الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 150432
تحميل: 3899


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150432 / تحميل: 3899
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات ، ومسئولية الآباء والأمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن ، وسنفصل القول فيها إن شاء الله في ذيل الآية (6) من سورة التحريم.

وأخيرا فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة : هي أنّهم لا يقنعون أبدا أنّهم على طريق الحق ، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين ، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضا.

إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا ، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق ، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.

لذا يقول في آخر الآية ، إنّهم الذين يقولون :( وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) .

ينبغي الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، إنّهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافا ، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية ، وهذا عمل عسير جدا ، وله شرائط صعبة وثقيلة.

ولا ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين ، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان «عباد الرحمن». نعم ، إنّهم عباد الرحمن ، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضا من أكثر من جهة ، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.

أولئك نماذج وأسوات المجتمع الإنساني.

أولئك قدوات المتقين.

إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة ، ومن السقوط في المزالق.

٣٢١

نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في عليعليه‌السلام وائمّة أهل البيتعليهم‌السلام . ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إيانا عنى».(1)

ولا شك أن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من أوضح مصاديق هذه الآية ، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية ، فالمؤمنون الآخرون أيضا يكون كل منهم إماما وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.

واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط ، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضا.(2)

وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة «إمام» وإن كانت للمفرد ، إلّا أنّها تأتي بمعنى الجمع ، وهكذا هي في الآية.

بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة ، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص ، وفي صورة الكوكبة الصغيرة ، فيبيّن جزاءهم الإلهي( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ) .

«غرفة» من مادة «غرف» (على وزن حرف) : بمعنى رفع الشيء وتناوله ، ويقال لما يغترف ويتناول «غرفة» (كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب) ثمّ أطلقت على الأقسام العليا من البناء ، ومنازل الطبقات العليا ، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنّة.

لذلك فإنّ «عباد الرحمن» بامتلاكهم هذه الصفات ، يكونون في الصف الأوّل من المؤمنين ، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة أيضا.

المهم أنّه يقول : إن هذا المقام العالي قد أعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والاستقامة في طريق الله ، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من

__________________

(1) أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الآية «علي بن إبراهيم» ، ومؤلف كتاب نور الثقلين في تفسيريهما.

(2) يراجع تفسير «القرطبي» وتفسير «الفخر الرازي».

٣٢٢

أوصافهم ، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفا جديدا ، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة ، وإلّا فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق ، ومواجهة الطغيان والشهوات ، وترك شهادة الزور ، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.

هذا البيان يذكّر الإنسان بالحديث المعروف

عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حيث يقول : «والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»

فبقاء الجسد من بقاء الرأس ، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان.

وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع ، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق ، والجهاد والمواجهة ضد العصاة ، والوقوف أمام دواعي الذنوب ، تجتمع كلها في ذلك المفهوم ، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي ، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.

ثمّ يضيف تعالى :( وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ) .

أهل الجنّة يحي بعضهم بعضا ، وتسلم الملائكة عليهم ، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويسلم عليهم ، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) ، ونقرأ في الآية (23 و 24) من سورة يونس( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .

ترى هل لـ «التحية» و «السّلام» هنا معنيان ، أم معنى واحد!؟ ثمّة أقوال بين المفسّرين ، لكن مع الالتفات إلى أن «التحية» في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير ، و «سلام» من مادة السلامة ، وبمعنى الدعاء للغير.

على هذا نستنتج : أن الكلمة الأولى بعنوان طلب الحياة ، للمخاطب والكلمة الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة ، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحيانا.

٣٢٣

«التحية» في العرف لها معنى أوسع ، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين ، فيكون سببا في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبّة لهم.

ثمّ يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر :( خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ) .

* * *

٣٢٤

الآية

( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) )

التّفسير

لو لا دعاؤكم ، لما كانت لكم قيمة :

هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان ، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة ، وللأبحاث التي بصدد صفات «عباد الرحمن» في الآيات السابقة ، فيقول تبارك وتعالى مخاطبا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) .

«يعبؤ» من مادة «عبء» بمعنى «الثقل» ، وعلى هذا فجملة لا يعبأ يعني لا يزن ، وبعبارة أخرى لا يعتني.

ولو أن احتمالات كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء ، لكن أساس جميعها يعود إلى أصل واحد.

فذهب البعض : إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء.

بعض آخر فسّره بمعنى الإيمان.

وبعض بمعنى العبادة والتوحيد.

وآخر ، بمعنى الشكر.

٣٢٥

وبعض : بمعنى التضرع إلى الله في المحن والشدائد.

لكنّ أساس جميعها هو الإيمان والتوجه إلى الله.

وبناء على هذا ، يكون مفهوم الآية هكذا : إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإيمان بالله والتوجه إليه ، والعبودية له.

ثمّ يضيف تعالى :( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) .

من الممكن التصور أن تضادا بين بداية الآية ونهايتها ، أو أنّه لا يبدو على الأقل الارتباط والانسجام اللازم بينهما ، ولكن إذا دققنا قليلا يتّضح أنّ المقصود أساسا هو : أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه ، فإذا لم تتوجهوا إلى الله ، ولم نسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له ، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده ، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.(1)

ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ، الحديث المنقول عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه سئل : «كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء»؟ فقالعليه‌السلام : «كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية».(2)

* * *

__________________

(1) الآية أعلاه من الآيات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المفسّرين ، وما قلناه في تفسيرها هو أوضح تفسير ، لكن جماعة من المفسّرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلاصته هكذا. لا اعتناء لله بكم ، ذلك لأنّكم كذبتم بآياته ، إلّا أن الله يدعوكم إلى الإيمان (طبقا لهذا التّفسير : «دعاؤكم» من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول ، وفاعله ضمير يعود إلى «ربّي». لكن طبقا للتفسير الذي اخترناه فإن «دعاؤكم» من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل ، وظاهر إضافة المصدر إلى الضمير هي أن تكون الإضافة إلى الفاعل ، إلّا أن تظهر قرينة على خلافه). ثمّة تفسير ثالث لهذه الآية وهو أنّ الهدف بيان : إنّكم أيّها البشر ، غالبا ما سلكتم طريق التكذيب ، فلا وزن ولا قدر لكم عند الله ، إلّا لأجل تلك الأقلية مثل «عباد الرحمن» الذين يتوجهون إلى الله ويدعونه بإخلاص (هذا التّفسير وإن كان صحيحا من ناحية المعنى والمضمون ، لكنّه لا يوافق ظاهر الآية كثيرا ، ذلك لأنّ الضمير في «دعاؤكم» و «كذبتم» يعود ظاهرا إلى فئة واحدة لا فئتين (فتأمل!).

(2) تفسير الصافي ، ذيل هذه الآية ـ نقلوا لهذه الرّواية أيضا تفاسير أخرى يتفاوت يسير ، نقلت أيضا روايات أخرى شاهدة على التّفسير أعلاه ، بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي ، وبعضها عن تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الآية.

٣٢٦

بحث

الدعاء طريق إصلاح النفس ومعرفة الله :

معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية ، حيث كانت الآية أعلاه أنموذجا منها ، غير أن قد يكون القبول بهذا الأمر ابتداء صعبا على البعض ، كأنّه يقال : الدعاء عمل سهل جدّا ، ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون : الدعاء عمل المغلوبين على أمرهم ، الأمر الذي لا أهمية له.

لكن الاشتباه هنا ينشأ من أنّهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه ، في حين إذا أخذت الشرائط الخاصّة للدعاء بنظر الإعتبار ، فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح. وهي أن الدعاء وسيلة مؤثرة في إصلاح النفس ، والارتباط القريب بين الله والإنسان.

أوّل شرائط الدعاء ، معرفة المدعو.

الشرط الثاني : تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى ، ذلك لأن الإنسان حينما يذهب باتجاه أحد ، ينبغي أن يملك الاستعداد للقائه.

الشرط الثّالث للدعاء : هو جلب رضاه من يدعوه الإنسان ، ذلك لأنّه لا يحتمل التأثير بدون ذلك إلا نادرا.

وأخيرا فالشرط الرّابع لاستجابة الدعاء : هو أن يستخدم الإنسان كلّ قدرته ، وقوته واستطاعته في عمله ، ويؤديه بأعلى درجة من الجدّ والاجتهاد ، ثمّ يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ما وراء ذلك.

ذلك لأنّه ورد صريحا في الرّوايات الإسلامية ، أن الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤديه بنفسه ، ثمّ يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.

من هنا ، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية ،

٣٢٧

ووسيلة أيضا للتوبة من الذنب ، ولتطهير الروح ، وسبب أيضا لأداء الحسنات للجهاد والجدّ والاجتهاد إلى منتهى الاستطاعة.

لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلّا على ضوء ما قلناه ، مثلا :

نقرأ في رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن ، وعمود الدين ، ونور السماوات والأرض».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي ، وقلب تقي».(2)

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «الدعاء أنفذ من السنان».(3)

فضلا عن كل ذلك ، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة الإنسان ، فتغرقه في اليأس من حيث الأسباب الظاهرية ، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز ، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس والقنوط.

لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة ، يمنح الإنسان قدرة وقوة وأملا وطمأنينة ، وأثرا لا يمكن إنكاره من الناحية النفسية.

وقدّمنا بحثا مفصلا بصدد مسألة الدعاء ، وفلسفته ، وشرائطه ، ونتائجه ، في التّفسير الأمثل ذيل الآية (186) من سورة البقرة ، فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر.

اللهمّ ، اجعلنا من خاصّة عبادك ، وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات «عباد الرحمن».

__________________

(1) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ، أبواب الدعاء باب أن الدعاء سلاح المؤمن.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٣٢٨

ربّنا ، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سببا لتثمين وجودنا بين يديك.

اللهمّ ، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك ، ولا تحرمنا من الاستجابة.

إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

نهاية سورة الفرقان

* * *

٣٢٩
٣٣٠

سورة الشّعراء

مكيّة

وعدد آياتها مائتان وسبع وعشرون آية

٣٣١
٣٣٢

«سورة الشعراء»

محتوى سورة الشعراء :

المعروف بين المفسّرين أنّ جميع آيات هذه السورة المائتين وسبع وعشرين نزلت في مكّة عدا الآيات الأربع الأخيرة.(1)

إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضا مع إيقاعات السور المكية الأخرى ، ونعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام ، تستند على بيان الأصول الاعتقادية : التوحيد والمعاد ، ودعوة أنبياء الله ، وأهمية القرآن.

وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريبا.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام :

القسم الأوّل : مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة ، ثمّ يتحدث في عظمة القرآن ، وتسلية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهة إصرار وحماقة المشركين ، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد ، وصفات الله تبارك وتعالى.

القسم الثّاني : يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم ، وفي مكابرات وحماقات أولئك حيال هؤلاء الأنبياء ، حيث فصّل الحديث أكثر في بعض منها ، كما في قصة موسى وفرعون ، واختصره في بعض آخر منها ، كما في قصّة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

__________________

(1) تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الفخر الرازي» وتفسير «القرطبي» وتفسير «التبيان» ، واستثنى في تفسير «روح المعاني» خمس آيات. لكن بعض المفسّرين مثل العلّامة الطباطبائي في «الميزان» لم يقبل استثناء هذه الآيات. وسوف يكون لنا بحث أكثر إن شاء الله في ذيل هذه الآيات.

٣٣٣

في هذا القسم بخاصّة ، أشير إلى منطق المشركين. الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر وزمان في مواجهة أنبياء الله ، والذي يشبه كثيرا منطق مشركي عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان هذا سببا في تسلية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الأوائل : ، ليعلموا تاريخ هذا الصنف من الناس ومنطقهم ، حتى لا يتأثروا ويتراخوا ، وحتى لا يفسحوا للضعف والفتور ليجد طريقا إلى أنفسهم.

وفيه بشكل خاص أيضا ، تركيز على العذاب العظيم والابتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم ، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النّبي في تلك الشرائط.

القسم الثّالث : وتغلب عليه جنبه الاستنتاج من القسمين الأوليين ، يتناول الحديث حول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعظمة القرآن ، وتكذيب المشركين ، والأوامر الصادرة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يتعلق بطريقة الدعوة ، وكيفية التعامل مع المؤمنين ، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين ، وبالتهديد الشديد للظالمين.

وبالمناسبة ، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدّث حول الشعراء غير المؤمنين.

وهناك نكتة جديرة بالاهتمام أيضا ، وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة من حيث عدد الآيات ، وإن كانت ليست كذلك من حيث عدد الكلمات ، بل هي أقصر من كثير من السور.

فضيلة سورة الشعراء :

ورد في الحديث الشريف عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان أهمية تلاوة هذه السورة أنّه قال :

«من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل من صدّق بنوح وكذب به ، وهود وشعيب وصالح وابراهيم ، وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحمّد».

٣٣٤

ولا يخفى أن كلّ هذا الأجر والثواب ليس على التلاوة بدون التفكر والعمل بها ، بل ان القرائن المتعدد في روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر ، ثمّ العزم والعمل ، وقد أشرتا الى ذلك سابقا.

وممّا يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس الحديث أعلاه ، لأنّ استحقاق الحسنات بعدد المصدّقين والمكذبين للأنبياء من أجل أن يكون الشخص في صف المصدّقين ويتجنّب منهج المكذبين.

* * *

٣٣٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) )

التّفسير

إنهم يعرضون عن كل جديد!

مرّة أخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلا آخر من الحروف المقطعة وهو :

( طسم ) .

وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مسهبة ومستقلّة في مستهل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف! فلا نرى حاجة إلى التكرار والإعادة!

إلّا أنّ ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو

٣٣٦

بعض أصحابه في تفسير «طسم» ويدلّ جميعها على أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء الله تعالى ، أو أسماء القرآن ، أو الأمكنة المقدسة ، أو بعض أشجار الجنّة!

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد ، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته ، حيث أن هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة!

والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) .

وبالطبع فإنّ «تلك» في لغة العرب اسم إشارة للبعيد ، ويشار بها للمؤنث «المفرد» و «الجمع» ، كما قد يشار بها لجمع التكسير.(1)

وكما بيّنا آنفا فقد يعبّر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريبا ـ باسم الإشارة (للبعيد) فكان الموضوع لأهميّته وارتفاع «وعلوّ» مرتبة بعيد عنّا ، ومكانه في السماوات العلى!

وممّا ينبغي الالتفات إليه وملاحظته أنّ هذه الآية بنصّها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص ـ أيضا ـ دون زيادة أو نقصان. كما أنّها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهلّ السور آنفة الذكر ، وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.

ووصف القرآن بـ «المبين» المشتق من «البيان» ، هو إشارة إلى كونه جليّا بيّنا عظيما معجزا ـ فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل ، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال!

__________________

(1) كقوله تعالى( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) .

٣٣٧

والآية التالية تسرّي عن قلب النّبي وتثبته فتقول :( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) .

كلمة «باخع» مشتقّة من (البخع) (على وزن الدّمع)! ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ وهذا التعبير يدلّ على مدى تحرّق قلب النّبي وشفقته لأمته ، وأداء رسالته ، وما كان عليه من إصرار في خطته ، وتجلّد في مواجهة شدته ومحنته ، لأنّه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزلال ، ولكنّها لا تزال على ظمئها ولا ترتوي من معينه العذب ، فكان يتحرق لذلك!

كان قلقا ـ وباخعا نفسه ـ أن يرى الإنسان الذي منحه الله العقل واللبّ يسير في الطريق المظالم ، بالرغم من كل هذا الضياء ، ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين!

أجل ، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على أممهم ولا سيما الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة

قال بعض المفسّرين : إن سبب نزول الآية الأنفة الذكر هو أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو أهل مكّة إلى توحيد الله باستمرار ، إلّا أنّهم لم يؤمنوا. فأسف النّبي وتأثر تأثرا بالغا حتى بدت أماراته في وجهه ، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .(1)

ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقا ويضطرّهم إلى ذلك ، فإنّ الآية التالية تقول :( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) .

وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذابا شديدا فيذعنوا له ، يطأطئوا برؤوسهم خضوعا له ، يستسلموا

__________________

(1) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 8 ذيل الآية محل البحث.

٣٣٨

لأمره وحكمه ، إلّا أن الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ومن الواضح أنّ المراد بخضوع الأعناق خضوع أصحابها فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية عن الإنسان لأنّها جزء مهمّ منه ، ويقال مثلا كناية عن البغاة القساة : غلاظ الرقاب ، وعن المضطهدين والضعفاء : الرقاب الذليلة!

وبالطبع فهناك احتمالات أخر لتفسير «أعناقهم» من جملتها أنّ الأعناق تعني الرؤساء ، كما أن من التفاسير أن الأعناق تعني طوائف من الناس. وجميع هذه الاحتمالات ضعيفة.

ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول :( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) .

والتعبير بـ «ذكر» هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه ، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلّا أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه ، فهي تفرّ عن كل ذلك!

والتعبير بـ «الرحمن» إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة ، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!

كما أن هذا التعبير ـ أيضا ـ ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله ، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم ، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم ، فذلك من رحمته أيضا

والتعبير بـ «محدث» ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدة تلو الأخرى ، وكلّ منها ذو محتوى جديد ، ولكن ما جدوى ذلك ، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها ـ فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساسا مهما كان

٣٣٩

الجديد موجبا للهداية ، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له

ونقرأ في سورة «المؤمنون» الآية 68 منه إذ تقول :( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) فبذريعة ما لم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!

ثمّ يضيف القرآن : أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض ، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب ، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الاستهزاء به ، فيقول :( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

«الأنباء» : جمع «انبأ» ، أي الخبر المهمّ ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي. على أنّ بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» ، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب الآخرة. إلّا أن أغلب المفسّرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين ، وهو ـ في الواقع ـ كذلك! لأنّ الآية مطلقة.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان فكيف يمكن السكوت عنها!

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ.

ففي المرحلة الأولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والاستهزاء ونتيجة لذلك ينال عقاب الله وجزاءه «وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام».

* * *

ملاحظتان

1 ـ ورد في بعض خطب أمير المؤمنين «في نهج البلاغة» المعروفة بالخطبة

٣٤٠