة وفيه خير الدنيا وخير الآخرة ، ومنبع الانتصارات والسعادات؟ فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقيّته

١٨٠