الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 174633
تحميل: 3705


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174633 / تحميل: 3705
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

عليه بأنّ أي قربان ـ وأي عمل ـ لا يتقبّل منك إلّا أن تؤمن أوّلا. غير أنّ نمرود قال في الجواب : فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن ، وليس بإمكاني أن أتحمّل ذلك!

على كلّ حال ، فإنّ هذه الحوادث صارت سببا لإيمان جماعة من ذوي القلوب الواعية بربّ إبراهيمعليه‌السلام ، أو يزدادوا إيمانا ، وربّما كان هذا هو السبب في عدم إظهار نمرود ردّ فعل قوي ضدّ إبراهيم ، بل اكتفى بإبعاده عن أرض بابل(1) .

* * *

__________________

(1) الكامل لابن الأثير ، المجلد الأوّل ، ص 99.

٢٠١

الآيات

( وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) )

التّفسير

هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين

لقد هزّت قصّة حريق إبراهيمعليه‌السلام ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود ، بحيث فقد نمرود معنوياته تماما ، لأنّه لم يعد قادرا على أن يظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عرف بين الناس بأنّه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم ـ بكلّ إمكانياته وقدرته ـ بمفرده ، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال ، ومع ذلك اللسان المتكلّم والمنطق القوي ، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها ، فمن المحتّم أنّه سيكون خطرا على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة ، فلا بدّ أن يخرج من تلك الأرض على أي حال.

٢٠٢

ومن جهة أخرى ، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته في الواقع ـ في تلك البلاد ، ووجّه ضربات ما حقة إلى هيكل وبنيان الشرك ، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد ، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه البذور وتبدي ثمارها ، وتقلع جذور الأصنام وعبادتها ، وتسحب البساط من تحتها.

فلا بدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك ، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط ـ وكان ابن أخ إبراهيم ـ وزوجته سارة ، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين ، كما يقول القرآن الكريم :( وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ ) .

وبالرغم من أنّ اسم هذه الأرض لم يرد صريحا في القرآن ، إلّا أنّه بملاحظة الآية الأولى من سورة الإسراء :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) يتّضح أنّ هذه الأرض هي أرض الشام ذاتها ، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضا غنيّة مباركة خضراء ، ومن الجهة المعنوية كانت معهدا لرعاية الأنبياء.

وقد وردت بحوث مختلفة في التفاسير والرّوايات في أنّ إبراهيمعليه‌السلام هاجر تلقائيا ، أم أبعدته سلطات نمرود ، أم أنّ الإثنين اشتركا ، والجمع بينها جميعا هو أنّ نمرود ومن حوله كانوا يرون في إبراهيم خطرا كبيرا عليهم ، فأجبروه على الخروج من تلك البلاد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنّ إبراهيم كان يرى أنّ رسالته ومهمّته في تلك الأرض قد انتهت ، وكان يبحث عن منطقة أخرى للعمل على توسيع دعوة التوحيد فيها ، خاصة وأنّ البقاء في بابل قد يشكّل خطرا على حياته فتبقى دعوته العالمية ناقصة.

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ نمرود «أمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ، فحاجّهم إبراهيم عند ذلك فقال : إن

٢٠٣

أخذتم ماشيتي ومالي فحقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم ، فاختصموا إلى قاضي نمرود ، وقضى على إبراهيم أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على أصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم ، فأخبر بذلك نمرود ، فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ، وأن يخرجوه ، وقال : إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضرّ بآلهتكم»(1) .

وأشارت الآية التالية إلى أحد أهمّ مواهب الله لإبراهيم ، وهي هبته الولد الصالح ، والنسل المفيد ، فقالت :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ) (2) ( وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ) فقد مرّت أعوام طوال وإبراهيم في لهفة وانتظار للولد الصالح ، والآية (100) من سورة الصافات ناطقة بأمنيته الباطنية هذه :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) . وأخيرا استجاب له ربّه ، فوهبه إسماعيل أوّلا ، ومن بعد إسحاق ، وكان كلّ منهما نبيّا عظيم الشخصيّة.

إنّ التعبير بـ «نافلة» ـ والذي يبدو أنّه وصف ليعقوب خاصّة ـ من جهة أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد طلب الولد الصالح فقد ، فأضاف الله إلى مراده حفيدا صالحا أيضا ، لأنّ النافلة في الأصل تعني الهبة أو العمل الإضافي.

وتشير الآية الأخيرة إلى مقام إمامة وقيادة هذا النّبي الكبير ، وإلى جانب من صفات الأنبياء ومناهجهم المهمّة القيّمة بصورة جماعية.

لقد عدّت في هذه الآية ستّة أقسام من هذه الخصائص ، وإذا أضيف إليها وصفهم بكونهم صالحين ـ والذي يستفاد من الآية السابقة ـ فستصبح سبعة.

ويحتمل أيضا أن يكون مجموع الصفات الست التي ذكرت في هذه الآية تفصيلا

__________________

(1) روضة الكافي ، طبقا لنقل الميزان ، في ذيل الآيات مورد البحث.

(2) عدم ذكر إسماعيل هنا مع أنّه كان أوّل ولد إبراهيم ، ربّما كان من أجل أنّ ولادة إسحاق من أمّ عقيم وعجوز ، كانت تبدو مسألة عجيبة للغاية ، في حين أنّ ولادة إسماعيل من أمّه هاجر لم يكن عجيبا.

٢٠٤

وتبيانا لصلاح أولئك ، والذي ورد في الآية السابقة.

يقول أوّلا :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ) أي إنّنا وهبناهم مقام الإمامة إضافة إلى مقام النّبوّة والرسالة ، والإمامة ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هي آخر مراحل سير الإنسان التكاملي ، والتي تعني القيادة العامّة الشاملة لكلّ الجوانب الماديّة والمعنوية ، والظاهرية والباطنية ، والجسميّة والروحية للناس.

والفرق بين النبوّة والرسالة وبين الإمامة ، هو أنّ الأنبياء في مقام النبوّة والرسالة يتلقّون أوامر الله ويبلّغونها الناس إبلاغا مقترنا بالإنذار أو البشارة فقط ، أمّا في مرحلة الإمامة فإنّهم ينفّذون هذا البرنامج الإلهي ، سواء كان هذا التنفيذ عن طريق تشكيل حكومة عادلة أو بدون ذلك ، فهم في هذه المرحلة مربّون للناس ، ومعلّمون لهم ، ومنفّذون للأحكام والبرامج في سبيل إيجاد بيئة طاهرة نزيهة إنسانية.

في الحقيقة ، إنّ مقام الإمامة مقام تنفيذ كلّ الخطط والاطروحات الإلهيّة ، وبتعبير آخر : الإيصال إلى المطلوب ، والهداية التشريعيّة والتكوينيّة ، فالإمام من هذه الناحية كالشمس التي تنمي الكائنات الحيّة بأشّعتها تماما(1) .

ثمّ يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام ، فيقول :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) ولا يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح ، والذي هو من شأن النبوّة والرسالة ، بل يعني الأخذ باليد والإيصال إلى المقصود. وهذا بالطبع لمن له الاستعداد واللياقة والأهليّة.

أمّا الموهبة الثّالثة الرّابعة والخامسة فقد عبّر عنها القرآن بقوله :( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ) وهذا الوحي يمكن أن يكون وحيا

__________________

(1) لمزيد الاطّلاع في هذا المجال راجع ذيل الآية (124) من سورة البقرة.

٢٠٥

تشريعيّا ، أي إنّنا جعلنا كلّ أنواع أعمال الخير وأداء الصلاة وإعطاء الزكاة في مناهجهم الدينيّة. ويمكن أيضا أن يكون وحيا تكوينيّا ، أي إنّنا وهبنا لهم التوفيق والقدرة والجاذبية المعنوية من أجل تنفيذ هذه الأمور.

طبعا ، ليس لأي من هذه الأمور صبغة إجبارية واضطرارية ، وحتّى مجرّد الأهلية والاستعداد والأرضية لوحدها من دون إرادتهم وتصميمهم لا توصل إلى نتيجة.

إنّ ذكر( إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ) بعد فعل الخيرات ، من أجل أهميّة هذين الأمرين اللذين بيّنا أوّلا بصورة عامّة في جملة( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) ثمّ بصورة خاصّة في التصريح بهما ، وهذا ما يبحثه علماء البلاغة العربية تحت عنوان ذكر الخاص بعد العام

وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية ، فقال :( وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) (1) .

والتعبير بـ «كانوا» الذي يدلّ على الماضي المستمر في هذا المنهج ، ربّما كان إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا رجالا صالحين موحّدين مؤهّلين حتّى قبل الوصول إلى مقام النّبوّة والإمامة ، وفي ظلّ ذلك المخطّط وهبهم الله سبحانه مواهب جديدة.

وينبغي التذكير بهذه النقطة ، وهيّ أنّ جملة( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) في الحقيقة وسيلة لمعرفة الأئمّة وهداة الحقّ ، في مقابل زعماء وقادة الباطل الذين يقوم أساس ومعيار أعمالهم على الأهواء والرغبات الشيطانية. وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان : قال الله تبارك وتعالى : وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ، لا بأمر الناس ، يقدّمون ما أمر الله قبل أمرهم ، وحكم

__________________

(1) تقديم كلمة (لنا) على (عابدين) يدلّ على الحصر ، وإشارة إلى مقام التوحيد الخالص ، لهؤلاء المقدّمين الكبار ، أي إنّ هؤلاء كانوا يعبدون الله فقط.

٢٠٦

الله قبل حكمهم ، قال : وجعلنا أئمّة يهدون إلى النّار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله»(1) .

وهذا هو المعيار والمحك لمعرفة إمام الحقّ من إمام الباطل.

* * *

__________________

(1) الآية الثّانية ـ وهي الآية (41) من سورة القصص ـ تشير إلى فرعون وجنوده ، وهذا الحديث جاء في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.

٢٠٧

الآيتان

( وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) )

التّفسير

نجاة لوط من أرض الفجّار :

لمّا كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي أرحامه ، ومن أوائل من آمن به ، فقد أشارت الآيتان بعد قصّة إبراهيمعليه‌السلام إلى جانب من اجتهاده وسعيه في طريق إبلاغ الرسالة ، والمواهب التي منحها الله سبحانه له ، فتقول :( وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (1) .

لفظة (الحكم) جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوّة والرسالة ، وفي موارد أخرى بمعنى القضاء ، وأحيانا ، بمعنى العقل ، ويبدو أنّ الأنسب هنا من بين هذه المعاني هو المعنى الأوّل ، مع إمكانية الجمع بين هذه المعاني هنا.

والمراد من العلم كلّ العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

__________________

(1) لقد نصبت كلمة (لوط) لأنّها مفعول لفعل مقدّر ، يمكن أن يكون تقديره : (آتينا) أو (اذكر).

٢٠٨

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصرا لإبراهيم ، وهاجر معه من أرض بابل إلى فلسطين ، ثمّ فارق إبراهيم ، وجاء إلى مدينة (سدوم) لأنّ أهلها كانوا غارقين في الفساد والمعاصي ، وخاصّة الانحرافات الجنسية. وقد سعى كثيرا من أجل هداية هؤلاء القوم ، وتحمّل المشاق في هذا الطريق ، إلّا أنّه لم يؤثّر في أولئك العمي القلوب.

وأخيرا ، نعلم أنّ الغضب والعذاب الإلهي قد حلّ بهؤلاء ، وقلب عالي مدينتهم سافلها ، وأهلكوا جميعا ، إلّا عائلة لوط ـ باستثناء امرأته ـ وقد بيّنا تفصيل هذه الحادثة في ذيل الآيات (77) وما بعدها من سورة هود.

ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط ، وهي( وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ ) .

إنّ نسبة الأعمال القبيحة إلى القرية والمدينة بدلا من أهل القرية إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا قد غرقوا في الفساد والمعاصي إلى درجة حتّى كأنّ أعمال الفساد والخبائث كانت تقطر من جدران مدينتهم وأبوابها.

والتعبير بـ «الخبائث» بصيغة الجمع ، إشارة إلى أنّهم إضافة إلى فعل اللواط الشنيع ، كانوا يعملون أعمالا قبيحة وخبيثة أخرى ، أشرنا إليها في ذيل الآية (8) من سورة هود.

والتعبير بـ «الفاسقين» بعد «قوم سوء» ربّما يكون إشارة إلى أنّ أولئك كانوا فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهيّة ، وحتّى مع قطع النظر عن الدين والإيمان ، فإنّهم كانوا أفرادا حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الاجتماعية بين الناس.

ثمّ أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهيّة للنبي لوط ، فقالت :( وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فهذه الرحمة الإلهيّة الخاصّة لا تعطى لأحد اعتباطا وبدون حساب ، بل إنّ أهلّية وصلاحية لوط هي التي جعلته مستحقّا لمثل هذه الرحمة.

٢٠٩

حقّا ، أي عمل أصعب ، وأي منهج إصلاحي أجهد من أن يبقى إنسان مدّة طويلة في مدينة فيها كلّ هذا الفساد والانحطاط ، ويظلّ دائما يبلّغ الناس الضالّين المنحرفين أمر ربّهم ويرشدهم إلى طريق الهدى ، ويصل الأمر بهم إلى أنّهم يريدون أن يعتدوا حتّى على ضيفه؟ والحقّ أنّ مثل هذه الاستقامة والثبات لا تصدر إلّا من أنبياء الله وأتباعهم ، فأي واحد منّا يستطيع أن يتحمّل مثل هذا العذاب الروحي المؤلم؟!

* * *

٢١٠

الآيتان

( وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) )

التّفسير

نجاة نوح من القوم الكافرين :

بعد ذكر جانب من قصّة إبراهيم وقصّة لوطعليهما‌السلام ، تطرّقت السورة إلى ذكر جانب من قصّة نبي آخر من الأنبياء الكبار ـ أي نوحعليه‌السلام ـ فقالت :( وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ ) أي قبل إبراهيم ولوط.

إنّ هذا النداء ـ ظاهرا ـ إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في سورة نوح من القرآن الكريم حيث يقول :( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) (1) . أو إنّه إشارة إلى الجملة التي وردت في الآية 10 / سورة القمر :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) .

التعبير بـ «نادى» يأتي عادة بمعنى الدعاء بصوت عال ، ولعلّه إشارة إلى أنّهم

__________________

(1) نوح ، 26 ، 27.

٢١١

آذوا هذا النّبي الجليل إلى درجة جعلته يصرخ مناديا ربّه ليدركه وينجّيه من أذاهم وشرّهم ، ولو أمعنا النظر في أحوال نوح الواردة في سورة نوح وسورة هود لوجدنا أنّه كان محقّا أن يرفع صوته ويدعو ربّه سبحانه(1) .

ثمّ تضيف الآية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) وفي الحقيقة فإنّ جملة «فاستجبنا» إشارة مجملة إلى استجابة دعوته ، وجملة( فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) تعتبر شرحا وتفصيلا لها.

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (أهل) هنا ، لأنّه إذا كان المراد منها عائلته وأهل بيته فستشمل بعض أبناء نوح ، لأنّ واحدا من أولاده تخلّف عنه مع المسيئين وأضاع بنوته لعائلته ، وكذلك لم تكن زوجته مؤمنة به.

وإن كان المراد من الأهل خواص أتباعه وأصحابه المؤمنين ، فإنّها على خلاف المعنى المشهور للأهل.

لكن يمكن أن يقال : أنّ للأهل ـ هنا ـ معنى وسيعا يشمل أهله المؤمنين وخواص أصحابه ، لأنّا نقرأ في حقّ ابنه الذي لم يتبعه :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (2) وعلى هذا فإنّ الذين اعتنقوا دين نوح يعدّون في الواقع من عائلته وأهله.

وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضا ، وهي : إنّ «الكرب» في اللغة تعني الغمّ الشديد ، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها ، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان ، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.

وأيّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحقّ (950) عاما ، كما صرّح القرآن بذلك ، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدّة الطويلة إلّا ثمانون شخصا على المشهور بين المفسّرين(3) ، وأمّا عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية

__________________

(1) راجع ما ذكرنا عليه آنفا ذيل الآية (25) سورة هود.

(2) هود ، 46.

(3) مجمع البيان ذيل الآية (40) من سورة هود ، ونور الثقلين ، المجلّد 2 ، ص 350.

٢١٢

والاستهزاء والأذى.

وتضيف الآية التالية :( وَنَصَرْناهُ ) (1) ( مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة أخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهيّة لا تتّصف بصفة الانتقام مطلقا ، بل هي على أساس انتخاب الأصلح ، أي إنّ حقّ الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لأناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله ، أو انّهم إذا ساروا يوما في طريق الانحراف انتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب. أمّا أولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقا في صلاحهم في المستقبل ، فلا مصير ولا جزاء لهم إلّا الموت والفناء.

* * *

ملاحظة

الجدير بالذكر أنّ هذه السورة ذكرت آنفا قصة «إبراهيم» و «لوط» وكذلك سوف تذكر قصتي «أيّوب» و «يونس» ، وقد ذكرت آنفا قصّة نوحعليه‌السلام وفي جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء.

وكأنّ منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من الكروب ، ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأملا للمؤمنين ، وبملاحظة أنّ هذه السورة مكّية ، وأنّ المسلمين كانوا حينئذ في شدّة وكرب فستتجلّى أهميّة هذا الموضوع أكثر

* * *

__________________

(1) إن فعل (نصر) يعدّى عادة بـ (على) إلى مفعول ثان ، فيقال مثلا : اللهم انصرنا عليهم. أمّا هنا فقد استعملت كلمة (من) ، وربّما كان ذلك من أجل أنّ المراد النصرة المقترنة بالنجاة ، لأنّ مادّة النجاة تتعدّى بـ (من).

٢١٣

الآيات

( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) )

التّفسير

قضاء داود وسليمانعليهما‌السلام :

بعد الحوادث والوقائع المتعلّقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوطعليهم‌السلام ، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان ، وفي البداية أشارت إشارة خفيّة إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان ، فتقول :( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ ) (1) ( فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) .

وبالرغم من أنّ القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفيّة ، واكتفى بإشارة

__________________

(1) «نفشت» من مادّة نفش على وزن (حرب) أي التفرّق والتبعثر في الليل ، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل ، وفي مزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتما لذا قال البعض : إنّها الرعي في الليل ، و «نقش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.

٢١٤

إجمالية واستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد ، إلّا أنّه وردت بحوث كثيرة حولها في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين.

فقال جماعة : إنّ القصّة كانت كما يلي : إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته ، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود ، فحكم داود بأن تعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضا لهذه الخسارة الفادحة ، فقال سليمان ـ والذي كان طفلا آنذاك ـ لأبيه : يا نبي الله العظيم ، غيرّ هذا الحكم وعدّله! فقال الأدب : وكيف ذاك؟ قال : يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها ، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه ، فإذا عاد البستان إلى حالته الأولى يردّ إلى صاحبه ، وتردّ الأغنام أيضا إلى صاحبها ، وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية.

وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادقينعليهما‌السلام (1) .

ويمكن أن يتصوّر عدم تناسب هذا التّفسير مع كلمة (حرث) التي تعني الزراعة ، ولكن يبدو أنّ للحرث معنى واسعا يشمل الزراعة والبستان ، كما يستفاد ذلك من قصّة أصحاب الجنّة في سورة القلم ، الآية 17 ـ 32.

لكن تبقى هنا عدّة استفهامات مهمّة :

1 ـ ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟

2 ـ كيف اختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على أساس الاجتهاد؟

3 ـ هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم ، أم أنّهما حكما بحكمين مستقلّين يختلف كلّ منهما عن الآخر؟!

ويمكن الإجابة عن السؤال الأوّل : إنّ المعيار كان جبران الخسارة ، فينظر

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١٥

داود إلى أنّ الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام ، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبرا للخسارة ، لأنّ التقصير من جانب صاحب الأغنام.

وينبغي الالتفات إلى أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدّي على زرع الآخرين في الليل ، كما أنّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار(1) .

أمّا معيار حكم سليمانعليه‌السلام فقد كان يرى أنّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!

بناء على هذا فإنّ الإثنين قد قضيا بالحقّ والعدل ، مع فارق أنّ حكم سليمان كان أدقّ ، لأنّ الخسارة لا تدفع مرّة واحدة في مكان واحد ، بل تؤدّي بصورة تدريجيّة بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضا. وإضافة إلى ما مرّ ، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران ، لأنّ جذور النباتات لم تتلف ، بل ذهبت منافعها المؤقتة ، ولذلك فإنّ من الأعدل ألّا تنقل أصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان ، بل تنقل منافعها فقط.

ونقول في جواب السؤال الثّاني : لا شكّ أنّ حكم الأنبياء مستند إلى الوحي الإلهي ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ وحيا خاصّا ينزل في كلّ مورد من موارد الحكم ، بل إنّ الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكليّة التي تلقّوها من الوحي.

بناء على هذا فإنّه لا توجد مسألة الاجتهاد النظري بمعناها الاصطلاحي ، وهو الاجتهاد الظنّي ، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة كليّة ، وأن يكون نبيّان كلّ منهما يرى أحد الطريقين ، وكلاهما صحيح في الواقع ، وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا ـ على سبيل الاتّفاق ـ من هذا القبيل كما

__________________

(1) نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث : روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا ، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.

٢١٦

بينّاه آنفا بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه ، فإنّ الطريق الذي اختاره سليمانعليه‌السلام كان أقرب من الناحية التنفيذيّة ، وجملة( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) والتي ستأتي في الآية التالية ، شاهدة على صحّة كلا القضاءين.

ونقول في جواب السؤال الثّالث : لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور ، وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء ، والتعبير بـ (حكمهم) شاهد أيضا على وحدة الحكم النهائي ، بالرغم من وجود حكمين مختلفين في البداية. (فتأمّلوا بدقّة).

ونقرأ في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «لم يحكما ، إنّما كانا يتناظران»(1) .

ويستفاد من رواية أخرى رويت في أصول الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ هذه القضيّة حدثت لتعيين وصيّ داود وخليفته وأن يتعلّم أولئك النفر منهما أيضا(2) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة :( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان اشتباها وخطأ ، لأنّها تضيف مباشرة( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) .

ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداودعليه‌السلام ، فتقول :( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) فإنّ ذلك ليس شيئا مهمّا أمام قدرتنا( وَكُنَّا فاعِلِينَ ) .

* * *

__________________

(1) من لا يحضره الفقيه ، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 443.

(2) لمزيد الاطّلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٢١٧

بحث

هناك بحث بين المفسّرين في أنّه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟

وما المراد من قوله تعالى :( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ ) ؟!

1 ـ فاحتمل أحيانا أنّ هذا كان صوت داود الرخيم المؤثّر الجذّاب ، والذي كان ينعكس في الجبال ، وكان يجذب الطيور إليه.

2 ـ وقالوا حينا آخر : إنّ هذا التسبيح كان تسبيحا مقترنا بالإدراك والشعور الموجود في باطن ذرّات العالم ، لأنّ كلّ موجودات العالم لها نوع من العقل والشعور حسب هذه النظرية ، وعند ما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة والتسبيح كانت تردّد معه ، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.

3 ـ وقال البعض : إنّ المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات العالم بلسان حالها ، لأنّ لكلّ موجود نظاما دقيقا جدّا. وهذا النظام الدقيق يحكي عن طهارة ونزاهة الله ، وعن أنّ له صفات كمال ، وبناء على هذا فإنّ نظام عالم الوجود العجيب في كلّ زاوية منه تسبيح وحمد ، فـ «التسبيح» هو التنزيه عن النقائص ، و «الحمد» هو الثناء على صفات الكمال(1) .

فإنّ قيل : إنّ التسبيح التكويني لا يختّص بالجبال والطيور ، ولا بداود ، بل أنّ نغمة هذا التسبيح تنبعث من كلّ الأرجاء والموجودات على الدوام.

قالوا في الجواب : صحيح إنّ هذا التسبيح عام ، ولكن لا يدركه الجميع ، فقد كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود ، وكان يحسن جيدا أنّ الجبال والطير يسبّحن معه.

وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير ، وما نفهمه من ظاهر الآية هو أنّ الجبال والطير كانت تردّد وتتجاوب مع داود ، وكانت تسبّح الله ، وفي الوقت

__________________

(1) لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (44) من سورة الإسراء.

٢١٨

نفسه لا تضادّ بين هذه التفاسير الثلاثة ، فالجمع بينهما ممكن.

وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة أخرى من المواهب التي وهبها الله لهذا النّبي الجليل ، فقالت :( وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ) .

«اللبوس» كما يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ـ كلّ نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية كالدرع والسيف والرمح(1) . إلّا أنّ القرائن التي في آيات القرآن توحي بأنّ اللبوس هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.

أمّا كيف ألان الله الحديد لداود ، وعلّمه صنع الدروع ، فسنفصّل ذلك في ذيل الآيات (10 ـ 11) من سورة سبأ إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢١٩

الآيتان

( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) )

التّفسير

الرياح تحت إمرة سليمان :

تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء ـ أي سليمانعليه‌السلام فتقول الآية الأولى منهما :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) وهذا الأمر ليس عجيبا ، لأنّنا عارفون به( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ ) فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود ، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه ، ونعلم كيفية السيطرة عليها ، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل ، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.

إنّ جملة( وَلِسُلَيْمانَ ) معطوفة على جملة( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ ) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحيانا لتسبّح معه ، وأحيانا نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.

٢٢٠