الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 174628
تحميل: 3704


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174628 / تحميل: 3704
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

2 ـ إنّ عود الضمير المذكور إلى هؤلاء الأشخاص (ليس إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أي أنّ الذين يظنّون عدم نصر الله لهم ، وأنّه يقطع رزقهم ، عليهم أن يعملوا ما شاءوا ، وليذهبوا إلى السّماء ويعلّقوا أنفسهم بحبل ، ثمّ ليقطعوا هذا الحبل حتّى يقعوا على الأرض ، فهل ينهي غضبهم؟

وجميع هذه التفاسير تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج. والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالا جنونية كلّما بلغت أمورهم طريقا مسدودا في الظاهر ، فيضربون الأبواب والحيطان تارة ، وأخرى يودّون أن تبتلعهم الأرض. وقد يصمّمون على الانتحار لإخماد نيران غضبهم. في وقت لا تحلّ فيه هذه الأعمال الجنونية مشاكلهم ، ولو تريّثوا قليلا ، والتزموا بالصبر وسعة الصدر ، ونهضوا بعد التوكّل على الله والاعتماد على النفس في مواجهة مشاكلهم ، لأصبح حلّها مؤكّدا.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة ، فقالت :( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ ) .

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث ، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها ، وأدلّة أخرى على عدم نفع الأصنام وضرّها ، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع التافهة. ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحقّ ، بل لا بدّ من استعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية :( وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) .

وقد قلنا مرارا : إنّ إرادة الله ليست بلا حساب ، فهو المدبّر الحكيم يهدي من يشاء بآياته البيّنات ، خاصّة أولئك المجاهدين في سبيله ، وهم يرجون هدايته

٣٠١

بكلّ مشاعرهم(1) .

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات ، إحداها مسلمة مؤمنة ، وخمس منها غير مسلمة( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أليس يوم الفصل من أسماء يوم القيامة! حيث يفصل الله سبحانه وتعالى ، فيه بين الحقّ والباطل ، يوم تبلى فيه السرائر ، وتنتهي فيه الخلافات ،( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .

* * *

بحوث

1 ـ ارتباط الآيات

ترتبط هذه الآية بالآيات التي سبقتها ، حيث تناولت الآية التي قبلها الهداية الربّانية لمن كان قابلا للهداية ، ولكن بما أنّ قلوب الناس ليست على نمط واحد ، بسبب وجود التعقّب والعناد والتقليد الأعمى لا يسمح للقلوب بالاهتداء ، لذا يبقى التحزّب والخلاف إلى يوم القيامة الذي يكشف فيه عن الأسرار ويتجلّى الحقّ للجميع.

مضافا إلى أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن ثلاث فئات : أولاهما تجادل في الله وفي يوم البعث بغير دليل ، وثانيها تضلّل الناس ، وثالثها ضعاف الإيمان الذين يميلون كلّ مرّة إلى جهة. لذا فقد أشارت هذه الآية إلى نماذج من هذه الفئات التي تجابه المؤمنين.

ثمّ أنّ الآيات السابقة تضمّنت سؤالا هو : ما الهدف من المعاد؟ وقد بيّنت الآية ـ موضع البحث ـ أحد أهداف المعاد ، وهو إنهاء الخلافات والعودة إلى الوحدة.

__________________

(1) المبتدأ محذوف في قوله تعالى :( أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) وتقديره «الأمر أنّ الله يهدي من يريد» ، ويحتمل أيضا أنّ حرف (أنّ) بالفتح بمعنى (إنّ) بالكسر فلا محذوف في البين حينئذ.

٣٠٢

2 ـ من هم المجوس؟

جاءت كلمة «المجوس» مرّة واحدة في هذه الآيات بجانب الأديان السماوية الاخرى وفي مقابل المشركين ، وهذا دليل على أنّ لهم دينا ونبيّا وكتابا.

وتطلق كلمة «المجوس» اليوم على أتباع «زرادشت» أو أنّ أتباع زرادشت يشكّلون جزءا مهمّا منهم ، وحياة «زرادشت» ليست واضحة تماما ، فقد قيل : إنّه ظهر في القرآن الحادي عشر قبل الميلاد ، وقيل : في القرن السادس أو السابع(1) .

وهذا الاختلاف بخمسة قرون أمر عجيب! يدلّ على الغموض الذي يحيط بتاريخ زرادشت. والمعروف أنّ له كتابا اسمه «أفستا» تلف إبّان حملة الإسكندر المقدوني على بلاد فارس. ثمّ أعيدت كتابته على عهد أحد ملوك الساسانيين(2) .

وليس لدينا معلومات كافية عن عقيدة زرادشت ، إلّا ما اشتهر من اعتقاده بمبدإ الخير والشرّ والنور والظلام ، فإله الخير والنور عنده «أهورامزدا» وإله الشرّ والظلام «أهريمن» ويحترم فكرة العناصر الأربعة وخاصّة «النّار» حتّى أعتبر أتباعه عبدة للنار. وأينما كانوا وجد معهم معبد للنار صغير أو كبير.

ويرى البعض أنّ كلمة «مجوس» مشتقّة من «مغ» التي كانت تطلق على قادة وروحانيي هذا الدين. كما أنّ كلمة «مؤبّد» التي تطلق حاليا على روحانيي هذا الدين ، مشتقّة في الأصل من «مغود».

وروي أنّهم من أتباع أحد أنبياء الحقّ (إلّا أنّهم انحرفوا بعد توحيدهم الله ، فأصبحوا على عقيدة يخالطها الشرك).

وجاء في رواية أنّ مشركي مكّة طالبوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ الجزية من أتباع زرادشت مقابل السماح لهم بالتزام ما يعتقدون به ، فبيّن لهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب ، فقالوا : كيف هذا وقد أخذت الجزية من مجوس

__________________

(1) أعلام القرآن ص 55.

(2) تفسير الميزان المجلّد الرّابع عشر صفحة 392.

٣٠٣

منطقة «هجر»؟! أجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المجوس كان لهم نبي فقتلوه ، وكتاب أحرقوه»(1) .

وجاء في حديث آخر عن «الأصبغ» بن نباتة» أنّ عليا قال على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فقام إليه الأشعث «المنافق المعروف) ، فقال : يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ؟ فقالعليه‌السلام : «بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم نبيّا». الحديث(2) .

وفي حديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب يعني المجوس»(3) .

و «المجوس» جمع مفرده «مجوسي».

3 ـ من هم الصابئة؟

يستفاد من الآية السابقة ، ولا سيّما من ذكر الصابئة بين اليهود والنصارى ، أنّ الصابئة أصحاب دين سماوي. وقيل : إنّهم أتباع يحيى بن زكرياعليه‌السلام الذي يسمّيه المسيحيون «يحيى المعمدان» وقيل : إنّ الصابئة مزجوا بين العقيدتين اليهودية والنصرانية ، فعقيدتهم وسط بين أولئك وهؤلاء.

يهتمّ الصابئة بالماء كثيرا ، ولهذا ترى معظمهم يعيشون على ضفاف الأنهر الكبيرة ، وذكر أنّهم يقدّسون بعض النجوم ، ولهذا اتّهموا بعبادة النجوم. رغم أنّ الآية السابقة لم تضعهم في صفّ المشركين (إيضاحا لذلك يراجع التّفسير الأمثل في تفسير الآية 62 من سورة البقرة).

__________________

(1) وسائل الشيعة المجلّد الحادي عشر ـ أبواب جهاد العدو ـ الباب 49 صفحة 96.

(2) وسائل الشّيعة ، المجلد الحادي عشر ، ص 98 ، أبواب جهاد العدو الباب 49 ، الحديث 7.

(3) المصدر السابق.

٣٠٤

4 ـ مجموعة المنحرفين عن التوحيد

أشارت الآيات السابقة إلى خمس فئات منحرفة ، يحتمل أن يكون ترتيبها هنا بحسب درجة انحرافها عن أصل التوحيد ، فاليهود أقل انحرافا من الآخرين بشأن التوحيد ، والصابئة وسط بين اليهود والنصارى ، ويليهم النصارى لقولهم بالتثليث أي تأليههم عيسى وأمّه مريمعليهما‌السلام أيضا ، وبذلك إزداد انحرافهم. أمّا المجوس فهم في مرحلة رابعة لتقسيمهم العالم قسمين: الخير والشرّ ، وقولهم بوجود مبدأين منذ الخليقة. أمّا المشركون وعبدة الأصنام فهم في آخر مرحلة ، لانحرافهم عن التوحيد أكثر من الآخرين.

* * *

٣٠٥

الآية

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) )

التّفسير

الوجود كلّه يسجد لله :

بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد ، فإنّ الآية ـ موضع البحث ـ بطرحها مسألة التوحيد ، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد ، وتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ ) و( كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) ثمّ تضيف وهؤلاء ليست لهم قيمة عند الله تعالى ، ومن كان كذلك فهو مهان :( وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) .

أي إنّ من يهينه الله لا يكرمه أحد ، وليست له سعادة ولا أجر ، حقّا( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) فهو يكرم المؤمنين به ، ويذلّ المنكرين له.

* * *

٣٠٦

بحثان

1 ـ في كيفية السجود العام!

جاء في القرآن المجيد ذكر «السجود العامّ» لجميع المخلوقات في العالم ، وكذا «التسبيح» و «الحمد» و «الصلاة» ، وأكّد القرآن الكريم على أنّ هذه العبادات الأربع ، لا تختص بالبشر وحدهم ، بل يشاركهم فيها حتّى الموجودات التي تبدو عديمة الشعور. وعلى الرغم من أنّنا بحثنا في ختام الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء عن حمد الموجودات وتسبيحها بحثا مسهبا ، وتناولنا سجود المخلوقات العامّ لله في تفسير الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد ، نجد الإشارة إلى هذا الحمد والتسبيح الكوني العامّ ضرورية.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية ـ موضع البحث ـ شكلين من السجود «سجود تكويني» و «سجود تشريعي».

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط ، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها ، حتّى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكوينا.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين ، فإنّ ذرّات العالم كلّها لها نوع من الإدراك والشعور ، ولذا يسبّحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص (شرحنا ذلك في تفسير الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور ، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعا للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كلّه.

أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله سبحانه. وهنا يثار سؤال ، وهو أنّه إذا كان السجود العامّ يشمل المخلوقات وجميع البشر ، فلما ذا خصّصته الآية المذكورة أعلاه ببعض البشر لا كلّهم؟

٣٠٧

لو دقّقنا في مفهوم السجود في هذه الآية لرأيناه يجمع بين المفهومين التشريعي والتكويني ، فتتيسّر الإجابة عن هذا السؤال ، لأنّ سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني ، وسجود البشر تشريعي يؤدّيه ناس ويأباه آخرون ، فصدق فيهم القول :( كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) . واستخدام لفظ واحد بمفهوم شامل عامّ مع الاحتفاظ بمصاديقه لا يضرّه شيئا ، حتّى عند الذين لا يجيزون استخدام كلمة واحدة لعدّة معان. فكيف بنا ونحن نجيز استعمال كلمة واحدة في معان عديدة؟

2 ـ هل سجود الملائكة تشريعي؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ عبارة( يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ) تضمّ الملائكة ، وسجودهم تشريعي ، لأنّهم عقلاء ذوو أحاسيس وعلم وإرادة ، أي أنّ سجودهم عبادة وخضوع على وفق إرادتهم ووعيهم ، بدلالة ما قاله القرآن الكريم عنهم :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) (1) .

أجوبة عن استفسارات

1 ـ لماذا جاءت عبارة( كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) بعد( وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) التي تضمّ البشر كلّهم؟

يمكن القول أنّ هذه العبارة إيضاح لعبارة( مَنْ فِي الْأَرْضِ ) أي أنّ أهل الأرض فئتان : الأولى مؤمنة خاضعة لله ، والأخرى كافرة متمرّدة عنيدة.

وقال بعض المفسّرين : إنّ تعبير( مَنْ فِي الْأَرْضِ ) بصيغة العامّة إشارة إلى السجود التكويني ، الذي يشترك فيه جميع الناس بما فيهم الكفرة ، حيث تشارك

__________________

(1) التحريم ، 6.

٣٠٨

أجزاء أبدانهم في هذا السجود ، وإنّ عبارة( كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ ) إشارة إلى السجود التشريعي الذي يختلف فيه الناس. كما يحتمل أنّ عبارة( مَنْ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى الملائكة الساكنين في الأرض كعبارة( مَنْ فِي السَّماءِ ) التي تشير إلى الملائكة الساكنين في السّماء ، في وقت تتحدّث فيه العبارة التي تليها عن البشر الساكنين في الأرض.

2 ـ لماذا تحدّثت هذه الآية عن أهل السّماء والأرض ، وليس عن السّماء والأرض ذاتهما!

في الجواب نقول : السموات داخلة في كلمة «النجوم» ، مثلما يقصد «بالجبال» التي تشكّل جزءا مهمّا من الكرة الأرضية ، الأرض ذاتها.

3 ـ وأخيرا : لماذا قال سبحانه وتعالى :( أَلَمْ تَرَ ) ، أي : ألم تشاهد بعينيك ، رغم أنّ السجود العام من قبل المخلوقات لله تعالى لا يمكن رؤيته؟

ومع ملاحظة أنّ كلمة «رؤية» في العربية تعني أحيانا العلم ، يتّضح الجواب.

وإضافة إلى ذلك نعبّر أحيانا عن الواضحات جدّا بكلمة الرؤية ، فنقول : ألم تر فلانا حسودا بخيلا؟ أو : ألم تر فلانا عالما وعادلا؟ (رغم أنّ هذه الصفات ليست حسّية) وإنّما نقصد بذلك تأكيد الإدراك والعلم بهذه الصفات.

* * *

٣٠٩

الآيات

( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) )

سبب النّزول

ذكر عدد من المفسّرين من الشيعة والسنّة روايات في سبب نزول أوّل آية من الآيات السالفة الذكر نلخّصها بتركيز : «نزل إلى ساحة الحرب يوم معركة بدر ثلاثة من المسلمين هم (عليعليه‌السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلّب) ،

٣١٠

فقتلوا بحسب ترتيبهم «الوليد بن عتبة» و «عتبة بن ربيعة» و «شيبة بن ربيعة» فنزلت هذه الآية لتبيّن مصير الذين اشتركوا في هذه المبارزة.

كما روي أنّ أبا ذر أقسم بأنّ هذه الآية نزلت بحقّ هؤلاء الرجال(1) ، إلّا أنّنا نكرّر قولنا ثانية بأنّ سبب النّزول الخاصّ بشخص أو جماعة معيّنة لا يمنع أن يكون مضمون الآية عامّا يشمل الجميع.

التّفسير

خصمان متقابلان!

أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفّار ، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول :( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) (2) أي أنّ الخصام بين مجموعتين ، هما : طوائف الكفّار الخمس من جهة ، والمؤمنون الحقيقيّون من جهة أخرى. وإذا تفحصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بين الأديان في ذات الله تعالى وصفاته ، وهو يمتدّ إلى الخلاف في النبوّة والمعاد. لهذا لا ضرورة إلى القول بأنّ الناس مختلفين في دين الله. إذ أنّ أساس الخلاف وجذوره يعود إلى الخلاف في توحيده تعالى فقط. فجميع الأديان قد حرّفت ، والباطل منها قد اختلط بنوع من الشرك ، وبدت دلائله في جميع اعتقادات أصحاب هذه الأديان.

ثمّ تبيّن الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين لله تعالى بوعي منهم ، والعقاب الأوّل حول لباسهم ، فتقول الآية :( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي أعدّ لهم من قطع من نار ، أو كناية عن إحاطة نار جهنّم بهم من كلّ جانب.

__________________

(1) ذكر ذلك الطبرسي في «مجمع البيان» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والألوسي في «روح المعاني» والسيوطي في «أسباب النّزول» والقرطبي في تفسيره.

(2) كلمة «خصمان» مثنّى أمّا فعلها «اختصموا» فجاء بصيغة جمع ، والسبب يكمن في أنّ هذين ليسا شخصين ، بل فئتين ، إضافة إلى كون الفئتين ليس في صفّين وإنّما في صفوف مختلفة ، وتنهض كلّ مجموعة لمبارزة الآخرين.

٣١١

ثمّ( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ) (1) أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم النّار ، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها( يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) (2) .

وثالث نوع من العقاب هو( وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) (3) أي أعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع :( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) أي كلّما أرادوا الخروج من جهنّم والخلاص من آلامها وهمومها أعيدوا إليها ، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين ، مستخدمة أسلوب المقارنة ، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين ، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

فخلافا للمجموعة الأولى الذين يتقلّبون في نار جهنّم ، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنّة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الأولى ، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية : و( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ) (4) .

وهاتان مكافئتان يمنّ الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنّة ، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا ، ويجمّلهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الأولى ، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة ، وتكون سببا لحرمان الآخرين وفقرهم. أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس

__________________

(1) الحميم : الماء الخارق.

(2) «يصهر» مشتقّة من «صهر» على وزن «قهر» وتعني تذويب الشحم. أمّا «الصهر» على وزن «فكر» فتعني النسيب.

(3) «المقامع» جمع «مقمع» على وزن «منبر» وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقابا له.

(4) «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع لكلمة «سوار» على وزن «كتاب» وتعني المعضد.

٣١٢

الحرير والحلي وغيرها. وبالطبع ستكون للحياة الاخروية مفاهيم أسمى ممّا نفكّر به في هذه الدنيا الدنيّة ، لأنّ مبادئ الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عمّا هي في الآخرة (فتأمّلوا جيدا).

وأخيرا الهبة الرّابعة والخامسة التي يهبها الله للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية الإنسان ، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجة وسرورا ،( وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) (1) هكذا يهدون إلى طريق الله الحميد ، الجدير بالثناء ، طريق معرفة الله والتقرّب المعنوي والروحي إليه ، سبيل العشق والعرفان.

حقّا إنّ الله يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذّة الروحيّة.

ونقرأ في حديث رواه علي بن إبراهيم (المفسّر المعروف) في تفسيره ، أنّ القصد من «الطيب من القول» التوحيد والإخلاص ويعني «الصراط الحميد» الولاية والإقرار بولاية القادة الربانيّين (وبالطبع هذا أحد البراهين الواضحة للآية).

كما يستنتج من التعابير المختلفة الواردة في الآيات السابقة وفي سبب نزولها أنّ هناك عذابا عسيرا صعبا ينتظر مجموعة خاصّة من الكفّار الذين يعاندون الله ويحاولون تضليل الآخرين. إنّهم أفراد من قادة الكفر كالذين تقدّموا في معركة بدر لمبارزة عليعليه‌السلام وحمزة بن عبد المطلّب وعبيدة بن الحارث.

* * *

__________________

(1) كلمة «الحميد» تعني المحمود ، وتطلق على من يستحقّ الثناء ، وهنا يقصد بها الله تعالى ، وعلى هذا فإنّ «الصراط الحميد» يعني السبيل إلى مقام مقرّب من الله تعالى. كما قال البعض بأنّ «الحميد» وصف للصراط يشبه الإضافة البيانيّة ، وعلى هذا يكون المعنى : إنّ هؤلاء يرشدون ، إلى سبيل جدير بالثناء كلّه. (الآلوسي في روح البيان) ، إلّا أنّ المعنى الأوّل يبدو أصحّ.

٣١٣

الآية

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) )

التّفسير

الذين يصدّون عن بيت الله الحرام!

تحدّثت الآيات السابقة عن عامّة الكفّار ، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصة منهم بائت بمخالفات وذنوب عظيمة ، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحجّ العظيم.

تبدأ هذه الآية بـ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم :( وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) أي سواء المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد.

( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) أي كلّ من أراد الانحراف في هذه الأرض المقدّسة عن الحقّ ومارس الظلم والجور أذقناه عذابا أليما.

وهذه الفئة من الكفّار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة ، إضافة إلى إنكارها الحقّ ،

٣١٤

وجرائمها هي :

1 ـ صدّ الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.

2 ـ صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام ، وتوهم أنّ لهم امتيازا عن الآخرين.

3 ـ ممارستهم للظلم وارتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدّسة ، والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

* * *

ملاحظات

1 ـ جاء «كفر» هؤلاء في هذه الآية بصيغة الفعل الماضي ، وجاء «الصدّ» عن سبيل الله بصيغة الفعل المضارع ، إشارة إلى كونهم كفّارا من قبل. وإلى أنّ تضليلهم الناس هو عملهم الدائم. وبتعبير آخر : تشير العبارة الأولى إلى اعتقادهم الباطل ، وهو أمر ثابت ، بينما تشير العبارة الثّانية إلى عملهم الدائم وهو الصدّ عن سبيل الله.

2 ـ يقصد بالصدّ عن سبيل الله كلّ عمل يحول دون إيمان الناس ودون قيامهم بالأعمال الصالحة ، وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية والعملية التي تتوخّى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة.

3 ـ إنّ جميع الناس في هذا المكان العبادي سواء.

وقد وردت لعبارة( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) عند المفسّرين معان مختلفة ، فذهب بعضهم أنّ المراد هو أنّ الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحّد فيه الله ، وليس لأحد الحقّ أن يعرقل حجّ الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام.

وأعطى آخرون لهذه العبارة معنى أوسع ، وهو أنّ الناس ليسوا سواسية فقط في أداء الشعائر وإنّما هم كذلك في الاستفادة من الأرض والبيوت المحيطة بالكعبة لاستراحتهم وسائر حاجاتهم الاخرى ، لهذا حرّم بعض الفقهاء بيع وشراء

٣١٥

وإيجار البيوت في مكّة المكرمة ، ويتّخذون الآية السابقة دليلا على ما يرون.

كما ذكرت الأحاديث الإسلامية عدم جواز الحيلولة دون سكنى حجّاج بيت الله الحرام في منازل مكّة ، حتّى حرّمه قوم ، ورآه آخرون مكروها.

جاء في رسالة بعث بها الإمام عليعليه‌السلام إلى قثم بن العبّاس والي مكّة آنذاك : «وأمر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا ، فإنّ الله سبحانه يقول :( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) فالعاكف المقيم به ، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله»(1) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية : كانت مكّة ليست على شيء منها باب ، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين ، معاوية بن أبي سفيان ، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها».

وذكرت أحاديث أنّ الحجّاج بيت الله الحقّ في استخدام البيوت المحيطة بالكعبة ، ويرتبط هذا الحكم بشكل كبير ببحثنا المقبل ، وهو : هل يقصد بالمسجد الحرام في هذه الآية المسجد ذاته أو يشمل مكّة كلّها؟

فإذا سلّمنا بالرأي الأوّل فإنّ الآية السابقة لا تشمل منازل مكّة ، وعلى فرض شمولها فإنّ قضيّة حرمة بيع وشراء وإيجار منازل مكّة بالنسبة للحجّاج تكون مطروحة للبحث ، إلّا أنّ هذه القضيّة ليست مؤكّدة في المصادر الفقهيّة والأحاديث والتفاسير ، فإنّ الحكم بحرمتها أمر صعب. وما أجدر أهل مكّة بأن يقدّموا جميع التسهيلات الممكنة لحجّاج بيت الله الحرام! وألّا يضعوا لأنفسهم امتيازات على الحجّاج حتّى بالنسبة لمنازلهم ، ويبدو أنّ الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة وغيره تشير إلى هذه المسألة.

والقول بالتحريم لا يحظى بتأييد واسع من فقهاء الشيعة والسنّة (للاطّلاع أوسع بهذا الصدد يراجع المجلّد العشرين من جواهر الكلام الصفحة الثامنة

__________________

(1) نهج البلاغة ، الرسالة السابعة والستّين.

٣١٦

والأربعين وما بعدها في أحكام منى).

ولا يحقّ لأحد باعتبار كونه حامي حرم الله ـ أو أيّة صفة أخرى ـ مضايقة حجّاج بيت الله ، أو اتّخاذ الحجّ والبيت قاعدة لإعلامه وتنفيذ مآربه.

4 ـ ما الذي تعنيه هذه الآية بالمسجد الحرام؟

قال بعض : تعني الكعبة وجميع أجزاء المسجد الحرام. وقال غيره : تشير إلى جميع أنحاء مكّة ، بدلالة الآية الأولى من سورة الإسراء التي تخصّ معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومضمون هذه الآية أنّ بداية المعراج كانت من المسجد الحرام ، في الوقت الذي ذكر المؤرخّون أنّ المعراج بدأ من منزل خديجة أو شعب أبي طالب أو من منزل أم هانئ ، وعلى هذا فإنّ المقصود من المسجد الحرام مكّة كلّها(1) .

ولكن بداية معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بالتأكيد من خارج المسجد الحرام ، ويحتمل أن تكون من المسجد ذاته ، فلا دليل لدينا للإعراض عن ظاهر الآية ، وعليه فهذه الآية تقصد المسجد الحرام ذاته.

وإذا توصّلنا من مطالعة الأحاديث السابقة إلى أنّها تستدلّ بهذه الآية على مساواة الناس في منازل مكّة ، لأنّ ذلك الحكم استحبابي ، فلا مانع من توسعة موضوعه على ما يناسبه (فتأمّلوا جيدا).

5 ـ ماذا تعني عبارة (إلحاد بظلم).

تعني كلمة «الإلحاد» في اللغة الانحراف عن حدّ الاعتدال ، ولهذا أطلقت على الحفرة المجاورة للقبر التي تقع خارج حدّ الوسط كلمة «لحد».

وعلى هذا فإنّ عبارة (إلحاد بظلم) تعني الخارجين عن حدّ الاعتدال بممارسة الظلم ، فيرتكبون المخالفات في تلك الأرض المقدّسة ، وقد حصر البعض

__________________

(1) كنز العرفان ، المجلّد الأوّل ، الصفحة 335.

٣١٧

مفهوم الظلم هنا بالشرك ، وقال آخرون : إنّه يعني إباحة المحرّمات ، وقال غيرهم : إنّ الظلم هنا ذو مدلول واسع يشمل كلّ ذنب وعمل حرام ، فيدخل فيه حتّى السبّ للأدنى منه ، وقالوا : إنّ ارتكاب أي ذنب في هذه الأرض المقدّسة له عقاب أشدّ.

وجاء في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام جوابا على سؤال لأحد أصحابه حول هذه الآية : «كلّ ظلم يظلم الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإنّي أراه إلحادا ، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم»(1) .

وقد رويت أحاديث أخرى تتضمّن هذا المعنى ، وتنسجم مع ظاهر الآية.

وعلى هذا يرى بعض الفقهاء ـ بالنسبة لمن يرتكب الذنب في الحرم المكّي ـ وجوب التعزير أو عقاب آخر إضافة إلى الحدّ الذي نصّ عليه الشارع ، ويستدلّون على ذلك بعبارة( نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (2) .

ويتّضح بذلك أنّ حصر هذه الآية بالنهي عن الاحتكار ، أو عدم الدخول إلى منطقة الحرم دون إحرام ، لم تكن غايتهم إلّا بيان مصداق واضح لهذه الآية فقط ، وإلّا فلا دليل لدينا على حصر مفهوم هذه الآية ذات الدلالات الواسعة.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، صفحة 482 تفسير الآية.

(2) كنز العرفان ، المجلّد الأوّل ، صفحة 335.

٣١٨

الآيات

( وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) )

التّفسير

الدّعوة العامّة للحجّ!

تناولت الآية السابقة قضيّة المسجد الحرام وحجّاج بيت الله ، أمّا هذه الآيات فتستعرض بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، ووجوب الحجّ وفلسفته ، وبعض أحكام هذه العبادة الجليلة. وبتعبير آخر : كانت الآية السابقة مقدّمة للأبحاث المختلفة التي تناولتها الآيات اللاحقة ، إذ بدأت بقصّة تجديد بناء الكعبة :( وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ ) أي تذكّر كيف أعددنا لإبراهيم مكان الكعبة

٣١٩

ليقوم ببنائها.

وكلمة «بوّأ» مشتقة من بواء ، أي الأرض المسطّحة ، ثمّ أطلقت على إعداد المكان مطلقا.

وتقصد هذه الآية حسبما يراه المفسّرون أنّ الله هدى إبراهيمعليه‌السلام إلى مكان الكعبة بعد أن هدمت بطوفان نوح وخفيت معالمها. إذ حدثت عاصفة فأزالت التراب وكشفت عن أسس البيت ، أو بعث الله سحابة ظلّلت مكان البيت ، أو بأيّ أسلوب آخر كشف الله لإبراهيمعليه‌السلام أسّس الكعبة ، فقام هو وابنه إسماعيلعليهما‌السلام بتجديد بناء بيت الله الحرام(1) .

وتضيف الآية الكريمة أنّه عند ما تمّ بناء البيت خوطب إبراهيمعليه‌السلام :( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (2) .

فمهمّة إبراهيمعليه‌السلام كانت تطهير البيت وما حوله من أي نجس ظاهر أو باطن ، ومن أي صنم أو مظهر للشرك ، من أجل أن يوجّه عباد الرحمن قلوبهم وأبصارهم إليه تعالى وحده في هذا المكان الطاهر ، وليقوموا بأهمّ العبادات في هذه البقعة المباركة ، ألا وهو الطواف والصلاة في محيط إيمانيّ لا يخالطه شرك.

وأشارت الآية أيضا إلى ثلاثة من الأركان الأساسيّة في الصلاة : القيام ، والركوع ، والسجود ، بالترتيب ، لأنّ الأركان الباقية تستظلّ بها ، على الرغم من قول بعض المفسّرين : إنّ «القائمين» تعني هنا المقيمين بمكّة ، ومع ملاحظة مسألة الطواف والركوع والسجود التي جاءت قبل كلمة القائمين وبعدها يتّضح لنا أنّ القيام هنا يعني قيام الصلاة وقد اختار هذا المعنى عدد كبير من مفسّري الشيعة

__________________

(1) يراجع للاطلاع على كيفية بناء الكعبة تفسير الآية (127) من سورة البقرة. كما تناولنا ذلك بشرح مسهب في تفسير الآية (96) من سورة آل عمران.

(2) في هذه الآية جملة محذوفة تقديرها «أوحينا» وقد أشار إلى ذلك عدد كبير من المفسّرين.

٣٢٠