الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 150404
تحميل: 3890


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150404 / تحميل: 3890
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

ويحتمل أن يكون المراد من «الغافلات» أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج ، ولهذا السن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعا جديدا للبحث ، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم ، إلّا أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي : فتقول الآية : أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائما ، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.

إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك ، وظهورها بمظهر الارتباط بذلك الحادث ، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص ، وهي ذات مفهوم عامّ ، لا تختص بحالة معينة.

والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في «التّفسير الكبير» ، وآخرين ، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر ، ويستدلون بكلمة «اللعن» التي ذكرتها الآية ، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيما كاتهام نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوحده سببا للكفر. لهذا لم يعامل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم ، فذنبهم لا يوازي الكفر بالله.

وأمّا «لعنة الله» فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضا ، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة «لعن» ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كرارا كلمة «اللعن» ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث «لعن الله في الخمر عشر طوائف ...» معروف.

٦١

وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي ، قائلة( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعند ما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية ، تراهم يعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافا لرغبتهم الباطنية ، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.

وتشهد أيديهم وأرجلهم ، وكما ذكرت الآيات القرآنية : تنطق جلودهم وكأنّها شريط مسجّل ، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب ، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره ، حقا إنّه يوم البروز والافتضاح ، ويوم تنكشف فيه السرائر.

وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) فإنّه لا خلاف فيها مع هذا البحث ، إذ يمكن أن تتعطل الأفواه عن الكلام أولا ، فتشهد سائر أعضاء الجسم. وعندها تكشف الأيدي والأرجل الحقائق ، ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كلّها.

* * *

بحوث

1 ـ من هن الخبيثات ومن هم الخبيثون؟

ذكر المفسّرون تعاريف مختلفة لـ «الخبيثات» و «الخبيثون» و «الطيبات» و «الطيبون».

1 ـ قيل أنّ المراد هو الكلام السيء والتهمة والافتراء والكذب الصادر عن

__________________

(1) سورة يس ، الآية 65.

٦٢

المخطئين والمذنبين من الناس ، وعلى العكس من ذلك الكلام الطيّب ما يصدر عن الطيّبين المتطهرين ، وحسبما يقول المثل المأثور «ينضح الإناء بما فيه».

2 ـ وقيل إن كلمة «الخبيثات» تعني «السيئات» وكل الأعمال السيئة وغير المرغوب فيها التي تصدر عن الخبيثات من الناس ، وعلى العكس من ذلك «الحسنات» الخاصّة بالطيبين من الناس.

2 ـ «الخبيثات» و «الخبيثون» تعنيان النساء والرجال الساقطين ، وهم عكس (الطيبات) و (الطيبون) الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين.

وظاهر الآية قصد هذا المعنى بذاته ، حيث هناك قرائن تؤكّد هذا المعنى :

أ ـ جاءت هذه الآيات إثر آيات الإفك ـ وبعد آية( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهذا التّفسير ينسجم مع مفهوم تلك الآيات.

ب ـ إن جملة( أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ) التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل آخر على صحة هذا التّفسير.

ج ـ قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في «الخبيثون» حيث يقصد بها الرجال الخبيثون ، فمن ذلك يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي ، وتعني النساء الساقطات.

د ـ إضافة إلى ذلك روي حديث عن الإمامين الباقر والصّادقعليهما‌السلام «إنّ هذه الآية كآية( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) همّ رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله 6 مشهورين بالزنا فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة ..».(1)

كما نقرأ في روايات كتاب النكاح ، كيف كان أصحاب الإمام يستفسرون منه

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٦٣

أحيانا عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلبا. وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة ، وليس الكلام السيء ولا العمل المنحط(1) .

والسؤال الآخر : هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يراد به الشرف والعفّة ، أو يتعلّق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟

إنّ المفهوم الأوّل للآية هو الأصوب ، لأنّه يطابق ما جاء في الآيات والأحاديث ، لكنّ بعض الأحاديث يعطي معنى واسعا لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه الآيات ، ولا يحصرهما بالانحطاط الخلقي وطهارة الشخص.

وعلى هذا فلا يبعد أن يكون مفهوم الآية الأولى خاصا بذلك المعنى الخاص ، إلّا أنه بملاحظة الملاك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته.

وبتعبير آخر : إن الآية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه ، رغم اختصاصها من حيث الموضوع يبحث العفّة والانحطاط الخلقي ، «تأملوا جيدا».

2 ـ هل هذا حكم تكويني أم تشريعي؟

لا شكّ في أن الأمثال التالية تشير إلى سنة تكوينيّة تطبق على المخلوقات جميعا ، حتى على ذرات الوجود في الأرض والسماء ، وهي جذب الشيء لنظيره كما يجذب الكهرب التبن.

أصحاب النور ينجذبون إلى أصحاب النور.

وأصحاب النّار يميلون إلى أصحاب النّار.

و «السنخية علّة الانظمام» كما يقول المثل.

وعلى كل حال ، فإن كل صنو يتبع صنوه ، وكل مجموعة متجانسة ترتاح

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 14 ، صفحة 337 ، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

٦٤

لأفرادها ، إلّا أنّ هذه الحقيقة لا تمنع من كون الآية السابقة كما هي عليه الآية( الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) إشارة إلى حكم شرعي يمنع الزواج من النساء اللواتي اشتهرن بالعمل المخلّ بالشرف.

أليس لجميع الأحكام التشريعية جذور تكوينية؟

أليس هناك انسجام بين السنن الإلهية ، التشريعية منها والتكوينية؟ (لإيضاح أكثر راجع شرح الآية التي ذكرناها).

3 ـ جواب استفسار :

الاستفسار هو : إننا نشاهد عبر التاريخ أو في حياتنا حالات لا تنسجم مع القانون السابق؟ ومثال ذلك ما جاء في القرآن المجيد( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ) (1)

ومقابل هذه الحالة ذكر القرآن المجيد زوجة فرعون مثالا للإيمان والطهارة :( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (2) .

كما شوهد نظير هاتين الحالتين في صدر الإسلام ، حيث ابتلي بعض قادة المسلمين بنساء سيئات ، وآخرون من الله عليهم بنساء مؤمنات جاء ذكرهن في كتب التاريخ الإسلامي.

وفي الجواب عن ذلك نقول أنّه مضافا إلى أنّ لكل قانون استثناءات ، فلا بدّ من ذكر مسألتين :

1 ـ قلنا خلال تفسير الآية موضع البحث : إنّ القصد من الخبث الانحطاط الخلقي والسقوط بارتكاب أعمال مخلة بالشرف ، والطيب ضد الخبث ، وعلى

__________________

(1) سورة التحريم ، 10.

(2) سورة التحريم ، 11.

٦٥

هذا فجواب السؤال السابق يكون واضحا ، لأن نساء الأنبياء والأئمة الأطهارعليهم‌السلام .

لم ينحرفن والم يخبثن أبدا ، وإنّما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوطعليهما‌السلام ، التجسس لمصلحة الكفّار وليس خيانة شرفهما ، وأساسا إن هذا العيب من العيوب المنفّرة ونعلم أن المحيط العائلي للأنبياءعليهم‌السلام يجب أن يكون طاهرا من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى لا يتقاطع مع هدف النّبوة في جذب الناس إلى الرسالة الإلهية.

2 ـ إضافة إلى ذلك ، فإنّ نساء الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، لم يكنّ كافرات منذ البداية ، بل يصبن بالضلال أحيانا فيما بعد ، ولهذا تستمر علاقة الأنبياء والأولياء بهنّ على ما كانت عليه قبل ضلالهنّ ، كما أنّ امرأة فرعون لم تكن مؤمنة بربّ موسى حين زواجها ، إذ أنّ موسىعليه‌السلام لم يكن قد ولد بعد ، وقد آمنت برسالته السماوية بعد أن بعثه الله ، ولم يكن لها مخرج إلّا بمواصلة حياتها الزوجية والكفاح ، حتّى انتهت حياتها باستشهادها.

* * *

٦٦

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) )

التّفسير

لا تدخلوا بيوت الناس حتّى يؤذن لكم :

بيّنت هذه الآيات جانبا من أدب المعاشرة ، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامّة حول حفظ العفّة ، أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس ، وكيفية الاستئذان بالدخول إليها.

حيث تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى

٦٧

تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) . وبهذا الترتيب عند ما تعزمون على الدخول لا بدّ ، من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.

والذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها «تستأنسوا» ولم تستعمل «تستأذنوا» لأنّ الجملة الثّانية لبيان الاستئذان بالدخول فقط ، في الوقت الذي تكون الجملة الأولى مشتقّة من «أنس» أي الاستئذان المرافق للمحبّة واللطف والمعرفة والإخلاص ، وتبيّن كيف يجب أن يكون الاستئذان برفق وأدب وصداقة ، بعيدا عن أي حدّة وسوء خلق. ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع ، وهو يعني ألا تصرخوا وألّا تقرعوا الباب بقوة ، وألا تستأذنوا بعبارات حادّة ، وألا تدخلوا حتى يؤذن لكم ، فتسلّموا أوّلا سلاما يستبطن مشاعر السّلام والود ورسالة المحبة والصداقة.

وممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة ، مرافقته لجملتين أولاها :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) وثانيها :( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . وهذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذورا في أعماق العواطف والعقول الإنسانية ، ولو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير والصلاح.

وتمّ هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية :( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) .

قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد ، ولكن من لديه حقّ إعطاء الإذن بالدخول غير موجود ، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

أو قد لا يوجد أحد في المنزل ، ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان ، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه ، ثمّ يحضر ليسمح له بالدخول ، وعلى أي حال ، فالمسألة المطروحة أن

٦٨

لا ندخل منزلا دون إذن.

ثمّ تضيف الآية( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ ) إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول ، فلعلّ صاحب المنزل في وضع غير مريح ، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف!

وبما أن بعض الناس قد يدفعهم حبّ الاطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع ، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم ، لهذا قالت الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .

وبما أن لكل حكم استثناء ، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه ، تقول آخر آية موضع البحث :( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) .

وتضيف في الختام( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ) . ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الاستثناءات ، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار ، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعا بعدم علمه بأنّها مسكونة ، إلّا أنّ الله يعلم بكلّ هذه الأعمال ، ويعلم الذين يسيئون الاستفادة من هذا الاستثناء.

* * *

بحوث

1 ـ الأمن والحرية في حريم المنزل

لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين : بعد فردي ، وآخر اجتماعي ، ولهذا فله نوعان من الحياة : حياة خاصّة ، وأخرى عامّة. ولكل واحدة خصائصها وآدابها ، حيث يضطر الإنسان في البيئة الاجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة ، ومواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده ـ خلال الأربع

٦٩

والعشرين ساعة ـ متعب ويبعث على الضجر ، إذ أنّه يرغب في أن يكون حرا خلال فترة من الليل والنهار ليستريح بعيدا عن هذه القيود ، مع أسرته وبين أولاده ، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به ، وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت ، ليتخلص من قيوده ، فيجب أن يكون محيط المنزل آمنا إلى حدّ كاف.

وأمّا إذا أراد كلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين ، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس ، ويسلب منها أمنها وحريتها ، وبهذا تتحول إلى بيئة عامّة كالسوق والشارع. ولهذا السبب كانت بين الناس ـ على مرّ العصور ـ أعراف خاصّة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه ، وحتى في حالات الضرورة القصوى ولغرض حفظ الأمن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها.

ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصّة في هذا المجال ، لا يشاهد نظيرها إلّا نادرا.

نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة والسّلام : «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».(1)

وجاء في حديث آخر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب.

من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : السّلام عليكم ، وذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.

وجاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته ، وحتى حين الدخول إلى منزل ولده.(2)

وجاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوابا على استفسار رجل : قال : أستأذن

__________________

(1) تفسير فخر الرازي ، المجلد 23 ، ص 198 ، آخر آية موضع البحث.

(2) المصدر السابق.

٧٠

على امي؟ أجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم. قال : إنّها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاستأذن عليها(1) .

وجاء في حديث آخر عن الامام الباقرعليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : «خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمةعليها‌السلام وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال : السّلام عليكم ، فقالت : فاطمةعليها‌السلام : عليك السّلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت : ادخل يا رسول الله ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدخل ومن معي؟ قالت :

يا رسول الله ليس عليّ قناع ، فقال : يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت ، ثمّ قال : السّلام عليكم ، فقالت : وعليك السّلام يا رسول الله ، قال أدخل قالت : نعم يا رسول الله ، قال أنا ومن معي؟ قالت : ومن معك ، قال جابر : فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلت ...»(2)

وهذا الحديث يبيّن لنا كيف كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القدوة للمسلمين كافة ، يراعي هذه الأمور بدقة ، وحتى جاء في حديث.

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : «الاستيذان ثلاثة : أوّلهنّ يسمعون ، والثّانية يحذرون ، والثّالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن».(3)

ويرى بعض المفسّرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر ، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ ـ بعد ـ بلباس مناسب ، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله ، فيجب إعطاءه فرصة ليعدّ نفسه ومنزله لاستقبال ضيفه ، وعلى الضيف الانصراف دون انزعاج أو توتّر إن لم يسمح له بالدخول.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، الصفحة 586.

(2) نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة 587.

(3) وسائل الشيعة المجلد الرّابع عشر ، صفحة 161 ، أبواب مقدمات النكاح ، الباب 23.

٧١

2 ـ ما المقصود بالبيوت غير المسكونة؟

في معرض الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من الإشارة إلى اختلاف المفسّرين في ذلك ، فقد قال البعض : يقصد بها المباني التي لا يسكنها شخص معين ، وهي لعموم الناس ، كالمنازل العامّة في الطرق البرية والفنادق والحمامات العامّة وأمثالها. وقد جاء هذا المعنى بصراحة في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام (1) .

وفسّر البعض ذلك بالخرائب التي ليست لها جدران ولا أبواب ، يدخلها من يشاء ، غير أنّ هذا التفسير يبدو بعيدا جدا عن الصواب ، فلا أحد يضع متاعه في هذه المنازل.

وقال آخرون : إنّها إشارة إلى مخازن التجار وحوانيتهم ، التي احتوت على متاع الناس أمانة لديهم لغرض البيع ، ويمكن لكلّ صاحب متاع الدخول إلى هذا المخزن ليأخذ متاعه ، وهذا التّفسير أيضا يبدو غير منسجم مع ما قصدته الآية.

كما يحتمل أنّها قصدت المنازل التي ليس فيها أحد ، ويضع المرء متاعه فيها أمانة بعد علمه برضا صاحبها ضمنا في حراستها ورفعها عند الحاجة.

وبعض هذه التفاسير لا يتناقض مع غيره ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل ينسجم انسجاما أفضل مع معنى الآية وقصدها ، ويتّضح بذلك أنّه لا يجوز لشخص له متاع في منزل أن يدخل المنزل دون استئذان من صاحبه حتى لو لم يكن في البيت أحد حينذاك.

3 ـ عقاب من يتلصّص على منازل الناس :

جاء في كتب الفقه والحديث. إذا تلصّص شخص على داخل منزل وشاهد امرأة فيه لم تتحجب ، فلأهل الدار أوّلا نهيه عن هذا العمل ، وإن امتنع رموه

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد الرّابع عشر ، صفحة 161.

٧٢

بالحجارة. وإن عاود ، فبإمكانهم الدفاع عن أعراضهم بآلة جارحة ، فلو قتل هذا الشخص في هذه الحالة فدمه هدر ولا ديّة له.

وطبيعي أنّه لا بدّ من تتبع هذه الخطوات أوّلا بأول. أي : عليهم أوّلا إتباع السبيل اليسير لمنعه ، ثمّ اتباع أسلوب العنف.

* * *

٧٣

الآيتان

( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) )

سبب النّزول

جاء في كتاب الكافي حول سبب نزول أوّل آية من الآيات السابقة ، عن

٧٤

الإمام الباقرعليه‌السلام قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يقنعن خلف آذانهن ، فنظر إليها وهي مقبلة ، فلمّا جازت نظر إليها ودخل زقاق قد سمّاه يعني فلان ، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره ، فقال : والله لاتين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأخبرنّه ، قال : فآتاه فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : ما هذا فأخبره ، مهبط جبرئيلعليه‌السلام بهذه الآية :( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .(1)

التّفسير

مكافحة السفور وخائنة الأعين :

قلنا في البداية : إنّ هذه السورة ـ في الحقيقة ـ اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الانحرافات الجنسية ، وبحوثها منسجمة ، وهي تدور حول الأحكام الخاصّة بالنظر إلى الأجنبية والحجاب ، ولا يخفى على أحد ارتباط هذا البحث بالبحوث الخاصّة بالقذف.

تقول الآية أوّلا :( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) .

وكلمة «يغضوا» مشتقّة من «غضّ» من باب «ردّ» وتعني في الأصل التنقيص ، وتطلق غالبا على تخفيض الصوت وتقليل النظر. لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم. بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم. وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تام بحيث لا يعرف الإنسان طريقه بمجرّد مشاهدته امرأة ليست من محارمه ، فالواجب عليه أن لا يتبحّر فيها ، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض ، ويصدق فيه القول أنه غضّ من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيلته.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد الرّابع عشر ، صفحة 39 ، تفسير نور الثقلين ، والميزان ، وروح المعاني مع بعض الاختلاف في تفسير الآية موضع البحث.

٧٥

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يحدد الشيء الذي يستوجب غضّ النظر عنه. (أي أنه حذف متعلّق الفعل) ليكون دليلا على عموميته. أي غضّ النظر عن جميع الأشياء التي حرم الله النظر إليها.

ولكن سياق الكلام في هذه الآيات ، وخاصّة في الآية التالية التي تتحدث عن قضية الحجاب ، يوضح لنا جيدا أنها تقصد النظر إلى النساء غير المحارم ، ويؤكّد هذا المعنى سبب النّزول الذي ذكرناه(1) سابقا.

ويتّضح لنا ممّا سبق أن مفهوم الآية السابقة ليس هو حرمة النظر الحاد إلى النساء غير المحارم ، ليتصور البعض أنّ النظر الطبيعي إلى غير المحارم مسموح به ، بل إن نظر الإنسان يمتدّ إلى حيّز واسع ويشمل دائره واسعة ، فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره. وألّا ينظر إليها ، ويواصل السير بعين مفتوحة ، وهذا هو مفهوم غضّ النظر. (فتأملوا جيدا).

الحكم الثّاني في الآية السابقة : هو «حفظ الفروج». و «الفرج» ـ كما قلنا سابقا ـ يعني الفتحة والفاصلة بين شيئين ، إلّا أنّها هنا ورد كناية عن العورة.

والقصد من حفظ الفرج ـ كما ورد في الأحاديث ـ هو تغطيته عن الأنظار ، و

قد جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «كلّ آية في القرآن فيها ذكر الفروج فهي من الزنا ، إلّا هذه الآية فإنّها من النظر»(2) .

إن الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات ، لأنّ ذلك( أَزْكى لَكُمْ ) كما نصّت عليه الآية ـ موضع البحث ـ في ختامها.

ثمّ تحذر الآية أولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم ، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد فتقول :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) .

__________________

(1) اختلف المفسّرون في تعليل وجود «من» في جملة( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) فقال بعضهم إنّها للتبعيض وقيل : إنّها زائدة ، وقيل : ابتدائية. ولكن الظاهر هو المعنى الأوّل.

(2) أصول الكافي ، وتفسير علي بن إبراهيم (وفق ما نقله نور الثقلين المجلد الثالث ، صفحة 587 ، 588).

٧٦

وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال ، فأشارت أوّلا إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال ، فتقول :( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ ) .

وبهذا حرم الله النظر بريبة على النساء أيضا مثلما حرّمه على الرجال ، وفرض تغطيه فروجهن عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجبا على الرجال.

ثمّ أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل :

1 ـ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ) .

اختلف المفسّرون في تفسير الزينة التي تجب تغطيتها ، والزينة الظاهرة التي يسمح باظهارها.

فقال البعض : إنّ الزينة المخفية هي الزينة الطبيعية في المرأة (جمال جسم المرأة) في حين أن استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى قليل.

وقال آخرون : إنّها تعني موضع الزينة : لأن الكشف عن أداة الزينة ذاتها كالعضد والقلادة مسموح به ، فالمنع يخص موضعها ، أي اليدين والصدر مثلا.

وقال آخرون : خصّ المنع أدوات الزينة عند ما تكون على الجسم ، وبالطبع يكون الكشف عن هذه الزينة مرادفا للكشف عن ذلك الجزء من الجسم. (وهذين التّفسيرين الأخيرين لهما نتيجة واحدة على الرغم من متابعة القضية عن طريقين مختلفين).

والحق أنّنا يجب أن نفسر الآية على حسب ظاهرها ودون حكم مسبّق ، وظاهرها هو التّفسير الثّالث.

وعلى هذا ، فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية ، وإن كانت لا تظهر أجسامهن ، أي لا يجوز لهن الكشف عن لباس يتزيّن به تحت اللباس العادي أو العباءة ، بنصّ القرآن الذي نهاهنّ عن ذلك.

٧٧

وذكرت الأحاديث التي رويت عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا المعنى ، فقد فسّروا الزينة المخفية بالقلادة والدملج (حلي يشدّ أعلى الساعد) والخلخال(1) .

وقد فسّرت أحاديث عديدة أخرى الزينة الظاهرة بالخاتم والكحل وأمثاله ، لهذا نفهم بأنّ المراد من الزينة المخفية الزينة التي تحت الحجاب (فتأملوا جيدا).

2 ـ وثاني حكم ذكرته الآية هو :( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ ) وكلمة «خمر» جمع «خمار» على وزن «حجاب» في الأصل تعني «الغطاء» ، إلّا أنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رؤوسهن.

و «الجيوب» جمع «جيب» على وزن «غيب» بمعنى ياقة القميص ، وأحيانا يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.

ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها ، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانبا من الصدر ، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول أعناقهن أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر. (ويستنتج هذا المعنى أيضا عن سبب نزول الآية الذي ذكرناه آنفا).

3 ـ وتشرح الآية في حكمها الثّالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهنّ وإظهار زينتهنّ ، فتقول( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ) .

1 ـ( لِبُعُولَتِهِنَ ) .

2 ـ( أَوْ آبائِهِنَ ) .

3 ـ( أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ ) .

4 ـ( أَوْ أَبْنائِهِنَ ) .

5 ـ( أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ ) .

__________________

(1) تفسير على بن إبراهيم لآخر الآية موضع البحث.

٧٨

6 ـ( أَوْ إِخْوانِهِنَ ) .

7 ـ( أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ ) .

8 ـ( أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ ) .

9 ـ( أَوْ نِسائِهِنَ ) .

10 ـ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ) .

11 ـ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ) أي الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلا بالعنن أو بمرض غيره.

12 ـ( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ) .

ـ وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ ) أي على النساء أن يتحفّظن كثيرا ، ويحفظن عفّتهنّ ، ويبتعدن عن كلّ شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال ، حتى لا يتهمن بالانحراف عن طريق العفة.

ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدّة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم ، وهذا كله يؤكّد دقّة نظر الإسلام إلى هذه الأمور.

وانتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالا ونساء إلى التوبة والعودة إلى الله ليفلحوا( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) وتوبوا أيّها الناس ممّا ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال ، بعد ما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية ، وعودوا إلى الله لتفلحوا ، فلا نجاة لكم من كلّ الانحرافات الخطرة إلّا بلطف من الله ورحمته ، فسلّموا أمركم إليه!

صحيح أنّه لا معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه المسألة ـ قبل نزول هذه الأحكام من الله ، إلّا أنّنا نعلم بأنّ قسما من المسائل الخاصّة بالانحطاط الخلقي ذا جانب عقلاني وكما في الاصطلاح أنها من «المستقلات العقلية» ويكفي لوحده في تحديد المسؤولية.

* * *

٧٩

بحوث

1 ـ فلسفة الحجاب

ممّا لا شكّ فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية ، ليس حديثا سارّا حيث يتصوّرونه أسطورة يعود لعصور خلت.

إلّا أنّ الفساد الذي لا حدّ له ، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحرّيات التي لا قيد لها ولا حدود ، أدى بالتدريج إلى إيجاد الأذن الصاغية لهذا الحديث.

وقد تمّ حلّ كثير من القضايا في بيئات إسلامية ودينية أخرى ، خاصّة في أجواء إيران بعد الثورة الإسلامية ، وأجيب عن الكثير من هذه الأسئلة بشكل مقنع.

ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذه القضية بحثا واسعا وعميقا.

والقضية المطروحة (نقولها مع الاعتذار) : هل من الصحيح أن تستغل النساء للتلذّذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يكن تحت تصرف جميع الرجال ، أو أن تكون هذه الأمور خاصّة لأزواجهنّ؟

إنّ النقاش يدور حول هذا السؤال : هل يجب بقاء النساء في سباق لا نهاية له في عرض أجسامهنّ ، وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه الأمور من أجواء المجتمع ، وتخصيصها بالأسرة والحياة الزوجية؟!

الإسلام يساند الأسلوب الثّاني. ويعتبر الحجاب جزءا من هذا الأسلوب ، في الوقت الذي يساند فيه الغربيون والمتغربون الشهوانيون الأسلوب الأوّل!

يقول الإسلام : إنّ الأمور الجنسية سواء كانت مجامعة أو استلذاذا عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاصّ بالأزواج ، ومحرّم على غيرهم ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه ، وعبارة( هُوَ أَزْكى لَكُمْ ) التي جاءت في الآية

٨٠