الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 152523
تحميل: 4059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152523 / تحميل: 4059
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

الحياء المفرط ، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه!

وهذا التعبير من إبراهيم ، بالإضافة إلى أنه درس للآخرين ، هو دليل على منتهى الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على لطف الله العظيم.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) )

التّفسير

الخصام بين المشركين ومعبوداتهم :

أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد أمّا في هذه الآيات فنلحظ تصوير يوم القيامة ببيان جامع ، كما نلاحظ فيها أهم المتاع

٤٠٢

«في تلك السوق» ، وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس ، ويدلّ ظاهر الآيات أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كلام إبراهيم الخليل ، وأنه ختام دعائه ربّه ، وهكذا يعتقد ـ أيضا ـ أغلب المفسّرين وإن كان هناك من يحتمل أنه هو من كلام الله ، وأن الآيات محل البحث هي منه سبحانه جاءت مكملة لكلام إبراهيمعليه‌السلام وموضحة له ، إلّا أن هذا الاحتمال يبدو ضعيفا!

وعلى كل حال ، فأوّل ما تبدأ به هذه الآيات هو( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ) .

وفي الحقيقة إنّ هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا «المال والبنون» ليس فيهما أدنى نفع لصاحبهما يوم القيامة ، وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبة من الأمور الدنيوية ـ من باب أولى ـ لا نفع فيه ، ولا فائدة من ورائه!

وبديهي أنّ المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون ـ من المال والبنين ـ في مرضاة الله ، بل المراد منه الاستناد إلى الأمور الماديّة ، فالمراد إذا هو أن هذه الدعامات المادية لا تحلّ معضلا في ذلك اليوم أمّا لو كان أىّ من البنين والمال في مرضاة الله فلن يكون ذلك مادّيا إذ يصطبغ بصيغة الله ويعدّ من «الباقيات الصالحات»!

ثمّ يضيف القرآن في ختام الآية ، على سبيل الاستثناء( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

وهكذا يتّضح أنّ أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم ، ويا له من تعبير رائع جامع ، تعبير يتجسد فيه الإيمان والنية الخالصة ، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم لا يكون لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟! وبتعبير آخر : كما أن قلب الإنسان وروحه يؤثران في أعماله ، فإن أعماله لها أثر واسع في القلب أيضا ، سواء كانت أعمالا رحمانية أم شيطانية!

٤٠٣

ثمّ يبيّن القرآن الجنّة والنار بالنحو التالي فيقول :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) . أي الضالين.

وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ قبل ورود كلّ من أهل الجنّة والنار إليهما! فكلّ طائفة ترى مكانها من قريب فيسرّ المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين ، وهذا أوّل جزائهما هناك!

الطريف هنا أنّ القرآن لا يقول : اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة ، بل يقول :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) وهذا يدل على مقامهم الكريم وعظم شأنهم!

كما ينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة ، وهي أن التعبير بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة الشيطان ، إذ طرده الله عن ساحته المقدسة فقال له :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .(2)

ثمّ يتحدث القرآن عن ملامة هؤلاء الضالين ، وما يقال لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب ، فيقول :( وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها ، أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة( هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) (3)

إلّا أنّهم لا يملكون جوابا لهذا السؤال! كما لا يتوقع أحد منهم ذلك!

( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ) .

كما يقول بعض المفسّرين : إن كلّا منهم سيلقى على الآخر يوم القيامة!( وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) .

وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثلاث ، الأصنام والعابدين لها وجنود إبليس

__________________

(1) أزلفت : فعل مشتق من (الزلفى) على وزن (كبرى) ومعنى الفعل «قربت».

(2) سورة الحجر ، الآية 42.

(3) قد يكون المراد من «ينتصرون» هو أن يطلبوا العون والنصر لأنفسهم أو لغيرهم أو مجموعهما ، لاننا سنلاحظ في الآيات المقبلة أن العبدة ومعبوديهم يساقون إلى النار.

٤٠٤

الدالين على هذا الانحراف ، يساقون جميعا إلى النار ولكن بهذه الكيفية وهي أن تلقى الفرق فرقة بعد أخرى في النار. لأن «كبكبوا» في الأصل مأخوذة من (كبّ) ، و (الكبّ) معناه إلقاء الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها ، وتكراره «كبكب» يؤدي هذا المعنى من السقوط ، وهذا يدلّ أنّهم حين يلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل ، فهي تصل أولا نقطة ما في الوادي ثمّ تتدحرج إلى نقاط أخر حتى تستقرّ في القعر!.

إلّا أن الكلام لا يقف عند هذا الحدّ ، بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلاث ، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا ، فيقول :( قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ) .

أجل إن العبدة الضالين الغاوين يقسمون بالله فيقولون :( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (1) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (2) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ )

المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا ، فأضلونا حفظا لمنافعهم ، وجرّونا إلى طريق الشقوة والغواية كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو الاسلاف الضالين الذين جرّوهم إلى هذه العاقبة الوخيمة.

( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ )

والخلاصة أن الأصنام لا تشفع لنا كما كنا نتصور ذلك في الدنيا ، ولا يتأتى لأي صديق أن يعيننا هنالك

وممّا ينبغي الالتفات إليه ، أنّ كلمة (شافعين) جاءت في الآية السابقة بصيغة الجمع كما ترى ، إلّا أن كلمة (صديق) جاءت بصيغة الإفراد ، ولعلّ منشأ هذا التفاوت والاختلاف ، هو أن هؤلاء الضالين يرون بأم أعينهم المؤمنين الجانحين

__________________

(1) (إن كنا) مخففة من (إنّا كنا)

(2) يحتمل أن تكون (إذ) هنا للظرفية ، كما يحتمل أن تكون تعليلية

٤٠٥

يشفع لهم الأنبياء والأوصياء أو الملائكة وبعض الأصدقاء الصالحين ، فأولئك الضالون يتمنون الشافعين أيضا ، وأن يكون عندهم صديق هنالك!

إضافة إلى ذلك فإن كلمتي (الصديق) و (العدو) كما يقول بعض المفسّرين ، تطلقان على المفرد والجمع أيضا

إلّا أنّهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المرّ ، إذ لا جدوى هناك للحسرة ولا مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم ، فيتمنون العودة إلى دار الدنيا ويقولون :( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

وصحيح أنّهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون بربّهم ، إلّا أن هذا الإيمان نوع من الإيمان الاضطراري غير المؤثر ، وليس كالايمان الاختياري ، وفي هذه الدنيا حيث يكون أساسا للهداية والعمل الصالح.

ولكن لا يحقق هذا التمني شيئا ، ولا يحلّ معضلا ، ولن تسمح سنة الله بذلك ، وهم يدركون تلك الحقيقة ، لأنّهم يتفوّهون بكلمة «لو»(1)

وأخيرا بعد الانتهاء من هذا القسم من قصة إبراهيم ، وكلماته مع قومه الضالين ، ودعائه ربّه ، ووصفه ليوم القيامة ، يكرر الله آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعا ، وهاتان الآيتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون ، كما وردتا في قصص الأنبياء الآخرين من السورة ذاتها فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )

وتكرار هاتين الآيتين ، هو للتسرية عن قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليته ومن معه من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئلا يستوحشوا في الطريق من قلة أهله وكثرة الأعداء وليطمئنوا إلى رحمة الله وعزته ، كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين. وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم الله إمهالا فليس ذلك عن ضعف منه سبحانه ، بل هو من رحمته وكرمه!

__________________

(1) تعدّ (لو) من حروف الشرط ـ وعادة ـ تستعمل حينما يكون الشرط محالا

٤٠٦

ملاحظات

1 ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة

في أثناء كلام إبراهيم الخليلعليه‌السلام قرأنا ضمن ما ساقته الآيات المتقدمة من تعابير في وصف القيامة ، أنّه لا ينفع في ذلك اليوم شيء( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

(السليم) مأخوذ من السلامة ، وله مفهوم واضح ، وهو السالم والبعيد من أيّ انحراف أخلاقي وعقائدي ، أو أيّ مرض آخر!

ترى ألم يقل الله القرآن في شأن المنافقين( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) .(1) ونلاحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الأحاديث الغزيرة المعنى.

1 ـ ففيّ حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ـ ذيل الآية محل البحث(2) ـ يقول فيه: «وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط».

2 ـ ونعلم من جهة أخرى أن العلائق المادية الشديدة وحب الدنيا كل ذلك يجرّ الإنسان إلى كل انحراف وخطيئة ، لأن «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة»(3) .

ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من حبّ الدنيا ، كما ورد هذا المضمون في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول : «هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا».(4)

ومع الالتفات إلى الآية (197) من سورة البقرة إذ تقول :( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) يتّضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محلا لتقوى الله.

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 10.

(2) راجع مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

(3) بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 239.

(4) تفسير الصافي في ذيل الآية محل البحث.

٤٠٧

3 ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أنّ القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى الله ، كما يجيب الإمام الصادقعليه‌السلام على سؤال في هذا الشأن فيقول : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه».(1)

ولا يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح الإنسان ونفسه.

وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات الإسلامية تتحدث حول سلامة القلب والآفات التي تصيبه ، وطريق مبارزتها ومكافحتها ، ويستفاد من مجموع هذا المفهوم الإسلامي المتين أن الإسلام يهتم قبل كلّ شيء بالأساس الفكري والعقائدي والأخلاقي ، لان جميع المناهج التطبيقية والعملية للإنسان هي انعكاسات لذلك الأساس وآثاره!

فكما أنّ سلامة القلب الظاهرية سبب لسلامة الجسم ، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعا ، لأنّ تغذية الخلايا في البدن تتمّ بواسطة الدم الذي يتوزع ويرسل إلى جميع الأعضاء بإعانة القلب على هذه المهمّة فكذلك هي الحال بالنسبة لسلامة مناهج حياة الإنسان وفسادها ، كل ذلك انعكاس عن سلامة العقيدة والأخلاق أو فسادهما

ونختتم هذا البحث بحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام إذ قال : «إنّ القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان ، وقلب منكوس ، وقلب مطبوع ، وقلب أزهر أجرد ، «أجرد من غير الله» إلى أن قالعليه‌السلام : وأمّا الأزهر فقلب المؤمن ، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر. وأمّا المنكوس فقلب المشرك( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فإن القلب الذي فيه إيمان ونفاق ، فهم قوم كانوا بالطائف ، فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجا».(2)

2 ـ وجاء في الروايات متعددة عن الإمامين الصادقين (أبي جعفر وأبي

__________________

(1) الكافي طبقا لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الآية محل البحث.

(2) أصول الكافي ج 2 ص 422 ط الرّابعة ، باب في ظلمة قلب المنافق.

٤٠٨

عبد اللهعليهما‌السلام ) في تفسير( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ) قولهما : «هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره».(1)

وهذا الحديث يدل على أنّ القول بلا عمل قبيح ومذموم جدّا ، إذ يلقي أصحابه في النار ، فأولئك قوم ضالون مضلّون ، وكلامهم يهدي ، الناس إلى الحق ، بينما عملهم يجرّهم إلى الباطل ، بل إن عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم! وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ إلى أن كلمة «غاوون» المأخوذة من «الغيّ» لا تعني الضلال مطلقا ، بل كما يقول الراغب في المفردات : هو نوع من الجهل والضلال الناشئ عن فساد العقيدة.

3 ـ وردت في ذيل الآية( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) روايات متعددة ، وبعضها صريحة في أن : «الشافعون الأئمّة والصديق من المؤمنين».(2)

وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن الرجل يقول في الجنّة : ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله : أخرجوا له صديقه إلى الجنّة ، فيقول من بقي في النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم».(3)

وبديهي أنّه لا الشفاعة بدون معيار وملاك ، ولا السؤال في شأن الصديق دون حساب ، فلا بد من وجود ارتباط أو علاقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف ...«بيّنا تفصيل هذا الموضوع في بحث الشفاعة ، في تفسير الآية 48 من سورة البقرة ـ فليراجع في محله».

* * *

__________________

(1) نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي ، وتفسير علي بن إبراهيم ، والمحاسن للبرقي.

(2) المحاسن للبرقي. ذيل الآية محل البحث.

(3) مجمع البيان ذيل الآية.

٤٠٩

الآيات

( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) )

التّفسير

يا نوح ، لم يحف بك الأرذلون؟!

يتحدّث القرآن الكريم بعد الانتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضّالين ، عن قوم نوحعليه‌السلام حديثا للعبرة والاتعاظ فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوحعليه‌السلام وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات فيقول أوّلا :( كَذَّبَتْ

٤١٠

قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) .(1)

وواضح أن قوم نوح إنّما كذبوا نوحا فحسب ولكن لمّا كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول ، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيبا للمرسلين جميعا ولذا قال القرآن( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) .

كما ويحتمل أنّ قوم نوح أساسا كانوا منكرين لجميع الأديان والمذاهب ، سواء قبل ظهور نوح أو بعده

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوحعليه‌السلام ، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسىعليهما‌السلام ، فيقول :( إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ )

والتعبير بكلمة «أخ» تعبير يبيّن منتهى المحبّة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة أي أن نوحا دون أن يطلب التفوق والاستعلاء عليهم ، كان يدعوهم إلى تقوى الله في منتهى الصفاء.

والتعبير بالأخوة لم يرد في شأن نوح في القرآن فحسب ، بل جاء في شأن كثير من الأنبياء ، كهود وصالح ولوط ، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالاجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق ، ولا يستثقله الناس!

وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة ، يضيف القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه :( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) فإن إطاعتي من إطاعة الله سبحانه

وهذا التعبير يدلّ على أن نوحاعليه‌السلام كانت له صفة ممتدة من الأمانة بين قومه ،

__________________

(1) تأنيث لفظ (كذبت) لأن (قوم) في معنى الجماعة ، والجماعة فيها تأنيث لفظي وقال بعضهم : إن كلمة (قوم) بذاتها مؤنثة ، لأنّهم قالوا في تصغيرها «قويمة» نقل الوجه الأوّل الطبرسي في مجمع البيان ، ونقل الوجه الثّاني الفخر الرازي في تفسيره إلّا أن «الآلوسى» قال في روح المعاني : إن لفظ «قوم» يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء

٤١١

وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية ، فهو يقول لهم :( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) ولهذا فإنّي أمين أيضا في أداء الرسالة الالهية ، ولن تجدوا خيانة منّي أبدا

وتقديم التقوى على الإطاعة ، لأنه ما لم يكن هناك إيمان واعتقاد بالله وخشية منه ، فلن تتحقق الإطاعة لنبيّه

ومرّة أخرى يتمسك نوحعليه‌السلام بحقانية دعوته ، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية ، فيقول :( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

ومعلوم أن الدوافع الإلهية ـ عادة ـ دليل على صدق مدعي النبوّة ، في حين أن الدوافع المادّية تدل بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة ، ولا سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم

ثمّ يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح ، بعد التأكيد على رسالته وأمانته ، إذ يقول :( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ )

إلّا أنّ المشركين الحمقى ، حين رأوا سبل ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة ، تمسكوا بهذه المسألة ، فـ( قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) .

إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع ، وبعبارة أخرى «إن الولي يعرف من زوّاره ـ كما يقال» فحين نلاحظ قومك يا نوح ، نجدهم حفنة من الأراذل والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف ، قد داروا حولك ، فكيف تتوقع أن يتبعك الاثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!

وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يعرف عن طريق أتباعه ، إلّا أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة ، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق ، والصفات العليا

٤١٢

للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الاشراف.

إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها ، ولذلك كانوا يسمّون الفقراء الحفاة بالأراذل.

و «الأراذل» جمع (أرذل) كما أنّه جمع (للرذل) ومعناه الحقير ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي ، لأدركوا جيدا أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النّبي وأصالتها!

إلّا أنّ نوحاعليه‌السلام جابهم وردّهم بتعبير متين ، وجرّدهم من سلاحهم و( قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فما مضى منهم مضى ، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النّبي ، وقالوا له : لبّيك ، وتوجهوا لبناء شخصياتهم ، ومكنوا الحقّ من أن ينفذ إلى قلوبهم!

وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحا أو طالحا ، فلست محاسبا ولا مسئولا عنهم آنئذ( إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) .

ويستفاد من هذا الكلام ـ ضمنا ـ أنّهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلاء الطائفة من المؤمنين ، بالإضافة إلى خلوّ أيديهم ، بسوء سابقتهم الأخلاقية والعملية ، مع أن الفساد والانحراف الخلقي عادة في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد ، وهم سكارى المقام والمال ، وقلّ أن يكونوا من الصالحين.

إلّا أن نوحاعليه‌السلام ـ دون أن يصطدم بهم في مثل هذه الأمور ـ يقول : ما علمي بهم وبما كانوا يعملون ، فإذا كان الأمر كما تزعمون فإنّما حسابهم على ربي لو تشعرون!

وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلّاب الحق( وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين ، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله ، ليتقربوا

٤١٣

منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد أولئك الفقراء

ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب( إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله ، فهو من أتباعي كائنا من كان ، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي!

وممّا ينبغي الالتفات إليه أن هذا الإيراد لم يتعرّض له نوح النّبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب ، بل ووجه الى النّبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء به ، فالأغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلاء الفقراء البيضاء ، فيرونها سوداء ، فيطلبون طردهم دائما. ولم يقبلوا بربّ ولا نبي يتبعه مثل هؤلاء العباد الفقراء!

إلّا أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف ، إذ يقول :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

وهذا الإيراد أو الإشكال يوردونه حتى على قادة الحق والأدلّاء على الهدى في كل عصر وزمان ، وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون.

إنّهم يريدون أن يعيبوا بكلامهم هذا الرسالة والمذهب ، مع أنّهم من حيث لا يشعرون ، يمدحون ويطرون ذلك المذهب ويوقّعون على أصالته.

* * *

٤١٤

الآيات

( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) )

التّفسير

نجاة نوح وغرق المشركين :

كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوحعليه‌السلام ، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الاعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء :( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .

والتعبير بـ «من المرجومين» يدل على أنّ الرجم بالحجارة بينهم كان جاريا في شأن المخالفين وفي الحقيقة إنّهم يقولون لنوح : إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد والاستمرار على عقيدتك ودينك ، فستنال ما يناله المخالفون

٤١٥

ـ عامّة ـ وهو الرجم بالحجارة ، الذي يعد واحدا من أسوأ أنواع القتل.(1)

ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بيّن وبما يقترن بها من اصطبار ، لم تؤثر إلّا في جماعة قلة آمنوا به شكا إلى ربّه أخيرا ، وضمن بيان حاله ، سأل ربه أن ينجيّه من قبضة الظالمين ، وأن يبعده عنهم إذ( قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) .

وصحيح أن الله مطّلع على كل شيء ، إلّا أنه لبيان الشكوى وتمهيدا للسؤال التالي ، يذكر نوح مثل هذا الكلام.

وممّا يلفت النظر أنّ نوحا لم يشتك من المصائب التي أبتلي بها ، بل اشتكى من تكذيب قومه إيّاه فحسب ، إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته الالهية لهدايتهم

ثمّ يلتفت إلى ربّه فيقول : والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وافصل بيني وبينهم :( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ) .

«الفتح» معناه واضح ، وهو ما يقابل الغلق ويضاده ، وله استعمالان فتارة يستعمل في القضايا المادية كفتح الباب مثلا ، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم ، وكفتح المستغلق من العلوم ، وفتح القضية ، اي بيان الحكم حسم النزاع!

ثمّ يضيف فيقول :( وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة الله نوحا ، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة ، إذ يقول :( فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) اي المليء بالناس وانواع الحيوانات( ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ )

«المشحون» مأخوذ من مادة (شحن) على وزن (صحن) ومعناه الملء ، وقد

__________________

(1) «الرجم» مأخوذ من (رجام) على وزن (كتاب) وهو جمع (رجمة) على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر ، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان ، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل ، كما يأتي أحيانا بمعنى القتل بأيّ شكل كان ، لأن القتل كان بالحجر سابقا.

٤١٦

يستعمل بمعنى التجهيز و «الشحناء» تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب الإنسان ، والمراد من «المشحون» هنا هو أنّ ذلك الفلك [أي السفينة] كان مملوءا من البشر وجميع الوسائل ولم يكن فيه أي نقص إي أن الله بعد ما جهز السفينة وأعدّها للحركة ، أرسل الطوفان لئلا يبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الأذى وهذا بنفسه إحدى نعم الله عليهم!

وفي ختام هذه القصة القصيرة ، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيمعليهما‌السلام ، فيكرر قوله :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) أي في ما جرى لنوحعليه‌السلام ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا فلا تحزن يا رسول الله من إعراض المشركين وعنادهم ، واستقم كما أمرت فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه ، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.

( وَ ) اعلم( إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية ، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم ، وتكون عاقبة أمرهم خسرا!

* * *

٤١٧

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) )

التّفسير

جنايات عاد واعمالهم العدوانية :

والآن يأتي الكلام عن «عاد» قوم «هود» إذ يعرض القرآن جانبا من حياتهم وعاقبتهم ، وما فيها من دروس العبر ، ضمن ثماني عشرة آية من آياته!

«عاد» ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في «الأحقاف» ، وهي منطقة في حضر موت تابعة لليمن ، تقع جنوب الجزيرة العربية

٤١٨

فيقول القرآن :( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) .(1)

بالرغم من أنّهم كذبوا هودا فحسب ، إلّا أنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعا ، فكأنّهم كذّبوا الأنبياء جميعا

وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل ، فيتحدّث القرآن عنهم فيقول :( إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ) .

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم ، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة «أخوهم»

ثمّ أضاف قائلا :( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة ، فإنّي لم أخنكم أبدا ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق!

ثمّ يضيف مؤكّدا : لما كنتم تعرفونني جيدا( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة لله سبحانه ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لانتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه ، فلست كذلك( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) فجميع النعم والبركات من قبله سبحانه ، وإذا أردت شيئا طلبته منه ، فهو ربّ العالمين جميعا

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة «هود» في قومه إلى أربعة أمور على الترتيب

فالأمر الأوّل : هو محتوى دعوة «هود» الذي يدور حول توحيد الله وتقواه ، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي

أمّا الأمور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكيا عن لسان هود في ثوب الاستفهام الإنكاري ، فيقول :( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) .

__________________

(1) لما كانت «عاد» قبيلة ، وتتألف من جماعة من الناس أنث الفعل كما يرى ، فجاء( كَذَّبَتْ عادٌ ) لأنّ لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان

٤١٩

«الريع» في الأصل يطلق على المكان المرتفع ، أمّا كلمة (تعبثون) فمأخوذ من «العبث» ، ومعناه العمل بلا هدف صحيح ، ومع ملاحظة كلمة (آية) التي تدل على العلامة يتّضح معنى العبارة بجلاء وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين ، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الأخر مباني عالية للظهور والتفاخر على الآخرين ، وهذه المباني [كالأبراج وما شاكلها] لم يكن من روائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين ، وإظهار قدرتهم وقوّتهم ـ من خلالها ـ!!

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت تبنى على المرتفعات ، وكانت مركزا للهو واللعب ، كما هو جار في عصرنا بين الطغاة فيبدو بعيدا ، لأن هذا التعبير لا ينسجم مع كلمتي (الآية) و (العبث).

كما أنّ هناك احتمال ثالث ذكره بعض المفسّرين ، وهو أنّ عادا كانت تبني هذه البنايات للاشراف على الشوارع العامّة ، ليستهزئوا منها بالمارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صحة من سواه

وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكيا على لسان هود منتقدا به قومه ، فهو قوله:( وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) .

«المصانع» جمع «مصنع» ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم ، والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائمة ، بل يريد أن يقول لهم : إنّكم غارقون في أمواج الدنيا ، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة! فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر ، بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم

أجل ، إنّ مثل هذه المباني التي تذهل أهلها ، وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر ، هي لا شك مذمومة!

وفي بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فرأى قبة

٤٢٠