الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 177304
تحميل: 3837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177304 / تحميل: 3837
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 10

مؤلف:
العربية

سبحانه وتعالى.

ثمّ يأمر الله الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحقّ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) أي ادفع عدوانهم وسيّئاتهم بالعفو والصفح والإحسان ، وكلامهم البذيء بالكلام المنطقي الموزون :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) .

والله يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البديء وأذاهم القاسي يؤلم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهعزوجل يدعو إلى عدم الرّد بالمثل ، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثمّ نقرأ أمرا ربّانيا بالاستعاذة بالله من مكائد الشيطان( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) . إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي ، ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمرّ في الاستعاذة من حضورهم عنده( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) أي حضور الشياطين في اجتماعات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم.

ملاحظتان

1 ـ ما معنى همزات الشياطين؟

«الهمزات» جمع «همزة» بمعنى التحريك بقوّة ، وقد أطلقت هذه التسمية على حرف الهمزة ، لأنّها تؤدّي إلى حركة قويّة في نهاية الحلق.

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الهمز» و «الغمز» و «الرمز» بمعنى واحد. إلّا أنّ الرمز ذو مرحلة خفيفة ، والغمز أشدّ منها. والهمز ، نهايتها في الشدّة(1) .

وبما أنّ الشياطين صيغة جمع ، فهي تضمّ شياطين الجنّ والإنس ، ظاهرها وخفيّها. ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم أنّ الإمامعليه‌السلام قال في معنى الآية :( قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) : هو ما يقع في قلبك من وسوسة

__________________

(1) تفسير أبو الفتوح الرازي.

٥٠١

الشيطان»(1) .

فإذا كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته ومنزلته السامية عند الله ، يدعوه سبحانه بهذا الدعاء ، فما بالك بمسؤولية الآخرين؟ يجب أن يدعوا الله ألّا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين. وليس فقط ألّا يقعوا تحت تأثير همزات الشياطين ، بل ألّا يحضرهم الشياطين في مجالسهم. فعلى محبّي الحقّ والذّابين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى الله ، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

2 ـ ردّ السيّئة بالحسنة

من أبرز السبل المؤثّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين ردّ السيّئة بالحسنة ، فذلك يوقظ مشاعرهم ، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيّئة ، ويعودون للصواب غالبا. ونجد في سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة الهدىعليهم‌السلام هذا المنهج بشكل واضح ، حيث يردّون سيّئات الجنازة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم ، فيكسبون ودّهم ، ويفجّرون في جوارحهم استجابة للحقّ ، ورفضا للباطل.

وقد ذكر القرآن المجيد هذه السيرة للمسلمين مرارا باعتبارها مبدأ أساسيّا لاقتلاع السيّئات ، ففي الآية الرّابعة والثلاثين من سورة فصّلت نقرأ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاص بحالات لا يسيء العدو الاستفادة من هذا المبدأ ، ويرى إحسانهم إليه أو عفوهم عنه ضعفا منهم ، فيزداد جرأة على العدوان والظلم.

وهذه السيرة لا تعني مساومة الأعداء أو التسليم لهم. وهذا قد يكون السبب في أنّ اللهعزوجل أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذكر هذه التوصية مباشرة بالتعوّذ به من همزات الشياطين وحضورهم حوله.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة 552.

٥٠٢

الآيتان

( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) )

التّفسير

طلب المستحيل :

تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكهم بالباطل ، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرّون في باطلهم :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) (1) .

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر ، تزول عنه حجب الغفلة والغرور ، فيرى بأمّ عينه مصيره المؤلم ، فلا مال ولا جاه ، فقد عاد كلّ ما يعنيه هباء في هباء ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره ، وما ارتكبه من ذنوب

__________________

(1) «حتّى» هي في الواقع غاية لجملة محذوفة ، ويفهم من العبارات السابقة أن تقديرها : إنّهم يستمرّون على هذا الحال حتّى إذا جاء أحدهم الموت ، ويستدلّ على ذلك من عبارة «نحن أعلم بما يصفون» التي استفيد منها في الآيتين السابقتين (فتأمّلوا جيدا).

٥٠٣

ومعاص ، فيرتفع صراخه وعويله( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) .

ارجعني يا ربّ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) . ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة ، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح ، فيأتيه النداء الدامغ( كَلَّا ) .

( إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) . كلام لم يصدر من أعماقه. لم يصدر بإرادته ، إنّه يشبه كلام امرئ مسيء يردّد إذا أحسّ بالعقاب ، أو كلام قاتل حين إعدامه. ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة. وهذا يشبه ما ورد في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ من هو المخاطب في قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ ) ؟

بملاحظة كلمة «ربّ» التي هي مخفّف «ربّي» بمعنى إلهي ، تشير بداية الجملة إلى أنّ المخاطب هو الله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّ مجيء «ارجعون» بصيغة الجمع يمنع أن يكون المخاطب هو اللهعزوجل . وهذا التعبيران في الجملة السابقة يثيران سؤالا وتساؤلا.

يرى عدد من المفسّرين أنّ المخاطب هو الله ، وصيغة الجمع هنا للاحترام والتعظيم. ولكن استعمال صيغة الجمع في مخاطبة المفرد ليس مألوفا في العربية ، خاصّة فيما مضى ، ولا نظير له في القرآن المجيد ، وبهذا يتّضح ضعف هذا

٥٠٤

التّفسير(1) .

وقال عدد آخر من المفسّرين : إنّ المخاطب هم الملائكة المكلّفون بقبض الأرواح. وكلمة «ربّ» نوع من الاستعانة بالله ، وهذا مألوف في حياتنا اليوميّة حيث يستغيث المرء بالله في الشدائد ، ثمّ يستنجد الناس ويصرخ : «يا ربّ! يا ربّ! انقذوني ، عجّلوا بمساعدتي» ويبدو هذا التّفسير أقرب إلى الصواب.

2 ـ تفسير عبارة( فِيما تَرَكْتُ )

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الكفّار يستنجدون بالله ليرجعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيما تركوا من الأعمال.

ويرى البعض في قوله تعالى :( فِيما تَرَكْتُ ) إشارة إلى أموال تركوها ، لاستعمال تعبير «تركة الميت» بصورة اعتيادية.

وروي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد هذا المعنى إذ يقول : «من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم ، وهو قوله تعالى :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (2) .

بينما يرى آخرون أنّ لها معنى أوسع ، هو إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة التي تركها الإنسان. فيكون المعنى : رباه! أرجعني لاعوّض ما تركته من عمل صالح.

ولا يناقض الحديث السابق مع هذا التّفسير الشامل وهو مصداق واضح له ، علما بأنّ هؤلاء الأشخاص يندمون على ما فاتهم من فرص ، لهذا يرغبون في الرجوع إلى الحياة ليستفيدوا منها في العمل الصالح.

__________________

(1) يرى بعض المفسّرين في الآية التاسعة من سورة القصص في عبارة زوجة فرعون( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) التي نطقت بها حين أخرج موسى من الماء نموذجا لهذا التعبير ، حيث في البداية كان المخاطب فرعون وآخر العبارة خاطبت حاشية فرعون وجنوده الذين كلّفوا بقتل أبناء بني إسرائيل.

(2) الكافي ، وثواب الأعمال ، ومن لا يحضره الفقيه (حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص 552).

٥٠٥

ويبدو أنّ التّفسير الثّاني أقرب إلى الصواب ، وكلمة «لعليّ» الواردة في جملة( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) يمكن أن تكون علامة على عدم اطمئنان هؤلاء المنحرفين من مستقبلهم ، وأنّ الندامة نتيجة لظروف خاصّة ، تظهر حين موتهم ، ولو عادوا إلى الدنيا لواصلوا أعمالهم ذاتها. وهذا هو عين الحقيقة.

3 ـ ما الذي تنفيه «كلّا»؟

تأتي «كلّا» في العربية بمعنى الحيلولة ، وإبطال أثر أقوال المخاطب. وتقابل بالضبط كلمة «أي» التي تستخدم لتصديق الكلام.

وفي الجواب عن السؤال الوارد آنفا ، قال البعض : إنّ «كلّا» تنفي طلب الكفّار الرجوع إلى الحياة الدنيا ، أي إنّ طريق العودة ، مغلق ، ولا يمكنكم العودة أبدا.

وقال البعض الآخر : إنّ هذه الكلمة جاءت لنفي ادّعاءاتهم القائلة : لو عدنا إلى الدنيا لعوّضنا ما فاتنا من أعمال صالحة ، فيقال لهم : ما هذا إلّا ادّعاء باطل ، ولو عدتم لواصلتم العمل بنفس نهجكم السابق.

ولا ضير في أن تكون هذه الكلمة ـ في الوقت ذاته ـ إشارة إلى نفي إثنين من المعاني. كما يجب ملاحظة أنّ هذا الطلب ـ رغم وروده في الآية محل البحث من قبل المشركين فقط ـ ليس خاصّا بهم ، بل هو طلب جميع المذنبين والظالمين والمنحرفين ، إذ يندمون على ما فاتهم لحظة موتهم ، حين يرون مصيرهم الأليم ماثلا لأعينهم ، فيرجون الله ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ، إلّا أنّ الله يزجرهم بقوله : «كلّا».

4 ـ ما هو عالم البرزخ؟

وأين هو؟

وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟

وهل يكون البرزخ للجميع ، أم لمجموعة معيّنة؟

٥٠٦

وأخيرا ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفّار والمسيئين فيه؟

هذه أسئلة أشارت الآيات والأحاديث السابقة إليها ، لهذا نجيب عنها حسبما يسمح به وضع هذا الكتاب.

تعني كلمة «البرزخ» في الأصل الشيء الذي يقع حائلا بين شيئين ، ثمّ استعملت لكلّ ما يقع بين أمرين. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.

والدليل على وجود عالم البرزخ ، أو عالم القبر ، أو عالم الأرواح ، نجده في الأدلّة النقلية ، فقد دلّ عليه صريح آيات القرآن أحيانا وظاهرها أحيانا أخرى.

والآية موضع البحث( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ظاهرة في وجود عالم البرزخ. رغم أنّ البعث رغب في القول بأنّ كلمة «البرزخ» في هذه الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا ، غير أنّ هذا المعنى يبدو غريبا ، لأنّ عبارة( إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) دليل على وقوع عالم البرزخ بين الدنيا والآخرة ، وليس بين الإنسان والدنيا.

ومن الآيات التي تصرّح بوجود مثل هذا العالم ، الآيات الخاصّة بحياة الشهداء ، مثل( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) الآية (169) من سورة آل عمران ، والخطاب فيها موجّه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا الآية (154) من سورة البقرة فإنّها خطاب لجميع المؤمنين :( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) .

وعالم «البرزخ» ليس للمؤمنين ذوي الدرجة الرفيعة كالشهداء فقط ، بل للكفّار الطغاة كفرعون وأعوانه أيضا ، وهذا ما صرّحت به الآية (46) من سورة المؤمن( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .

وذكرت آيات أخرى عالم البرزخ ولكن لا تصل إلى صراحة وظهور الآيات

٥٠٧

السابقة.

وما يجب الانتباه إليه في موضع البرزخ هو أنّ الآيات ـ باستثناء الآية التي نحن بصددها والتي ذكرته بشكل عامّ ـ استعرضت البرزخ بشكل خاصّ ، كما في ذكره عن الشهداء أو آل فرعون.

إلّا أنّ الواضح أنّه لا خصوصيّة لآل فرعون لأنّ في العالم الكثير من أمثالهم ، ولا للشهداء ، لأنّ القرآن الكريم اعتبر النّبيّين والصدّيقين والصالحين مع الشهداء ، كما جاء في الآية (69) من سورة النساء( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) .

ولنا حديث عن كون البرزخ لعامّة الناس أو لفئة منهم ، سنورده في ختام هذا البحث إن شاء الله.

أمّا الرّوايات : فهناك أحاديث كثيرة في كتب الفريقين الشيعة والسنّة تتحدّث بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ ، وعالم القبر ، وعالم الأرواح. أي تتحدّث عن العالم الذي يفصل بين الدنيا والآخرة ، ومنها :

1 ـ جاء في حديث معروف ذكر في الكلمات القصار في نهج البلاغة أنّ عليّاعليه‌السلام حينما وصل إلى جبانة الكوفة عند عودته من حرب صفين ، توجّه إلى القبور ونادى الأموات قائلا : «يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة! يا أهل التربة! يا أهل القربة! يا أهل الوحدة! يا أهل الوحشة! أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لا حق! أمّا الدور فقد سكنت ، وأمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الأموال فقد قسّمت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم»؟

ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : «أما لو اذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(1) .

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم «130».

٥٠٨

وبهذا يتّضح عدم إمكان حمل هذه العبارات على المجاز والكناية ، بل هي تخبرنا عن حقيقة وجود حياة البرزخ بعد الموت ، وتمكّن الموتى ـ لو سمح لهم ـ من الحديث إلينا.

2 ـ ونقرأ حديثا آخر رواه الأصبغ بن نباتة يذكر فيه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه خرج من الكوفة ، ومرّ حتّى أتى الغريين فجازه ، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده ، ليس تحته ثوب.

فقال له : قنبر : يا أمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟

قال : لا ، هل هي إلّا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟

قال الأصبغ : فقلت : يا أمير المؤمنين ، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون.

فما مزاحمته في مجلسه؟

فقال : «يا ابن نباتة ، لو كشف لكم لرأيتم (في المختصر المطبوع ص 4 : لألفيتم) أرواح في هذا الظهر حلقا يتزاورون ويتحدّثون ، إنّ في هذا الظهر روح كلّ مؤمن ، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر»(1) .

3 – وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قوله : «إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار»(2) .

4 – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة والله ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(3) .

5 – وجاء في كتاب الكافي أنّه سئل الإمام : وما البرزخ؟ فأجابه : «القبر من حين موته إلى يوم القيامة»(4) .

__________________

(1) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة 243.

(2) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّاني ، صفحة 553.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق ، صفحة 554.

٥٠٩

6 ـ وروى الشيخ الكلينيرحمه‌الله في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد الحنّاط ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال: «لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1) .

هذا الحديث يشير إلى مصير روح الإنسان ، فهي من جهة تشبه هذا الجسم المادّي ، إلّا أنّه يمتلك نوعا من التجرّد البرزخي.

7 ـ كما نقرأ في حديث آخر جاء في كتاب الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : سألته عن أرواح المؤمنين فأجاب : «في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها. ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا»(2) .

8 ـ روى صاحب الكافي عن سهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف ، فإذا تساءل قدّمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم ، ثمّ يسألونها : ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى»(3) .

تقصد الأحاديث أعلاه بالجنّة والنّار البرزخيتين ، وليس العائدتين ليوم القيامة ، والفرق بينهما كبير.

والأحاديث في هذا المجال عديدة ، وقد رتّبت في أبواب مختلفة نشير إلى قسم منها :

__________________

(1) كتاب الكافي ، حسبما نقله بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة 268.

(2) بحار الأنوار ، المجلّد السادس ، صفحة 269.

(3) المصدر السابق.

٥١٠

أحاديث تتحدّث عن سؤال القبر وعذابه.

وأحاديث تتناول اتّصال الأرواح مع أسرها ومشاهدة وضعهم.

أحاديث تتحدّث عن ليلة المعراج واتّصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أرواح الأنبياء والمرسلين.

أحاديث تنصّ على ابتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء كانت طيّبة أمّ سيّئة.

بعد موته وأمثالها(1) .

البرزخ والاتّصال بعالم الأرواح

رغم أنّ الكثير ممّن يدّعون بأنّهم على اتّصال بعالم الأرواح كاذبون ، أو أنّهم يعانون نوعا من الوهم والخيال ، لكن ثبت أنّ الاتّصال بعالم الأرواح ممكن ، وقد تحقّق فعلا لبعض العلماء ، حتّى أنّهم توصّلوا إلى بعض الحقائق عن طريق الأرواح.

وهذه القضيّة بذاتها دليل واضح على وجود عالم البرزخ وحقيقته ، فهي تبيّن أنّ بعد عالم الدنيا والموت وقبل القيامة في الآخرة ، هناك عالم آخر قائم بذاته(2) .

كما أنّ الأدلّة العقليّة لإثبات تجرّد الروح وبقائها بعد فناء الجسم بنفسها دليل آخر على وجود عالم البرزخ (فتأمّلوا جيدا).

صورة عن عالم البرزخ

يتّفق علماء الإسلام على أصل وجود البرزخ وما يقع فيه من نعمة ونقمة مع بعض اختلافات جزئيّة بين هؤلاء العلماء ، ويتّفق علماء السنّة والشيعة على وجود البرزخ باستثناء عدد قليل غير ملحوظ.

__________________

(1) جمع هذه الأحاديث المرحوم السيّد عبد الله شبّر في كتاب سمّاه «تسلية الفوائد في بيان الموت والمعاد».

(2) للاطلاع أكثر بهذا الصدد ، راجع مسألة الاتّصال بالأرواح في كتاب (عودة الروح والاتّصال بها) وكتاب (العالم بعد الموت).

٥١١

والدليل على الاتّفاق بين هؤلاء العلماء واضح ، وهو تصريح الآيات القرآنية بوجود البرزخ وما فيه من نعمة وعذاب ، كما أسلفنا. ومنها ما صرّح بذلك في الحديث عن الشهداء :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) وليس فقط هذه المجموعة من الصالحين قد أنعم الله عليها ، بل إنّ مجموعة من أسوأ الطغاة والمجرمين يعذّبهم الله ، كما أنّ تعذيب آل فرعون بعد الموت وقبل القيامة قد أشارت إليه الآية 46 من سورة غافر (المؤمن).

والأحاديث متواترة بهذا الصدد ، فلا نقاش في وجود عالم البرزخ أساسا ، والمهمّ أن نعرف حياة البرزخ وشكلها ، فقد ذكرت له صورة مختلفة ، أوضحها أنّ أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا ، تدخل أجساما لطيفة سامية عن آثار هذه المادّة القذرة ، إلّا أنّها على شكل أجسامنا ، ويقال لكلّ منها (الجسم المثالي) وهو ليس مجردا تمام التجرية ، ولا هو مادّيا محضا. إنّه يمتاز بتجرّد برزخي معيّن ، وشبّهه بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم ، إذ تسرّ الروح رؤية النعم ، وتعذّبها مشاهدة المناظر المؤلمة ، ولذلك أثّر في جسمنا هذا ، إذ نبكي عند رؤية حلم مزعج ، ونفزع مذعورين من هول ما نرى ، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما نحلم به في نومنا.

ويرى جماعة أنّ الروح تقوم بنشاط في الجسم المثالي ، بل يرون أكثر من ذلك ، ألا وهو قدرة الأرواح القويّة على اكتساب حالة التجرّد البرزخي في يقظة الإنسان أيضا. أي تنفصل الروح عن الجسم. وتتحرّك في الجسم المثالي برغبتها أو بالتنويم المغناطيسي ، تتحرّك في العالم لتطّلع على بعض القضايا(2) .

__________________

(1) سورة آل عمران ، 169 و 170.

(2) يصرّح العلّامة المجلسي في تناوله هذا الموضوع في بحار الأنوار : إنّ تشبيه البرزخ بالحلم وما يتراءى للإنسان وارد في

٥١٢

بل إنّ البعض قال بوجود الجسم المثالي في جسم كلّ إنسان ، وإنّه ينفصل عنه في بداية الحياة البرزخية ، ويمكن أن يقع ذلك كما قلنا في هذه الدنيا.

وإذا رفضنا جميع هذه الصفات للجسم المثالي ، فلا يمكن نفي الموضوع أصلا ، بسبب إشارة أحاديث عديدة إليه ، ولانعدام المانع العقلي منه.

وبهذا يتّضح جواب الاعتراض القائل بأنّ الإعتقاد بالجسم المثالي يستوجب الإعتقاد بالتناسخ ، الذي يعني انتقال الروح من جسم إلى آخر.

لقد ردّ الشيخ البهائي هذا الإحتجاج بوضوح ، فقال : إنّ التناسخ الذي يرى بطلانه جميع المسلمين ، هو عودة الروح بعد تفسّخ الجسم الذي كانت فيه إلى جسم آخر في هذه الدنيا.

أمّا اختصاص الروح بالجسم المثالي في عالم البرزخ حتّى يوم القيامة ، ثمّ عودتها إلى الجسم الأوّل بأمر من الله تعالى لا علاقة له بالتناسخ ، والسبب أنّنا ننفي التناسخ بشدّة ونكفّر الذي يعتقد به ، هو قولهم بأزليّة الأرواح وانتقالها الدائمي من جسم إلى آخر ، وإنكارهم المعاد الجسماني في عالم الآخرة(1) .

والقول بوجود الجسم المثالي في باطن الجسم المادّي يجلي الجواب عن هذا الإشكال ، إذ لا تنتقل الروح من جسم إلى آخر ، بل تترك بعض قوالبها ، وتستمرّ في قالب آخر في حياتها البرزخية.

والسؤال الآخر هو أنّه يفهم من آيات قرآنية أن لا حياة برزخية لمجموعة من الناس ، كما جاء في الآية الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين من سورة الروم!( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ

__________________

أكثر من الروآيات ، ويمكن أن تكون للنفوس القوية السامية عدة أجسام مثالية ، وبهذا تفسر الأحاديث القائلة بحضور الأئمة الميامين لدى المحتضرين حين نزعهم الأخير. (بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة 261).

(1) بحار الأنوار ، المجلد السادس ، صفحة 277.

٥١٣

وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

وجواب هذا الاعتراض ، جاء في أحاديث فحواها أنّ الناس ثلاث فئات : فئة مؤمنة مخلصة في إيمانها ، وفئة مخلصة في كفرها ، وفئة متوسطة ومستضعفة.

وإنّ عالم البرزخ خاص بالفئتين الأولى والثّانية ، أمّا الثّالثة فتعبر عالم البرزخ في حالة من عدم الاطلاع (لاطلاع أوسع على هذه الأحاديث يراجع المجلّد السادس من بحار الأنوار ، بحث أحوال البرزخ والقبر).

* * *

٥١٤

الآيات

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) )

التّفسير

جانب من عقاب المسيئين :

تحدّث الآيات السابقة عن عالم البرزخ ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث ، وتناولت كذلك جانبا من وضع المذنبين في عالم الآخرة.

فهي تقول أوّلا :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) من المعلوم ـ بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم ـ أنّ النفخ في الصور يجري مرّتين. أولاهما في نهاية هذا العالم ، حيث يموت من في الأرض والسماوات.

وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ، ليعودوا لحياة جديدة ، وليستعدّوا للحساب والجزاء.

٥١٥

«النفخ في الصور» يعني النفخ في البوق ، إلّا أنّ هذه العبارة لها مفهوم خاصّ سنبيّنه إن شاء الله في شرح الآية 68 من سورة الزمر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة :

أولاهما : انتهاء مسألة النسب ، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب ، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم. أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف ، حيث كلّ إنسان وعمله ، فلا معين له ، ولا نفع في ولده ، أو أخيه ، أو والده.

وثانيتهما : سيطرة الخوف على الجميع ، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي ، هو يوم كما أطّلعنا عليه في مطلع سورة الحجّ :

( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) كما يحتمل أن تقصد عبارة( وَلا يَتَساءَلُونَ ) عدم طلب أحدهم العون من الآخر ، لأنّهم جميعا يعرفون عدم جدوى ذلك.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى :( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) .

ويبدو التّفسير الأوّل أوضح من غيره ، رغم عدم التناقض فيما بينها ، ويمكن أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلّها.

ورأى مفسّرون آخرون أنّه يستفاد من عدّة آيات تساؤل الناس يوم القيامة ، كما جاء في الآية (27) من سورة الصافات ، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة النّار( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) . كما تحدّثت هذه السورة في الآية الخمسين عن أهل الجنّة ساعة استقرارهم في الجنّة متقابلين ، فقالت :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) إنّهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا انحرفوا

٥١٦

عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النّار.

كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (25) من سورة الطور ، فكيف تنسجم هذه الآيات مع الآية موضع البحث ، وهي تنصّ على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.

لو دقّقنا مليّا في مضمون الآيات محلّ البحث لاتّضح لنا جواب هذا السؤال ، فالآيات الخاصّة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنّما تتحدّث في حالة استقرارهم في الجنّة ، أو في النّار. في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث ، حيث يسيطر الرعب على الجميع. حتّى أنّ الناس ينسون جميع من حولهم ويذهلون عنهم من هول الحشر. وبتعبير آخر : للقيامة مواقف ولكلّ موقف شأن معيّن ، والإشكال المذكور نجم عن عدم تشخيص هذه المواقف.

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاصّ بيوم القيامة :( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

«الموازين» جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس. وكما قلنا سابقا : إنّ الميزان لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن الموادّ ، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان ، أي : للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس. وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس ، وهم قادة الإسلام الكبار ، في الحديث : «إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته هم الموازين»(1) .

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم ، ليتبيّن إلى أي درجة يشبهونهم. وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم ، وثمينهم من تافههم ، وعالمهم من جاهلهم. كما يتّضح لنا سرّ ذكر الموازين بصيغة الجمع ، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق ـ وهم موازين القياس ـ قد تعدّدوا في التاريخ.

__________________

(1) بحار الأنوار ، المجلّد السابع ، صفحة 251 (الطبعة الجديدة).

٥١٧

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معيّن أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها ، فاشتهروا ببعض الصفات دون أخرى ، فواحدهم ميزان بما اشتهر به من حسنات وخصال حميدة.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح ، فوزنهم خفيف يوم القيامة ، لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم :( فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) عبارة( خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم ـ أي وجودهم ـ في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف( وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار ، في عبوس واكفهرار.

وكلمة «تلفح» مشتقّة من «لفح» على وزن «فتح» وتعني في الأصل ضربة السيف ، وقد وردت هنا كناية ، لأنّ لهيب النّار ، أو نور الشمس المحرقة ، وريح السموم ، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

وأمّا كلمة «كالح» فإنّها مشتقّة من «كلوح» على وزن «فعول» بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه. وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحا لا يمكن إغلاقه(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير مجمع البيان ، وتفسير الميزان ، الآيات موضع البحث.

٥١٨

ملاحظات

1 ـ اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب :

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم ، ستتغيّر في عالم الآخرة ، ومنها العلاقات الودّية ، والأواصر الأسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة ، وأحيانا تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الاجتماعية.

وإذا كان الانتساب للقبائل والأسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح ، فإنّه ينتفي يوم القيامة ، فلا انتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر ، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به ، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة ، فلا خبر عن الأموال الكثيرة ، ولا عن الأولاد( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (1) .

حتّى من ينتسبون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاضعون لهذا الحكم ، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي ، إمّا لعدم إيمانه ، أو لانحرافه عن الإسلام الأصيل ، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كل حسب(2) ونسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي ونسبي»(3) .

يقول العلّامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان : إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم ، مرّة عن عبد الله بن عمر ، وأخرى عن عمر بن الخطاب ، وأحيانا عن صحابة آخرين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

في الوقت الذي نرى أنّ الآية ـ موضع البحث ـ ذات طابع عامّ ، فهي تتحدّث

__________________

(1) الشعراء ، 89.

(2) الحسب : كلّ فخر للإنسان ، بالآباء والأجداد. ويعني أحيانا الخلق السليم للشخص ذاته ، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

(3) مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

٥١٩

عن انقطاع جميع الأنساب يوم القيامة ، وهذا ما تؤازره المبادئ القرآنية وسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال.

لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني

عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال : «خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيّا ، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّدا قرشيا»(1) .

وما ذكر لا ينفي احترام السادة المتّقين من آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا الاحترام في حقيقته احترام للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

2 ـ حكاية الأصمعي المؤثّرة :

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها «الغزالي» في كتابه «بحر المحبّة» عن الأصمعي ، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالاهتمام.

يقول الأصمعي «كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حنونا لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة ، وكان يقول في مناجاته :

يا سيّدي ومولاي ، نامت العيون وغابت النجوم ، وأنت ملك حيّ قيّوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها ، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنّا سائلك ببابك مذنب فقير ، خاطئ مسكين ، جئتك أرجو رحمتك يا رحيم ، وأن تنظر إليّ بلطفك يا كريم!

ثمّ أنشد :

__________________

(1) مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، ص 564).

٥٢٠