الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 174666
تحميل: 3708


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174666 / تحميل: 3708
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

إنّ توحيد الأنبياء الاعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي ، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام عليعليه‌السلام في وصيته لولده الإمام المجتبىعليه‌السلام حيث يقول : «واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولعرفت أفعاله وصفاته»(1) .

«الامّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة ، الاشتراك في الدين ، أو الزمن والعصر الواحد ، أو المكان المعيّن ، سواء كانت هذه الوحدة اختيارية أو بدون إختيار.

واعتبر بعض المفسّرين الامّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد ، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للامّة.

وقال البعض الآخر : إنّ المراد من الامّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار ، أي إنّكم أيّها البشر أمّة واحدة ، ربّكم واحد ، وهدفكم الأخير واحد.

إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر انسجاما من التّفسير السابق ، ولكنّه لا يبدو مناسبا بملاحظة ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة ، بل الأنسب منها جميعا أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد ، فقالت :( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ويتبرّأ منه ، ولم يكتفوا بذلك ، بل شهروا السلاح فيما بينهم ، وسفكوا الدماء الكثيرة ، وكانت هذه الأحداث نتيجة الانحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.

جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد ، وإذا لا حظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول ، فإنّ معنى

__________________

(1) نهج البلاغة. الرسالة 31.

٢٤١

الجملة هو : إنّ أولئك قد استسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق ، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر ، وأنهوا اتّحادهم الفطري والتوحيدي ، فمنوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!

وتضيف في النهاية :( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) فإنّ هذا الاختلاف عرضي يمكن اقتلاعه ، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعا في يوم القيامة ، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية ، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الاختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة ، فنقرأ في الآية 48 / سورة المائدة :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(1) ، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة ، ويرجع إلى الوحدة.

وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الانسجام مع الامّة الواحدة في طريق عبادة الله ، أو الانحراف عنها واتّخاذ طريق التفرقة ، فتقول :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) ومن أجل زيادة التأكيد قالت :( وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) .

وممّا يستحقّ الانتباه ، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر ، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطا ، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاخرى قد عدّت الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحة.

ذكر جملة( فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد ، هو

__________________

(1) آل عمران ـ 55 ، والأنعام ـ 164 ، والنحل ـ 92 ، والحجّ ـ 69 ، و...

٢٤٢

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة ، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده ، ويشكر لهؤلاء سعيهم.

وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19 / سورة الإسراء :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

* * *

٢٤٣

الآيات

( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) )

التّفسير

الكافرون على أعتاب القيامة :

كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات ، وتشير الآية الأولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لأولئك ، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس ، فتقول :( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (1) .

إنّ هؤلاء في الحقيقة أناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي ، أو بعد فنائهم وانتقالهم إلى عالم البرزخ ، وعندها يأملون أن

__________________

(1) بناء على هذا التّفسير فإنّ( حَرامٌ ) خبر لمبتدأ محذوف ، وجملة( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) دليل على ذلك ، والتقدير : «حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنهم لا يرجعون»

٢٤٤

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات ، إلّا أنّ القرآن يقول بصراحة : إنّ رجوع هؤلاء حرام تماما ، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا ).

وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أخرى نشير إلى بعضها في الهامش(1) .

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام ، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم ، كما يقول القرآن :( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) .

لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج» ، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟

وأين كانا يعيشان؟ وأخيرا ماذا يعملان ، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما بعدها من سورة الكهف ، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضا

هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الأخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة ، بل ذكرت انتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة ، فتقول مباشرة :( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) . لأنّ الرعب يسيطر

__________________

(1) اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب ، وقالوا : إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحيانا بهذا المعنى ، فتكون (لا) زائدة ، ويصبح معنى الآية : إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب. وقال البعض الآخر : إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه ، إلّا أنّ (لا) زائدة ، فيكون المعنى : إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام. واعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان ، والفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث). وقال بعض آخر : إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي ، فتقول : إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة ، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين ، ذيل الآية مورد البحث) إلّا أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

٢٤٥

على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور ، فيرتفع صوتهم :( يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ) . ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم ، فإنّهم يقولون بصراحة :( بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

كيف يمكن عادة مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء ، والكتب السماوية ، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

معنى بعض الكلمات :

«حدب» على زنة «أدب» معناه ما ارتفع من الأرض بين منخفضاتها ، وقد يطلق على ما ارتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضا.

«ينسلون» من مادّة «نسول» (على وزن فضول) ، أي الخروج بسرعة. وما قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنّهما يمرّان بسرعة على المرتفعات إشارة إلى نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.

«شاخصة» من الشخوص ، وهو في الأصل الخروج من المنزل ، أو الخروج من مدينة إلى أخرى ، ولمّا كانت العين عند التعجّب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة ، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

* * *

٢٤٦

الآيات

( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) )

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم ، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) !

«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء ، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب

٢٤٧

في التنور.

وقال بعضهم : إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظا مختلفة ، فبعض القبائل يسمّيه حصبا ، والبعض الآخر خضبا ، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب ، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحيانا ، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه ، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(1) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين ، إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم ، وستلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها ، ثمّ تضيف( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) .

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيدا لهذا المطلب ، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة ، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا ، ثمّ تردون عليها ، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(2) .

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب : إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافة إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعا ، هذا في حالة كون( ما تَعْبُدُونَ ) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية ، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالبا لغير العاقل.

__________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآيات مورد البحث.

(2) ينبغي الالتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى» ، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأولى ، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى» ، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

٢٤٨

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة ، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماما ، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كاستخلاص للنتيجة :( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب ، بل( وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ) . وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها ، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائما ، وكانوا يعدّونها درعا واقيا عن البلاء ، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة» ، تقول الآية محلّ البحث :( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) .

«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم : إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيرا ، وفي آخره شهيقا.

وعلى كلّ حال فإنّه استعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(1) .

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصرا على العباد فحسب ، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضا يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاخرى المؤلمة لهؤلاء ، وهي( وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ) . وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم ، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم : إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث

__________________

(1) لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.

٢٤٩

لا يسمعون صوت أي أحد أبدا ، فكأنّهم لوحدهم في العذاب ، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة ، و «البليّة إذا عمّت طابت» ، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما ، فتقول أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا ، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون إشارة إلى من عبد من دون الله كالمسيح ومريمعليهما‌السلام ، الذين عبدوا دون إرادتهم ، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول : ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم ، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيحعليه‌السلام ، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كاستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبدا.

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الآية ، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس هذا السؤال فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جوابا لهذا السؤال ، وأن تكون حكما عامّا لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأولى : إنّهم( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) و «الحسيس» ـ كما قال أرباب اللغة ـ الصوت المحسوس ، وجاءت أيضا بمعنى الحركة ، أو الصوت الناشئ من الحركة ، ونار الجحيم المشتعلة دائما لها صوت خاصّ ، وهذا الصوت مرعب من جهتين : من جهة أنّه صوت النّار ، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها. ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم ، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقا.

٢٥٠

والثّانية : إنّهم( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ ) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة ، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيرا من النعم دون أن ينالها ، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها ، مادية كانت أو معنوية ، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين ، بل على امتداد الخلود.

والثّالثة : إنّهم( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) . وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع ، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور واختلافات الأحوال وتبدّلها عند انتهاء هذه الدنيا ، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة النحل.

ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الأمور ، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة : من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث :( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام قال : «فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبدا»(1) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 183.

٢٥١

الآية

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) )

التّفسير

يوم تطوى السّماء!

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه ، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم ، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب ، فتقول :( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (1) .

لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقا كالطومار لكتابة الرسائل والكتب ، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة ، ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّا ويكتب عليه ما يريد كتابته ، ثمّ يطوى بعد الانتهاء من الكتابة ويضعونه جانبا ، ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضا على هيئة الطومار ، وكان هذا الطومار يسمّى سجلا ، إذ كان يستفاد منه للكتابة.

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا ، ففي

__________________

(1) السجل : الدلو العظيمة ، والسّجلّ حجر كان يكتب فيه ، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا ـ مفردات الراغب والقاموس ـ وينبغي الالتفات إلى أنّه احتملت احتمالات عديدة في تفسير جملة( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) إلّا أنّ أقربها أنّ «طي» مصدر للسجل الذي أضيف مفعوله ، واللام في (للكتب) إمّا للإضافة أو لبيان العلّة. دقّقوا ذلك.

٢٥٢

الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح ، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه ، وكلّ منها في مكان معيّن ، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه.

طبعا ، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض ، بل يعني تحطّمه وجمعه ، وبتعبير آخر : فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض ، لكن لا تفنى مواده ، وهذه الحقيقة تستفاد من التعبيرات المختلفة في آيات المعاد ، وخاصة من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة ، ومن القبور.

ثمّ تضيف( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) أو أنّه مثل تعبير( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1) (2) .

أمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم ، أو التلاحم والارتباط كما في بداية الخلق ، فيبدو بعيدا جدّا.

وفي النهاية تقول الآية :( وَعْداً ) (3) ( عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) (4) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأولى ، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه ، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأولى(5) .

* * *

__________________

(1) سورة الروم ، 27.

(2) كما قلنا سابقا ، فإنّه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية ، بل كلّ شيء متساو مقابل قدرته ، وعلى هذا فإنّ التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنّما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر ، دقّقوا ذلك.

(3) «وعدا» مفعول لفعل مقدّر تقديره : وعدنا.

(4) هذه الجملة تتضمّن عدّة تأكيدات ، فلفظة الوعد ، ثمّ التعبير بـ (علينا) وبعدها التأكيد بـ (إنّا) ثمّ استعمال الفعل الماضي (كنّا) وكذلك كلمة (فاعلين).

(5) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٥٣

الآيتان

( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) )

التّفسير

سيحكم الصالحون الأرض :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين ، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيويّة لهؤلاء ، فتقول :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) .

وكلمة «الأرض» تطلق على مجموع الكرة الأرضية ، وتشمل كافّة أنحاء العالم إلّا أن تكون هناك قرينة خاصّة في الأمر ، ومع أنّ البعض احتمل أن يكون المراد وراثة كلّ الأرض في القيامة ، إلّا أنّ ظاهر كلمة الأرض عند ما تذكر بشكل مطلق تعني أرض هذا العالم.

ولفظ «الإرث» ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء ، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحيانا بمعنى تسلّط وانتصار قوم صالحين على قوم طالحين ، والسيطرة على مواهبهم

٢٥٤

وإمكانياتهم ، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل :( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) .

وبالرغم من أنّ «الزبور» في الأصل يعني كلّ كتاب ومقال ، ومع أنّ موضعين من المواضع الثلاثة التي استعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور داود ، فلا يستبعد أن يكون المورد الثّالث ، أي ما ورد في الآية محلّ البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

إنّ زبور داود ـ أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) ـ عبارة عن مجموعة أدعية النبيّ داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الزبور هنا كلّ كتب الأنبياء السابقين(1) .

ولكن يبدو على الأغلب ـ مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه ـ أنّ الزبور هو كتاب مزامير داود فقط ، خاصة وأنّ في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه الآية تماما ، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«والذكر» في الأصل يعني التذكير أو ما يسبّب التذكير والتذكّر ، واستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى ، وأطلقت أحيانا على كتاب موسى السماوي ، كالآية (48) من سورة النساء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) .

واستعملت أحيانا في شأن القرآن ، كالآية (27) من سورة التكوير :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ولذلك قال البعض : إنّ المراد من الذكر ـ في الآية مورد البحث ـ هو القرآن ، والزبور كلّ كتب الأنبياء السابقين ، أي إنّنا كتبنا في كلّ كتب الأنبياء السابقين إضافة إلى القرآن بأنّ الصالحين سيرثون الأرض جميعا.

__________________

(1) نقل هذا الاحتمال في تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي عن عدّة من المفسّرين.

٢٥٥

لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود ، والذكر بمعنى التوراة ، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة ، فإنّ تعبير( مِنْ بَعْدِ ) حقيقي ، وعلى هذا فإنّ معنى الآية : إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟

ربّما كان هذا التعبير بسبب أنّ داود كان أحد أكبر الأنبياء ، واستطاع أن يشكّل حكومة الحقّ والعدل ، وكان بنو إسرائيل مصداقا واضحا للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمّروا دولتهم واستولوا على حكومتهم وورثوا أرضهم.

والسؤال الآخر الذي يثار هنا هو : من هم عباد الله الصالحون؟

إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتّضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم ، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع ، فستخطر على الذهن كلّ المؤهّلات ، الأهليّة من ناحية التقوى ، والعلم والوعي ، ومن جهة القدرة والقوّة ، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.

عند ما يهيء العباد المؤمنون هذه المؤهّلات والأرضيات لأنفسهم ، فإنّ الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا انوف المستكبرين في التراب ، ويقطعوا أيديهم الملوّثة ، فلا يحكمون أرضهم بعد ، بل تكون للمستضعفين ، فيرثونها ، فبناء على ذلك فإنّ مجرّد كونهم مستضعفين لا يدلّ على الإنتصار على الأعداء وحكم الأرض ، بل إنّ الإيمان لازم من جهة ، واكتساب المؤهّلات من جهة أخرى ، وما دام مستضعفو الأرض لم يحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة الأرض وحكمها. ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد :( إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي

٢٥٦

جاءت في هذه السورة ، أو في كلّ القرآن ، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكليّ أيضا. إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي أعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.

* * *

بحوث

1 ـ روايات حول ثورة المهديعليه‌السلام

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهديعليه‌السلام ، كما نرى

رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام في ذيل هذه الآية : «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر ، بل هو بيان مصداق عال وواضح ، وقلنا مرارا : إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقا ، وبناء على هذا ففي كلّ زمان ، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر ، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفا في تفسير هذه الآية ، فقد رويت روايات كثيرة جدّا (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وعن طريق السّنة والشيعة ، في شأن المهديعليه‌السلام ، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين ، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث

٢٥٧

رجلا (صالحا) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(1) .

وقد نوّهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة : إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام ، من أهل السنّة والشيعة قديما وحديثا قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهديعليه‌السلام بلغت حدّ التواتر ، وليس لأيّ إنكارها بأي وجه ، حتّى أنّ كتبا قد ألّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة.

2 ـ بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود

ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود ـ والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم ـ يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر ـ نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع ، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب ، فقد بقي هذا القسم مصونا من تلاعب الأيدي به.

1 ـ فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9 : «... لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض ، بعد قليل لا يكون الشرّير ...».

2 ـ وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11 : «أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

3 ـ وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27 ، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر : «لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض ، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ...»

4 ـ وجاء في هذا المزمور / الجملة 29 : «إنّ الصالحين سيرثون الأرض

__________________

(1) لمزيد الاطّلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).

٢٥٨

وسيسكنون فيها إلى الأبد».

5 ـ وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه : «إنّ الله يعلم أيّام الصالحين ، وسيكون ميراثهم أبديّا»(1) .

نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن ، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود ، إضافة إلى ورود تعابير أخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أخرى.

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين ، وتتطابق تماما مع أحاديث قيام المهديعليه‌السلام .

3 ـ حكم الصالحين قانون تكويني

بالرغم من أنّه يصعب على أولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبّرين ، قبول هذه الحقيقة بسهولة ، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة ، وقوانين عالم الخلقة ، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين ، إلّا أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة ، وبناء على هذا فإنّ جملة( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قبل أن تكون وعدا إلهيّا ، فإنّها تعتبر قانونا تكوينيّا.

توضيح ذلك : إنّ عالم الوجود ـ على حدّ علمنا ـ مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وارتباط أجزائه.

__________________

(1) نقلنا هذه الجمل عموما عن الترجمة الفارسية للكتب العهد العتيق المنشورة (سنة 1878 تحت إشراف الكنيسة المعروفة بـ مجمع الكتب البريطانية المقدّسة للخارجيين).

٢٥٩

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم ، فمثلا : إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة ، وكانت حساباتها صحيحة تماما حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر ، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة ، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق ، لأنّهم إذا انحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1 خ من الثّانية ، لما كان معلوما مصير رجال الفضاء!

وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّا ، فهنا ـ وخاصّة في الكائنات الحيّة ـ سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة ، ولا محل للفوضى فيه مطلقا ، فإنّ اختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى اضطراب مؤسف.

وجاء في أخبار الصحف : إنّ شابا جامعيا قد نسي كل ماضيه تقريبا على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالما من حيث الجهات الاخرى ، فلم يعرف أخاه ولا أخته كما كان يتضايق عند ما تحتضنه أمّه وتقبّله ، ويتساءل : ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه ، وإلى الغرفة التي نشأ فيها ، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية ، ولوحاته الفنية ، إلّا أنّه يقول : إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر ، فكلّ شيء جديد بالنسبة له.

ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة ، وهي التي تربط ماضيه بحاضره ، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الاختلال الجزئي؟!

هل يستطيع المجتمع الإنساني بانتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور

٢٦٠