الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 150410
تحميل: 3890


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150410 / تحميل: 3890
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) )

سبب النّزول

في رواية عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، أنّه قال : قلت لأبي علي بن محمدعليهما‌السلام : هل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال : مرارا كثيرة وذلك أنّ رسول الله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة ، فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال : يا محمد لقد ادّعيت دعوى عظيمة ، وقلت مقالا هائلا ، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين

٢٠١

وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا ، تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي ، فقال رسول الله : اللهمّ أنت السامع لكل صوت ، والعالم بكلّ شيء ، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه : يا محمد :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ ) إلى قوله تعالى( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) .(1)

التّفسير

لم لا يملك هذا الرّسول كنوزا وجنات؟!

عرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد ، وأجيب عليها ، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجاب عنها ، فيقول تعالى :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) .

ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإلهية ، ويريد أيضا السلطنة على الجميع!

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم ، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثمّ أضافوا :( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) ، فلم لم يرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله ، شاهد على صدق دعوته ، وينذر معه الناس!؟

حسن جدا ، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنسانا ، ولكن لماذا يكون فقيرا فاقدا للثروة والمال!؟( أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، الجزء 4 ، الصفحة 6.

٢٠٢

يَأْكُلُ مِنْها ) .

ولم يكتفوا بهذا أيضا ، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطئ ، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها( وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ) . ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم!

من مجموع الآيات أعلاه ، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة.

أوّلا : إنّه أساسا يجب أن يكون ملكا ، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكا بالضرورة.

ثمّ قالوا : حسن جدّا ، إن لم يكن ملكا ، فيرسل الله ـ على الأقل ـ ملكا يرافقه ويعينه.

ثمّ تنازلوا عن هذا أيضا ، فقالوا : لنفرض أن رسول الله بشر ، فينبغي أن يلقى إليه كنز من السماء ، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله.

وقالوا في نهاية المطاف : لنفرض أنه لم يكن له أيّ من تلك الميزات ، فينبغي على الأقل ألا يكون إنسانا فقيرا ، فليكن كأي مزارع مرفه ، له بستان يضمن منه معيشته. لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف ، ويقول إنّني نبيّ!؟

واستنتجوا في الختام ، أنّ ادعاءه الكبير هذا ، في مثل هذه الشرائط ، دليل على أن ليس له عقل سليم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإشكالات في عبارة موجزة :( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) .

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة ، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة.

٢٠٣

حقّا ، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج ، الواهية : فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل : انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي.

وهكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها ، لأن :

أوّلا : لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم ، كما يحكم به العقل والعلم ، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الإنسان تماما ، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات ، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج ، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة ، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الاهتمام بالدنيا : إنّه ملك ، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس : إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية ، وعشرات (إذا) مثل تلك.

ثانيا : ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشرا من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة ، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!

ثالثا : أكل الطعام كسائر الناس ، والمشي في الأسواق يكون سببا للاندماج بالناس أكثر ، والغوص في أعماق حياتهم ، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.

رابعا : عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة ، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ وحتى القرب من الله ـ في الأثرياء خاصّة ، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا : أيّها الإنسان ، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء ، إنّها بالعلم والتقوى والإيمان.

خامسا : بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحورا» أو «مجنونا»؟ الشخص الذي كان عقله معجزا بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإسلامية ، كيف يمكن اتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم

٢٠٤

الأصنام ورفض الإتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!

اتضح بناء على ما قلناه أن (الأمثال) هنا ، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية ، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية ، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكأنها مثله ، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية ، في حال أنّها ليست كذلك واقعا.(1)

وينبغي أيضا الالتفات إلى هذه النكتة ، وهي أنّ أعداء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يتهمونه ـ بـ «الساحر» وأحيانا بـ «المسحور» وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور» بمعنى «الساحر» (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحيانا) ولكن الظاهر أن بينهما فرقا.

عند ما يقال عنه بأنّه ساحر ، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب ، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإقرار بهذه الحقيقة ، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ «الساحر».

أمّا «المسحور» فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به ، وعملوا على اختلال حواسه ، هذا الاتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطما لسنتهم ، ومخالفا لعاداتهم وأعرافهم الخرافية ، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.

أمّا جواب جميع هذه الاتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه.

وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو أنّه لماذا قال تعالى :( فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) .

الجواب هو أنّ الإنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما ، إذا كان مريدا للحق باحثا عنه ، أمّا من يتخذ موقفه ـ ابتداء ـ على أساس أحكام

__________________

(1) كثير من المفسّرين اعتبروا (الأمثال) هنا بمعنى (التشبيهات) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون ، وبعض آخر اعتبر (الأمثال) هنا بمعنى (الصفات) ، لأن أحد معاني (المثل) ـ طبقا لما قاله الراغب في المفردات هو (الصفة) ، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها ، ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى ، فمن جانب يقول بعنوان التعجب : انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول : الأوصاف التي تؤدي الى ضلالهم الذي لا هداية بعده.

٢٠٥

مسبّقة خاطئة ومضلّة ، نابعة من الجهل والتزمت والعناد ، فمضافا إلى أنّه لا يعثر على الحق ، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائما.

الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل تحقير مقولات أولئك ، وأنّها لا تستحق الإجابة عليها ، يقول تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) .

وإلّا ، فهل أحد غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ ترى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!

لكنّه لا يريد أبدا أن يعتقد الناس أن مكانتك مردّها المال والثروة والقصور ، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين ، حتى يمكنك أن تكون ملاذا لجميع هؤلاء ولعموم الناس.

أمّا لماذا يقول قصورا وبساتين أفضل ممّا أراده أولئك؟ فلأن «الكنز» وحده ليس حلّال المشاكل ، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين ، مضافا الى أنّهم كانوا يقولون : ليكن لك بستان يؤمن معيشتك ، أمّا القرآن فيقول : إن الله قادر على أن يجعل لك قصورا وبساتين ، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.

ورد في «الخطبة القاصعة» من «نهج البلاغة» بيان معبر وبليغ : هنالك حيث يقول الإمامعليه‌السلام :

«... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارونعليهما‌السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال

٢٠٦

الفقر والذل ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها ، ولكن الله سبحانه جعل رسله اولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى.

ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام وعزّة لا تضام ، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيّات مشتركة والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل».(1)

والجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور ، جنّة الآخرة قصورها ، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(2)

* * *

__________________

(1) «الخطبة القاصعة» ، الخطبة 192 نهج البلاغة.

(2) وكذلك الذين قالوا : إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الآخرة ، فالفعلان الماضي والمضارع (جعل ويجعل) اللذان في الآية ، ينبغي ألا يكونا باعثا على هكذا وهم أيضا ، لأنّنا نعلم طبقا لقواعد الأدب العربي ، أن الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني.

٢٠٧

الآيات

( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) )

التّفسير

مقارنة بين الجنة والنار :

في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول انحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسما آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد ، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والانحراف في تمام أصول الدين ، في التوحيد ، وفي النبوة ، وفي المعاد ، حيث ورد القسمان

٢٠٨

الأولان منه في الآيات السابقة ، ونقرأ الآن القسم الثالث :

يقول تعالى أوّلا :( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) .

وبما أنّ كلمة «بل» تستعمل لأجل «الإضراب» فيكون المعنى : أن ما يقوله أولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة ، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد ، ذلك أنه إذا آمن الإنسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإلهي ، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الاستهزاء واللامبالاة ، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة ، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزيّنها بيده.

لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي ، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الاستدلال والمنطق ، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم ، فهذا الأسلوب قد يكون أقوى تأثيرا لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا :( وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) .(1)

ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفا عجيبا ، فيقول تعالى :( إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ) .

في هذه الآية ، تعبيرات بليغة متعددة ، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإلهي :

1 ـ إنّه لا يقول : إنّهم يرون نار جهنم من بعيد ، بل يقول : إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عينا وأذنا ـ فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين.

2 ـ إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها ، حتى تهيج ، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة من مسافة مسيرة عام ، طبقا لبعض الروايات.

3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ «التغيظ» وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإنسان عن غضبه بالصراخ والعويل.

4 ـ إن لجهنم «زفيرا» يعني كما ينفث الإنسان النفس من الصدر بقوة ، وهذا

__________________

(1) «سعير» من «سعر» على وزن «قعر» بمعنى التهاب النار ، وعلى هذا يقال للسعير : النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

٢٠٩

عادة في الحالة التي يكون الإنسان مغضبا جدا.

مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير بالله».

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد ، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى :( وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ) .(1)

هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة ، فإنّه طبقا للآية (30) من سورة ق( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) فهي مكان واسع ، لكن أولئك يحصرون مكانا ضيقا في هذا المكان الواسع ، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».(2)

كما أن كلمة «ثبور» في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد» ، فحينما يجد الإنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك ، فإنّه يصرخ عاليا «وا ثبورا» التي مفهومها ليقع الموت عليّ».

لكنّهم يجابون عاجلا( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ) .

على أية حال ، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء ، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك ، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

من هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب ، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء.

__________________

(1) «مقرنين» من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما ، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن» ، ويقولون أيضا لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن» (من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الآية (49) من سورة إبراهيم).

(2) مجمع البيان ، آخر الآية مورد البحث.

٢١٠

وأمّا لماذا يقال لهم هنا :( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ) ؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتا فينتهي بقول (وا ثبورا) واحدا ، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة ، علاوة على أنّ العقوبات الإلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان ، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة ، فتعلوا أصواتهم بـ (وا ثبورا) ، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا.

ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويأمره أن يدعو أولئك إلى المقايسة ، فيقول تعالى :( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً ) .

تلك الجنّة التي( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) .

تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبدا( خالِدِينَ ) .

أجل ، إنّه وعد الله الذي اخذه على نفسه :( كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً ) .

هذا السؤال ، وطلب هذه المقايسة ، ليس لأن أحدا لديه شك في هذا الأمر ، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها ، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة ، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد ، وعلى مفترق طريقين :

فإذا قالوا في الجواب : إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهو ما سيقولونه حتما) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك. وإذا قالوا : إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة ، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم ، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شابا ترك المدرسة والجامعة بقولنا : اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد ، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟

* * *

٢١١

ملاحظات

1 ـ ينبغي الالتفات أوّلا إلى هذه النكتة ، وهي الآيات الكريمة وصفت الجنّة بالخلود تارة وصفة لأهل الجنّة تارة أخرى ، ليكون تأكيدا على هذه الحقيقة ، وهي كما أن الجنة خالدة ، فكذلك ساكنوها.

2 ـ قوله تعالى( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) جاءت في مقابل حال الجهنميين في الآية (54) من سورة سبأ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ) .

3 ـ التعبير بـ «مصير» بعد كلمة «جزاء» بالنسبة إلى الجنّة ، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء ، وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النّار ، حيث ورد في الآيات السابقة أنّهم يلقون في مكان ضيق محدود مقرنين بالأصفاد.

4 ـ قوله تعالى( كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً ) إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنّة وجميع نعمها ، فهم السائلون ، والله «المسؤول منه» كما نقرأ قول المؤمنين في الآية (194) من سورة آل عمران( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) ، لسان حال جميع المؤمنين أيضا ، إنّهم يطلبون هذا الطلب من الله ، لأن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى أن يطلب ذلك.

والملائكة كذلك يسألون الله الجنّة والخلود للمؤمنين ، كما نقرأ في الآية (8) من سورة المؤمن :( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) .

ويوجد هنا تفسير آخر ، وهو أنّ كلمة (مسئولا) تأكيد على هذا الوعد الإلهي ، الحتمي ، يعني أنّ هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أنّ المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به ، وهذا يشبه ما إذا أعطينا وعدا لأحد ، وأعطيناه ـ في الضمن ـ الحق في أن يطالبنا به.

قطعا لا يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ (مسئولا).

5 ـ بالالتفات إلى قوله تعالى( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) ينشأ لدى البعض هذه

٢١٢

السؤال : إذا أخذنا في الإعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة ، فنتيجة هذا أن أهل الجنّة إذا أرادوا مقام الأنبياء والأولياء يعطى لهم ، مثلا ، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم ، يعطون سؤلهم ، وما سوى هذه الرغبات؟!

ويتّضح الجواب مع الالتفات إلى هذه النكتة ، وهو أنّ الحجب تزول عن أعين أهل الجنّة فيدركون الحقائق جيدا ، ويتّضح تناسبها في نظرهم كاملا ، إنّهم لا يخطر ببالهم أبدا أن يطلبوا من الله طلبات كهذه ، وهذا يشبه تماما أن نطلب في الدنيا من طفل في الابتدائية أن يكون استاذا في الجامعة ، أو أن يكون لص مجرم قاضي محكمة ترى هل تخطر مثل هذه الأمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟

وفي الجنّة أيضا كذلك ، فضلا عن هذا فإنّ كلّ إرادتهم في طول إرادة الله ، وإنّ ما يريدونه هو ما يريده الله.

* * *

٢١٣

الآيات

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) )

التّفسير

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين :

كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين ، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر ، فتبيّن السؤال الذي يسأل الله عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم ، على سبيل التحذير ، فيقول تعالى أولا : واذكر يوم يحشر الله هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون الله :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

فيسأل المعبودين :( فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) .

٢١٤

ففي الإجابة :( قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) .

فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا ، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك ، ولم نقبل غيرك معبودا لنا ولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو : أنّ الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا ونعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلا من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله :( وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) ولهذا هلكوا واندثروا( وَكانُوا قَوْماً بُوراً ) .

هنا يوجه الله تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول :( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ ) .

لأنّ الأمر هكذا ، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم :( فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً ، وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) .

لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع ، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم ، إلّا أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.

والملفت للنظر أن «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع ، وهذا يدل على أن القسم الأوّل من البحث وأن كان مرتبطا بمناقشات البعث ، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا ، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها (محاورات العابدين والمعبودين في القيامة) ، فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم :( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) .(1)

* * *

__________________

(1) ويحتمل أن تكون الجملة الأخيرة استمرارا لمحاورة الله مع المشركين في القيامة ، ولا يضرّ كون الفعل مضارعا ، لأنّ جملة (من يظلم ..) ذكرت بصورة قانون عام (جملة شرطية) ، ونعلم أنّ الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني ، وتبقى وحدة الارتباط بين الشرط وجوابه معتبرة.

٢١٥

بحثان

1 ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟

في الإجابة على هذا السؤال ، هناك تفسيران بين المفسّرين المعروفين :

أوّلا : أن يكون المقصود بالمعبودين إنسانا (مثل المسيح) أو شيطانا (مثل الجن) أو (الملائكة) ، حيث أن كلّ واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبودا لهم. ولأنّهم أهل عقل وشعور وإدراك ، فيمكنهم أن يكونوا موضع الاستنطاق والمحاسبة ، ولإتمام الحجة ، ولإثبات كذب المشركين الذين يقولون : إنّ هؤلاء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عمّا إذا كان هذا الادعاء صحيحا؟ ولكنّهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة!

التّفسير الثّاني : الذي ذكره جمع من المفسّرين هو أنّ الله يمنح الأصنام في ذلك اليوم نوعا من الحياة والإدراك والشعور ، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة ، لينطقوا بالجواب اللازم : إلهنا ، نحن ما أضللنا هؤلاء ، بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور.

وهناك الاحتمال آخر ، وهو أنّ المقصود يشمل جميع المعبودين ، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون بألسنتهم عن الوقائع ، أم لم يكونوا من أهل العقل والشعور ، حيث يعكسون الحقيقة أيضا ، بلسان حالهم.

ولكن القرائن الموجودة في الآية تتفق أكثر مع التّفسير الأوّل ، ذلك لأنّ الأفعال والضمائر تدل جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور ، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح والملائكة وأمثالهم.

إضافة إلى أنّ قوله تعالى( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) يظهر أن المشركين قد ادّعوا من قبل أن هؤلاء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم ، وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى الأصنام الحجرية والخشبية ، لأنّهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأنّ الأصنام لا تتكلم( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ

٢١٦

يَنْطِقُونَ ) (1) .

في حين أنّنا نقرأ مثلا بالنسبة إلى المسيحعليه‌السلام في الآية (116) من سورة المائدة :( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ؟!

ومن المسلّم أنّ ادعاء المشركين وعبدة الأصنام كان واهيا وبلا أساس ، فأولئك لم يدعوهم إلى عبادة أنفسهم.

الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب : إلهنا ، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا ، بل يقولون : نحن ما اتّخذنا لأنفسنا غيرك معبودا ، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك ، فمن الأولى أنّنا لم ندعهم إلى أحد غيرك ، خاصّة وأن هذا الكلام يقترن مع( سُبْحانَكَ ) ومع( ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ) التي تكشف عن غاية أدبهم ، وتأكيدهم على التوحيد.

2 ـ دافع الانحراف عن أصل التوحيد

المهم هو أنّ المعبودين يعدّون العامل الأصلي لانحراف هذا الفريق من المشركين هو (الحياة المرفهة) لهم ، ويقولون ، إلهنا ، متّعت هؤلاء وآباءهم من نعم هذه الحياة ، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم ، فبدلا من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه ، توغلوا في دوامة الغفلة والغرور.

فالحياة المرفهة لجماعة ضيقة الأفق ، ضعيفة الإيمان ، تبعث على الغرور من جهة ، ذلك لأنّهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة ، ينسون أنفسهم وينسون الله ، حتى أنّ فرعون كان يطبّل أحيانا (أنا الله).

ومن جهة أخرى ، فإنّ هؤلاء الأفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذّاتهم من قبيل الحلال والحرام ، والمشروع واللامشروع وتمنعهم من

__________________

(1) الأنبياء ، 63.

٢١٧

الوصول إلى أهدافهم ، ولهذا فهم لا يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية ، ولا أن يقبلوا بيوم الحساب والجزاء.

وهكذا نجد أنّ اتباع دين الله وتعليمات الأنبياء قليل في أوساط المرفهين دائما ولكن المستضعفين هم الأتباع الصامدون والمحبّون الأوفياء للدين والمذهب.

إنّ هذا الكلام له استثناءات في كلا الطرفين قطعا ، ولكن أكثرية كلّ من الفريقين هم كما قلنا.

وممّا تتضمنه الآية أعلاه ، أنّها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط ، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضا ، ذلك لأنّ الإنسان حينما ينشأ على الدلال والنعمة فإنه سوف يرى فارقا وامتيازا بينه وبين الآخرين ، ولن يكون مستعدا لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة.

في حين أن التقيد بأمر الله ، وبتعاليم الدين تحتاج إلى الإيثار ، وأحيانا إلى الهجرة ، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة ، وأحيانا إلى التعاطي مع أنواع المحروميات ، وعدم التسليم للعدو ، وهذه الأمور نادرا ما تتوافق مع مزاج المرفهين ، إلّا إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية ، فإذا توفرت يوما ما شكروا الله ، وإلّا فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا ، وبعبارة أخرى : إنّهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها ، أمراء عليها لا أسارى عندها.

ويستفاد أيضا من التوضيح أنّ المقصود من قوله تعالى( نَسُوا الذِّكْرَ ) نسيان ذكر الله ، حيث ورد مكان ذلك في الآية (19) من سورة الحشر( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ) أو نسيان يوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي ، كما جاء في الآية (26) سورة ص( لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) أو نسيان كل منهما ، وجميع التعاليم الإلهية.

٢١٨

3 ـ كلمة «بور».

«بور» من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء ، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد ، كما جاء في المثل العربي «كسد حتى فسد» ، فهذه الكلمة بمعنى الفساد ، ثمّ أطلقت بعد هذا على الهلاك ، ولهذا يقولون للأرض الخالية من الشجر والورد والنبات ، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتة كلمة «بائر».

وعلى هذا فإنّ قوله تعالى :( كانُوا قَوْماً بُوراً ) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة ، ونسيانهم الله واليوم الآخر ، صاروا إلى الفساد والهلكة ، وصارت أراضي قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة ، وأخليت من أزاهير ملكات القيم الإنسانية ، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية.

مطالعة حال الأمم الغرقى في الدلال والنعمة اليوم ، الغافلة عن الله وعن الخلق ، توضح عمق معنى هذه الآية في كيفية غرق هذه الأمم في بحر الفساد الأخلاقي ، وكيف اجتثت الفضائل الإنسانية من أرض وجودهم البائرة.(1)

* * *

__________________

(1) تعتبر بعض المصادر أنّ كلمة «بور» تأتي بمعنى اسم الفاعل ، وتأتي واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، وبعض يعدها جمع «بائر».

٢١٩

الآية

( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) )

سبب النّزول

أورد جماعة من المفسّرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الآية «أن سادات قريش «عتبة بن ربيعة» وغيره اجتمعوا معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمد ، إن كنت تحبّ الرياسة وليناك علينا ، وإن كنت تحبّ المال جمعنا لك من أموالنا ، فلما أبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، رجعوا في باب الإحتجاج معه فقالوا : ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام ، وتقف بالأسواق! فعيّروه بأكل الطعام ، لأنّهم أرادوا أن يكون الرّسول ملكا ، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن الأسواق ، وكانعليه‌السلام يخالطهم في أسواقهم ، ويأمرهم وينهاهم ، فقالوا : هذا يريد أن يتملك علينا ، فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم الله بقوله ، وأنزل على نبيّه :

٢٢٠