الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 174639
تحميل: 3705


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174639 / تحميل: 3705
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) )

التّفسير

منطق الجبناء المغرورين :

تحدّثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة الله وأسباب عظمته في عالم الخليقة ، أمّا الآيات ـ موضوع البحث والآيات المقبلة ـ فقد تناولت نفس الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم.

حيث بدأت بأوّل الأنبياء أولي العزم والمنادي بالتوحيد «نوح»عليه‌السلام ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) و( أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟

أمّا الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس ، وهم اللذين يملأون

٤٤١

العين في ظاهرهم ، والفارغون في واقعهم من قوم نوحعليه‌السلام ( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) .

وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنسانا فاتّهموه بالسلطوية ، وحديثه عن الله والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه ، ثمّ أضافوا( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) ولإتمام هذا الاستدلال الخاوي قالوا :( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) .

إلّا أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثرّ في معنويات هذا النّبي الكبير ، حيث واصل دعوته إلى الله ، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على امتياز على الآخرين ، أو أن يتسلّط عليهم ، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أخرى إليه ، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ ، حيث قالوا :

( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) .

واستخدم المشركون تعبير( بِهِ جِنَّةٌ ) ضدّ هذا النّبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطّوا على حقيقة واضحة ، فكلام نوحعليه‌السلام خير دليل على رجحان علمه وعقله ، وكانوا يبغون ـ في الحقيقة ـ أن يقولوا : كلّ هذه الأمور صحيحة ، إلّا أنّ الجنون فنون له صورا متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!

أمّا عبارة( فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) فقد تكون إشارة إلى انتظار موت نوحعليه‌السلام من قبل المخالفين الذين ترقّبوا موته لحظة بعد أخرى ليريحوا أنفسهم ، ويمكن أن تعني تأكيدا منهم لجنونه ، فقالوا : انتظروا حتّى يشفى من هذا المرض(1) .

وعلى كلّ حال فإنّ المخالفين وجّهوا إلى نوحعليه‌السلام ثلاثة اتّهامات واهية متناقضة ، واعتبروا كلّ واحد منها دليلا ينفي رسالته :

الأوّل : إنّ ادّعاء البشر بأنّهم رسل الله ادّعاء كاذب ، حيث لم يحدث مثل هذا في السابق ، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!

__________________

(1) كما قال البعض : إنّ هذه العبارة تشير إلى قولهم : ارموه في السجن زمنا وقال آخرون : إنّهم قصدوا أن يتركوه لحاله الآن. إلّا أنّ هذين التّفسيرين لا يبدوان صحيحين.

٤٤٢

والثّاني : إنّه رجل سلطوي ، وكلامه ادّعاء لتحقيق هدفه!

والثّالث : إنّه لا يملك عقلا سليما ، وكلّ ما يقوله هو كلام عابر!

وبما أنّ جواب هذه الاتّهامات الواهية أمر واضح جدّا ، وقد جاء في آيات قرآنية أخرى ، لهذا لم يتطرّق إلى ردّها في هذه الآيات. لأنّه من المؤكّد ـ من جهة ـ أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم ، ليكون على علم بمشاكلهم ويحسّ بآلامهم ، إضافة إلى ذلك فإنّ جميع الأنبياء كانوا من البشر. ومن جهة أخرى يتّضح لنا خلال تصفّح تأريخ الأنبياء واستعراض حياتهم ، أنّ قضيّة الاخوّة والتواضع ، تنفي أيّة صفة سلطوية عنهم ، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتّى عند أعدائهم ، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.

* * *

٤٤٣

الآيات

( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) )

التّفسير

خاتمة حياة قوم معاندين :

أطّلعنا من الآيات السابقة على التهم التي وجّهها أعداء نوحعليه‌السلام إليه. إلّا أنّه يستدلّ من آيات قرآنية أخرى ـ بشكل واضح ـ أن أذى القوم المعاندين لنوحعليه‌السلام لم يتحدّد بهذه الأمور ، بل شمل كلّ وسيلة يمكن بها إيذاؤه ، في حين بذل ـ سلام الله عليه ـ جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر.

٤٤٤

وعند ما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلّا مجموعة صغيرة ، دعا الله ليعينه ، حيث نقرأ في الآية الأولى( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) (1) .

هنا نزل الوحي الإلهي ، من أجل التمهيد لإنقاذ نوحعليه‌السلام وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين( فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

إنّ عبارة «بأعيننا» إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا ، فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أي شيء.

واستعمال عبارة «وحينا» يكشف لنا أنّ نوحاعليه‌السلام تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي ، لأنّ التأريخ لم يذكر أنّ الإنسان استطاع صنع مثل هذه الوسيلة حتّى ذلك الوقت. ولهذا السبب صنع نوحعليه‌السلام السفينة بشكل يناسب غايته في صنعها ، ولتكون في غاية الكمال!

ثمّ تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر الله ، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور ، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان ، فاختر من كلّ نوع من الحيوانات زوجا (ذكر وأنثى) واصعد به إلى السفينة :( فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) إشارة إلى زوج نوحعليه‌السلام وأحد أبنائه ، ثمّ أضافت الآية :

( وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) وهذا التحذير جاء حتّى لا يقع نوحعليه‌السلام تحت تأثير العاطفة الإنسانية ، عاطفة الابوّة ، أو عاطفته نحو زوجته ليشفع لهما ، في وقت افتقدا فيه لحقّ الشفاعة.

وتقول الآية التالية :( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة ، نعمة النجاة من مخالب الظلمة ، ادعوه هكذا( وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) .

__________________

(1) الباء في «بما كذّبون» ربّما كانت سببيّة أو للمقابلة. وأمّا «ما» فيمكن أن تكون مصدرية أو موصولة ، ويختلف معنى كلّ منهما. إلّا أنّ هذا الاختلاف ليس مهمّا (فتأمّلوا جيدا).

٤٤٥

كلمة «منزل» ربّما كانت اسم مكان ، أي : بعد الطوفان ندعو الله لينزلنا في أرض ذات خيرات واسعة ، لنحيا فيها بسعادة وهدوء.

كما يمكن أن تكون مصدرا ميميّا أي : أنزلنا بشكل لائق ، لأنّ هناك أخطارا تهدّد ركّاب هذه السفينة بعد رسوها في ختام الطوفان ، كعدم مكان للسكن ، أو النقص في الغذاء ، أو التعرّض للأمراض ، لهذا دعا نوحعليه‌السلام ربّه لينزله منزلا مباركا.

وقد أشارت الآية الأخيرة ـ من الآيات موضع البحث ـ إلى مجمل هذه القصّة فقالت :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ) ففي هذه الحوادث التي جرت على نوحعليه‌السلام وانتصاره على أعدائه الظالمين ، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم ـ آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.

( وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع. وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى إمتحان الله لقوم نوح مرارا ، وعند ما أخفقوا في الامتحان أهلكهم إلّا المؤمنين.

كما قد تكون إشارة إلى امتحان الله لجميع البشر في كلّ زمان ومكان ، وما جاء في هذه الآيات لم يكن خاصّا بالناس في زمن نوحعليه‌السلام ، بل يشمل الناس في جميع الدهور. فيهلك من كان عائقا في طريق تكامل البشرية وليواصل الأخيار سيرهم الطبيعي.

واكتفت الآيات هنا بقضيّة بناء السفينة ودخول نوحعليه‌السلام وأصحابه إليها ، إلّا أنّها لم تشر إلى مصير المذنبين ، ولم تتحدّث عنهم بالتفصيل ، وإنّما اكتفت بالقول بأنّهم لقوا ما وعدهم الله( إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) لأنّ هذا الوعد مؤكّد لا يقبل النقض.

ولا بدّ من القول بأنّ هناك حديثا واسعا عن قوم نوح وموقفهم إزاء هذا النّبي الكبير ، ومصيرهم المؤلم ، وقصّة السفينة ، وفوران الماء من التنور ، وحدوث الطوفان ، وغرق ابن نوحعليه‌السلام . وقد بيّنا قسما كبيرا منه في تفسير سورة هود ، وسنذكر قسما آخر في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

* * *

٤٤٦

الآيات

( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) )

٤٤٧

التّفسير

المصير المؤلم لقوم ثمود :

تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوحعليه‌السلام . ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفّار السابقين ، كما شرحت مصيرهم الأليم ، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة.

فهي تقول أوّلا :( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) .

«القرن» مشتقّ من الاقتران ، بمعنى القرب ، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد ، كما تطلق هذه الكلمة على عصر هؤلاء ، وقياس زمن القرن بثلاثين أو مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.

وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني ، فقد بعث الله أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس ، حيث تقول الآية التالية :( فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

وهذه هي الركيزة الأساسيّة لدعوة الأنبياء ، إنّها نداء التوحيد ، اسّ جميع الإصلاحات الفردية والاجتماعية ، وبعدها أكّد رسل الله لهم القول : إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان :( أَفَلا تَتَّقُونَ ) .

أمّا أيّ قوم كان هؤلاء؟ ومن هو نبيّهم؟

قال المفسّرون بعد دراسة الآيات المشابهة لهذه الآية : هناك احتمالان :

الأوّل : أنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز ، وبعث الله النّبي «صالح»عليه‌السلام لهدايتهم ، إلّا أنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم الله بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة) وشاهد هذا التّفسير ودليله هو الصيحة التي ذكرت في ختام الآيات موضع البحث ، والتي جاءت في سورة هود الآية (67) حيث خصّت قوم صالحعليه‌السلام .

والاحتمال الثّاني : خصها بقوم «عاد» الذين كان نبيّهم «هود»عليه‌السلام ، وقد

٤٤٨

ذكرتهم آيات قرآنية مباشرة بعد سرد قصّة نوحعليه‌السلام ، وهذا دليل على صحّة هذا التّفسير(1) ، إلّا أنّ عقاب قوم عاد كما جاء في الآيتين السادسة والسابعة من سورة «الحاقة» ، كان ريحا شديدا استمرّ سبعة أيّام فدمّرهم عن بكرة أبيهم ، إذن فالتّفسير الأوّل هو الأصحّ.

ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النّبي الكبير؟

يقول القرآن في الآية التالية :( وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) .

أجل إنّ القوم الذين عاشوا في رفاه مطلق دعاهم القرآن باسم الملأ (ترى ظاهرهم يملأ العين ، إلّا أنّ باطنهم خاو من النور).

وبما أنّهم كانوا يرون في دعوة نبي الله خلافا لأهوائهم ومنافسة لمصالحهم العدوانية وتسلّطهم الذي لا مبرّر له ، وقد أترفوا فبعدوا عن ذكر الله ، وأنكروا الآخرة ، فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح ، فقد رأوا في بشرية القادة الربانيّين وتناولهم الطعام كباقي الناس دليلا على بطلان نبوّة هؤلاء ، في حين أنّ هذا الأمر بحدّ ذاته مؤيّد على كون هؤلاء الرجال العظام حملة رسالة من الله إلى الناس ، ولأنّهم نهضوا من بين جماهير الناس بعد أن شعروا بآلامهم وعملوا بما يحتاجونه بشكل جيّد.

ثمّ قال بعضهم للبعض الآخر :( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

هؤلاء الحمقى لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّهم يريدون من الناس بهذه الوساوس الشيطانية أن ينقادوا له في محاربة الأنبياء ، في الوقت الذي يعيبون فيه

__________________

(1) يراجع في ذلك سورة هود الآية (50) وسورة الأعراف الآية (65) وسورة الشعراء الآية (123)

٤٤٩

على الذين يتّبعون من كان يستمدّ العون من مركز الوحي وقد مليء قلبه نورا وعلما إلهيّا. ويرون في هذا العمل تقييد لحريّة الإنسان.

ومن ثمّ أنكروا المعاد ، الذي كان دوما سدّا منيعا لاتّباع الشهوات وأرباب اللّذّات ، وقالوا :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) لتعيشون حياة جديدة( هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) فقد تسائل الكفّار : هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا ترابا وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل!!

وبهذا الكلام ازدادوا إصرارا على إنكار المعاد قائلين : إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أخرى لتحلّ محلّهم ، ولا حياة بعد الموت( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

وأخيرا لخصّوا التهم التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا :( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) فلا رسالة إلهيّة ، ولا بعث ، ولا برنامج سماوي ، وعليه لا يتسنّى لعاقل الإيمان به.

وعند ما طغى عناد الكفّار ، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم ، فتجاسروا على الله ، وأنكروا رسالته إليهم ، وأنكروا معاجز أنبيائه بكلّ صلافة ، وقد أتمّ الله حجّته عليهم ، عندها توجّه هذا النّبي الكبير إلى الله سبحانه وتعالى و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات ، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.

فأجابه اللهعزوجل كما ذكرت الآية( قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ) ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.

وهكذا جرى( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ ) حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق ، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاما ، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار ، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية

٤٥٠

الكريمة( فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ) أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

تعليقات :

1 ـ الحياة المترفة وأثرها المشؤوم

بيّنت الآيات السابقة العلاقة بين «الترف» (حياة الأشراف المنّعمين) وبين «الكفر وإنكار لقاء الله» وهذه هي الحقيقة بعينها. فالذين يعيشون مترفين يطلقون العنان لشهواتهم الحيوانية. فمن الواضح أنّهم لا يقبلون برقابة إلهيّة ، ولا يعترفون بيوم البعث حيث تنتظرهم محكمة العدل الإلهي ، والإقرار بذلك يؤنّب ضمائرهم ويثير الناس عليهم ، لهذا فانّ هؤلاء الأشخاص لا يقرّون بالعبودية لله ، وينكرون المبدأ والمعاد ، ويرون الحياة كما ذكرت الآيات السابقة( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

هذا هو شعارهم المعبّر عن فتنتهم وضلالهم الصارخ : فلنغتنم هذه الفرصة فلا خبر جاء ولا وحي نزل ، ومن يدّعي ذلك فهو كاذب! وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة هكذا كانوا يبرّرون إنكارهم ليوم البعث.

إضافة إلى ذلك فتحقيق مثل هذه الحياة المترفة لا تتمّ بدأ إلّا بسلب حقوق الآخرين وظلمهم ، وهذا لا يكون إلّا بإنكار رسالة الأنبياء والقيامة ولهذا نرى الذين عاشوا في بذخ مترف يحتقرون كلّ القيم السماوية وينكرون كلّ شيء إلهي.

هؤلاء الحمقى أصبحوا أسرى لأهوائهم النفسيّة ، فخرجوا عن طاعة الله وأصبحوا عبيدا لأهوائهم وشهواتهم ، بل أصبحوا عبيدا لعبيد آخرين ، بنفسيّة وضيعة ، وقلوب سوداء قاتمة ، ومستقبل موحش ، على الرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّهم متنّعمون وسيبقون كذلك ، غير أنّ القلق الذي يسيطر عليهم من عقاب الله وزوال نعمته والخوف من الموت لا يدع لهم راحة.

٤٥١

2 ـ «التراب» و «العظام»

يتفسّخ جسم الإنسان بعد موته حتّى يتحوّل إلى تراب ، إلّا أنّ الآية السابقة قدّمت التراب على العظام ، لماذا؟

قد يكون ذلك إشارة إلى القسمين المهمّين من مكوّنات الجسم (اللحم والعظم) فاللحم يتفسّخ أوّلا ويصبح ترابا ، وتبقى العظام لسنين عديدة ثمّ تبلى أخيرا وتصبح ترابا أيضا.

وربّما كان التراب هنا إشارة إلى الأجداد القدماء جدّا الذين أصبحوا ترابا ، والعظام إشارة إلى الآباء الذين تفسّخت أجسامهم ، وبقيت العظام لم تتحوّل إلى تراب(1) .

3 ـ ما معنى الغثاء؟

اطّلعنا على مصير قوم ثمود وهو ـ كما ذكرته الآيات السابقة ـ أنّهم قد أصبحوا «غثاء». والغثاء ، يعني النباتات الجافّة المتراكمة ، والطافية على مياه السيول ، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان ، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وانكسارها وتفاهتها ، لأنّ هشيم النبات فوق مياه السيل تافه لا قيمة له ، ولا أثر له بعد انتهاء السيل (وقد شرحنا بإسهاب الصيحة السماوية في تفسير الآية 67 من سورة هود) هذا ولم يكن هذا العقاب خاصّا ـ فقط ـ بقوم ثمود ، حيث هناك أقوام أخرى أهلكت به. وقد تمّ شرحه في حينه.

__________________

(1) تفسير روح المعاني حول الآيات موضع البحث.

٤٥٢

4 ـ مصير عام

وممّا يلفت النظر أنّ آخر عبارة في الآيات ـ موضع البحث ـ أخرجت القضيّة من إطارها وجعلتها قانونا عامّا ، حيث تقول :( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وهذا استنتاج نهائي من كلّ هذه الآيات ، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهيّة والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيّئة لا تختّص بجماعة معيّنة ، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.

* * *

٤٥٣

الآيات

( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) )

التّفسير

هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر :

بعد أن تحدّث القرآن عن قصّة قوم نوح ، أشار إلى أقوام أخرى جاءت بعدهم ، وقبل النّبي موسىعليه‌السلام حيث يقول :( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ) لأنّ هذا أمر الله وسنّته في خلقه ، فالفيض الإلهي لا ينقطع عن عباده فلو سعى جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه المسيرة إلى أمام.

ولهذه الأقوام تأريخ معيّن وأجل محدود( ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ) فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فورا ، دون تأخير لحظة أو تقديم لحظة.

٤٥٤

«الأجل» بمعنى العمر ومدّة الشيء ، كأن نقول : أجل هذا الصكّ ثلاثة أشهر ، أي أنّ مدّته تنتهي بعد ثلاثة أشهر ، أو إلى أجل مسمّى أي إلى تاريخ محدّد.

وكما قلنا سابقا فالأجل نوعان : «المحتّم» و «المشروط» ، فالأجل المحتّم انتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما ، ولا تغيير فيه. أمّا الأجل المشروط فيمكن أن يتغيّر حسب تغيّر الظروف فيزداد أو ينقص ، وقد تحدّثنا عن ذلك سابقا بإسهاب(1) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية السابقة تشير إلى «الأجل المحتّم».

وتكشف الآية التالية حقيقة استمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى الله حيث تقول :( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ) .

كلمة «تترا» مشتقّة من «الوتر» بمعنى التعاقب ، و «تواتر الأخبار» تعني وصولها الواحد بعد الآخر ، ومن مجموعها يتيقّن الإنسان بصدقها ، وهذه الكلمة مشتقّة في الأصل من «الوتر» بمعنى حبل القوس حيث يتّصل الحبل بالقوس من جهتيه ويقع خلفه ليقرب رأس القوس (ومن حيث التركيب فإنّ كلمة «تترا» في الأصل «وترا» تبدّلت الواو فيه تاء).

وعلى كلّ حال فإنّ معلّمي السّماء ، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس ، إلّا أنّ الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار ، فإنّه :( كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ) .

وعند ما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حدّه وتمّت الحجّة عليهم.( فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ) .

أي أهلكنا الأمم المعاندة الواحدة بعد الاخرى ومحوناهم من الوجود.

وقد تمّ محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداول الناس( وَجَعَلْناهُمْ

__________________

(1) للاستزادة يراجع تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام.

٤٥٥

أَحادِيثَ ) . إشارة إلى أنّ كلّ أمّة تتعرّض للهلاك ، ويبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناك ، وأحيانا لا يبقى منهم أي أثر. وهذه الأمم المعاندة والطاغية كانت ضمن المجموعة الثّانية(1) .

وتقول الآية في الختام ، كما ذكرت الآيات السابقة( فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) أجل ، إنّ هذا المصير نتيجة لعدم الإيمان بالله ، فكلّ مجموعة لا إيمان لها ، معاندة وظالمة ، تبتلى بهذا المصير ، فتمحق بشكل لا يبقى إلّا ذكرها في التاريخ وأحاديث الناس.

وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة الله في هذه الدنيا فحسب ، بل بعيدون عن هذه الرحمة في الآخرة أيضا ، لأنّ تعبير الآية جاء عامّا يشمل الجميع.

* * *

__________________

(1) «الأحاديث» جمع حديث ، وتفسيرها كما مرّ أعلاه ، إلّا أن البعض احتمل أن تكون جمع «أحدوثة» وتعني الأخبار المدهشة التي يتحدّث الناس عنها. (تفسير الفخر الرازي حول الآية موضع البحث).

٤٥٦

الآيات

( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) )

التّفسير

قيام موسى وهلاك الفراعنة :

كان الحديث حتّى الآن عن أقوام بعث الله لهم رسلا قبل موسىعليه‌السلام ، وهلكوا.

أمّا الآيات موضع البحث فقد تحدّثت باختصار جدّا عن انتفاضة موسى وهارون على الفراعنة ، ومصير هؤلاء القوم المستكبرين فقالت :( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

وهناك تفاسير عديدة لما تقصده كلمة «الآيات» وعبارة( سُلْطانٍ مُبِينٍ ) وما الفرق بينهما؟

1 ـ قال بعض المفسّرين : إنّ «الآيات» تعني المعجزات التي أعطاها الله

٤٥٧

لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة «سلطان مبين» المنطق القوي والبرهان الدافع لموسىعليه‌السلام أمام الفراعنة.

2 ـ التّفسير الثّاني أنّ «الآيات» تعني جميع معاجز موسىعليه‌السلام ، ويقصد بعبارة( سُلْطانٍ مُبِينٍ ) بعض معاجز موسى المهمّة كعصاه واليد البيضاء ، لأنّ لهما خصائص ساعدت موسى على الإنتصار على الفراعنة.

3 ـ واحتمل البعض أنّ كلمة «الآيات» أشارت إلى آيات «التوراة» ، وبيان التعاليم وما شاكل ذلك ، وعبارة «سلطان مبين» إشارة إلى معجزات موسىعليه‌السلام .

إلّا أنّه لو لا حظنا استعمالات عبارة «سلطان مبين» في القرآن المجيد لوجدنا التّفسير الأوّل أقرب إلى الصواب ، لأنّ كلمة «سلطان» أو «سلطان مبين» وردت في القرآن بمعنى الدليل والمنطق الواضح(1) .

أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين( إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) . لماذا تتحدّث الآية فقط عن الملأ (المجتمع المترف المعاند أو ما يسمّى بطبقة الأشراف). ولم تقل أنّ رسالتهما إلى شعب مصر كلّه.

لعلّ ذلك إشارة إلى أنّ الفراعنة هم أساس الفساد ، وإن صلحوا فالباقون أمرهم سهل. إضافة إلى كونهم قادة البلد ، ولا يصلح أي بلد إلّا بصلاح قادته. إلّا أنّهم( فَاسْتَكْبَرُوا ) لأنّهم لم يرضوا لآيات الحقّ والسلطان المبين والفراعنة كانوا ـ أساسا ـ مستكبرين طاغين ، كما تقول الآية( وَكانُوا قَوْماً عالِينَ ) . والفرق بين العبارتين( فَاسْتَكْبَرُوا ) و( كانُوا قَوْماً عالِينَ ) أنّ العبارة الأولى قد تكون إشارة إلى استكبارهم عن دعوة موسىعليه‌السلام ، والعبارة الثّانية تشير إلى أنّ الاستكبار يشكل دوما برنامجهم وبناءهم الفكري والروحي.

ويحتمل أيضا أن تكون العبارة الأولى إشارة إلى تكبّر الفراعنة ، والثّانية إلى أنّهم كانوا يتمتّعون بقدرة متعالية وحياة متميّزة. وهذا سبب استكبارهم.

__________________

(1) نقرأ في سورة النمل الآية (21) :( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) وفي الآية (23) من سورة النجم نقرأ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) .

٤٥٨

ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالاستعلاء ، قولهم :( فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) (1) فلم يكتفوا بالقول إنّنا لا ينبغي لنا اتّباع موسى وهارون ، بل لا بدّ أن يكون موسى وهارون عبدين دائمين لهم. فهؤلاء الذين اتّهموا الأنبياءعليهم‌السلام بالتسلّط في وقت هم أسوأ من كلّ متسلّط ، وكلامهم يشهد على ذلك.

وعلى كلّ حال فقد تصدّوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلّة الخاوية ، مخالفة منهم للحقّ( فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) .

وهكذا انتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدّا مانعا لدعوة موسى وهارون إلى الله سبحانه.

وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل ، فأنزل الله في هذه المرحلة «التوراة» على موسى ، الذي دعا بني إسرائيل للاهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على ما ذكرته الآية الأخيرة هنا( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) .

والآيات السابقة تحدّثت في مرحلة موسى وهارون عن الفراعنة مستعملة الضمير المثنّى ، وهنا تكلّمت عن نزول الكتاب السماوي (التوراة) فخصّصت الحديث بموسىعليه‌السلام . لأنّه النّبي المرسل وصاحب الكتاب والشريعة. إضافة إلى أنّ (موسى) كان يتعبّد في جبل الطور حين نزول التوراة ، بينما كان هارون بين جموع بني إسرائيل(2) .

* * *

__________________

(1) يطلق على الإنسان «البشر» ، لأنّ بشرته وجلده عارية. خلافا لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكلّ نوع منهما. وذلك لعدم قدرتها على إعداد وسائل الحياة فمنح الله ذلك لها بشكل طبيعي. أمّا بالنسبة للإنسان فقد أوكل ذلك إلى ذكائه وعقله.

(2) بحثنا بالتفصيل حول موسى عليه‌السلام وكيفية مبعثه وجهاده مع الفراعنة في تفسير الآيات (103) إلى (162) من سورة الأعراف وفي تفسير الآيات (8) إلى (97) من سورة طه.

٤٥٩

الآيات

( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) )

التّفسير

آية أخرى من آيات الله :

أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيّد المسيحعليه‌السلام وأمّه مريم ، فقالت :( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) . وقد استعملت «الآية» عبارة «ابن مريم» بدلا من ذكر اسم عيسىعليه‌السلام ، لجلب الانتباه إلى حقيقة ولادته من أمّ دون أب بأمر من الله ، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات الله الكبيرة.

وحمل مريمعليهما‌السلام من غير أن يمسّها بشر ، وانجابها عيسىعليه‌السلام وجهان لحقيقة واحدة تشهد بعظمة الله سبحانه المبدعة وقدرته.

ثمّ أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها الله على هذه الامّ الزكيّة وابنها فتقول :( وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ ) .

«الربوة» مشتقّة من «الربا» بمعنى الزيادة والنمو. وتعني هنا المكان المرتفع.

و «المعين» مشتقّ من «المعن» على وزن «شأن» بمعنى جريان الماء ، فالماء

٤٦٠