الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 177254
تحميل: 3835


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177254 / تحميل: 3835
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

بتعبير آخر : هو الذي سار على الصراط المستقيم ، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة ، ومن رغب عن كلّ انحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكا أساسيّا في الحجّ والعبادات الاخرى ، حيث ذكرت ذلك بشكل عام ، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أجاب فيه مبيّنا معنى كلمة حنيف : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، قال : فطرهم الله على المعرفة»(1) .

إنّ التّفسير الذي تضمّنه هذا الحديث ، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص ، أي : الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدرا لقصد القربة إلى الله ، وتحريكا ذاتيا من الله.

ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم ، حيث تقول :( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ) (2) .

«السّماء» هنا كناية عن التوحيد ، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوما زاهرة وشمسا ساطعة وقمرا منيرا فطوبى لمن يكون شمسا أو قمرا أو في الأقل نجما متلألئا ، ولكن الإنسان عند ما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين : فإنّما يصبح طعاما للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض ، وبعبارة أخرى : يبتلى بفقدانه هذا

__________________

(1) توحيد الصدوق ، حسبما نقله تفسير الصافي.

(2) «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل ، بمعنى الإمساك بالشيء ، أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

٣٤١

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانبا من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها ، ابتلي بعاصفة هو جاء تدلّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته ، ويتناثر بدنه قطعا صغيرة في أنحاء المعمورة ، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما.

وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أخرى نحو العدم ، ويصبح نسيا منسيا.

حقّا أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الاتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية ، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيها للشرك يضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة انعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى اختبارات على الفضائيين للاستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة انعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى اضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة انعدام الوزن ، ويسيطر عليه اضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول( ذلِكَ ) أيّ إنّ الموضوع كما قلناه ، وتضيف( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل ، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته ، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة ، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة

٣٤٢

مسألة الأضحية التي اعتبرتها الآية (36) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله ، إلّا أنّ من الواضح مع كلّ هذا احتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية ، ولا دليل على اختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي ، أو جميع مناسك الحجّ.

خاصّة أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ ، وهذا دليل على أنّ الأضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (158) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) .

ويمكن القول : إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التّي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته ، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة( يُعَظِّمْ ) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الأضحية وأمثالها ، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم ، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم واحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضا ، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة ، يحدث كثيرا أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلّا أنّ ذلك لا قيمة له ، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر اجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه ، ومنه ينفذ إلى الجسد.

لهذا نقول : إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(1) .

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال وهو يشير إلى صدره

__________________

(1) بما أنّ هناك ارتباطا بين الشرط والجزاء ، وكلاهما يخصّان موضوعا واحدا ، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفا تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفا فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره : «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».

٣٤٣

المبارك : «التقوى هاهنا»(1) .

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الأضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح ، كما يرون عدم جواز حلبها أو الاستفادة منها بأي شكل كان ، ولكن القرآن نفي هذه العقيدة الخرافية حيث قال :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقالعليه‌السلام : «اركبها» فقال : يا رسول الله إنّها هدي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اركبها ويلك»(2) .

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا الموضوع ومنها

حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قولهعزوجل :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها ، وإن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها»(3) .

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبدا حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

ومن جهة أخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الاستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للأضحية ، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة ، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.

__________________

(1) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، الصفحة 448.

(2) التّفسير الكبير للخفر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرين ، الصفحة 33.

(3) نور الثقلين ، المجلّد الرّابع ، الصفحة 497.

٣٤٤

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر ، هو أنّ الآيات السابقة ، لم تتطرّق إلى الأضاحي ، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي أشير إليها في الآية السابقة ، وسيأتي ذكرها أيضا بعد هذا ، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الاستفسار(1) .

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الأضحية :( ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .

وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصّصة للأضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح ، وبعد الوصول يجرى ما يلزم وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الأضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضا.

* * *

__________________

(1) ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث ، وهنا نذكر تفسيرين آخرين :

الأوّل : إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعا ، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بانتهاء الحجّ أو نهاية العالم ، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاورا للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقا( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) .

والتّفسير الثّاني : أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها ، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة ، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم ، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر انسجاما معها.

٣٤٥

الآيتان

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) )

التّفسير

بشرّ المخبتين :

يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاضحية ، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعا في الأديان الاخرى ، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم ، بل إنّ كلّ أمّة لها قرابين :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) .

٣٤٦

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : «النسك» يعني العبادة ، والناسك هو العابد ، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة ، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.

إلّا أنّ العلّامة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان» : «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الأضحية ، بين عبادات الحجّ الاخرى(1) .

ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الأضحية بدلالة( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ) .

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الأضحية كانت دوما مثار سؤال ، لامتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.

ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن استعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله ، والاستفادة من لحم الأضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) وبما أنّه إله واحد( فَلَهُ أَسْلِمُوا ) وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و( بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) (2) .

ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع : اثنتان منها ذات طابع معنوي ، واثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل :( الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته ، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم ، واحتمال تقصيرهم في أدائها ، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه

__________________

(1) ولهذا السبب يقال : نسكت الشاة ، أي ذبحتها.

(2) «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الاطمئنان والخضوع ، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الاطمئنان ، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

٣٤٧

بكلّ خشوع(1) .

والثّاني :( وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ) فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام ، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها ، ويحافظون على اتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الامتحان ، ولا يصابون باليأس والخيبة ، ولا يكفرون بأنعم الله أبدا. وبإيجاز نقول : يستقيمون وينتصرون.

والثّالث والرابع :( وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارئ الخلق وازدادوا تقربا إليه ، ومن جهة أخرى اشتدّ ارتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وبهذا يتّضح جليّا أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط ، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.

* * *

__________________

(1) بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

٣٤٨

الآيات

( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) )

التّفسير

لماذا الأضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والأضحية ثانية ، ليقول أوّلا :( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) إنّ «البدن» وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة ، ومن جهة أخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة.

فالاضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من

٣٤٩

قبل.

«البدن» على وزن «القدس» جمع لـ «البدنة» على وزن «عجلة» وهي الناقة الكبيرة والسمينة. وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الأضحية ، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الأضحية. وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفا.

ثمّ تضيف الآية :( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين ، ومن جهة أخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله ، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية ـ بعبارة موجزة ـ كيفية ذبح الحيوان( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ ) أي اذكروا اسم الله حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة. بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها ، كما يبدو ومن ظاهر الآية ، إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة ، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل ، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال : الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر ، اللهم منك ولك(1) .

إلّا أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام عبارات أكثر وضوحا فبعد شراء الأضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح : «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر ، اللهمّ تقبّل منّي»(2) .

كلمة «صوافّ» جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ. وكما ورد في

__________________

(1) مجمع البيان في تفسير ختام الآية ، وروح المعاني في تفسير هذه الآية باختلاف يسير.

(2) وسائل الشيعة ، المجلّد العاشر ، صفحة 138 ـ أبواب الذبح الباب (37).

٣٥٠

الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معا حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقدارا من الدم ، فتتمدّد على الأرض ، ويقول القرآن المجيد هنا( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) أي عند ما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يعطى وتبدو عليه علائم الرضى والارتياح ولا يعترض أو يغضب ، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه ، بل يحتجّ أيضا.

كلمة «القانع» فمشتقّة من «القناعة» ، و «المعترّ» مشتقّة من «عرّ» على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب ، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان. ثمّ أطلقت كلمة «المعترّ» على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض. وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الالتفات إلى أنّ عبارة( فَكُلُوا مِنْها ) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم ، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول :( كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معا ثمّ ينحره.

(وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة ، لتنزف دمها ، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح ، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحيانا طاعة هذا الحيوان وانقياده للإنسان ، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان

٣٥١

مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة ، وهي : ما هي حاجة الله تعالى للأضحية؟

وما هي فلسفة الاضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) . إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي ، فما هو بجسم ، ولا هو بحاجة إلى شيء ، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود. إنّ الغاية من الاضحية كما تقول الآية :( وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية ، فتقديم الاضحية ـ مثلا ـ فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل الله ، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) مع أنّ دماءها غير قابلة للاستفادة ، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية ، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحيانا على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد أتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون ، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(1) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الأضحية على باب وجدران منزلهم الجديد ، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضا.

ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.

__________________

(1) كنز العرفان ، المجلّد الأوّل ، صفحة 314.

٣٥٢

ثمّ تشير الآية ثانية إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة :( كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) .

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي استجابة لله تعالى ، وتعملون عملا طيّبا يساعد المحتاجين ، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام :( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) أولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله ، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه ، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبدا. وفاعلو الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط ، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضا.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين ، ووقوع اشتباكات محدودة أو واسعة ، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره( إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم ، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه ، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعدا تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة ، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب ، بل هو ساري المفعول أبد الدهر ، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه

٣٥٣

العبارة الصريحة( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي ، ولا يذكرون اسم الله عليها ، فكيف يحبّ الله قوما كهؤلاء الخونة الكفرة؟!

* * *

٣٥٤

الآيات

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) )

التّفسير

أوّل حكم بالجهاد :

ذكرت روايات أنّ المسلمين عند ما كانوا في مكّة ، كانوا يتعرّضون كثيرا لأذى المشركين ، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يعانون من قهر وأذى ، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم : «اصبروا فانّي لم أؤمر بالقتال» حتّى هاجر ، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة ،

٣٥٥

وهي أوّل آية نزلت في القتال(1) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد ، فهناك من يؤيّد ذلك ، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية( قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) (2) وعدّ البعض آية( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) (3) هي الأولى(4) .

إلّا أنّ أسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير «أذن» جاء بصراحة واضحة فيها ، ولم يرد في الآيتين الأخريين ، وبتعبير آخر : إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.

ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيدا الارتباط بين هذه الآيات تقول الآية : إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد ، وذلك بسبب أنّهم ظلموا :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين( وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) .

إنّ وعد الله بالنصر جاء مقرونا بـ «قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام ، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم ، أو بتعبير آخر : عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة ، وعند ما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه ، وهذا ما حدث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.

ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين ـ الذين أذن لهم بالدفاع عن

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

(2) البقرة ، 190.

(3) التوبة ، 111.

(4) الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة 419.

٣٥٦

أنفسهم ـ بواعث هذا الدفاع ، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول :( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون :( إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ) .

ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنبا يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة ، وتعبير الآية جاء لطيفا ـ يجلّي إدانة الخصم ، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل : لقد أذنبنا عند ما خدمناك ، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّا(1) .

ثمّ تستعرض الآية واحدا من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول :( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين ، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد ، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.

ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة ، لما أبقى هؤلاء أثرا لمراكز عبادة الله ، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق ، فيعملون على تخريب المعابد ، لأنّها تبثّ الوعي في الناس ، وتعبّئ طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّها منهم بالله تعالى ، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته ، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.

__________________

(1) وبهذا يتّضح أنّ الاستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).

٣٥٧

وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة لـ «الصوامع» و «البيع» و «الصلوات» و «المساجد» والفرق بينها ، وما يبدو صحيحا منها هو أنّ :

«الصوامع» جمع «صومعة» وهي عادة مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزّهاد والعبّاد. (ويجب ملاحظة أنّ «الصومعة» في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف ، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.

و «البيع» جمع بيعة بمعنى معبد النصارى ، ويطلق عليها كنيسة أيضا.

و «الصلوات» جمع صلاة ، بمعنى معبد اليهود ، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية ، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.

وأمّا «المساجد» فجمع مسجد ، وهو موضع عبادة المسلمين.

والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى ، إلّا أنّ إحداهما معبد عامّ والاخرى لمن ترك الدنيا ، ويرى البعض أنّ «البيع» لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.

وعبارة( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر ، لأنّها أكثر ازدحاما من جميع مراكز العبادة الاخرى في العالم ، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها ، في وقت نجد فيه المعابد الاخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلّا في يوم واحد من الأسبوع ، أو أيّام معدودات في السنة.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد ، لأنّه من ربّ العزّة القائل :( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) . من أجل ألّا يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم ووحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل ، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

وبنور من هذا الوعد الإلهي انتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في

٣٥٨

معارك ضارية خاضوها بضالة عدد وعدّة ، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلّا بإمداد إلهي.

وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة ، وتقول :( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها ، ولا يأخذها الكبر والغرور ، إنّما ترى النصر سلّما لارتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة ، لارتباطها القويّ بالله ، والصلاة رمز هذا الارتباط بالخالق ، والزكاة رمز للالتحام مع الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد ، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة ، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(1) .

كلمة «مكّنا» مشتقة من «التمكين» الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل ، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.

وتطلق كلمة «المعروف» على الأعمال الجيدة والحقّة ، و «المنكر» يعني العمل القبيح ، لأنّ الكلمة الأولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة ، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر : الأولى تعني الانسجام مع الفطرة الإنسانية ، والثّانية تعني عدم الانسجام.

وتقول الآية في ختامها( وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى ، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

* * *

__________________

(1) تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين ، والجواب عن استفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.

٣٥٩

بحوث

1 ـ فلسفة تشريع الجهاد

رغم أنّنا بحثنا مسألة الجهاد بحثا واسعا(1) قبل هذا ، إلّا أنّه مع ملاحظة احتمال أن تكون الآيات ـ موضع البحث ـ أولى الآيات التي أجازت للمسلمين الجهاد ، واحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم ، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد :

أوّلهما : جهاد المظلوم للظالم ، وهو من حقوقه المؤكّدة والطبيعيّة ، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم ، بل عليه أن ينهض ويصرخ ويتسلّح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.

وثانيهما : جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس ، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم من محو ذكر الله بتخديرهم ، ثمّ جعلهم عبيدا لها.

وممّا يلفت النظر أنّ تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها مادّيا فقط ، بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة ، كإشاعة برامج التسلية والترفيه المقصودة ، وبثّ الدعايات المسمومة ، والإعلام المضادّ لحرف الناس عن المساجد ، فتحوّل أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.

وفي هذا جواب لمن يسأل : لماذا أجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتمّ تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى التعقّل والمنطق؟

وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنب اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد الله. فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم ،

__________________

(1) تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية 193 من سورة البقرة.

٣٦٠