الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 150403
تحميل: 3890


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150403 / تحميل: 3890
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية :

1 ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خاصّة الشباب ـ ويحطّم أعصابهم ، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي ، وأحيانا يكون ذلك مصدرا للأمراض النفسية ، فأعصاب الإنسان محدودة التحمّل ، ولا تتمكن من الاستمرار في حالة الهيجان؟

ألم يقل أطباء علم النفس بأنّ هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للأمراض النفسية؟

خاصّة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية ، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقا ، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة ، حتى قيل : إنّ وراء كلّ حادثة مهمّة امرأة!

أليس إثارة الغرائز الجنسية لعبا بالنار؟

وهل هذا العمل عقلاني؟

الإسلام يريد للرجال والنساء المسلمين نفسا مطمئنة وأعصابا سليمة ونظرا وسماعا طاهرين ، وهذه واحدة من فلسفات الحجاب.

2 ـ تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الأسرة في العالم ، بسبب زيادة التعرّي ، لأنّ الناس أتباع الهوى غالبا ، وهكذا يتحوّل حبّ الرجل من امرأة إلى أخرى ، كلّ يوم ، بل كل ساعة.

أمّا في البيئة التي يسودها الحجاب (والتعاليم الإسلامية الأخرى) فالعلاقة وثيقة بين الزوج وزوجته ، ومشاعرهما وحبهما مشترك.

وأمّا في سوق التعري والحرية الجنسية ، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى ، أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال ، عندها يفقد عقد الزواج حرمته ، وتنهار أسس الأسر بسرعة كانهيار بيت العنكبوت ، ويتحمل هذه المصيبة الأبناء

٨١

بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان الأسرة.

3 ـ انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب ، ولا حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد ، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربيّ ، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.

لا نقول : إنّ السبب الرئيسي في ازدياد الفحشاء والأبناء غير الشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب وعدم الستر ، ولا نقول : إنّ الاستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي فيه ، بل نقول : إن التعري من الأسباب القوية لذلك.

وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعات البشرية قديما وحديثا.

وبهذا تتضح الأبعاد الخطرة لهذه القضية.

وعند ما نسمع أنّ الولادات غير الشرعية في بريطانيا بلغت بحسب إحصائياتهم خمسمائة ألف طفل كلّ عام ، وأنّ علماءها حذّروا المسؤولين من مغبة هذا الوضع ، ليس لأنّه ـ كما يقولون ـ بسبب مخالفته للقضايا الأخلاقية والدينية ، وإنّما بسبب الخطر الذي أوجده هؤلاء الأبناء لأمن المجتمع ، فقد وجدوا أنّهم يمثّلون القسم الأعظم من ملفات القضايا الخاصّة بالجرائم.

ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية ، وأنّها كارثة حتى للذين لا يؤمنون بدين ولا يهتمون بأخلاق.

وكلّما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اتّسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر عليها ، وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور الأعمال المنافية للعفة ، وتفشّي الإهمال في العمل والتأخر ، وعدم الشعور بالمسؤولية ، في المدارس المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها الرجال والنساء بشكل مختلط.

٨٢

4 ـ قضية «ابتذال المرأة» وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة لا تحتاج إلى أرقام ، فعند ما يرغب المجتمع في تعري المرأة ، فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لادوات التجميل والتظاهر الفاضح والانحدار السلوكي ، وتسقط شخصيّة المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية ، ليجعلها وسيلة إعلاميّة يروّج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كلّ قيمتها الإنسانية ، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنّه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها ، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنّها أداة لاتباع شهوات الآخرين ، الوحوش الكاسرة في صور البشر!

كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علميا وتسمو أخلاقيا؟!

ومن المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن ، وتشتهر وتكسب المال الوفير ، وتنحطّ إلى حد الابتذال في المجتمع ، ليرحب بها مسيّر وهذا المجتمع المنحط خلقيّا ، في المهرجانات والحفلات الساهرة؟!

هكذا حال المرأة في المجتمع الغربي ، وقد كان مجتمعنا قبل انتصار الثورة الإسلامية كذلك ، ونشكر الله على إنهاء تلك المظاهر المنحطة في بلادنا بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية ، فقد عادت المرأة إلى مكانتها السامية التي أرادها الله لها ، وها هي ذي تمارس دورا إيجابيا في المجتمع مع محافظتها على حجابها الإسلامي ، حتى أنها ساهمت بشكل فعّال خلف جبهات الحرب بمختلف الأعمال لدعم الجبهة والجهاد في سبيل الله.

وكان هذا جانبا من الفلسفة الحيوية لموضوع الحجاب في الإسلام. وهو ينسجم مع تفسيرنا.

الإشكال الذي يورده معارضو الحجاب :

نصل هنا إلى الانتقادات التي يطرحها معارضو الحجاب ، فنبحثها بشكل

٨٣

مضغوط :

1 ـ أهم الانتقادات التي يذكرها معارضو الحجاب أنّ النساء يشكلن نصف المجتمع ، والحجاب يجعلهنّ في معزل عن المجتمع ، ويكون ذلك سببا في تأخّرهنّ الثقافي ، وانعدام الاستفادة من هذه الطاقات العظيمة في ازدهار الإقتصاد. وإذا شغر مكانهنّ في المنشئات الثقافية والاجتماعية أصبحن موادّ استهلاكيّة ليست بذات جدوى للمجتمع.

إلّا أنّ هؤلاء المتمسّكين بهذا المنطق غفلوا عن عدّة أمور ، أو تغافلوا عنها ، للأسباب التالية : ـ

أوّلا : من الذي قال : إنّ الحجاب الإسلامي يعزل المرأة عن المجتمع؟

لئن صعب علينا الجواب عن هذا السؤال في السابق ، فما نظن أنّنا بعد قيام الجمهورية الإسلامية المباركة بحاجة إلى دليل على نهضة المرأة نهضة كريمة ومشاركتها في تشييد المجتمع الإسلامي المنشود مشاركة تحقق النفع للمرأة والأسرة والحكومة والأمة ، فهي مسئولة في الدوائر والمصانع والمتاجر ، وفي النشاط السياسي في المسيرات والمظاهرات ، في الإذاعة والتلفزيون ، وفي المراكز الصحيّة ـ خاصّة في معالجة جرحي الحرب ـ وفي المدارس والجامعات ، حتّى في ساحة الحرب ومجاهدة العدو.

وباختصار : إنّ الواقع الاجتماعي في بلدنا خير جواب عن هذا السؤال : وإذ كنّا نتحدث في السابق عن إمكانية حدوث ذلك ، فإنّنا اليوم نراه ماثلا بين أعيننا.

وكما يقول الفلاسفة : خير دليل على إمكان وجود الشيء حدوثه ، ولا حاجة للبرهنة على وجود الواقع.

ثانيا : إضافة إلى ذلك ، ألا تعتبر إدارة المنزل وتربية الأبناء الأصحّاء رجال المستقبل ـ الذين يديرون عجلة الإقتصاد والسياسة في البلاد ـ عملا؟

إن الذين لا يعدّون هذه المسؤولية للمرأة أمرا ايجابيا جاهلون بحقيقة دور

٨٤

المرأة في الأسرة وفي التربية ، وفي بناء مجتمع سليم فعّال ، بل لا يعترفون إلّا بمغادرة الرجال والنساء المنازل صباحا ـ كالغربيين ـ ليلتحقوا بالدوائر والمصانع. ويجعلون أبناءهم تحت رعاية الآخرين ، في دور الحضانة ، أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية ، حتى يعود الوالدان من العمل وقد أرهقهما التعب!

هؤلاء غافلون عن أنّ افتقاد الأطفال للرعاية والعطف ، يؤدي إلى تحطّم شخصيتهم ويعرض المجتمع إلى الخطر.

2 ـ كما يتذرع معارضو الحجاب بادعائهم بأنّه يعوق المرأة عن نشاطها الاجتماعي ولا ينسجم مع العصر الحديث ، ويقولون : كيف تحفظ المرأة حجابها وطفلها وعملها في آن واحد؟!

إنّهم غافلون عن أنّ الحجاب ليس العباءة ونحوها ، بل هو غطاء الجسم ، فإن تسنى للمرأة الاحتجاب بالعباءة فذلك حسن ، وإلّا كفاها غطاء الرأس واللباس المحتشم حجابا. وقد لبّت نساؤنا الريفيات وخاصّة العاملات ـ في مزارع الرز المملوكة لعوائلهن ـ هذا اللباس ، حيث يمارسن الحراثة والبذار والاهتمام بالزرع ثمّ حصاده ، وبرهنّ عمليّا على إمكانية محافظة المرأة على حجابها دون أن يمنع ذلك ممارستها لاشقّ الأعمال.

3 ـ يعترض المخالفون للحجاب قائلين : إنّ الحجاب يفصل بين الرجال والنساء ، ويزيد في حرص الرجال بدلا من إخماد هذا الحرص ، لأنّ (المرء حريص على ما منع).

وهذه سفسطة واضحة ، فلو قارن المرء بين مجتمعنا على عهد الطاغوت واليوم لتجلّى له الحقّ صريحا ، فبالأمس كان نزع الحجاب إجباريا ، واليوم يسود الحجاب الإسلامي مجتمعنا كله ، والفساد كان ينتشر بالأمس في كل أنحاء البلاد ، ويسيطر التسيب على معظم الأسر ، ويزداد الطلاق بنسبة عالية ، وترتفع نسبة

٨٥

المواليد غير الشرعية ، وآلاف المصائب الأخرى. ونحن لا نجزم بأنّ كل الفساد قد زال في بلادنا واقتلعت جذوره ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّه قد انخفض بدرجة كبيرة ، واستعاد مجتمعنا سلامته بدرجة كبيرة.

وإذا استمر الوضع على هذا المنوال بعون من الله ، فإنّنا سنتمكن من حلّ جميع المشاكل. ويبلغ مجتمعنا مرتبة الطهارة الكاملة ، ويحفظ للمرأة مكانتها الرفيعة.

2 ـ استثناء الوجه والكفلين

هناك اختلاف في الرأي بين الفقهاء حول شمول حكم حجاب الوجه والكفين من الرسغ إلى أطراف الأصابع ، أم لا؟

الكثير من الفقهاء يرى أنّ تغطية الوجه والكفين مستثنى من حكم الحجاب ، في الوقت الذي أفتى آخرون بوجوب تغطيتها ، أو في الأقل احتاطوا في وجوب تغطيتها ، وطبيعي أنّ القول باستثناء وجوب الحجاب على الوجه والكفين هو في حالة عدم نشوب فساد ، وإلّا فيجب تغطيتها.

وهناك قرائن في الآية الشريفة تؤيد هذا الاستثناء ويؤيد الرأي الأوّل :

أ ـ استثناء الزينة الظاهر في الآية السابقة ، سواء دلت على أنّها تقصد موضع الزينة أو الزينة ذاتها ، تكشف عن عدم وجوب تغطية الوجه والكفين.

ب ـ إن حكم الآية السابقة بوجوب رمي أطراف خمار المرأة على طرفي الياقة يفهم منه تغطية جميع أجزاء الرأس والرقبة والصدر. ولم يتحدث هذا الحكم عن تغطية الوجه ، وهذا دليل آخر على هذا الرأي.

ولإيضاح ذلك نقول : كانت بعض نساء العرب يلبسن الخمار ويرمين طرفية على الكتفين بشكل تبقى الرقبة وجزء من الصدر مكشوفين ، وقد أصلح الإسلام هذه الحالة ، فأمر بتغطية الرقبة والصدر برمي طرفي الخمار على جانبي ياقة

٨٦

الثوب ، لتبقى دائرة الوجه وحدها مكشوفة.

ج ـ كما جاءت أحاديث إسلامية عديدة في هذا المجال تؤكّد ما ذهبنا إليه(1) مع وجود أحاديث معارضة لها ، ولكنّها ليست بتلك الدرجة من الصراحة ، والجمع بينهما بالقول باستحباب تغطية الوجه والكفين ـ عند خشية الفساد والانحراف ـ أمر ممكن. كما تدل شواهد تاريخية على أنّ تغطية الوجه بقناع لم تكن عامّة في صدر الإسلام (ذكر شرح مفصل فقهي وروائي عن هذه القضية في البحوث الفقهية عن النكاح).

إلّا أنّنا نؤكّد ثانية أنّ هذا الحكم في وقت لا يؤدي إلى استغلال أو انحراف.

كما يجب القول : إنّ استثناء الوجه والكفين من حكم الحجاب لا يعني جواز النظر بشكل عمومي من قبل الرجال ، وإنّما هو نوع من التسهيلات التي منحت للمرأة في الحياة.

3 ـ ما المقصود من نسائهنّ؟

ذكرنا في تفسير الآية السابقة أنّ تاسع مجموعة مستثناة بالاطلاع على زينة النساء هنّ النساء الأخريات ، وبملاحظة عبارة «نسائهنّ» ندرك أنّها تقصد النساء المسلمات ، ولا يكشفن عن زينتهنّ لغير المسلمات ، وفلسفة ذلك ، أنّه من المحتمل أن يصفن ـ غير المسلمات ـ لأزواجهنّ ما شاهدنه من زينة النساء المسلمات.

وهذا ليس عملا صائبا من قبل المسلمات.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب (من لا يحضره الفقيه): «لا ينبغي للمرأة أن تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنّهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ»(2) .

__________________

(1) كتاب وسائل الشيعة ، المجلد 14 ، صفحة 145 ، الباب 109 ، من أبواب مقدمات النكاح.

(2) من لا يحضره الفقيه ، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين ، المجلد 3 ، صفحة 593.

٨٧

4 ـ تفسير عبارة( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ )

لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع ، ويدل على أنّه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور عبدها ، إلّا أنّ بعض الأحاديث صرّحت بأنّ ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لو كنّ غير مسلمات ، ولا يشمل هذا الحكم العبيد.

ففي حديث للإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «لا ينظر العبد إلى شعر سيّدته»(1) .

ويستفاد من أحاديث أخرى تعميم هذا الحكم على الجواري والعبيد ، إلّا أنّ ذلك خلافا للاحتياط.

5 ـ تفسير( أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ )

«الإربة» في الأصل مشتقة من «أرب» على وزن «عرب» وكما يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته ، شدّة الحاجة التي تدفع بالإنسان إلى إيجاد حلّ لها.

كما استعملت بمعنى الحاجة بشكل عامّ. والقصد هما من «أولي الإربة من الرجال» الذين لهم رغبة جنسية وهم بحاجة إلى زوجة ، وعلى هذا ، فإنّ «غير أولي الإربة» هم الرجال الذين لا رغبة جنسية لديهم أصلا.

ولكن من المقصود بذلك؟

هنالك اختلاف بين المفسّرين.

قال البعض منهم : إنّهم كبار السنّ الذين خمد لديهم دافع الشهوة الجنسية ، (كالقواعد من النساء والنسوة اللاتي تجاوزت أعمارهن حدّ الزواج وهنّ كالمتقاعدات في هذا المجال).

وقال آخرون : إنّ المقصود هو الخصي من الرجال.

وقال بعض المفسّرين : إنّه الرجل الخنثى ، أي : الذي لا يمتلك آلة الرجولة.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، الباب 124 ، من مقدمات النكاح ، الحديث الثامن.

٨٨

إلّا أنّ التّفسير الذي يمكن الاعتماد عليه. هو الذي جاء في أحاديث مؤكّدة

عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام : «هو الأحمق الذي لا يأتي النساء»

من أنّ القصد هنا هو الأبلة من الرجال الذي لا يحسّ برغبة جنسية أبدا ، ويستفاد منهم في الأعمال البسيطة وخدمة الأفراد ، وعبارة «التابعين» تؤكّد هذا المعنى(1) .

وبما أن هذا الوصف ـ أي عدم الشعور بالرغبة الجنسية ـ فئة خاصّة من المسنين يصدق على. فلا نستبعد إمكانية توسعة مفهوم الآية ليشمل هذه الفئة ، وقد روي حديث عن الإمام الكاظمعليه‌السلام يؤكّد ذلك ، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم يصبحون من المحارم ، غاية الأمر هو عدم وجوب تغطية الرأس أو جزء من اليدين بحضور هذه المجموعة.

6 ـ أي طفل مستثنى من هذا الحكم؟

ذكرنا أنّ المجموعة الثّانية عشرة ـ أي الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ـ مستثنون من حكم الحجاب.

وعبارة «لم يظهروا» تعني أحيانا «لم يطلعوا» وأحيانا أخرى «لم يعتدوا» لأنّها جاءت بهذين المعنيين ، حيث استعملها القرآن مرّة بهذا المعنى ، وأخرى بالمعنى الثّاني ، ومثال ذلك ما جاء في الآية (20) من سورة الكهف( إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) .

ونقرأ في الآية الثّانية من سورة التوبة( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

إلّا أنّ هذا الفرق ليس له أثر كبير بالنسبة للآية موضع البحث. حيث المقصود فيها الأطفال الذين ليس لهم ميول جنسية ، بسبب عدم قدرتهم وعدم اطلاعهم

__________________

(1) لتوضح أكثر يراجع جواهر الكلام ، المجلد 29 ، صفحة 94 ، وكذلك الوسائل الباب 111 ، من مقدمات النكاح (المجلد 14 ، ص 148) وكذلك التهذيب المجلد السابع ، صفحة 468.

٨٩

وعلى هذا يجب على النساء المسلمات أن يتحجبن بحضور الأطفال الذين بلغوا مرحلة برزت فيها رغبتهم الجنسية وقدرتهم على ذلك.

7 ـ لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم؟

يطرح هذا السؤال بعد دراسة الآيات السابقة : لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم ـ قط ـ وهم من المحارم؟

ربّما كان القرآن قد استهدف البلاغة في تعابيره بعدم ذكر أيّة كلمة إضافية ، فقد دلّ استثناء ابن الأخ وابن الأخت على أنّ العمّة والخالة تعتبران من محارم الرجل ، ويتّضح بذلك أن العم والخال لإحدى النساء هما من محارمها.

وبعبارة أخرى : إنّ الحرمة ذات جانبين ، فمن جهة بنات الأخت وبنات الأخ من محارم الرجال ، وإنّه من الطبيعي سيكون من الجهة الثّانية العمّ والخال من المحارم «فتدبّر».

8 ـ تحريم سبل الإثارة!

آخر كلام في هذا المجال هو أنّ الآية السابقة نصّت على حرمة المشي بقوّة من قبل النساء ليسمعن صوت الخلخال.

وهذا يدل على دقّة الأحكام الإسلامية ومبلغ اهتمامها بالقضايا الخاصّة بعفّة الناس وشرفهم ، بحيث لا يسمح معها بالقيام بمثل هذه الأعمال.

ومن البداهة أن لا يسمح الإسلام بإثارة شهوات الشباب ، عن طريق نشر الصور الخلاعية ، والأفلام المثيرة للشهوات ، والقصص والروايات الجنسية ، ولا ريب في أنّ البيئة الإسلامية يجب أن تكون طاهرة سليمة من هذه الأمور التي تجرّ أفرادها إلى مهاوي الفساد وظلماته ، وتدفع بالشباب والشابات نحو الانحطاط الخلقي والرذيلة.

* * *

٩٠

الآيات

( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) )

التّفسير

الترغيب في زواج يسير التكاليف :

طرحت هذه الآية ـ منذ بدايتها حتى الآن ـ سبلا أمينة متعدّدة للحيلولة دون الانحطاط الخلقي والفساد ، فكلّ واحد من هذه السبل يرتقي بالأمّة فردا وجماعة

٩١

إلى عالم أرحب من الطّهر والاستقامة ، ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرّذيلة ، وقد أشارت الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء ، ألا وهو الزواج اليسير الذي يتمّ بعيدا عن أجواء الرياء والبذخ ، لأنّ إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لاقتلاع جذور الذنوب ، أو بعبارة أخرى : كل مكافحة سلبية لا بدّ أن ترافقها مكافحة إيجابية.

لهذا تقول بداية الآية موضع البحث :( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) .

و «الأيامى» جمع «أيّم» على وزن «قيّم» وتعني في الأصل المرأة التي لا زوج لها ، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة له ، فيدخل في هذا المفهوم كلّ من ليس له زوج ، سواء كان بكرا أم ثيّبا.

وعبارة «أنكحوا» أي «زوّجوا» ـ وبما أنّ الزواج يتمّ بالتراضي وحرية الإختيار الطرفين ، فالمراد من هذا الأمر بالتزويج التمهيد للزواج ، عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة ، أو العثور على زوجة مناسبة ، أو التشجيع على الزواج والاستفادة من وساطة الأشخاص لحلّ المشاكل المستجدة.

وباختصار : إنّ مفهوم الآية واسع ، حتى أنّه ليضم كلّ خطوة وحديث في هذا المجال. ولا اختلاف في أنّ أصل التعاون الإسلامي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض.

وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكّد أهميّة الزواج الخاصّة. وهي أهميّة بالغة المدى ، إذ

ورد حديث بصددها عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام قوله : «أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما».(1)

وجاء في حديث آخر عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام قوله : «ثلاثة يستظلون

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 14 ، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).

٩٢

بظلّ عرش الله يوم القيامة ، يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، رجل زوّج أخاه المسلم ، أو خدمه ، أو كتم له سرّا»(1) .

كماجاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في الذي يسعى لزواج أخيه المسلم «كان له بكلّ خطوة خطاها ، أو بكلّ كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام نهارها»(2) .

وبما أنّ بعض الإعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفّر الإمكانات اللازمة قد تقف حائلا دون الزواج ، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل الأسرة. يقول القرآن بهذا الصدد :( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

إنّ قدرة الله واسعة سعة تشمل عالم الوجود كلّه ، وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من المقاصد والأفعال ، خاصّة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم ، وبهذا يشمل الله الجميع بفضله وكرمه.

ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل ، وسنذكر أحاديث عديدة في نهاية هذا البحث.

ولكن أحيانا بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما لا يفلحون في ذلك ، ممّا يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروما من الزواج ، ولكي لا يظنّ أن إقدامه على الفساد أمرا مباحا تقتضيه الضرورة أسرعت الآية التالية لتأمره بالطهارة والعفّة فقالت :( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .

فيجب عليه تجنّب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأزّمة ومواجهة الامتحان الإلهي ، حيث لا يقبل أي عذر منه ، فلا بدّ أن يمتحن قوّة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 14 ، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).

(2) المصدر السابق.

٩٣

ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعيا من أجل تيسير حريتهم ، فيتناول القرآن المجيد مسألة المكاتبة (وهي تعهد الغلام بتوقيعه اتفاقا ينص على القيام بعمل معيّن أو دفع مبلغ مقابل عتقه) ، فتقول الآية( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) .

وتقصد عبارة( عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صلاحية لإبرام العقد ، وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به.

أمّا إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه ، فلا ينبغي مكاتبتهم وعتقهم ، لأنّ في ذلك ضررا عليهم وعلى المجتمع ، فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤهّلهم من حيث القدرة والصلاحية ، ولأجل ألا يقع العبيد في مشاكل لا يتمكنون من حلّها ويعجزون عن تسديد ما بذمتهم ، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول :( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) .

هناك اختلاف حول هذا المال بين المفسّرين : فقال عدد كبير منهم : ـ إنّه حصة من الزكاة ، مثلما نصت عليه الآية (60) من سورة التوبة. ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم وانعتاقهم.

وقال آخرون : على مالك الغلام أن يتبرع بقسم من أقساط الدّين ، أو يساعده بإعادته إليه ، ليتمكن من الحياة الحرّة.

كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغا للإنفاق ، أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخاصّة ، ودفع الأقساط التي بذمّتهم ، وطبيعي أنّ التفاسير الثلاثة هذه غير متناقضة. ويمكن للآية السابقة أن تستوعبها جميعا.

والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت ممكن.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية : «تضع عنه من نجومه

٩٤

التي لم تكن تريد أن تنقصه ، ولا تزيد فوق ما في نفسك»(1) .

إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر ممّا يعطونهم ، ويتظاهرون بمساعدتهم. وقد نهى الإمام الصادقعليه‌السلام عن ذلك مبيّنا أنّه يجب أن يكون التخفيض حقيقيّا.

وعقّبت هذه الآية بإشارة إلى أحد الأعمال القبيحة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم :( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية : كان عبد الله بن أبي يملك ست جوار يجبرهن على البغاء ، وعند ما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرضن شكواهن على سيّدهنّ عنده ، فنزلت الآية أعلاه ونهت عن ارتكاب هذا الإثم(2) .

وهذه الآية تكشف عن مدى الرذيلة والانحطاط الخلقي الذي كان سائدا في عهد الجاهلية. وقد واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور الإسلام ، حتى نزلت الآية السابقة ، وأنهت هذه الأعمال.

ومع بالغ الأسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين ، تمارس البشرية هذا العمل بقوة وعلى قدم وساق في بلدان تدّعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق الإنسان. وكذلك كان الوضع في بلادنا على عهد الطاغوت ، إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة ، وكان البعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهلات ، ويدفع بهنّ إلى مراكز الفساد ، ويجبرهنّ على القيام بأعمال الرذيلة والفساد ، ويغلق أبواب النجاة بوجوههنّ ليجني ثروات طائلة وتفصيل الكلام في ذلك مؤلم وخارج عن عهدة هذا الكتاب.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة 601.

(2) مجمع البيان في تفسير آخر الآية موضع البحث ، وتفسير القرطبي (مع بعض الاختلاف).

٩٥

وبالرغم من أن العالم المعاصر يدّعي التحضّر وإزالة معالم العبودية القديمة ، إلّا أنّ الجرائم والمفاسد الخلقية تشيع بشكل أكثر توحّشا من كلّ ما حدث في غابر الأيّام ، ونسأل الله أن يحفظ الإنسانية من شرّ هؤلاء الذين يدّعون التمدّن.

كما نحمده ونشكره على زوال هذه المعالم من إيران بعيد انتصار الثورة الإسلامية.

وجدير بالذكر أنّ عبارة( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) لا تعني في مفهومها أنهنّ إن رغبن في الفساد فلا مانع من إجبارهن ، بل تعني نفي الموضوع بشكل تامّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ مسألة الإكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه. وإلّا فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة كانت هو من كبائر الذنوب.

وجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن كان لهم أدنى غيرة ، ومفهومها أنّ الجواري مع أنهنّ من الطبقة الدانية ولكن لا يرغبن في ارتكاب الفاحشة. فلما ذا ترتكبون هذه الأعمال المنحطة على الرغم من تصوركم أنّكم طبقة راقية؟

وفي الختام ـ على حسب الأسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين ، ويشجعهم على إصلاح أنفسهم :( وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين ملّاك الجواري الذين غلب عليهم الندم ، واستعدوا للتوبة وإصلاح أنفسهم.

أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسيادهنّ.

وعلى نهج القرآن ، نجد آخر الآيات ـ موضع البحث ـ تستنتج وتلخّص الموضوع المطروح خلال إشارتها إلى البحوث السابقة :( وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ) وكذلك دروس وعبر من الأقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا :( وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٩٦

مسائل مهمّة :

1 ـ الزواج سنّة إلهية

على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته الأعراف الاجتماعية من عادات خاطئة وخرافية أحيانا ، فأصبح طريقا صعبا لا يتمكن الشاب من سلوكه ، فإنّه لو اجتزنا هذه العراقيل لأدركنا أنّ الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل الإنسان ، وسكن لروحه ، وراحة لجسمه ، وحل للمشاكل النفسية والاجتماعية. فالإسلام يخطو بانسجام مع الخلق ، وله تعابير جميلة مؤثرة ، ومن جملتها حديث مشهور عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «تناكحوا وتناسلوا تكثروا. فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(1) .

ونقرأ حديثا آخر لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي»(2) .

والسبب في كلّ هذا الاهتمام هو أنّ الغريزة الجنسية من أقوى وأشرس الغرائز في الإنسان ، وتنافس الغرائز الأخرى بأجمعها ، وانحرافها يعرّض دين المرء إلى الخطر ، ولذا يعلو صوت حديث نبوي آخر : «شراركم عزّابكم»(3) لهذا شجعت الآيات ـ موضع البحث ـ وأحاديث عديدة المسلمين على التعاون في تزويج العزّاب ، وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في هذا السبيل.

وقد حمّل الدّين الإسلامي الآباء مسئولية كبيرة عن أبنائهم ، والآباء الذين يتصرّفون دون مبالاة إزاء هذه القضية ، فإنّهم يشاركون في انحراف أبنائهم. كما نقرأ في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أدرك له ولد وعنده ما يزوجه فلم

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلد الأول ، صفحة 561 (مادة الزوج).

(2) المصدر السابق.

(3) مجمع البيان ، في تفسير الآية موضع البحث.

٩٧

يزوجه ، فأحدث ، فالإثم بينهما!»(1) .

وقد أكّدت تعاليم الإسلام ـ لهذا السبب أيضا ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر ، لإزالة الحواجز من طريق العزّاب. خاصّة إذا علمنا أنّ المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العزّاب. ففي حديث للرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من شؤم المرأة غلاء مهرها»(2) .

وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق : «من شؤمها شدّة مؤونتها»(3) .

وقد صرّحت الآية السابقة بأنّ الفقر لا يمكن أن يكون مانعا للزواج ، وقد يغني الله المرء بالزواج.

وبهذا حكمت الآية وأدانت الذين يفرون من الزواج بحجّة أنّهم فقراء ، ولا يتحملون هذه المسؤولية الإلهية والإنسانية ، بأعذار واهية.

والسبب في التأكيد على الزواج ، هو أنّ المرء يشعر بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة ، فيزج قواه للكسب الحلال. بينما نجد العزاب في معظم الحالات مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية. والمتزوج يكتسب شخصية اجتماعية ، حيث يجد نفسه مسئولا عن المحافظة على زوجته ، وماء وجه أسرته ، وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها. ويستغلّ المتزوج جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر ، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلّب على الفقر بأسرع وقت ممكن ، لهذا ذكر الإمام الصادقعليه‌السلام «الرزق مع النساء والعيال»(4) .

جاء في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين شكا رجل إليه فقره فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تزوّج». فتزوّج فوسع له(5) .

__________________

(1) مجمع البيان في تفسير الآية موضوع البحث.

(2) وسائل الشيعة ، المجلد الخامس عشر ، الباب الخامس من أبواب المهور صفحة 10.

(3) المصدر السابق.

(4) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة 595.

(5) وسائل الشيعة ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة 25 ، الباب 11 «من أبواب مقدمات النكاح».

٩٨

ولا جدال في أنّ الإمدادات الإلهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها. وعلى كلّ مؤمن أن يطمئن لما وعده الله ، فقد ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظنّه بالله ، إن اللهعزوجل يقول :( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) .

وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال ، لو تناولناها جميعا بالبحث لخرجنا عن بحثنا التّفسيري هذا.

2 ـ المراد من عبارة( وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) .

ممّا يلفت النظر في الآيات موضع البحث أنّها حين التحدّث عن زواج الرجال والنساء الأيامي تأمر بالتعجيل في الزواج ، وعدم وضع العراقيل في وجهه ، أمّا بالنسبة للعبيد والجواري ، فتطلب توفر شرط الصلاح فيهم للزواج.

وذهب عدد من المفسّرين (كالكاتب العظيم صاحب تفسير الميزان ، وكذلك صاحب تفسير الصافي) إلى صلاحيتهم للزواج في حين أن هذا الشرط يجب أن يتوفر في النساء والرجال الأحرار أيضا.

وقال البعض الآخر : إنّه يقصد الصلاح من ناحية الأخلاق والعقيدة ، لأنّ الصالحين يتمتعون بمكانة خاصّة من هذه الجهة ، ولكن السؤال يبقى على حاله : لماذا لم يرد هذا الشرط في الأحرار؟

ويحتمل أن يكون المراد غير هذا : ـ إذ أنّ أكثر العبيد في تلك الفترة في مستوى ثقافي وأخلاقي واطئ ، فلا يشعرون بأيّة مسئولية ، ولا يقدرون المشاعر المشتركة في الحياة. فلو تزوجوا لتركوا زوجاتهم بسهولة ، ومن هنا استوجبت الآية التأكد من صلاحيتهم للزواج.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد الرّابع عشر ، صفحة 24 ، الباب 10 «من أبواب مقدمات النكاح».

٩٩

ومفهوم هذه الآية أن يعدّوا العبيد للزواج أوّلا بتهذيب أخلاقهم وزيادة صلاحهم ، ليكونوا بمستوى المسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد الزواج.

3 ـ ما هو عقد المكاتبة؟

قلنا : إنّ الإسلام وضع برنامج التحرر التدريجي للعبيد ، واستفاد من كل فرصة لعتقهم ، فكانت قضية «المكاتبة» حكما يجب اتباعه ، كما نصّت عليه الآيات موضع البحث.

وتشتق «المكاتبة» من الكتابة ، والكتابة في الأصل مشتقّة من «كتب» بمعنى «الجمع» أي : جمع الحروف والكلمات. وبما أنّ العقد بين المولى والعبد يتمّ بكتابة موادّ يتفق عليها ، فلذلك سمّيت «مكاتبة». فعقد المكاتبة نوع من الاتفاقات يتمّ بين المولى وعبده ، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ ، ليدفع أقساطا لسيّده ، فإذا دفع آخر قسط ينال حريته.

وأمر الإسلام ألا تتجاوز هذه الأقساط ثمن العبد نفسه.

وإذا عجز العبد لسبب ما عن دفع الأقساط المترتبة بذمّته ، وجب أن تسدّد هذه الأقساط من بيت المال أو من الزكاة ليعتق ، حتّى أنّ بعض الفقهاء قال بصراحة : إذا تعلقت زكاة بذمّة السيّد ، وجب عليه احتساب هذه الأقساط منها ، وهذا العقد لازم التنفيذ ، ولا يمكن فسخه من أيّ طرف من طرفي العقد.

ويتّضح بذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيرا ، ليعيشوا أحرارا مستقلين حتى في فترة إعداد الأقساط ، كما أن أسيادهم لا يتضررون بذلك ، فلا يدفعهم هذا إلى إلحاق الأذى بعبيدهم.

ولعقد المكاتبة أحكام وفروع عديدة مذكورة في الكتب الفقهية في باب المكاتبة.

* * *

١٠٠